القَوَاعِدُ الأَسَاسُ لِعِلْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَة: القاعدة الأولى: قاعدة التعليل

شارك:

أحمد الريسوني

محتويات المقال:
المبحث الأول: التعليل وأدلته
- التعليل من إجماع الأولين إلى إجماع الآخرين
- التعليل في القرآن والسنة
أولا: الإمام الشاطبي يورد جملة من هذه الآيات
ثانيا: تعليلُ بَعْثِ الرسل وما أرسلوا به
ثالثا: الرسل في خدمة مصالح العباد
المبحث الثاني: أحكام الشريعة بين التعبد والتعليل
- التعليل هو الأصل وعدمُه استثناء
- عدم التعليل مجرد قصور بشري
- التعليل لا ينافي التعبد
المبحث الثالث: تعليل الأحكام وأثره في تقريرها وتوجيهها
- التعليل عمل علمي له مسالكه وقواعده
- بناء عليه

القول بالتعليل هو بداية البداية في القول بمقاصد الشريعة، أي هو الأساس الأول لمشروعية القول بالمقاصد والخوض فيها جملة وتفصيلا.

فمن أثبت تعليل الشريعة جملة، مضى في البحث عن عللها الكلية والجزئية، الظاهرة والخفية، ومضى في إعمالها وقطف ثمارها. ومن نفى التعليل نفى ما يبنى عليه ويتفرع منه، وأصبح كل كلام في مقاصد الشريعة – في نظره – ضربا من اللغو والخرص.

ولذلك وجدنا الشاطبي يفتتح كتاب المقاصد من (الموافقات) بهذه المسألة (أي مسألة التعليل) ويقول: "ولْنُقَدّمْ قبل الشروع في المطلوب مقدّمة كلاميّة1 مسلمة في هذا الموضع، وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا. وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فساد"2

المبحث الأول: التعليل وأدلته

المراد بالتعليل: الكشف عن عِلَل الأحكام وبيانُها.

والمراد به قبل ذلك: اعتبار الأحكام الشرعية معللة، بعلل مفهومة أقابلة للفهم.

والعِلَلُ: جمع علة.والمراد بالعلة هنا معناها عند المقاصديين وعند العلماء المتقدمين. وهو المعنى  الذي اختاره الشاطبي في قوله: "وأما العلة فالمراد بهل الحِكَم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسدُ التي تعلقت بها النواهي، أي: الحكمة والمصلحة التي لأجل رعايتها وتحقيقها وُضع الحكم"3

فليس المراد بالعلة والتعليل في هذا البحث المعنى السائد عند الأصوليين والفقهاء، أي العلامة الصورية الظاهرة المنضبطة، التي هي مظنة الحكم القياسي الجزئي، وإنما المراد هو التعليل المصلحي المقاصدي، الذي هو نهج الصحابة ودأبهم. وكما قال الفخر الرازي: "من تتبع أحوال مباحثات الصحابة، علم قطعا أن هذه  الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمن في تحرير الأقيسة، والشرائط المعتبرة في العلة والأصل والفرع، ما كانوا يلتفتون إليها، بل كانوا يرعون المصالح لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح"4

والتعليل بهذا المعنى هو الأساس الأول والمعلمة الكبرى المميزة لعلم المقاصد، وللفكر المقاصدي، فهو فكر تعليلي أولا. وهذا ما يستدعي البدء بالتعليل، تمهيدا وتأسيسا لما بعده.

*********

التعليل من إجماع الأولين إلى إجماع الآخرين

منذ سبعين عاما – وتزيد – ألف الشيخ محمد مصطفى شلبي كتابه القيم (تعليل الأحكام)5، فكان بذلك أولَ بحث شامل لمسألة التعليل. لقد تمكن الشيخ من "تحرير المسألة"6 وعرضها بشكل مخالف لما هو معهود عند الأصولين والمتكلمين. وقد تم له ذلك بعد أن تحرر هو نفسه من تعقيدات الأصوليين وجدلياتهم.

قال رحمه الله في (فاتحة الرسالة): "ووقعت فيما كنت أود دائما مجانبته. وقعت في بحث الأصول؛ والأصولُ في نظري غالبا بحوث نظرية جاء وليدة الزمن، اضطر إلى وضعها أتباع المذاهب المقلدون، ضبطا لمذاهب أئمتهم، ودفاعا عنها في مجالس المناظرات. فجاءت ملتوية حسبما يوجَّه إليها من الطعون والإعتراضات"7

ولما درس مسالكَ الأصوليين في هذه المسألة وجد أن طريقهم "طريق طويل تسافر فيه الأفكار، وتنقطع في الأعناق، وينتهي السائر فيه إلى غير ما  يفيد..."8. لذلك قال: "فكرت طويلا فيما أصنع، فلم أجد منفذا أسلكه وأنا مطمئن إلا الرجوع إلى التعليل فيما قبل تأليف الأصول؛ إلى عصر الصحابة ومَن بعدهم من التابعين وتابعيهم رضي الله عنهم. ومِن قبل ذلك إلى طريقة القرآن والسنة، إلى حيث يقف الجميع صامتا مستسلما. هناك وفي هذا العصر أخذت أبحث عن التعليل في آيات التشريع وأحاديثه، وفتاوى الصحابة ومَن بعدهم، متجردا عن مذاهب الأصوليين وقيدوها، متجنبا الاصطلاح والمصطلحين، صارف النظر عن الشروط والمسالك. فانتقلت إلى كتب الشريعة الأولى... فألقيت طريقة اخرى غير ما تراه في كتب الأصول؛ رأيت الأحكام تدور حول المصالح. ومناطُ الحكم أو الإفتاء هو ما يترتب على الأمر من صلاح وفساد..."9.

وبعد أن عرج على ما أثاره الأصوليين والمتكلمون من خلافات تتعلق بالتعليل قال: "وما كنت بحاجة إلى هذا البحث بعد ما تقدم من عرض نصوص التعليل في القرآن والسنة ونصوص الصحابة والتابعين وتابعيهم فيه غير متخالفين ولا متنازعين، وفيه الحجة القاطعة على أن أحكام الله معللة بمصالح العباد. وقد وُجد إجماع أو شبه إجماع على هذه الدعوى قبل أن يولد المتخاصمون فيها ..."10.

