الحفاظ على التراث والدعوة إلى دراسته

شارك:

جورج مقدسي

المخطوطات المحفوظة في SAVAMA DCI، تمبكتو

لا شك أن الإبداع الفكري للتراث الإسلامي هو حصيلة نتاج قرون طويلة في مجالات الآداب، والعلوم، والفنون. وذلك النتاج لا يزال في أغلبه مخطوطالم يحظ بالنشر منه سوى 15٪، وهذا الجزء المطبوع أغلبه غير محقق، ولا يزال هذا التراث الحضاري الهائل، والذي يتراوح تقديره بين المليون والثلاثة ملايين مخطوط، متناثرا في كل أرجاء المعمورة. وأغلبه غير مفهرس، أو مفهرس فهرسة غير صحيحة، ولا يزال الجزء الأكبر منه مملوكا ملكية خاصة، وبالتالي لا يتيسر للسواد الأعظم من الباحثين الاطلاع عليه، كذلك فإن جزءا كبيرا منه وإنكان محفوظا فإنه محفوظ بشكل لا يفي بالغرض، فهو معرض للتلف بفعل الحرارة والرطوبة، والأرضة، والجزء المتبقي منه هو في طريقه إلى الانقراض والتلف تدريجيا.

ولقد فقدنا بالفعل أعدادا كبيرة من ذلك التراث المخطوط لا يمك نتقديرها – وإلى الأبد – وذلك نتيجة للكوارث – طبيعية كانت أو سياسية -كالحرائق، والفيضانات، والحروب وغيرها، وهذا الجزء المفقود قد يستحيل من الناحية العملية استرداده كليا من جديد، ولكن على أفضل تقدير فمن المحتمل إعادة تجميع بعضه، ولو جزئيا، وذلك من خلال البحث في المخطوطات الأخرى المتأخرة والتي قد يحتوي بعضها على أجزاء من تلك الأعمال المفقودة.

وتتعرض المخطوطات للتلف، والضياع – حتى وقتنا هذا – لأسباب متعددة، وغير ضرورية، يمكن في الغالب تفاديها، فعلى الرغم من وجودها في أماكن آمنة إلا أنها في عداد المفقود لاستحالة الوصول إليها، والاطلاع عليها، فهي إما غير مفهرسة وقد تكون ملقاة على أرفف إحدى المكتبات، أو مفهرسة، ولكنها مبوبة في غير موضعها، وإن كان تبويبها صحيحا فلا توجد بينها وبينالأعمال المخطوطة الأخرى إحالات (فهارس إحالة)، ومن الجائز كذلك أنها ملكيةخاصة، وبالتالي فهي متوفرة ومتاحة للستفادة العلمية منها فقط لتلك القلة المالكة لها، والتي قد تكون غير مدربة للاستفادة من محتويات تلك المخطوطات، أو ببساطة شديدة لا يهمها على الإطلاق أمر تلك المخطوطات.

وفي الغالب فإن العثور – ومن ثم الاطلاع على تلك المخطوطات – ل ايتيسر إلا بعد عناء شديد، وفترات انتظار طويلة، وإن تم العثور عليه فللفترة الراهنة، أو بعدها بزمن يسير، وذلك نتيجة الإهمال، وعدم الرعاية المناسبة لها، وبمرور الزمن فإن هذا التراث سيتلاشى ببطء، ولكنه من المؤكد سيتلاشى.

ومن أجل هذه الأسباب فقد يستسهل الباحثون، أو لنقل أنهم يجدوا أنفسهم مضطرين إلى الرضا، وقبول ما في متناول أيديهم من مخطوطات ومصادر، وبالتالي فغالبا ما تثمر أبحاثهم عن نتائج غير دقيقة، بل أحيانا قدتكون خاطئة، وخاطئة، وخاصة فيما يتعلق بهذا التراث الحضاري للإسلام، وهو كذلك أحدأهم الأسباب الرئيسية في كون الحضارة الإسلامية القديمة لم تحظ إلا بهذاالقدر الضئيل من الشهرة بين حضارات الدنيا الكبرى.

