رشدي راشد
حظيت الآثار المخطوطة الإسلامية في العقود الخمسة الأخيرة باهتمام مكثّف وجديد. ففي هذه الحقبة أُنشأت معاهدُ المخطوطات وجُمعت وسُجلت بعضُ المجموعات الخطية مثل المجموعة الإيرانية، وأقيمت بعضُ المؤسسات العامة والخاصة مثل مؤسسة الفُرقان التي نحن ضيوفَها اليوم. وعلى الرغم من هذه الجهود المهمة والمشكورة، ما افك حالُ المخطوطات الإسلامية يثير دهشة الناظر والمتأمل. فمن جهة، يمثل هذا الإرث المخطوط أَغْنى وأغزرَ المحفوظ من الآثار الخطية الإنسانية، ومن جهة أخرى ما زال هذا الإرث أقلَّها حظًّــا في الدرس والتحقيق والفهرسة. وما فتِئ هذا التناقض يحكمُ حقلَ المخطوطاتِ الإسلامية، فالطريقُ ما زال طويلاً ووَعْرًا؛ والمقام هنا ليس مقام البحث عن الأسباب التي أدّت إلى هذا التناقض واستمراره، وإن بدأْتُ بهذا فلِلَفْت النظر إلى أنه يزداد عظمًا إذا خصصنا التراث المخطوط الرياضي والعلمي. فالتراث ُ العلميّ لم يُحْظَ بما حُظِي به التراث الأدبي والديني؛ فلقد خرّجت وهيأت المعاهد والحوازات الدينية من العلماء من تكفّلوا بهذا الأخير فخدموه وأخرجوا بعضه، وهو ما لم يُهيَّأْ للتُّراث العلمي. وتخصيصُ التراث العلمي له أسبابٌ أخرى سأذكر بعضها:
إذا نظرنا إلى الآثار المخطوطة في الرياضيات والعلوم في الحضارة الإسلامية نجدها تتضمن النتاج العلمي لحضارات متعددة قديمة، ولأبحاث مبتكرة جديدة على السواء. فهذا التراث النصّي يحتوي في نفس الوقت على ما انتهى إلينا من الأوائل وخاصةً من اليونان والهنود والفُرس والسِّــــرْيان، وعلى ما اكتشف من جديد ابتداءً من أواخر القرن الثاني الهجري. هذه أولى سمات التراث النصّي في الرياضيات والعلوم والفلسفة، والتي تميزه عن التراث النصّيِّ في علوم الدين والأدب. وقد أدرك علماء المسلمين هذا الفرق عند تمييزهم بين علوم الأوائل وعلوم المتأخرين.
أما السمة الثانية: فهي وحدةُ لغةِ هذا التراث العلمي، فهذا التراث كان عربيَّ اللغة. لم يقتصر على بلدان أهل الضاد، بل عـمّ بلادًا تكلّمَ مواطنوها بلغات مختلفة. فالعربيّة كانت لغة العلم في سَمرقَنْد وفي غرناطة مرورًا بخراسانَ وصقلّية. وكان هذا العالِم أو ذاك إن حنّ واشتاق إلى الكتابة بلغته الأم- الفارسية خاصة- مثل النَّسَويّ ونَصير الدين الطَوسيّ- فسرعان ما عاد هو نفسه يَنْقُل ما ألفه إلى العربيّة. وهذا ما عبّر عنه أبو الرّيحان البَيْروني عندما أكّد أن العربيّة هي لغة العلم في عصره. ولن نبالغ إن قلنا إنه منذ بداية القرن الثالث الهجري أصبح للعلم لغة، وكانت هذه اللغة هي العربيّة، بل إن هذه اللغة اكتسبت بدورها بعدًا عالميًا، فلم تعد لغةَ شعبٍ واحدٍ ولا لغةَ أمةٍ واحدة، بل لغةَ شعوبٍ عدة وأممٍ مختلفة، ولم تعد لغةَ ثقافة بعينها بل لغة كل المعارف العقلية، علميةً كانت أو فلسفية.
أما السمة الثالثة للتراث المخطوط العلمي، فهي مرتبطةٌ أشدَّ الارتباط بعالمية العلم الذي نشأ وتطور في الحضارة الإسلامية، والتي ساعد على فرضها وحدةُ لغة العلم. وكان هذا العلم- ولأول مرة في التاريخ- عالميًا بمصادره ومنابعه كما ذكرنا، عالميًا بتطوراته وامتداداته. فلا يمكن بحال الإحاطةُ بالتراث المخطوط في العلوم والبحثُ فيه دون معرفة ما نقل منه إلى اللاتينية والعبرية واليونانية البيزنطية والإيطالية وغيرها من اللغات.
تبين لنا هذه اللمحة العقبات اللغوية والتقنية والتاريخية التي سيقابلها كل من يرغب في دراسة وتحقيق التراث المخطوط العلمي. والحديث عن العقبات يطول ويتشعَّب، ليقف بنا في نهاية الأمر أمام السؤال حول العلاقة بين تراث النصّ، وتراث الفكر العلمي، والوسائل اللازمة لفهم كل منهما، ولفهم العلاقة بينهما. فكثيرًا ما نصل إلى اكتشاف النصّ عندما نريد التأريخ للفكر العلمي، وكثيرًا لا يمكننا أن نؤرخ الفكر العلمي دون معرفة دقيقة بتاريخ النصّ. وقد حال هذا الارتباط الوثيق بين تراث النصّ وتراث الفكر دون ازدهار التحقيق العلمي لمخطوطات العلوم. والإجابة- ولو جزئيًا- على هذا السؤال تلزمنا أن نقف أولاً على تراث النصّ.
لقد واجه كلُّ من عمل على تحقيق ودراسة النّصوص العلميّة أشكالاً عدة من تراث النصّ، يمكننا أن نحصيها إحصاءً أوّليًا قبل أن نتحدث عنها باختصار شديد؛ وهذه الأشكال هي:
- النصّ الغائب.
- النصّ المستتر.
- النصّ المبتور.
- النصّ المختزل أو الملخص.
- النصّ الكامل الوحيد المخطوط.
- النصّ الكامل المتعدد المخطوطات.
- النسخة الأم، أو مخطوط المؤلف.
وفي كل هذه الأصناف، عدا الأخير، علينا أن نفرق بين النصّ المترجَم من اليونانية أو غيرها، والنصّ المؤلف بالعربيّة، وعلينا أيضًا أن نتساءل عن أنجع الطرق للاقتراب من أصل النصّ وحقيقته إن كان هذا ممكنًا.
1- النصّ الغائب
قد يبدو من الغريب أن نستهلَّ حديثَنا عن المخطوطات العلميّة بذكر الغائب منها، مفقودًا كان أو في حكم المفقود، أو على الأقل لم يُعثر عليه بعدُ على الرغم من البحث والتّفتيش. ولا يمكن بحال تفادي هذا الحديث، فقد ضاع الكثير مما لا غنى عنه في فهم التراث العلمي والتّأريخ له. فعلى سبيل المثال ضاعت ترجمةُ كتاب المناظر لبطلَمْيوس ولم يبق إلاّ النقل اللاتيني للنص العربي؛ وضاع كتاب الحساب للخوارزْمي ولم تبق إلاّ نسخة لاتينية مضطربة، وضاع أيضًا كتاب الكِنْديّ "في اختلاف المناظر" ولم تبق إلاّ ترجمتُه اللاتينية. وواضحٌ أننا لا يمكن أن نتغاضى عن هذه الكتب إن أردنا فهم ما أُنجز في العلوم من فلك ورياضيات ومناظر منذ بداية القرن الثالث وما بعده شرقًا وغربًا. وهنا قد حالفنا الحظ بوجود الترجمات اللاتينية. فهناك العديد من أمهات الكتب الرياضيّة والعلميّة التي ضاعت، وأيّ كتب ضاعَتْ!