على أن الإجماع في هذه المسألة قد حكاه وجزم به عدد من العلماء11. وفي عصور مختلفة ظل العلماء المعتنون بمقاصد الشريعة12 يؤكدون ويؤصلون كون الشريعة معللةً بمصالح العباد، ويبنون على ذلك قواعدهم ونظرياتهم في  مقاصد الشريعة.

أما اليوم فإن المسألة قد أشبعها المعاصرون بحثا وإثباتا وتطبيقا، ولم يبق  للنزاع حول أصل تعليل الأحكام الشرعية أي وجود يذكر.

والأهم من هذا كله – عندي – هو ذلك الإجماع العملي التطبيقي، الذي ساد عند الفقهاء من كل الأعصار والأمصار. فالتعليل عند هؤلاء لم يكن مجرد فكرة يرسلونها أو يؤصلونها، ثم ينصرفون عنها، وإنما كان ممارسة دائمة، ينتجون فقههم على أساسها، ويوجهون الأحكام الشرعية وفق مقتضياتها. "وقد جرت تعليلاتهم وكثرت في جميع أبواب الشريعة، من عبادات وعادات ومعاملات وجنايات...، فدل ذلك على عقيدة راسخة عند جماهير علماء الأمة، هي أن دين الله وشريعته وأحكامه، كل ذلك معلل معقول المعاني، وأمن مبناه على الحِكَم البالغة والمصالح المعتبرة، التي تتوقف عليها حياة الناس وسعادتهم وتزكيتهم"13

التعليل في القرآن والسنة

الحقيقة أن وجود "إجماع أو شبه إجماع"14 على تعليل الشريعة كافٍ في الاستدلال والإثبات، فكيف وقد أصبح هذا الإجماع ثابتا لا شك فيه ولا تردد؟

لكن بما أن مقامنا هو مقام تفَقُّه وبيان أكثر مما هو مقام استدلال وإثبات، فمن المفيد – بل من الضروري – الوقوف عند بعض الآيات والأحاديث المتضمنة تعليلَ الشريعة جملة وتفصيلا.

أولا: الإمام الشاطبي يورد جملة من هذه الآيات

قال رحمه الله: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد، استقراءً لا ينازع فيه الرازي15 ولا غيره؛ فإن الله تعالى يقول في بَعثهِ الرسلَ – وهو الأصل-: ﴿رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على  الله حجة بعد الرسل﴾، ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾، وقال في أصل الخلقة: ﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾، ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، ﴿الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾

أما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى؛ كقوله بعد آية الوضوء: ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم﴾. وقال في الصيام: ﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾. وفي الصلاة: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾. وقال في القبلة: ﴿فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة﴾. وفي الجهاد: ﴿أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا﴾. وفي القصاص: ﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب﴾. وفي التقرير على التوحيد: ﴿ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم  القيامة إنا كنا عنن هذا غافلين﴾. والمقصود التنبيه.

وإذا دلّ الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم16، فنحن نقطع بأن الأأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد17، فلْنَجْرِ على مقتضاه"1

ومن الواضح أن هذه الآيات المذكورة كل واحدة منها حجة في موضوعنا، وخاصة منها تلك التي تعلِّلُ تعليلا عاما.

ثانيا: تعليلُ بَعْثِ الرسل وما أرسلوا به

-> من ذلك قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25]. فقد تضمّنت الآية أن إرسال الله تعالى للرسل، بما معهم من البينات والكتب والموازين، إنما هو لأجل أن يقوم الناس بالقسط في كافة شؤونهم وأحوالهم وعلاقتهم وتصرفاتهم، بما في ذلك تصرفاتهم تجاه ربهم، وحتى مع أنفسهم. وهذا كله إنما مجاله وفرصته هذه الحياةُ الدنيا. وأما في الآخرة فيلقى الناس فقط حصائد أعمالهم، على وفق مزروعاتهم وأحوالهم الدنيوية.
-> وخاطب الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله:﴿ فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى: 15]. فمقاصد الرسالة المحمدية جمعت هنا في كلمات هي:
-> الاستقامة،
-> والتحرر من الأهواء،
-> والعدل بين الناس.
-> وفي معنى الآية نقل الإمام الطبري بسنده، عن قتادة، قال: "أُمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل، فَعدل حتى مات، صلوات الله وسلامه عليه. والعدل ميزان الله في الأرض، به يؤخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق الله الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه"18.
-> ومن ذلك قوله جل وعلا: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 123، 124] وفيه: أن ما يرسله الله لعباده إنما هو هداية لهم، وأن من اتبع هدى الله فهو آمن من ضلال الدنيا وشقاء الآخرة، وأن من تنكبه وأعرض عنه فإنه يعيش عيشة ضنكا في هذه الدنيا، ثم يظهر ضلاله وعماه جليا يوم القيامة… قال عز الدين بن عبد السلام: "والسعادة كلها في اتباع الشريعة في كل ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، أي فلا يضل في الدنيا عن الصواب، ولا يشقى في الآخرة بالعذاب"19.
-> ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن إرسال خاتم الرسل: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].والآية صريحة قاطعة في أن إرساله عليه الصلاة والسلام، معلل بشيء واحد جامع، هو كونه رحمة للعالمين أجمعين، وأنه ليس له مقصد سوى ذلك. وهذا هو المعتى الذي نطق به الحديث الشريف (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ)20.
-> ومنه قوله جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 2]، أي أنه سبحانه أصلح ويصلح شؤونهم وأحوالهم، بفضل اتِّباعهم لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-> ومن ذلك أنه ﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]
-> وقد جاء تعليل المحمدية صريحا كذلك في عدة آيات أخرى، من مثل قوله عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].