وحتى وقتنا هذا لم يدرس التراث الحضاري للإسلام على الوجه اللائق، ويرجع ذلك – في أكثر الأحيان – إلى أن مسألة الحصول على المصادر – وخاصة المخطوطة منها – أمر بالغ الصعوبة.

ويواجه الباحث الجاد صعوبات، ومشاكل يكاد يستحيل تذليلها من أجل مواصلة بحثه، فينبغي عليه أولا أن يحدد المخطوطات، والوثائق المتعلقة بموضوع البحث، ثم يقوم بتجميعها، وهو أمر ليس سهلا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ظروف توفر وحفظ مثل تلك المخطوطات، ثم عليه أن يحصل كذلك على نسخة من كل النسخ غير المحققة للمخطوط، والتي لا تزال باقية، ولكنها مشتتة في أرجاء الدنيا شرقا وغربا، وبعد ذلك عليه أن يحقق، ويطابق بين تلك النسخ ليتأكد أنه قد تجمع لديه نص متكامل نتيجة للدراسة، والتحقيق،والمقارنة بين أفضل النسخ الموجودة، وهكذا يتكرر ذلك فيما يتعلق بكل وثيقة مخطوطة يتعين عليه الرجوع إليها في مجال دراسته، وعندمها فقط يمكنه أن يبدأ دراسة المخطوط، كمتفقه اللغة، وكمؤرخ، وهذا يحتاج إلى أعمار متعددة.

وحيث أن مثل هذه المتطلبات الضرورية لا يستطيع أن يوفي بها من لم يكتب لهم الخلود، فلا يسع الباحث إلا أن يحاول بذل قصارى الجهد، وبالرغم من

ذلك فإن النتائج عادة ما تكون غير كاملة، وغالبا لا تفي بالغرض المطلوب، وذلك لعدم ملاءمة أدوات البحث المتاحة، وقصورها، لذا فإنه ليس من الغريب أندراسة التراث الإسلامي لا تزال بعد في مراحلها التمهيدية، ومما لا شك فيه أنه وضع يؤسف له، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار القفزات، والتقدم السريع الذي أحرزته العلوم الاجتماعية في العقود الأخيرة.

         ولكي نتمكن من الاستفادة من الإمكانات، والخدمات التي يمكن أن تسهم بها فروع العلوم الاجتماعية المختلفة في دراسة التاريخ الإسلامي، لا بد منالعمل – وبدون تأخير – على توفير، وإتاحة الاطلاع على المراجع، والوثائق المخطوطة – بصورة أفضل – بعد تحقيقها، ومراجعتها، ودراستها في رسائل علمية متخصصة.

إن عدد الباحثين الذين يجذبهم هذا الفرع من الفروع البحث لا يزالمحدودا، بسبب الصعوبات التي تكتنف البحث في مجال الدراساتالإسلامية، ولذلك فإن الرسائل العلمية المتخصصة بالدراسات الإسلامية لاتزال شحيحة، ومن ناحية أخرى فإن عدد الباحثين المسلمين المتخصصين في تأريخ التراث الإسلامي لا يزال قليلا. وتعتمد أغلب الدراسات الموجودة في هذاالفرع من فروع البحث العلمي على المصادر المطبوعة المتداولة نفسها التيتدور حول النقاط نفسها، وتعالج الأفكار نفسها، ونفس الشخصيات التاريخية- ذاتها – لا تضيف إلا القليل إلى ما هو معروف بالفعل، ولكنها تكرر، وتعيد ترسيخ المفاهيم الخاطئة ذاتها.

الحـــــل المقتــــــــــرح:

يتطلب علاج الوضع الحالي مجهودا جبارا بهدف تيسير الاستفادة منتلك المصادر المخطوطة لدراسة التراث الإبداعي للإسلام وذلك في المجالين التاليين:

أولا: مجـــــــال التوثيـــــق:

 (1) يتطلب ذلك إعادة تصوير جميع المخطوطات الموجودة حاليا، وإطلاق حريةالاطلاع عليها، والاستفادة منها إلى أقصى حد.