ومن الطبيعي والمتوقع إلاّ يتعلق حديثنا إلاّ بالنّصوص التي يمكن تتبعُ أثرِها بصورة أو بأخرة، أعني ما انتهى إلينا منه خبرٌ ما، ومن ثَمَّ سنقتصر على بعض الأصناف دون الأخرى.
1-1 وأول الأنواع هو ما انتهى إلينا تحريره أو شرحه أو ترجمته إلى لغة أخرى، أو هذا وذاك. فمن هذا النوع كتاب بني موسى من القرن الثالث الهجري "في معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكرّية" ويُعد هذا الكتاب بحق من أهمّ ما كتب في حقل الرياضيات التحليلية بعد أرشميدس، أي بعد ألف سنة تقريبًا. وقدَّم بنو موسى في هذا الكتاب أولَ بحثٍ مستفيضٍ في العربيّة في هذا الفصل من الرياضيات، اعتُمِد عليه فيما بعد للتعليم والبحث في الشرق والغرب على السواء. والشواهدُ تدل على أن هذا الكتاب كان متداولاً بين الرياضيين حتى القرن السادس الهجري قبل أن يختفي تمامًا على إثر تحريرِ نَصير الدّين الطّوسيّ له. فكيف كان ذلك؟
ظهر في القرن السادس الهجري- لأسباب ليس هنا مكان تفصيلها- نوعٌ أدبيٌ وهو "التّحريرات" العلميّة والأدبيّة. ووصل هذا النوع إلى ذروته في الرياضيات والعلوم مع نَصير الدّين الطّوسيّ وابن أبي جرادة وغيرهما. وكان من بين هذا تحرير نَصير الدّين الطّوسيّ لكتاب بني موسى، الذي ضُمّ إلى المجموعات المسماة "بالمتوسّطات" والتي كانت تهدف إلى تهيئة الطلاب وإعدادهم لدراسة علم الهَيْـئة؛ فأصبح إذًا تحرير الطّوسيّ لكتاب بني موسى من الكتب المدرسية الواسعة الانتشار الكثيرةِ النُّسَخ. وظلّ هذا التّحرير مع غيره من الكتب التي ضَـمَّــتْـها المتوسطات، يُـدرس ويُشـرح في المدارس والحَوْزات.
وأدَّى انتشار هذا التحرير إلى إهمال الأصل، فغمر النسيان كتابَ بني موسى وأهمله النُسّاخ. وواجه الباحث في التراث المخطوط إزاء هذا الوضع الإشكال التالي: من الجهة الشـرعية كان عليه معرفةُ الأصل حتى يتمَّ له دراسةُ التراثِ المخطوط للتحرير، فالتحرير يتبع الأصل ويُنسب إليه بُعْدًا وقُربًـا؛ ولكن من الجهة الواقعية لا يمكنه إلاّ البَدْءُ بالتحرير حتى يتسنَّى له الاقترابُ من الأصل. والأمر هنا يتجاوز بكثير تراث النصّ، وذلك لدور نصّ بني موسى في تاريخ هذا الفصل من الرياضيات، فلقد قرأه واستلهمه فحول الرياضيين من أمثال ثابت بن قُرّة والماهاني وابن الهَيْثم.
ما هو إذًا الطريق للاقتراب إلى النصّ الغائب في مثل هذه الحال؟ هذا هو مقصد المحقق للتراث المخطوط. والمحقق لا خيار له في الطريق الذي يمكّنه من بلوغ هذا الهدف. عليه أولاً أن يعرف بدقَّة تامة ماذا عَنِيَ نصيرُ الدين نفسُه بكلمة "تحرير"، وما هو أسلوبه فيه؟ هل التحرير في القرن السادس الهجري هو تفسيرٌ للكتاب المُحرَّر، أم شرحٌ له، أم كتابتُه بعين ألفاظه، أم تلخيصه؟ إلى آخر هذه المعاني الممكنة. فعندما نعرف ماذا عني الطّوسيّ بالتّحْرير نستطيع عندئذٍ أن نستشفَّ ما أدخله في كتاب بني موسى وما أخرجه منه وما بَدَّله فيه. لم يكلفْ نصيرُ الدين الطّوسي نفسَه همَّ الإجابة على السؤال، ولم يأخذ غيرُه على عاتقه البحثَ في هذا حتى يومنا هذا، على الرغم من أهمية الأمر لكل من يعمل في مجال التراث المخطوط. وواضح على تصاريف الأحوال أن لا مفرّ من البدء بدراسة التراث المخطوط لتحرير نَصير الدين الطّوسيّ حتى يمكن تقدير موقعه من النصّ الأصلي. ولكن سيقابل المحقق ههنا عقبات جَمّة، أوَّلُها هي حصر وإحصاء مخطوطات التحرير. ففهارس المخطوطات الإسلامية في أغلب الأحيان لا تزيد عن قوائمَ بأسمائِها، وهي أبعدُ من أن تكون شاملةً جامعةً. ولو فرض أن محققنا هذا أمكنه مثل هذا الإحصاء، فلن يمكنه الحصول على صور لها وخاصة تلك المخطوطات المحفوظة في البلدان الإسلامية. وعلى كل حال استطعنا الحصول على خمسٍ وعشرين مخطوطة من تحرير الطّوسيّ بعد جهد ومشقّة، وهو عدد معقول لكتابة تاريخ مخطوطات التحرير، وللكشف عن التقاليد النسخية، ولرسم شجرة انتماء تلك المخطوطات. واتبعنا في هذا البحث نهجًا أقمناه منذ ثلاثة عقود لدراسة التراث المخطوط، وهو نهج يستلهم ما طُوِّر من قَبْل لدراسة النصوص اليونانية واللاتينية، وما استقيناه من فنون الحديث وعلم الرجال لمراعاة خصائص التراث الإسلامي والتراث العربي. وهذا موضوع آخر لن أدخل فيه الآن.
ولم يكن لدراسة تاريخ المخطوط أن تتم دون معرفة تراث المفهوم أيضًا، أعني مفاهيم الرياضيات الأرشميدسية وما طُور منها في القرن الثالث لبيان ما الصحيح وما الحسن وما الضعيف وما الموضوع الذي علينا استبعاده من هذا الإرث المخطوط. ولَخَّصنا هذه الدراسة في شجرة الانتماء التالية:
إن هذه الخطوة الأولى على الطريق هي خطوة تمهيدية ضَمَنتْ لنا أصالَة تحرير الطّوسيّ وأمنت نقطةَ الانطلاق، دون أن تساعدنا بعدُ على الاقتراب من النصّ الغائب. ولكي يتم هذا لا بد من العثور على آثار أخرى لكتاب بني موسى، أو بعبارة أخرى على شهود آخرين رأوا عيانًا هذا الكتاب. فبعد حوالي عقدين من البحث والتفتيش كُتِبَ لنا التوفيق واهتدينا إلى شكلين من كتاب بني موسى استشهد بهما مؤلف مجهول من القرن السادس الهجري، في مخطوطة وحيدة لم تدرس قبلُ، من مخطوطات حيدر آباد الهند. وهكذا أصبح بين أيدينا جزء من النصّ الأصلي يمكن مقارنته بما حَرَّره الطّوسيّ. وأدت هذه المقارنة إلى صنفين من النتائج، يتعلق الأول منهما بعلاقة التحرير بالأصل، ويخص الثاني المسألة العامة وهي هذا النوع الأدبي الجديد الذي ترعرع في القرن السادس الهجري وهو تحرير النّصوص العلميّة.