ثالثا: الرسل في خدمة مصالح العباد

قال الله تعالى:﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ  عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128] وهكذا هُمُ الرسل والأنبياء جميعا، رسالتهم ووظيفتهم خدمة ورحمة واستصلاح للناس في دينهم ودنياهم، لمعاشهم ومعادهم. والتجسيد الأمثل المفصل لهذا الجانب يوجد في ثنايا السيرة النبوية العطرة21، وهو ما لا يتسع له هذا المقام. ولذلك أكتفي بذكر نماذج محدودة - ولكنها دالة كافية- من استصلاحات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

- من ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا -قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا  لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ  يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا  فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ قَالُوا يَا  شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ  لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا  حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا  تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود 84-88]

- ومنها قوله سبحانه ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ  وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 142].

- وكذلك ما ورد في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ  سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ  ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ  عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ...﴾ [يوسف 47-49]. قال القرطبي: "هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال، فكل ما تضمن تحصيلَ شيء من هذه الأمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة، ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية"22.

- وفي تفسير "قوله تعالى: ﴿فأَسْرِ بعبادي ليلا﴾ [الدخان: 23]، قال ابن  العربي المعافري: "أُمر بالخروج بالليل. وسيرُ الليل يكون من الخوف؛ والخوف يكون من وجهتين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان بِحَرٍّ أو جدب، فيخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسري ويُدْلِج، ويترفق ويستعجل، قدرَ الحاجة وحسب العجلة، وما تقتضيه المصلحة"23.

- وفي سنن أبي داود عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا طهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيهِ إلاّ بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم).

قال الإمام أبو سليمان الخاطبي في شرحه للحديث: "قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على راحلته واقفا عليها، فدل ذلك على أن الوقوف على ظهورها إذا كان لأرب أو بلوغِ وطر لا يدرك مع النزول إلى الأرض مباح جائز، وأن النهي إنما انصرف في ذلك إلى الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه، لكن بأن يستوطنه الإنسان ويتخذه مقعداً، فيتعبُ الدابة ويضر بها من غير طائل"24

المبحث الثاني: أحكام الشريعة بين التعبد والتعليل

لقد ثبت واتّضح أن الإجماع منعقد على تعليل الشريعة بمصالح العباد، ومع ذلك فإن العلماء يقررون أيضا أن هنالك أحكاما شرعية ليست معللة، وتسمى تعبدية؛ أي ليس لها علة معلومة ولا مصلحة مفهومة، وإنما يُعمَل بها من باب التعبد والعبادة والامثتال لله سبحانه، لا أقل ولا أكثر. فهي قد شُرِعت تعبدا وتؤدَّى تعبدا. وتدخل في هذه الأحكام التعبدية حتى في أبواب أخرى من غير العبادات.

ففي العبادات: يعتبرون – مثلا- أسباب  الطهارات وكيفيتها، وأعداد الصلوات ومواقيتها في كل يوم، وأعدادَ الركعات في كل صلاة، وهيئات الصلاة من قيام وركوع وسجود، كلها أحكاما تعبدية غير معقولة المعنى. وكذلك الشأن في توقيت فريضة الصيام الذي جُعل في شهر بعينه دون سواه، ودون زيادة ولا نقصان.

وهكذا أيضا كثير من تفاصيل أحكام الزكاة وشعائر الحج وأحكام الكفارات وغيرها...

وأما في غير العبادات، فيعتبرون المقادير الشرعية، (المقَدَّرات)25. كلَّها أحكاما تعبدية؛ وذلك مثل مقادير عِدَدِ المطلقات، وعدة المتوفى عنها زوجها. ومثل المقادير في عقوبات بعض الحدود، ومقادير المواريث، وكذلك عَدد الشهود في مختلف الدعاوي الجنائية والمدنية...

فهذا التقسيم للأحكام الشرعية، إلى معللة وتعبدية، يحدث بلبلة وترددا في اعتبار التعليل وإمضائه في أحكام الشريعة. ورفعا لكل التباس ودفعا لكل تشويش، فإن مسألة التعبد في أحكام الشريعة تستدعي توضيح عدة جوانب منها، وهي:

التعليل هو الأصل وعدمُه استثناء

وذلك أن الأحكام التي تعتبر تعبدية – أي غير معللة، أو غير معقولة المعنى - تُعد قليلة واستثنائية، بالمقارنة مع تلك المعللة. ولذلك يبقى مقررا عند الجمهور أن "الأصْل في الأحْكَام الَمعقولِيةُ لا التَّعَبدُ"26. وحتى أبواب العبادات التي هي عمدة الأحكام التعبدية في الشريعة، نجد حِكمها ومقاصدها الإجمالية منصوصة ومصرحا بها في الآيات والأحاديث. ثم نجد للفقهاء تعليلات كثيرة في تفاصيلها.

وأورد فيما يلي – على سبيل المثال – تعليلات بعض الفقهاء لأحكام الوضوء والتطهر للصلاة. فقد عللوها أولا بوجوب الأدب مع الله تعالى عند  مناجاته والتهيئ للمثول بين يديه. فهذه علة لا تخفى على ذي عقل وذي أدب. مثلما لا تخفى العلة الأخرى وهي تحصيل ما في ذات التطهر من فوائد بدنية ونفسية...

وأما تخصيص أعضاء معينة من البدن ليشملها الوضوء، فلكون تلك الأعضاء هي الأكثر عرضة للأوساخ الحسية من جهة، ولأنها الأكثر تسيبا وتوسلا إلى اكتساب الذنوب، أي الوساخ المعنوية، من جهة أخرى. والوضوء يطهرها من هذه وتلك.

ويضيف العلامة علاءُ الدين الكاساني معنى آخرَ، وهو: "أن هذه الأعضاء وسائلُ إلى استيفاء نِعَمِ عظيمة، بل بها تنال جل نِعم الله تعالى؛ فاليد بها يتناول ويقبض ما يحتاج إليه، والرجل يمشي بها إلى مقاصده، والوجه والرأس محل الحواس ومجمعها التي بها يعرف عظم نعم الله تعالى، من العين والأنف والفم والأذن، التي بها البصر والشم والذوق والسمع، والتي بها يكون التلذذ والتشهي والوصول إلى جميع النعم، فأمر بغسل هذه الأعضاء شكرا لما يتوسل بها إلى هذه النعم"27.