ثانيــــا: مجـــال التدريـــب:

 (1) وذلك بتدريب الشباب المؤهل من الجنسين على القيام بالوظائف المختلفة -التي تتعلق بعمليات التوثيق – وذلك يشمل التدريب، واكتساب الخبرات فيجميع فروع علم المكتبات، علم مناهج البحث التاريخي، والعلوم الملحقة به،بقصد تنمية القدرات على ضبط النصوص، والوثائق المحققة، ونشرها.

ومن الضروري إعادة تصوير جميع المخطوطات الإسلامية –التي يرجع تاريخها إلى ما قبل العصر الحديث – تصويرا بالألوان، وذلك لتحقيق أقصى قدر كبير من الدقة والوضوح، وبعد ذلك يتم تجليدها، ثم تجمع في مركز رئيسي كبير يعتبر بمثابة المركز "الأم". وي الوقت نفسه ينبغي عمل نسخة مصغرة"ميكرو" لكل مخطوطة على حدة – ونعني بالمخطوطة كل نسخة – من أي عمل -بغض النظر عن الحجم، سواء أكان النص يتألف من ورقة واحدة، أو عمل ضخم يحتوي على أوراق عديدة، وكذلك نعني بعبارة جميع المخطوطات": كلمخطوطة تقتنيها، أو تحتفظ بها مكتبة ما، وبعبارة أخرى أعني: أنها ليستعملية انتقائية، ولكنها بالأحرى إعادة مسح شامل، ويشمل هذا المخطوطات التيقد تبدو للوهلة الأولى غير مهمة، ولكن ما قد يبدو ذو أهمية قليلة بالنسبة لباحث ما قد يكون عظيم القيمة لباحث آخر، وما قد يبدو ذو علاقة هامشية اليوم قد يصبح مركز اهتمام الجميع في الغد.

         إن العمل الذي يقوم به معهد المخطوطات التابع للقسم الثقافي في جامعةالدول العربية، منذ إنشائه في الأربعينات، من تصوير ونسخ (ميكروفيلم) للمخطوطات العربية وإتاحة الفرصة أما الدارسين للاطلاع عليها في أي مكان،ليستحق أسمى معاني الإشادة، وصادق الثناء من كل باحث، مع ملاحظة أننشاط النسخ "الميكروفيلم" التابع للمعهد يعد عملا انتقائيا، في حين أن مانحتاج إليه هنا هو عمل نسخ "ميكروفيلم" كامل، وشامل لجميع المخطوطات،على أن يترك عنصر الانتقاء، والاختيار، للباحث نفسه، حيث أنه غالبا ما يقرر بنفسه موضوع البحث، ومن ثم ينتقي من بين تلك المصادر المخطوطة ما له علاقة بموضوع بحثه، لأن الأمر في- نهايته- يعود كليا إلى اختيار الباحث في موضوع ما، والمفترض أن تكون لديه المعرفة الضرورية بموضوع بحثه، والتي تؤهله لتحديد مصادره، وتقع على عاتقه مسئولية اختيار تلك المصادر على أساس منطقي سليم.

         إلى جانب هذا المركز الأم، فإن من الضروري أيضا إنشاء مجموعة منالمراكز الفرعية تنتشر شرقا وغربا، ولا يقتصر دورها على تسهيل عملياتالاطلاع، والبحث إلى أقصى حد، بل يشتمل على تحقيق أكبر قدر من الأمان تحسبا للنوازل غير المرتقبة أيضا، على أن تتبع لكل مركز من تلك المراكز مدرسة لتدريب الباحثين، والفنيين الشباب، في المجالات المختلفة ذات العلاقةبالتوثيق، والمخطوطات، والتي تبدأ بالتدريب على أعمال الحفظ، والعناية بالمخطوطات وصولا إلى أعمال الفهرسة، والتبويب، والدراسة، وأخيرا النشر.

وبعد الإمعان في دراسة هذا الاقتراح، ومناقشته بالقدر الكافي واللائق يصبح من الضروري عندئذ تأسيس هيئة خيريرة يتم تمويلها تمويلا مناسبا،(1) تأسيس المركز "الأم" في إحدى دول العالم الإسلامي، وبعد ذلك بناء المراكز الفرعية ونشرها في مختلف الأرجاء.

(2) تخصيص الأوقاف اللازمة لتمويل المشروع بصفة دائمة، وذلك من أجل توفير الموارد المالية الضرورية التالية:

أ-  الإنفاق على إدارة، وصيانة المبان، والمعدات، والمنشآت العينية.