قد يشك البعضُ في نتائج هذه المقارنة وينكرونَها، قائلين إنها تقوم على شكلين فقط من كتاب يتضمن ثمانية عشر شكلاً. وهَبْ هذا الاعتراض مقبولاً. وإنْ كنتُ لا أظن ذلك، عندئذٍ علينا الرجوع إلى الترجمة اللاتينية لكتاب بني موسى، هذه الترجمة التي كانت من أسس البحث والتعليم في أوروبا العصر الوسيط.
تُرجم كتاب بني موسى إلى اللاتينية مرتين، إحداهما وهي ترجمة رديئة قام بها أفلاطون التيفولي، والأخرى وهي نقلٌ جيد قام بها "جيرار الكرموني" وإن كان ينقصه شكل ميكانيكي أو حِيَليّ صَعُبَ على جيرار فهمُه. فأصبح من المتيسّر إذًا مقارنةُ نقل جيرار بنص تحرير الطّوسيّ من جهة، وبنص الشكلين من جهة أخرى. وَبَيَّنتْ هذه المقارنات بوضوح تام حَرْفيَّةَ نقل جيرار الكرموني لنصّ بني موسى من جهة، ومعنى التحرير عند الطّوسيّ من جهة أخرى. فالطّوسيّ لم يغير قط بِنْية كتاب بني موسى، ولم يمسّ بنية البراهين الرياضية، ولم يخلط كلامَه بكلام بني موسى، وإنما لجأ إلى الاختصار، وذلك باستبعاده للفقرات التقديمية التي بَيَّن فيها بنو موسى أهدافَهم وأغراضَهم، وباستبعاد التكرار والعبارات التي توحي بنفس المعنى، وباستبعاد ما بدَا له غير لازم للبرهان. فالتحرير يهدف إلى نصّ مختصر أنيق مهيأ للتعليم، فيعيد الطّوسيّ تركيب الجمل الطويلة بإدخال أدوات الوصل اللازمة، ويحذف العبارات التقليدية لصياغة البرهان، مثل: أقول، مثال ذلك، وذلك ما أردنا أن نُبَيِّنَه. وبالجملة فهو يراعي روح النصّ، ويحتفظ بعبارته دون أن يتقيّد بها.
لقد انتهت بنا هذه المقارنات إلى الشهود على النصّ الغائب، فهو الآن أمام بصيرتنا دون أن يكون بين أيدينا، نستطيع أن نتكلم عنه ونعرف أثره، وهذا هو الهدف، بل يمكننا الآن إرجاع اللاّتيني إلى العربيّة، فنحن نعرف الآن كلمات بني موسى وعباراتـِهم وأسلوبـَهم الرياضي.
1-2 أما النوع الثاني من النصّ الغائب، فهو ذلك النصّ الذي لم يصل منه إلاّ جزء محرّر أو مُتَرجم. وحتى نحتفظ باتسـاق العَرْض سنظلّ مع بني موسى ومع أصغر الإخوة الثلاث، أعني الحسنَ بن موسى الذي شهد له الجميع بعبقريته الرياضيّة.
ألّف الحسن بن موسى كتابًا في القَطْع النّاقص. وهذا الكتاب هو من أهم ما كُتب في منتصف القرن الثالث في الرياضيّات، ففيه يكشف عن طريق لم يطرقْه أحدٌ من قبل في البحث في القُطوع المخروطية. وأدى هذا النهج الجديد إلى الكشف عن حقل كامل لم يتوان الخَلَف عن البحث فيه، وهو حقل التّحويلات الأفينية. استلهم ثابتُ بن قُرَّة تلميذ الحسن بن موسى هذا الكتاب وذكره بما يستحقّه من التبجيل، واستلهمه أيضًا حفيدُ ثابت بن قُرَّة، إبراهيم بن سنان؛ وذكره كذلك أحمد بن محمد بن عبد الجليل السِّجْزي في أواخر القرن الرابع الهجري؛ كان هذا هو كل ما نعرفه عن هذا الكتاب الذي لم يبق منه إلاّ عنوانه. ومع غياب هذا الكتاب أمسى من المستحيل التّأريخُ للقُطوع المخروطية، أعني لهذا الفصل الذي كان حينئذٍ في طليعة البحث الرّياضي. وظل الأمر على هذه الحال، حتى اهتدينا إلى ترجمةٍ عِبْرية لجزء من كتاب الرّياضي الأندلسيّ القُرْطبيّ الموْلد، الغرناطيّ الإقامة، المتوفّى سنة أربعمائة وستّ وعشرين للهجرة: أبي القاسم أَصْبغ بن السَّمْح.
ألّفَ ابنُ السَّمْح كتابًا سُمّي "بالكتاب الكبير في الهندسة"؛ استعار فيه جزءًا من كتاب الحسن بن موسى؛ وضاع كتابُ ابنُ السَّمْح مع ما ضاع. وأنقذ قالونموس بن قالونموس من أوائل القرن الرابع عشر الميلادي جزءًا من كتاب ابن السَّمْح بنقله إلى العِبْريّة بعنوان "كتاب في الأسطوانات والمخروطات"، ويتضمّن هذا الجزءُ واحدًا وعشرين شكلاً، ويشاء الحظّ أن يَحتوي الجزء المترجم على ما أخذه ابنُ السَّمْح من الحسن بن موسى. والسؤال أذًا هو: كيف يمكننا تَعْيينُ نَصِّ الحن بن موسى، عَبْرَ التّرجمة العِبْريّة لنصّ كتبه ابنُ السَّمْح؟ فهذا يتعدّد الوُسطاء واللّغات مما يزيد من وعورة الدَّرْب. في هذه الحال يزداد أيضًا دَوْر تُراث المَفْهوم لبحث تُراث النصّ. فالنهج هنا هو بَدْءُ البَحْث في تاريخ القُطوع المَخروطيّة في منتصف القرن الثالث الهجري، أعني قبل أن ينتهي هِلال بن هلال الحِمْصيّ من ترجمة الكُتب الأربعة الأولى من مخروطات أبلونيوس. ثم نتبع هذا بالتَّمحيص فيما أتى به تلميذُ الحسن بن موسى، وهو ثابتُ بن قُرَّة في هذا الأمر لتحديد ما أخذه من الحسن بن موسى. ثم نتبع هذا بالبَحث اللّغويّ لمعرفة الكلمات العربيّة وراء التَّرجمة العِبْرية. وخاصّةً أن لُغة المخروطات ستُقَنَّنُ فيما بعد، عند الانتهاء من تَرْجمة أبلونيوس فعلينا إذًا إعادة بِنْية الكتاب للتّمييز بين الأصيل والدخيل، وعلينا أيضًا فَحْص اللّغة لتمييز ما بَقيَ من القَرن الثّالث وما جَدّ بعد ذلك، إن كان هناك سبيلٌ.