وفي تعليل شامل للطهارة يقول ابن رشد القفصي: "حكمة مشروعيتها: تدريب النفس على مكارم الأخلاق، والتأدبِ مع الملك الخلاق، إذ ينبغي للعبد أن يقف بين يدي مولاه حسن الهيئة، طيب الريح، خلياً عن الوصف القبيح. وهي مراتب: أولها طهارة الظاهر عن الأدناس الحسية والمعنوية، وطهارة الجوارح عن الآثام والأجرام، وطهارة الصدر عن الأخلاق الذميمة، كالغِل والحسد وما أشبه ذلك، وطهارة القلب بإخراج ما سوى الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ [الشعراء: 89]..."28

"هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد لله من انشراح القلب وقوته، واتساع الصدر، وفرح النفس، ونشاط الأعضاء"29 وعلى هذا المنوال نجد تعليلات كثيرة من الفقهاء مستشرية في كافة أبواب الشريعة والمقصود التنبيه على شيوع التعليل الفقهي في كافة الأبواب، بما فيها أبواب العبادات

عدم التعليل مجرد قصور بشري

صرح كثير من العلماء أن ما يعتبر أحكاما غير معللة، إنما تعتبر كذلك  بحسب مبلغ الإدراك البشري، أما في حقيقتها، فلابد أن لها حكمة ومصلحة.

قال الحكيم الترميذي: "عللها قائمة، عَلِمَها من عَلمها وجَهِلها من جهلها"30.  وقال الشهاب القرافي: "نعتقد فيما لم نطلع فيه على مفسدة ولا مصلحة، أنه مصلحة إن كان في جانب الأمر، وفيه مفسدة إن كان في جانب النواهي، طردا لقاعدة الشرع في رعاية المصالح والمفاسد"

وقال ابن القيم: "ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة، يعقله من عَقَلَه ويخفى على من خفي عليه" وعلى هذا الأساس، يكون كل ما في الشريعة معللا في حقيقته، جملة وتفصيلا. لذلك نجد أن ما يتوقف فيه بعض العلماء ويعتبرونه بحسب نظرهم تعبديا، يأتي آخرون فيعللونه بما فتح الله به عليهم وما أبصرته عقولهم بعد مزيد بحث ونظر.

قال الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني: "وقول أهل الفروع: هذا تعبدي، إنما هو عجز منهم عن بيان الحكمة والسر"  وكذلك اعتبر العلامة ابن عاشور أن الفقيه الذي يتوقف عن التعليل ويعتبر الحكم تعبديا إنما يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع، ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة، فيسمي هذا النوع بالتعبدي"

وقال في التفسير: "... والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن  بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه، فنطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها، لنفرع عليها ونقيس"31.

ومن الأمثلة التوضيحية لهذه المسألة حديث ابن عمر في صحيح البخاري قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما"، يقصد في صلاة الجمعة. فمن العلماء من اعتبر هذه الجلسة بين الخطبتين عملا تعبديا وجزءا من أفعال الصلاة، ومنهم الإمام الشافعي الذي يعتبر هذه الجلسة واجبة وشرطا لصحة الصلاة. وذهب علماء آخرون إلى التعليل بكون هذه الجلسة مجرد استراحة لفائدة الخطيب. ويستحب فعلها فقط من باب التأسي بالسلوك النبوي، ولكنها لا تجب ولا تلزم، وتركُها لا شيء فيه. قال ابن بطال: "ومن قال: إنها فريضة فلا حجة له؛ لأن القعدة فصل بين الذكْرين، واستراحة للخطيب، وليست من الخطبة في شيء"32. وروي عن ابن عباس أنه كان يخطب خطبة واحدة، فلما ثقُل – أي أسَنَّ - جعلها خطبتين وجلس بينهما33.

 التعليل لا ينافي التعبد

القول بالتعليل المصلحي لأحكام الشريعة لا ينافي قصد التعبد فيها، كما لا  ينافي الابتلاء بها. فالله تعالى يبتلينا في هذه الحياة، والحياة كلها ابتلاء، والتكاليف كلها ابتلاء، نعم. ولكنه سبحانه لا يبتلينا بأشياء اعتباطية أو عبثية، أو عديمة الجدوى، أو منافية لما فيه صلاحنا وسعدتنا، ولا يبتلينا بألغاز وطلاسمَ غيرِ قابلة للفهم والتعقل، وكما قال الإمام البوصيري:

لم يمتحِنَّا بما تَعْيَ العقول به ... حِرصا علينا فلم نَرْتَبْ ولم نَهِمِ

وإنما من تمام فضله وحكمته وإحسانه أنه ابتلانا وتعبدنا بما فيه صلاحنا ومصلحتنا ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]. "فالتعبد لله تعالى ليس شيئا مخالفا ولا نقيضا للتعليل والمعقولية ومصالح المكلفين. فالتعبد حق لله نَعَم، ولكن التعبد أيضا عمل وطاعة واستقامة وتزكية وترقية، فهو مصالح. وكذلك رعاية المصالح المعتبرة في الشرع، هي شكل من أشكال التعبد والتقرب إلى الله تعالى"34. ولذلك يصح – بل هو الأصح – أن يجمع الإنسان في العمل الواحد بين قصد التعبد والتقرب إلى الله تعالى، والقصد إلى غيره من المقاصد الدنيوية المشروعة. كقصد تحقيق منافع تجارية أو صحية في الحج، أو عقد لقاءات في أثنائه. وذلك مضمن في قوله تعالى ﴿ أَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 27، 28].

وقد تناول القرافي في الفرق الثاني والعشرون بعد المائة من فروقه، مسألة "الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات، وبين قاعدة التشريك في العبادات35".