ب-  دفع مرتبات الباحثين، والفنيين، وجهاز الإدارة.

ج- توفير التنافس بين الشباب من الجنسين للحصول على منح للتدريب، والتأهيل في المدارس المختلفة التابعة للمراكز مع توفير إمكانية الإقامة والمعاش.

(3) أن يقوم المركز "الأم" باقتناء المخطوطات من المصادر التجارية، أو الخاصة، وذلك إما بالشراء، أو عن طريق الإعارة، وبعد ذلك يتم توزيع نسخ من تلك المخطوطات على المراكز الفرعية.

ومن الضروري أيضا تكوين لجنة من الباحثين، والفنيين، والإداريين المتخصصين لتجميع المعلومات الضرورية، ومناقشتها، والخروج بالتوصيات اللازمة لتنفيذ المشروع بنجاح.

ولا شك أن لمثل هذا المشروع العديد من الفوائد، فإلى جانب الفوائدالثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية الواضحة، سوف يخدم هذا المشروع- وبالدرجة الأولى – الهدف المبدئي الهام، وهو: التعريف بالإسهامات الثقافية، والحضارية للإسلام في عالم ما قبل العصر الحديث، وهذا بدوره سوف يسهمفي تحسين، وتعميق التفاهم بين الشرق والغرب، وتدعيم فرص الحوار،والتعاون المتبادل.

وبناء عليه لا بد أن تصدر المبادرة، وتأتي الخطوات الأولى من العالم الإسلامي لتحقيق هذا المشروع، وليس هذا النوع من دعم النشاط التربوي والعلمي غريبا على الإسلام، فالحضارة الإسلامية هي أول حضارة عرفت بتأسيس أقدم النماذج لمؤسسات التعليم العالي المتخصصة والنظامية، والتيكانت تعتمد على الأوقاف الخيرية، وتشهد القرون الأولى للإسلام على أن أهل البر والإحسان من بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم قد أوقفوا المبالغ الطائلةللإنفاق على التعليم.

من خلال تجميع عدة نسخ لكل المخطوطات التي لا تزال باقية، وعرضها في المركز "الأم"، والمراكز الفرعية، وعن طريق جذب وتدريب الأكفاء من بينالباحثين الشباب على التعامل مع تلك المخطوطات بما يتناسب وعظم قيمتها وجلال دورها، يصبح من الممكن أن يحتل التراث الفكري، والإبداع الثقافي لحضارة عالمية عظمى المكانة اللائقة به، والتي تؤهله لتلقي الاهتمام العالمي البالغ الذي يستحقه. ومما لا شك فيه: أن مثل هذا المشروع العملاق قد يواجهالعديد من الصعوبات، والمشاكل المالية والسياسية والديبلوماسية، خاصة إذا ماأخذنا بعين الاعتبار الأعداد الهائلة للمخطوطات، وتشتتها في شرق الأرض وغربها، والتي تتوزع ملكيتها بين الدول، والمؤسسات التجارية، والأفراد، والأسر، وقد تكون مجموعات متكاملة مختلفة الأحجام، أو قد تكون مخطوطات فردية، والدول، والأفراد كثيرا ما يرفضون التخلي عن مخطوطاتهم ولو لمجردالتصوير، هذه وغيرها من المصاعب التي ينبغي دراستها، ومناقشتها، منأجل إيجاد الحلول المناسبة لها.

وأخيرا ونظرا إلى طبيعة وضخامة هذا المشروع العملاق التي يصبح معها أمر إخراجه إلى حيز التنفيذ وباعتراف الجميع أمرا مهيبا، لذلك فإن الأمريستدعي مشاركة، ومساهمة رجال يتمتعون بروح المبادرة وبعد النظر،ويستدعي كذلك تأسيس هيئة تستمر بعد رحيل الرواد الأوائل، لأن تحقيقا لأهداف النهائية للمشروع قد يستغرق مدة أطول من حياة أي فرد.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
أهـمية المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 30 نوفمبر_ 1 ديسمبر 1991/جمادى الآخر 1413_ النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 17-22.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top