إنّ أنواع النصّ الغائب لا تقف على ما ذكرناه، فهناك أنواع أخرى لا تقل عنها أهمية عند التفكير والبحث في تراث النصّ. ونُذكِّر بها فقط مخافة الإطالة التي لا يتسع لها الوقت. فمن بين هذه الأنواع، نجد النصّ الغائب الذي لم يصلْنا منه إلاّ تكملةٌ له. والمثل على هذا هو كتابٌ لابن سَهْل من القرن الرابع الهجري، فيه بعضَ المسائل الرياضيّة وحلَّلَها تحليلاً هندسيًا دون أن يرجع فيركّبُها حتى يتمّ البرهان1. ثم أتى الشنّي من بعده فركَّب المسائلَ الّتي حلّلها ابن سَهْل، وضاع كتابُ ابن سَهْل وبقي مقال الشنّي الذي مَهَّدَ لنا فَهْم الطّريقة التي سلَكها ابنُ سهل في تحليله وإعادَة إقامة فَحْواه، وإن لم تكن بعين كلماته.
وهناك أيضًا النصّ الذي يُقِرُّ مؤلّفُه أنه قد أضاعه. والمثال على هذا هو ما ألَّفَـه إبراهيم بن سِنان في مساحة القطع المكافئ. فقد رجع ابنُ سنان مَرَّة أخرى لإصْلاح كتابه الأول وتنقيحه فكتب رسالةً ثانية في الموضوع نفسه ونَبَّه إلى ضياع الأولى2. ووجود الرسالة الأولى يهمّ كل من يُريد تَتبّع فكر ابن سنان الرّياضي وتطوّره.
وقد صاحبنا التّوفيق وعَثرْنا أخيرًا على هذه الرسالة الّتي فقدها ابنُ سنان في منتصف القرن الرابع الهجري ممّـا ساعدنا على فَهْم معايير وقيم تَحْرير النصّ الرّياضي في هذا العصر.
2- النصّ المُسْتَتِر
قد يحدث أن يَسْتُرَ نصٌّ نصًّا آخر عن عَمْد أو على سبيل الصّدفة، فلا يُعرف الأوّل باسم مؤلّفه ولكن باسم مُؤلّف النصّ السّاتِر، وهنا يكثر الخبطُ والخلطُ في تُراث النصّ وفي تُراث المفاهيم وفي تاريخ كلٍّ منهما. وأنواع السَّتْرِ غيرُ المتعمّد كثيرة، يرجع بَعْضُها إلى خَطأ النُسّاخ، أو إلى خطأِ مجلّدي المخطوطات، أو إلى حوادثَ أخرى عديدة. أما أنواع السَّتْر المتعَمَّد فقد تكون عِلَّتُها "السَّرقات"، وقد تكون لأسباب تجارية. والحديث عن كل هذا طويل وشائك ولم يبدأ البحث فيه بعد. وسأقتصر هنا على مثال واحد لبيان خطورة هذا الأمر.
كتب أحمد بن عيسى وهو من مؤلّفي القَرْن العاشِرِ كتابًا في المَناظِر سَمّاه "كتاب المناظر والمرايا المُحْرقة". ونُسِخَ هذا الكتابُ مراتٍ أحدها بالحروف العِبْريّة. ومما يجب التَنَبُّه له عند قراءة هذا الكتاب هو قِدَمُ لُغته. هذا ما انتهى إليه أحدُ مفَهْرسي مخطوطات إسطنبول وهو الألماني Krause، ومن ثَـمَّ ظنَّ أن تأليف هذا الكتاب يرجع إلى منتصف القَرْن الثّالث الهجري. وتبع Krause فيما بعد جُلُّ المؤرّخين الذين لم يَدْرسوا هذا الكتاب دراسةً متأنِّية؛ هذا ما كان عليه الأمر حتّى وُفّقْنا للكشف عن نصوص عدة كتبها أبو إسحاق الكِنْديّ تضمَّنها كتابُ ابن عيسى. واحتدَّ الأمرُ عندما اهتدينا أخيرًا إلى سِفْرٍ ضخم للكنديّ ظلَّ مجهولاً لعدّة قُرون، عنوانه "في تقويم الخطأِ والمشكلات التي لأوقليدس في المناظر". ففي هذا السفر شرح الكِنْديّ لأوّل مَرَّة في التاريخ شرحًا نقديًا مناظرَ أوقليدس. وبمقارنة كتاب ابن عيسى وهذا السِّفْر تبيَّن بما لا يدع للشك مجالاً أنَّ ابنَ عيسى قد أخذ ما لا يقلّ عن خُمُسِ سِفْر الكِنْديّ دون أن يذكر اسمه بل أبدله بالعبارة التالية: "قالت الفلاسفةُ وأوقليدسُ معهم ومنهم"3. وبالفَحْص الدّؤوب تبيـن لنـا أيضًا أن كتابَ ابن عيسى يتضمّن نصوصًا أخرى من مؤلَّفات الكِنْديّ، وخاصة أجزاءً هامة من كتابه "في اختلاف المَناظر في المرايا" الّذي لم يُعْثَر عليه بعدُ، وهو أولُ ما كُتب في العربيّة في هذا المجال- وهكذا سَتَر كتابُ ابن عيسى العديدَ من مؤلّفات الكِنْديّ وأخفاها لأكثر من ألفْ سنة.
ومن المعروف لنا جميعًا مدى اهتمام النقّاد العرب القدامى "بالسّرقات" الشّعْرية خاصة، وكم شارك البحثُ في هذا الباب في تطوير نَقْد النّصوص الأدبية والشعرية. وواضحٌ أن علينا الآن البحث في "السّرقات" العلميّة لتطوير فَنّ تُراث النصّ العلمي المخطوط. ولقد بدأنا البحثَ فعلاً في هذا الباب عند تحقيقنا لكُتب المناظر في القَرْن الثالث الهجري، المترجمة من اليونانيّة والمؤلّفة بالعربيّة، والتفكير على المنهج اللاّزم لإظهار المـُسْتَتِر.
3- النصُّ المَبْتــور
من الملاحظ في التراث المخطوط أن الكثيرَ من أُمهات الكتب انتهى إلينا مبتورًا، ينقصه فقرات أو ورقات ربّـما تطول إلى أجزاء كاملة، بل ربـما إلى فصول. ويَحْدث هذا البَتْـر عادةً أثناء النسخ، وله أشكالٌ عدّة وأسبابٌ مختلفة، ليس هناك مجالُ الخوضِ فيها. وهذا هو أمر كتاب الكِنْديّ في الشّعاعات، وكتاب ابن سَهْل في الحراقات، وكتاب القُوهي في صَنْعة الأُسْطرلاب بالبرهان، وكلُّها من أهم ما كُتب في موضوعه. فكتاب الكِنْديّ هو أول ما كُتب في العربيّة عن المرايا المُحْرقة4، يأخذ فيه الكِنْديّ من السّلف أمثال أنثيموس الترالي ويصحّحه ويزيد عليه. أمّا كتاب ابن سَهْل5 فهو أوّل كتاب في تاريخ علْم المناظر تُصاغ فيه النظريّة الهندسيّة للعدَسات والقانون المعروف باسم قانون سنل في الإنكسار الضَّوْئيّ. أمّا كتاب القوهيّ6 فهو أيضًا أولُ كتابٍ في تاريخ الرّياضيات تُدرس فيه الإسقاطات الهندسيّة كفرع رياضيّ. هذه بعض أمثلة يمكن أن نضيف إليها كتبًا أخرى من الطبقة الأولى من تأليف ابن الهَيْثم ومن تأليف براهيم بن سِنان في آلات الأظلال. ومن الواضح أن كلّ هذه النّصوص المبتورة تخص فصَّ وجوهر ما كُتب بالعربيّة في العلوم الرياضيّة. ومن ثَـمَّ لا يمكن لمن يريد التفكير في التراث العلميّ المخطوط إلاّ أن يهتمّ بـها؛ فهذه النصوص تنقسم إلى أنواع بحسب صِنف البَتْر وإمكانيةِ التّرميم والاسْتِرْداد.