وبعد أن بين أن الرياء المحرم في العبادات إنما هو الذي يريد به صاحبه ثناء الناس عليه وتعظيمهم له وإعجابهم به، قال: "...وأما مطلق التشريك؛ كمن جاهد ليحصل طاعة الله بالجهاد وليحصل المال من الغنيمة، فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله تعالى جعل له هذا في هذه العبادة ... وكذلك من حج وشرَّك في حجة غرضَ المُتَّجَر، بأن يكون جل مقصوده أو كله السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك أو غير مقصود ويقع تابعا اتفاقا36، فهذا أيضا لا يقدح في صحة الحج ولا يوجب إثما ولا معصية. وكذلك من صام ليصح جسده أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصيام ويكون التداوي هو مقصودة أو بعض مقصودة، والصوم مقصودة مع ذلك، وأوقع الصوم مع هذه المقاصد، لا تقدح هذه المقاصد في صومه، بل أمر بها صاحبُ الشرع في قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" أي قاطع. فأمر بالصوم لهذا الغرض. فلو كان ذلك قادحا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام في العبادات وما معها. ومن ذلك أن يجدد وضوءه وينوي التبرد أو التنظيف. وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي تشريكُ أمورٍ من المصالح ليس لها إدراك ولا تصلح للإدراك ولا  للتعظيم، فلا تقدح في العبادات"37

المبحث الثالث: تعليل الأحكام وأثره في تقريرها وتوجيهها

تعليل الأحكام ليس بمجرد غوص وتعمق في فهم أسرار الشريعة وفلسفتها التشريعية، لأجل الكسب المعرفي والمتعة العلمية، بل هو جزء لا يتجزأ من فقه الدين والعمل به، وهو بذلك عمل علمي عملي لا غنى عنه، خاصة للعلماء والفقهاء، والدارسين المتفقهين. وله أهميته وآثاره البليغة في فهم الأحكام الشرعية، وتحديد مناطاتها، وتوجيه مساراتها، والقياس عليها.

وبيان ذلك في ما يلي:

1- نجد أن الله تعالى بنفسه قد علل كثيرا من أحكامه لعموم المخاطبين والمكلفين، كما تقدم في أمثلة سابقة، وسيأتي قريبا مزيد من الأمثلة القرآنية لذلك. وقد أمر الله تعالى بالتعليل، كما تبين ذلك ابن القيم في قوله: "وكذلك أحكام القرآن، يرشد سبحانه فيها إلى مداكرها وعللها، كقوله: ﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض﴾ [البقرة: 222]، فأمر سبحانه نبيه أن يَذكر لهم علة الحكم قبل الحكم"38

2- وهذا هو نهج النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي مهد لنا طريق التعليل والقياس. قال ابن القيم: "وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عِلَلَ الأحكام والأوصافَ المؤثرة فيها؛ ليدل على ارتباطها بها، وتعديها بتعدي أوصافها وعِللها، كقوله في نبيذ التمر: «تمرة طيبة وماء طهور»، وقولِه: «إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر»، وقوله: « إنما نهيتكم من أجل الدافة»، وقوله في الهرة: «ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات»، ونهيه عن تغطية رأس المحْرِم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطبيب وقوله: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا»، وقوله: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم »، ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وقوله تعالى: ﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض﴾ [البقرة:222] وقوله في الخمر والميسر: ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عنن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ [المائدة: 91]…"39

3- تعليل الأحكام هو المفتاح الثاني – بعد مفتاح اللغة العربية – لفهم الشريعة واستنباط أحكامها، ومعرفةِ مقاصدها ومناطاتها، ووضعها في مواضعها. وبدونه يقع الفهم وينحصر في السطحية والقصور والزيغ عن الصراط السوي، وهو ما يشير إليه الشاطبي بقوله: "مَن لم يتفقَّه في مَقَاصِدِ الشريعة فهِمَها على غير وجهها"40. كما ان التعليل هو المذخل الأوسع والطريق السالك للاجتهاد فيما لا نص فيه "فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والإلتفاتات إليها…"41

4- قاعدة (دوران الحكم مع علته) أو: (الحكم يدور مع علته وجودا وعدما)42، تُظهر لنا جانبا كبيرا من أثر التعليل في تقرير الأحكام وتغييرها. ومفاد القاعدة: أن الأحكام الشرعية التي تقررت بناء على علة معينة ومناط محدد، تكون مرتبطة بتلك العلة؛ بمعنى أن الحكم يبقى ما بقيت علته، ومتى زالت العلة زال الحكم المبني عليها، ومتى عادت العلة عاد الحكم.

فالتعليل يؤدي إلى توسيع دائرة الحكم، ليشمل ما ليس داخلا في منطوق النص ومقتضاه اللفظي، ولكنه يدخل فيه بمقتضى التعليل، أو كما قال ابن العربي: "العلة إذا علمت بالنظر اطَّردت حيثما وُجدت، وتعلق الحكم بها أينما كانت"43.

كما انه قد يقتضي رفع الحكم عب بعض حالاته إذا زالت علته في تلك الحالات، كما قال صاحب البدائع: "والحكم متى ثبت معقولا بمعنى خاصٍّ، ينتهي بذهاب ذلك المعنى"44.

التعليل عمل علمي له مسالكه وقواعده

تعليل الأحكام الشرعية، بمعنى الإستنباط والبيان لعللها التي نعي بها الحِكَم والمقاصد وما تنطوي عليه من جلب للمصالح ودرء للمفاسد، هذا التعليل ليس مجرد تقدير أو تخمين أو حدس، يلوح لعالم أو مفكر أو مُنَظِّر، إنما هو عمل علمي مضبوط بمسالكه وقواعد المنهجية. وكل تعليل فاقدٍ لهذه الصفات والشروط يبقى مجرد قول - أو زعم – لصاحبه، لا يلزم أحدا، ولا يقدم ولا يؤخر شيئا.

وقد حذر ابن عاشور الباحثين في مقاصد الشريعة من خطورة الأمر حتى لا  يستسهلوه، فقال: "على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي. وإياه والتساهلَ في ذلك؛ لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي، أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط. ففي الخطأ فيه خطر عظيم. فعليه أن لا يُعَيِّن مقصدا إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع. فإنْ هو فعل ذلك اكتسب قوةَ استنباط يفهم بهل مقصود الشارع"45

ثم نبّه على ان ما يعول عليه من المقاصد الشرعية، إنما هو ما كان ثبوته قطعيا أو قريبا من القطع، أو راجحا على الأقل. قال: "فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علما قطعيا، أو قريبا من القطعي، وقد يكون ظنا. ولا يُعتبر ما حصل للنظار من ظن ضعيف أو دونه. فإن لم يحصل من علمه سوى هذا الضعيف، فليفرضه فرضا مجردا، ليكون تهيئةً لمن يأتي بعده، كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"46.