· والنَّوع الأوّل من البَتْر هو الذي يقطع جزءًا أو أجزاءً من وسط النصّ نفسه. ومثال ذلك كتاب الكِنْديّ "في الشّعاعات"، الذي نتوقّف عنده قليلاً؛ فقد ألّفَ الكِنْديّ كتابًا "في الشّعاعات" يعرض فيه لأول مرّة بالعربيّة نَظَرِيَّتـه في المرايا المُحْرقة وأنواعها. ونَشُدّ الانتباه إلى أن هذا الكتابَ هو بدايةٌ لتيّار كامل في البحث في المرايا catoptrics، ولم يُعرف لهذا النصّ إلاّ مخطوطة واحدة في بَتْنـا في الهند، نَسَخها في القاهرة ناسخٌ مجهول سنةَ ثمانمائة وتسعين. والمخطوطة مبتورة في أكْثر من مَوْضع، صعبةُ الفهم، ولم تَلْق ما تستحِقُّه من الاهتمام، وكثُر الكلام فيها وعليهَا دون حق؛ وكان الأمر على هذا حتى حَقّقناها فيما حقّقناه من رسائل الكِنْديّ في علم المناظر. وتبيَّن عندئذٍ أنَّ موضعَ البَتْر الأوّل في المخطوطة هو بعد ستّة أسطر من بدايتها [صورة 4-أ و 4-ب] وتنبَّه ناسخُ المخطوطة فترك بقية الصّفحة بيضاء. أمّا موضعُ البَتْر الثاني فهو بين الشّكل الخامس عشر والشّكل السادس عشر وهو الأخير. وهنا أيضًا تنبَّه النّاسخ وتركَ فراغًا [صورة من المخطوطة (5-أ) وصورة من التحقيق (5-ب)] والبتر الأخير أضاع نهاية شكل وبداية شكل آخر، ولهذا اختلط الأمر على البعض، فظنوا أن الشّكلين هما شكلٌ واحد.
وتشاء الظّروف أن نكتشف قبل تَحقيق مخطوطة الكِنديّ الترجمةَ العربيّة لنص أنثيموس الترالي مما ساعدنا على سدّ جزءٍ كبيرٍ من الثَّغْرة الأولى، واقترحنا خلال دراستنا لتُراث الفكر المناظري كتابةَ فقرة سدَّت الثَّغرة الثانية.
وبعد أن ظهر كتابُنا عن أعمال الكِنْديّ في المناظر بشهرين، تشاء الصّدفة أن نعرف عن وجود مخطوط آخر لهذا النصّ "في الشّعاعات" نفسه في إحدى المجموعات الخاصّة. وغَمرَنا من يملك هذه المجموعة بفَضْله فأرسل لنا صورةً بالألوان على ورقٍ مصقول من هذه المخطوطة. وهذه المخطوطة هي أقدمُ مخطوطةٍ علميّة عربيّة، فقد تم نَسْخُها في شوّال سنة 290 للهجرة، أي بعد وفاة الكِنْديّ بثلاثة عقود على التّقري. ونقرأُ في آخر هذه المخطوطة بخطّ آخر ما يلي: "نقلتُ منه نسخةً بخطّي داعيًا لمالكه بطول البقاء في ذي القعدة الحرام سنة 290 هجرية، وكتبه عمر بن عبد العزيز الفَيّومي". وهكذا نعرف أن المخطوطة التي عملنا عليها قد نُسخت عن هذه المخطوطة، وبالمقابلة بين المخطوطتين نعرف أيضًا أنها نُسخت منها وحدها. وهنا يًتّضح لنا سبب البَتْر، فلقد ضاعت ورقة من أول الكتاب استطعنا إعادة ترميمها واستعادتها. فمن الواضح إذًا أن البَتْر كان قد تمّ قبل سنة 290 وذلك بفقد ورقتين من المخطوطة القديمة.
ويبين هذا المثال بصورة تجريبيّة إن صحَّ التعبير، العلاقةَ الوثيقة بين تراث النصّ وتراث الفكر في محاولة ترميم النصّ للوصول به إلى أقرب ما يمكن أن يكون من هيئته الأولى.
· أما النوع الثاني من البَتْر فيكون بانتزاع ورقات من المخطوطة دون مراعاة الاتّساق، ويبدو هذا البَتْر مقصودًا لأسباب مختلفة. فلنأخذ مثلاً على هذا النوع من كتاب أبي العلاء بن سَهْل من علماء القرن الرابع الهجري "في الحرقات". ويُعتبر هذا الكتاب- كما سبق أن ذكرتُ- من أهم ما كُتب بالعربيّة في علم المناظر وخاصّة في نظرية الانكسار، ولا يمكن بحال فهم ما أتى به ابنُ الهيثم دون معرفة ما قام به ابنُ سَهْل في هذا الشّأن.
وصَلَنا كتاب ابنُ سَهْل هذا في مخطوطة وحيدة بخط أحمد بن جعفر الغُنْدجاني وبتشكيل علي بن يحيى المغربي، ابن عالم الهَيْئة المعروف، وهي مخطوطة في ستٍّ وعشرين ورقة؛ وانتهت إلينا هذه المخطوطة متداخلةً ومبتورةً في الوقت ذاتِه. وكان علينا أولاً إعادة ترتيب أوراقها حتّى يمكن اكتشاف بِنْيَة كتاب ابن سِهْل النظريّة، وأعدنا ترتيبها على الصورة التالية:
1ظ--> [14و- 16ظ]--> [13و-ظ] --> [2و- 12ظ]--> [17و- 26و]
فالبَتْر الأوّل هو بين 1ظ و 14و؛ والبَتْر الثاني هو بين 16ظ و 13و. فمن الواضح إذًا أنه قد انتُزِعَ من المخطوطة عَشْرُ ورقات. ولم تُنْزع هذه الورقاتُ على سبيل الصدفة، ففيها يدرس ابنُ سَهْل مرآةَ القَطْع المكافئ ومرآةَ القطع النّاقص. ومن ثَـمَّ يبدو أنَّ انتزاعَها كان عملاً مقصودًا متعمّدًا قام به أحدُ القرّاء الشّغوفين بهاتين المرآتين. ولم يهتم أو يفطن هذا القارئ إلى أنَّ الأَوْراقَ المنتزعة كانت تتضمّن بَحْثًا رياضيًا آخر، وهو الرسم المتّصل بـهذين القطعين المخروطَيْن.
لقد أدّت دراسة تراث الفكر إلى مَعْرفةِ ما بُتِر ومكانه من النصّ ومضمونه العلميّ أيضًا. بقي إذًا أن نَعود إلى تراث النصّ حتى نتحقّق مما هدانا إليه تراثُ الفكْر، ولمعرفة إن كُنَّا أصَبْنا أو أخطأنا. فدراسة المخطوطات يمكنها بهذا النهج أن تُصبح دراسةً علمية خاضعة للتّجربة والتَحقُّق. وكان علينا إذًا العودة للبحث في المجموعات المخطوطَة المختلفة عن مؤلّفات ابن سَهْل والرّسائل التي تُعالج المرايا المُحرقة. وأسعفنا الحظ بالعثور على نصّ آخر من مجموعة فلسفيّة من مجاميع ظاهريّة دمشق، مكّننا من سَدّ الثَّغرة الأولى. فلقد أقمنا الدّليل على أنَّ مخطوطة دمشق هي جزءٌ من كتاب ابن سَهْل بخطّ قاضي بغداد ابن المُرَخَّم من القرن السادس الهجري.
· أمّا النّوع الثّالث من النصّ المبتور، فيرجع إلى حَدث تَـمَّ أثناء النَّسْخ وطواه التاريخُ بالنّسيان. وهذا ما يمثله كتاب أبي سَهْل القوهي "في صنعة الأصطرلاب بالبُرْهان" الذي قُلنا عنه إنّه يُعَدّ من أول الكُتب التي بحثت في الإسقاطات الهندسية لذاتها. ولا نعرف لهذا الكتاب إلاّ مخطوطة واحدة في جامعة ليدن. ولقد فقدت عدّة فصولٍ من الجزء الثاني، وبُتِر مَقْطع كبيرٌ من الشّكل السادس من الفَصْل الثّاني من الجزء الثاني من الكتاب. وينتمي هذا الكتابُ إلى مجموعةٍ رياضيّة من أهَمِّ المجموعات العلميّة المخطوطة وإن كانت حديثة النَّسْخ. فقَدْ نُسِختْ هذه المجموعة في القرن السابع عشر الميلادي بأمستردام وذلك للسبب التالي؛ ففي هذا القرن اهتم المُستشرق الهولندي Golius- كالعديد من المستشرقين الأوربّيين- بالمخطوطات العلميّة العربيّة. وكان Golius هذا أستاذًا للرياضيات في هولَنْدا وأحدُ مراسلي ديكارت. وساهم Golius بنشاط جَمّ في جمع المخطوطات العلميّة العربيّة ونقلها إلى هولندا، واستعار ما لم يمكنه شِراؤه من المخطوطات وطلب نَسْخَهُ من عربيّ مقيم حينئذٍ بمدينة أمستردام. إذ رَفَض بعضُ الشرقيّين بَيْع مَخْطوطاتهم وقبلوا إعارتَه إيّاها. ومن بَيْن ما نُقِل مجموعة ليدن الشَّهيرة الّتي تتضمّن العديدَ من نفائس الرياضيّات والعلوم. أمّا عن المخطوطة الأصْل التي أُرجعت إلى أصحابها في الشرق بسوريّة، فقد استطعنا إقامة الدّليل القاطع على أنها الآن في مكتبة جامعة كولومبيا ضمن مجموعة Smith؛ وكانت هذه المجموعة تتضمّن كتاب القوهي الذي اختفى بعد نسخه في أمستردام. وهكذا لم تعد هناك حيلة في اللجوء إلى النسخة الأصل لسد الثّغرات ولإصلاح ما أصاب المخطوطة بعد البَتْر. والنّهج لسد الثّغرات يرتكزُ على الدّعائم التالية:
أولا، الدراسة المتأنّية والدقيقة لإرْث المفهوم الرياضي أو العلمي لتَحْديد ما نَقُصَ ومعرفة فَحْواه من أَجْل إعادة كتابته.
ثانيًا، الدّراسة اللّغوية الفاحِصة لمعرفة قاموس كلمات المؤلّف فيما تبقّى من النصّ وفي باقي رسائله، وكذلك الدّراسة المتقنة لتراكيب عباراته ولأسلوبه حتى تكون الصّياغة الجديدة أقربُ ما تكون إلى نَفس كلماته وعلى أسلوبه.
ثالثًا، تتبّع مؤلّفات خُلفائه بحثًا عن استشهادات أو تعليقات قد تُعينُنا على إتقان الصّياغة الجديدة مع التزام الحَذر والأمانة7.
· والنوع الرابعُ من النصّ المبتور، هو الذي ضاع جزءٌ أو أجزاء منه. وهذا ما رأيناه سابقًا في كتاب القوهيّ الذي فُقدت فصول عدة من جزئه الثاني. والأمثلة على هذا كثيرة، فعلى سبيل المثال، فُقِدت الكتب الثلاثة الأولى من التّرجمة العربيّة من "صناعة الجَبْر" لديوفنطس من ترجمة قسطا بن لوقا8؛ وكذلك ضاع الجزء الثاني والثالث من كتاب إبراهيم بن سِنان في آلات الأظلال. وشتّان ما بين هذين المثالين. ولبيان هذا نتكلم عنهما باختصار شديد. ترجم قسطا بن لوقا سبعَ مقالات من كتاب ديوفنطس في المسائل العددية وسماه "صناعة الجَبْر". وعندما وُفّقنا للعثور على هذه الترجمة منذ أكثر من ربع قَرْن لم نجد منها إلاّ أَرْبع مقالات فقط. ومن حسن الحظّ أنّ الرياضيَّ المشهور من أواخر القرن العاشر الهجري، أبو بكر الكرجي، كان قد لَخَّص المقالات الأربعة الأولى في كتابه "الفاخر"، واستشهد أيضًا السَّموأل المغربي من القرن الخامس الهجري ببعض المسائل من المقالات الثّلاثة الأولى، وأيضًا أشار أبو جَعْفر الخازن إلى مسألة هامّة من المقالة الثالثة. وقد مكّننا كلُّ هذا من تحديد مَسائل المقالات الثَّلاثة الأولى التي بُترت من الكتاب. وساعدنا على هذا أيضًا وجودُ النصّ اليوناني- لم يَسْلم من التشويه- لهذه المقالات بعينها. وأخيرًا عند قراءتنا لأحد شُرّاح الكرجي استطعنا أن نُثْبت بما لا يدع للشكّ مجالاً أنّ المقالات الثلاثة الأولى قد بُترت في القرن السَّابع عشر الميلادي9؛ وأمدّنا هذا الشّارح أيضًا ببعض الفقرات التي نَقلها من ترجمة قسطا بن لوقا للكُتب الثلاثة الأولى. فمن جهة لا زال النصّ اليوناني- مع بعض التّشويه- بين أيدينا، ومن جهة أخرى هُناك شَرْح الكرجي واستشهادات الخازن والسموأل والشّارح الأخير، ومن جهة ثالثة هُناك الجزء الأكبر من التّرجمة، أعني الأربع مقالات الأخيرة. كل هذا يسمح لنا بمعرفة مُحتوى الجزء المبتور بدقّة، وببِنْيته ولغتِـه. بل يُمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، أعني أنه يُمْكننا إعادة كتابته لو أردنا. وبعبارة أخرى أصْبح ممكنًا بفضل تُراث الفكر والتراث اليوناني والتراث العربي للنصّ، التعرفُ عليه بل إعادة رِسْمه لو لزم ذلك. ولقد أعطينا أمثلةً عديدة عليه.
والأمر غير الأمر للصّنف الثاني الذي مَثَّلنا عليه بكتاب إبراهيم بن سِنان في آلات الأظلال. فقد كتب إبراهيم بن سِنان هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، بُتِر منها مُعْظم الجزء الثاني والجزء الثالث كلُّه. وكل ما نعرفه عن هذا الجزء المبتور هو ما قاله عنه المؤلفُ نفسه في تقديمه لكتابه، وكذلك ما كتبه ابنُ الهَيـْـثم فيما بعد عند نَقْده لإحدى قضايا الجزء المفقود. ففي هذه الحال يضعف الأمل في الاقتراب من نصّ المؤلف. ولا حيلة لنا في هذا لفَقْر تُراث النصّ، وسيظلّ الطريقُ مسدودًا إلاّ إذا وُفّقنا يومًا ما في العثور على نسخة مخطوطة أخرى من النصّ أو على شرح له.