**********

وفيما يلي جملة من الأمثلة التطبيقية التي تبين أثر هذه القاعدة، وفائدة تعليل الأحكام:

في صحيح مسلم: عن أبي الطفيل قال قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمَل47 بالبيت ثلاثة أطواف ومشيُ أربعة أطواف، أسُنَّةٌ هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة. قال: فقال: صدقوا وكذبوا، قال قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة، فقال المشركون إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال، وكانوا يحسدونه. قال: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثاً ويمشوا أربعاً.

قال: قلت له: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا أسُنَّةٌ هو؟ فإن  قومك يزعمون أنه سنة. قال: صدقوا وكذبوا. قال قلت: وما قولك صدقوا وكذبوا؟  قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس: يقولون هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُضرَب  الناس بين يديه48، فلما كثر عليه ركبَ، والمشي والسعي أفضل.

فابن عباس رضي الله عنهما يرى – بحق – أن الهرولة في الأشواط الثلاثة الأولى من السعي بين الصفا والمروة، ليست من الأعمال والسنن الأصلية في مناسك الحج والعمرة، وإنما حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم لمقصد ظرفي وعلة عابرة. وبزوال تلك العلة زال الحكم وارتفع الأمر النبوي. فمن رمل لا على أنها سنة مأمور بها، وإنما فقط لمغزى رمزي تذكاري، فله ذلك. ومن تركه فلا شيء عليه، وهو الأفقه والأقصد.

وكذلك ركوبه عليه  السلام في سعيه بين الصفا والمروة، إنما كان لسبب خاص، فلا يمكن اعتباره سنة عامة لجميع الناس وجميع الأحوال، ولكنه يبقى رخصة تقدر بقدرها.

في صحيح البخاري عن جبلة بن سحيم قال: قال أصابنا عامُ سنةٍ49 مع ابن الزبير، فرُزقنا تمرا، فكان عبد الله بن عمر يمر بنا ونحن نأكل ويقول: لا تقارنوا، فإن  النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القِران50. ثم يقول: إلا أن يستأذن الرجل  أخاه. قال شعبة: الإذن من قول ابن عمر.

فبعض الناس يأخذ هذا النهي النبوي عن القِران في الأكل، ويجعله ملزما في كل حال وأوان. والحال أنه نهي له علته التي قد تتحقق فيتجه النهي عندها، وقد لا تتحقق فلا نهي. قال الإمام أبو سليمان الخطابي: "إنما جاء النهي عن القِران لمعنى  مفهوم وعلة معلومة؛ وهي ما كان القوم من شدّة العيش وضيق الطعام  وإعوازه، وكانوا يتجوزون في المأكل ويواسون من القليل. فإذا اجتمعوا على الأكل  تجافى بعضهم عن الطعام لبعض وآثر صاحبَه على نفسه. غير أن الطعام ربما يكون  مشفوهًا51، وفي القوم من بلغ به الجوع الشدة فهو يشفق من فَنائه قبل أن يأخذ حاجته منه فربما قرن بين التمرتين وأعظمَ اللقمةَ ليسد به الجوع وتشفى به القَرَمَ52،  فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيه.....

أما اليوم، فقد كثر الخير واتسعت الرحال، وصار الناس إذا اجتمعوا تلاطفوا على الأكل وتحاضُّوا على الطعام، فهم لا يحتاجون إلى الإستئدان في مثل ذلك إلاّ أم يَحدث حال من الضيق والإعواز تدعو الضرورة فيها إلى مثل ذلك، فيعود الأمر إليه إذا عادت العلة والله أعلم"53

ومن آثار التعليل في فهم النصوص الشرعية وتوجيه أحكامها، ما يظهر في حديث الإمام مسلم في "باب تسوية الصفوف وإقامتِها وفضلِ الأولِ فالأولِ منها...". والحديث رواه أبو هريرة قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حديث صفوف الرجال أولها وشرها وآخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها  وأولها".  فمن الناس من يأخده تعبدا وعلى ظاهره لا أقل ولا أكثر، خاصة وأن الحديث يدخل في باب العبادات. وبناء عليه فهذا خير، وهذا شر، وانتهى الأمر.

ومنهم من علله بأفضلية الرجال وتأخُّر رتبة النساء عنهم، فلذلك كان اللائق بالنساء التأخر ما أمكن عن مرتبة الرجال ولزومُ مكانهن الطبيعي. نقل الملا الهروي القاري في مِرقاته: "قال ابن الملك54: لأن مرتبة النساء متأخرة عن مرتبة الذكور،  فيكون آخر الصفوف أليق بمرتبتهن".55

والحقيقة أن مقصود الحديث ليس لا هذا ولا ذاك. وكل ما هنالك أن ضيق مساحة المسجد، وعدمَ وجود حاجز آنذاك بين المصلين من النساء والرجال، وحرص النساء على الصف الأول كالرجال، كان يؤدي إلى أن تصبح صفوف الجنسين متقاربة جدا، ويصبح آخر صفوف الرجال يليه مباشرة أول صفوف النساء، حتى روي أن أحدهم كان يتأخر إلى الصف الأخير، ثم يسترق النظر إلى امرأة جميلة كانت تحرص على الصف الأول.

وأيضا كان يحدث أحيانا أن ترفع بعضُ النساء من السجود قبل رفع الرجال، وبعض هؤلاء الرجال لم تكن لهم ألبسة سابغة ساترة كافية، فكان يحصل أن تقع أبصار النساء على شيء من عورات الرجال وهم سجود، فذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساءَ أن يتمهلن في الرفع من السجود56. فلأجل هذا وذاك وقع ترغيبهن في اتأخر عن صفوف الرجال ما أمكن.وهذا بدون شك هو اللائق بأخلاق الإسلام وآدابه في عامة الأحوال، فكيف إذا تعلق الأمر بالمسجد وبالصلاة، حيث المصلون يبحثون عن التطهر  والسكينة والخشوع والوقار؟

على هذا النحو وفي هذا السياق فهمَ جمهور العلماء علة الحديث ومقصودة. وعلى هذا الأساس ذهبوا إلى أنه متى صلى النساء وحدهن جماعة في صفوف متعددة، فَخيْرُ صفوفهن أولها، وشرها وآخرها. أي عدنا إلى الأصل: وهو أفضلية الصف الأول ومَزيدُ ثوابه على غيره، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه. لا فرق في ذلك بين نساء ورجال.