4- النَصُّ المُخْتَزَل والمُلَخَّص
يحدُث أحيانًا أن يتدخَّل أحدُ النُسّاخ في النصّ لاختزاله واختصاره. وهنا يُثار إشكالٌ قابلَه من قبلُ أصحابُ الحديث، أعني جواز اختصار الحديث وبأي شرط حتى لا يزول عن النصّ صِحَّته. فنحن نعرف على سبيل المثال من الحافظ بن حَجَر في "شرح النخبة" أنه قال: "أمّا اختصارُ الحديث فالأكثرون على جَوازه بشرط أن يكون الذي يختصره عالـمًا، لأنّ العالِم لا يُنْقِصُ من الحديث إلاّ ما لا تعلّقُ له بما يبقيه منه، بحيث لا تَخْتلفُ الدلالة، ولا يختلُّ البيان، حتى يكون المذكور والمحذوف بمنزلة خبرين، أو يدلُّ ما ذكره على ما حذفه؛ بخلاف الجاهل، فإنّه قد يُنْقص ما له تعلُّقٌ، كَترْك الاستثناء".
واستشهادي بنصّ ابن حجر هو لبيان أهمّية الأمر عند الـمُحَدّثين. ومن الطبيعي والمتوقع أن يُثار السؤال عندما نهدف إلى إقامة فَرْع جديد وهو تُراث النصّ العربي العلميّ. والسؤال إذًا هل يجوز لنا أن نعتبر النصّ صحيحًا وثقةً بعد اختصاره واختزاله من قِبل أحد النسّاخ. وتزداد صعوبةُ هذا السّؤال في مَيْدان التراث العلميّ المخطوط أكثرَ منها في حَقل الحديث. وذلك لسببين على الأقل: أولُهما وجودُ علم الرّجال والرّواة لتمييز الثّقة مـمّن هو أقلّ شأنًا، ولمعرفة العالِم مـمّن هو أقلّ عِلمًا، وثانيهما أنَّ الاختصارَ كما بَيَّنَه ابنُ حَجَر وغيرُه لا يتعلَّق إلاّ باللّغة. والأمرُ على خِلاف ذلك في حَقْل المخطوطات العلميّة. فحتّى يومنا هذا لم يُهتم بعدُ بعلم الرّجال والنسّاخ وميادين تخصّصهم. ومـمّا يزيد الأمرَ صعوبةً أن هؤلاء النسّاخ لم يَكونوا من أبناء طبقة أو مهنة مُعيّنة أو مُميزة، كما كان الأمرُ في أوروبّا في العَصْر الوسيط. فمن بين النسّاخ نجد الرياضيّين الأفذاذ مثل السِّجْزي وابن الـهَيْثم، ونجد أيضًا الرياضيين من طبقة أدنى مثل قاضي زاده أو محمد بن سرتاق المراغي، ونجدُ القُضاة مثل ابن المرخَّم السابق الذكر، ونجد المتصوّفة مثل المولى داود القيصري القرماني، ونجدُ كُتّاب الدواوين ممن لهم مِرانٌ في العلوم الرياضيّة مثل مصطفى صِدْقي، ونجد أيضًا هؤلاء الّذين لا يدرون شيئًا عما ينسخونه. فعلينا الآن الحذر الشّديد حتى يُؤَسَّس علمُ النُسَّاخ. أما السبب الثاني فهو أنَّ النصَّ الرياضيّ أو العِلمي على خلاف الحديث الشريف، كُتب بلغة تَقْنية لا يُحرص فيها كثيرًا على الصّيغ البلاغية، ويتضمن أيضًا جداولَ ورسومًا هندسية عديدة مما يغيّر إلى حد ما طبيعةَ الاختزال والاختصار. وقبل أن ننتهي إلى حكم في هذا الأمر نأخذ مثالاً وهو مثال كتاب شرف الدّين الطّوسيّ "في المعادلات" من القرن الخامس الهجري10.
وكتاب الطّوسيّ هذا هو أهمّ ما كُتب في العربيّة في الجَبْر وأصعبه منالاً، ففيه يعرض الطّوسيّ لما ورثه سبقه في نظرية المعادلات الجبرية ليزيده إحكامًا ويقينًا، وفيه أيضًا يأخذُ سُبل من خَلفهم ليبلغ بها نهايتها، وفيه كذلك يأتي الطّوسيّ بما لم يأت بهمن ورثَهم.
لقد وصل الطّوسيّ في كتابه هذا إلى منهج روفـني- هورنر في الحل العددي للمعادلات الجبرية، وصاغ نظرية كاملة لتبرير هذا المنهج، وصاغ هذه النظرية باللغة الطبيعية دون اللجوء إلى لغة رمزية. وفي هذا الكتاب أيضًا شارف الطّوسيّ بدايات التحليل الرياضي وانتهى إلى مفاهيمَ ونتائجَ جزم المؤرخون من قَبْل أنّها من بنات أفكار رياضييّ القرن السابع عشر.
وعند بحثنا عن كتاب الطّوسيّ هذا لم نجد له إلاّ نسخةً خطية واحدة بالمكتب الهندي بلندن تمّ نسخها سنة 1198هـ/ 1784م، وبيّنا أن هذه النسخة بخط أحد نُسّاخ حيدرآباد الذي نسخ العديد من المخطوطات الرياضيّة والفلكية. وترددنا كثيرًا في تحقيق هذه المخطوطة الصّعبة خوفًا من تاريخها المتأخر واحتمال تضمّنها ما لم يكن في أصلها. وظل الأمر على هذا سنوات إلى أن وُفقنا إلى العثور على الأصل الذي عنه نُقلت مخطوطة المكتب الهندي. وهذا الأصل هو نسخة خطية مجهولة المؤلّف لضياع الأوراق الأولى نُسخَتْ في القرن الثامن الهجري، ثمّ عثرنا بعد ذلك على فقرة أخرى من إحدى مخطوطات مكتبة البندقية، فأصبح من الممكن إذًا تحقيقُ هذا النص الصعب، وهذا ما تم. ويبدأ هذا النص بالعبارة التالية «فإني قصدتُ في هذا الكتاب تلخيص صناعة الجبر والمقابلة وتهذيبَ ما وصل إليّ من كلام الفاضل الفيلسوف الأعظم شرف الدين المظفّر بن محمد الطّوسيّ، وتحويلَ كلامه من إقراط التطويل إلى حد الاعتدال. وأسقَطْت الجداول التي رسمَـها في عمل الحساب واستنباط المسائل، لبُعْده عن الطَّبْع واستدعائه طولَ الزمان الموجب للمًلال، وتثبيتَ كيفيّة استخراج المسائل بالتَّخْت، وجمعت بين العمل والبرهان، وسمّيتُه بالمعادلات».
وإنه لأمرٌ خطير إن صح قول هذا المجهول بحذافيره وخاصّة إننا لا نعرف عنه شيئًا، ولا نعرف إن كان من أهل العلم أم لا. ففي هذه الحال، علينا أن نسأل عن مستوى هذا التلخيص، وهل أمكن لهذا المجهول ذلك؟ وللردّ على هذا السؤال، علينا أن نقارن كتاب الطّوسيّ مع ما انتهى إلينا من كُتبه الأخرى مقارنةً لغوية ورياضيّة.