قال الإمام النووي: "أما صفوف الرجال فهي على عمومها؛ فخيرها أولها أبدأ، و شرها آخرها أبدا. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث: أما صفوف النساء اللواتي  يصلين مع الرجال. وأما إذا صلَّيْنَ متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال؛ خير  صفوفهن أولها وشرها آخرها. والمراد بِشَرِّ الصفوفِ في الرجال والنساء أقلُّها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع..."57

وقال الأمير الصنعاني: "وأما إذا صلين وإمامتُهُن امرأة، فصفوفهن كصفوف  الرجال أفضلها أولها"58

وبناء على ما تقدم أيضا نستطيع القول: إن صفوف النساء المتأخرة للأسباب المذكورة إن وجدت، هي في الحقيقة تعتبر الصفوفَ الأولى في طاعة الله وتقواه،  وهي الأولى في الفضل ولثواب. فالصف الأول والمركز الول ليس حيزا مكانيا أو جهة جغرافية، بل هو عبارة عن السبق في الخير وفي التنائي عن الشر وعن مواطن الشبهات.

ومن المسائل التي تدخل في هذا الباب – باب التعليل وأثره في توجيه الأحكام – سهمُ "المؤلفةِ قلوبُهم" من الزكاة. فمن المعلوم أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي  الله عنه أوقف إعطاء هذه الفئة النصيبَ الذي كانوا يأخذونه من أموال الزكاة، مع أن سهمهم مذكور في آية مصارف الزكاة من القرآن الكريم. لكن النقاش ظل قائما بين الفقهاء والمفسرين عند سند هذا الإيقاف العُمَري، وهل هو إيقاف نهائي؟ أم هو تدبير مؤقت والحكم باق يمكن الرجوع إلى العمل به؟

ما يتفق عليه الجميع في هذه المسألة هو أن سند عمر في إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم هو قاعدة (دوران الحكم مع علته)، والعلة هنا هي أن الإسلام لما كان في  بدايته وحالِ ضعفه، كان يتألف أقواما لتثبيتهم وتأليفهم مع المسلمين، ويتألف بعض زعماء المشركين لتقريبهم وكف أذاهم عن المسلمين. فإلى هنا نجد اتفاقا على التعليل والعلة، وعلى الثر الناجم عن هذا التعليل، ألا وهو توقيف الحكم لانتقاء علته، بعد قوة الإسلام ومنعته ودخول الناس فيه أفواجا.

أما موطن الإختلاف المتبقي في المسألة فهو: هل هذه العلة قد انتفت بصفة نهائية لا رجعة فيها، وأن حالة الإسلام الأولى لن تعود، وقد تبين الرشد من الغي، فمن شاء فاليؤمن ومن شاء فاليكفر؟ أم أن العلة يمكن أن تعود وتعتبر في أي زمان أو مكان ومتى عادت وتحقق مناطها عاد الحكم ووجب العمل به؟

على أن الذي يعنيني في المقام الأول من هذه المسألة هو القدر المتفق عليه فيها، وهو الذي يتجلى فيه تأثير التعليل في تقرير الأحكام وتغييرها...، أما الشق الذي هو محل نزاع فمسألة فرعية تابعة، وهي على القولين لا تخرج عن القاعدة، بل تؤكدها.

ومن أكبر المثلة واخطرها شأنا في هذا الباب: قضية الجهاد. أعني هنا الجهاد بمعناه الخاص، وهو "القتال في سبيل الله"59. فهل الجهاد معلل أو تعبدي؟ وإذا كان معللا فما هي علته أو علله؟ وإذا علمنا علته فما تأثيرها على أحكامه وتطبيقاته في مختلف الأحوال؟ وهل الجهاد يدخل في قسم العبادات، أو في غيره من أبواب الفقه؟

العلامة يوسف القرضاوي عبر عن المسألة بقوله: "هل الجهاد من شؤون الدين أو من شؤون الدنيا؟"60، ثم أعاد صياغة السؤال بصيغة اخرى هي: "هل الجهاد من شؤون العبادات أو من شؤون المعاملات؟"61.  وعلى الرغم من ان عامة الفقهاء يعتبرون أحكام الجهاد من جملة أحكام المعاملات، فإن كثيرا منهم – قديما وحديثا – يقررون وجوب الجهاد والغزو على الدوام، دونما اعتبار لسبب أو علة حتى نجد منهم من يقرر وجوب غزو الكفار مرة كل سنة على الأقل، كما لو تعلق الأمر بصوم رمضان وحج البيت الحرام بمعنى أنهم صيروه عملا تعبديا مطلوبا لذاته.

غير أن الحقيقة القاطعة الساطعة هي أن القتال المطلوب في الشرع، معلل بعلل معقولة منصوص عليها. وإذا كان كذلك، فهو منوط بعلته – أو بعلله – يدور معها، فيوجد بوجودها، ويتوقف عند عدمها، ثم يعود بعودتها، ويقدر بقدرها...

قال الإمام أبو بكر الشاشي (القفال الكبير) مبينا الحكمة التي شرعها لأجلها الجهاد: "وحقيقة معناه: استيفاءُ الإنسانِ وُسْعَه في إقامة الحق والدعاء إليه، والردعِ على الخلاف له. وهو داخل في جملة المر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذِ على  أيدي الظلمة، والمنعِ من الفساد في الأرض"62.

هلى أن فصل الخطاب هو ما يقرره الذكر الحكيم.

وفيما يلي بعض تلك الآيات القرآنية التي عللت مشروعية القتال ووجوبَه.

قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: 39]

وهذه أول آية صرحت بمشروعية القتال للمسلمين وأذنت لهم فيه. وقد عللت ذلك  ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾. فالظلم الذي لا سبيل إلى الرفعة إلا القتال هو العلة لمشروعية الحرب على الظالم المتمادي في ظلمه وعدوانه.

وقال عز من قائل: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ  الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ  أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75].

تضمنت الآية حضا على القتال في سبيل الله، نصرة للمستضعفين المظلومين المغلوبين على أمرهم. ولا يخفى أن هذا القتال وإن كان في سبيل الله من حيث النية والإحتساب، فهو عمليا قتال لنصرة المستضعفين ورفع الظلم عنهم. فالعلة هنا هي نفسها الواردة في الآية السابقة، أي دفع الظلم وردع الظالمين.

وقال سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ  لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.

والآية صريحة بأن المسلمين إنما يقاتلون من يقاتلهم، وأن الله تعالى يمنعهم وينهاهم عن الإعتداء. ومن الإعتداء مقاتلة من لا يقاتل.

وقال تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ  وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ  فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا  عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ  عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ  الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 190-194]

والعلة هنا أيضا هي مقابلة القتال بالقتال، والإخراجِ بالإخراج، مع النهي عن القتال عند المسجد الحرام. لكن إذ قاتلونا عنده قاتلناهم عنده كذلك، وإن انته انتهينا، ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: 7]، ومن اعتدى علينا رددنا عليه بمثل عدوانه ولا نعتدي عليه.

ومبدأ الرد ومواجهة القتال بمثله مؤكد كذلك في آية أخرى هي: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36]. فقتال المسلمين لأعدائهم إنما يأتي للرد والردع والمقابلة بالمثل.

وأما قوله تعالى في الآيات السابقة من سورة البقرة: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا  تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، فقد ورد مثله في سورة الأنفال في الآية 39، وهي: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ  فَإِنِ انتَهَوْا  فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير﴾. فالقتال هنا معلل بدفع الفتنة وأن يكون الدين لله. وهذا التعليل يتضمن وصفا وبيانا وتتميما لما سبق ذكره من الظلم والعدوان، وما يؤديان إليه من فتنة الناس وصدهم عن دينهم.

فالتعليل بزوال الفتنة وأن يكون الدين كله لله، ليس معناه – كما يظن بعض الناس – هو أن نقاتل ونواصل القتال حتى يزول الكفر ويعم الإسلام، وبذلك وحده يستقر السلام... فهذا المعنى لا يستقيم؛

أولا: لأن مثل هذا الفهم لو صح سيكون تكليفا بما لا يطاق، لكونه تكليفا للمسلمين بمحو الكفر من الأرض، وهو ما لم يقل به أحد، فضلا عن تعذره فعليا ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا  مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]. ﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ  جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31]، ومن هنا فالسعي والجهاد إلى أن يؤمن الناس جميعا سعي غير واقعي وسعي فيما لا يمكن، والأمة مجمعة على أن التكليف بما لا يطاق ممتنع في  شريعتنا وثانيا: هذا يتنافى مع إقرار النصارى واليهود والمجوس على أديانهم وقبولِ الجزية منهم والتعايش معهم؛ إذ لو كان غرضُ القتال إدخالَ الناس قاطبة في الإسلام، لما كان هناك صلح ولا ذمة ولا جزية ولا تعايش.

فظهر أن الفتنة التي يقاتل المسلمون لأجل رفعها ليست هي الكفر، وأن كون "الدين كله لله" لا يعني إدخال جميع الناس في الإسلام. فبقي أن المعنى هو: أن تتحقق للناس حرية الإقبال على ربهم وعلى دينهم والدعوة إليه، بدون منع ولا إكراه، ولا ترهيب ولا تعذيب... فهذا هو معنى: ﴿ حتى لا تكون فتنة ويكون  الدين لله﴾

وفي صحيح البخاري: ... أن ابن عمر " أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا:  إن الناس صنعوا، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن  تخرج ؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي. قالا ألم يقل الله تعالى: ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة﴾ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وفي رواية عن نافع: أن رجلا أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغَّب الله فيه؟ فقال: يا ابن أخي، بني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج  البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ﴿وإن طائفتان من  المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي  حتى تفيء إلى أمر الله﴾[الحجرات:9]، ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة﴾؟ قال:  فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام قليلا، وكان الرجل يُفتن في دينه: إما قتلوه وإما عذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.

والخلاصة: أن القتال المشروع والمأمور به في الإسلام، ورد تعليله في القرآن الكريم بالعلل الآتية:

  • بدفع الظلم الذي لا يندفع إلا به،
  • بحماية المظلومين المستضعفين بصفة خاصة،
  • بحق المعاملة بالمثل ورد القتال بالقتال،
  • برفع الفتنة في الدين وأن يكون الذين لله.

وبناء عليه:

فمشروعية القتال في الإسلام مؤسسة على هذه الأسباب والأغراض، فلا بد أن يكون كل قتال يدخله المسلمون منوطا بواحدة أو أكثر منها، محدودا بحدها ونطاقها.

ويجب أن تُفْهم النصوص المطْلقة وغير المعللة، في ضوء النصوص المقيدة والمعللة، أي في ضوء العلل المذكورة. وبتعبير الأصوليين: يجب حمل المطلق على المقيد من نصوص الجهاد، وفق ما هو مقرر ومفصل في علم أصول الفقه. فالنصوص التي فيها أمر بالقتال أو ترغيب فيه، مطلقا دون تقييد، محمولة على تلك المعللة ومنضوية تحت مقتضاها، مع ضرورة الإلتفات أيضا إلى مقتضيات الآيات المتعلقة بالجنوح للسلم والدخول فيه، والدفع بالتي هي أحسن، وإيثار العفو والصفح والصلح، كلما كان ذلك ممكنا ومجديا...

هذا فضلا عما للقتال من شروط وضوابط تفصيلية وتطبيقية، يقدرها أهل الاختصاص وولاة الأمور في كل حالة على حِدَتها.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
أحمد الريسوني، القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة،2014، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 17-35.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top