حرّر الطّوسيّ رسالةً أخرى "في الخطَّيْن اللّذين يَقْرُبان ولا يلتقيان"، وعالج الطّوسيّ الموضوعَ نفسه في كتابه "في المعادلات". ومن ثَـمَّة، فمقارنة النصّين هامة لتوضيح مستوى التلخيص. وهذه المقارنة تُثبت بما لا ريب فيه أنَّهما يتضمّنان نَفْس الأشكال الرياضيّة بل الجملَ والتعابير نفسها في أغلب الأحيان. وهذا الدّليل يُثبت لنا أنّ الناقل المجهولَ لم يمكنه في أغلب الأحوال إلاّ أن يتّبع شرفَ الدين الطّوسيّ عند كلامه عن الأشكال الرياضيّة وبراهينها، ويقوم بنقله. وكيف يمكن غيرُ ذلك؟ والنظر المتفحص لِبنْية نصّ الطّوسيّ نفسه وتتابع فصوله، من مقدمات احتاج الطّوسيّ إليها فيما بعد، ومن بحثٍ في معادلات القُطوع المخروطية وعملها، ومن تصنيف للمعادلات وحلّ كل واحدة منها، ينتهي بنا هذا كلُّه إلى أنّ هذا المجهولَ لمْ يمكنه تلخيصُ أو تهذيب شيء من هذا. فمقارنة أجزاء النصّ بعضها ببعض- أي النّقد الداخلي للنصّ- تبيّن بيانًا واضحًا أن ذلك المجهول لم يكن أمامه إلاّ نقلُ ما كتبه الطّوسي. ويبدو أنّه حذف فاتحة كتاب الطّوسيّ التي شرح فيها مقصده وسبيلَه. ويحملُنا على هذا الاعتقاد بدء الطّوسيّ بالأشكال الرياضيّة رأسًا دون التّمهيد لذلك، ولاسيّما أنَّ كتابَه هذا من مطوّلات الجَبْر العربيّ إن لم يكنْ من مطوّلات الرياضيّات بأَجْمعها. وممَّا لا شكّ فيه أيضًا، أنّه حذَفَ الجداولَ التي أقامها الطّوسيّ للحلّ العددي للمعادلات، ممّا جعل فهمَ كتابه مُمْتنعًا على الباحثين. [صورة لجدول 6]. فالطّوسيّ لم يتوانَ في كلّ معادلة عن إقامة الجداول العدديّة، وشرح عمل الجداول المناسبة للمعادلات، إلاَّ أنه من الصعوبة بمكان تصوّر ذلك العمل بعد حذف "المجهول" لتلك الجداول.
من الواضح إذًا أن النّقد الداخلي للنصّ يرتكز في نفس الوقت على تاريخ النصّ وكذلك على تاريخ الفكر الرياضيّ. وهذا العمل لا غناء عنه لمعرفة مدى الاختزال ولدرء أضرارِه ممّا ألزم هنا بإعادة بناء الجداول وتكملة ما اختُزل للانتهاء إلى أقرب صورة ممكنة من النصّ الأصلي. وعلى المحقق هنا أيضًا أن يكون هو نفسُه عالِمًا بالألفاظ خبيرًا بما يُحيل معانيها فاهمًا لموضوع الكتاب ومرادهِ من غير غُلُوٍ ولا تقصير.
5- النص الكامل الوحيد المخطوط
كثيرًا ما ينتهي إلينا نصّ أساسي في مخطوط واحد لم يكتبه مؤلف هذا النص وإنما نُقل عن أصلٍ مفقود. وبَــيِّــنٌ أن هذا الأمر يُثير مسألة صحة النصّ والثقة فيه. هل نأخذ هذه المخطوطة على ما هي عليه حجةً على النصّ، وما هي الشروط اللازمة التي علينا اعتبارها حتى لا نردَّ النصّ؟ وللدلالة على خطورة السؤال نذكِّر أنَّ من هذه النصوص الوحيدة المخطوط نصُّ ثابت بن قُرَّة "في مساحة الاسطوانة وقطوعها" وهو من أهم ما كُتب في التحليل الرياضي، وكتاب الخازن في "شرح المقالة الأولى من كتاب المجسطي لبَطلَمْيوس" وهو أيضًا من مؤسّسي التحليل الرياضي بالعربيّة، وكتاب أبي كامل شجاع بن أَسْلم في الجبر وكتب أخرى لابن الهَيْثم والخَيَّام وغيرهم، مما يعني أنّه إذا رَدَدْنا النّصوص الوحيدة المخطوط، رددنا الكثيرَ من أُمهات الكتب العلميّة، وإذا قبلناها دون امتحان وتمحيص فقد نجانب الصّواب. وهذه المسألة تحتاج إلى عناية وتحقيق، وهذا ممّا لم يناقش بعدُ.
ولنذكر أولاً ما يُحتجّ به إن كانت الحال هذه الحال:
- أن يكون الكتاب مذكورًا عند كُتّاب الطبقات أو عند العلماء الأولين.
- أن يوحد تقليدٌ نصيّ آخر من شروح أو تحرير أو غيرهما يوافق النصّ.
- أن توجد الترجمة أو ترجمات مبكرة نسبيًا إلى لغا أخرى فارسية أو لاتينية أو غيرها لهذا النص.
- أن يكون النص مرتبطًا بصورة ما بما كتبه المؤلف في كتب أخرى، أو أن يكون بحثًا طوّر فيه المؤلف الجديد على نهج قريب من نهجه في الكتب الأخرى يظهر فيه أسلوبه وطريقته.
- أن تكون لغةُ النص هي لغة المؤلف في رسائله الأخرى.
هذه المعايير ومثلها تحتاج إلى بحث عميق لا يمكن تفاديه. ولهذا الجنس أنواع نذكر بعضها:
- النّوع الأول منها، هو النصّ الذي يدعمه تقليدٌ نصّي آخر، أعني ما يسمَّى بالتقليد النصّي غير المباشر. وينتمي إلى هذا النوع نصّ ثابت بن قُرَّة الذي سبق وأن ذكرناه. فلقد حرَّر ابنُ أبي جرادة من القرن السادس الهجري هذا النصّ: وبمقارنة نصّ ثابت وتحرير ابن أبي جرادة يتّضح لنا صحّة مخطوط النصّ.
- النوع الثاني هو ما له ترجمةٌ في لغة أُخْرى، وذلك مثل الترجمة اللاتينية والتّرجمة العبرية لكتاب أبي كامل شُجاع بن أَسْلم في الجَبْر. وكلتا التّرجمتين تمثلان تقليدَيْن غير مباشرين يُثبتان صحّةَ النصّ ويساعدان عند تحقيقه.
- والنّوع الثالث هو ما أَخَذ المؤلفُ نفسُه في كتاب آخر. فعلى سبيل المثال، كتبَ عمر الخَيَّام رسالة "في رُبْع الدائرة" امتهت إلينا في مخطوط وحيد من مجموعة دنشكاه تـهران. ولقد استعار الخيّام نفسُه بعض فقرات هذه الرسالة في رسالته في الجَبْر. وهنا أيضًا تساعدنا "السرقات" العلميّة أحيانًا في بيان صِحَّة النصّ وإقامة البُرْهان على أنَّه ثقة. وهذا ما سبق أن رأيناه مع نص كتاب الكِنْديّ "في تقويم الخطأ والمشكلات التي لأوقليدس في المناظر" الذي استعاره ابنُ عيسى دون أن يذكر اسم الكِنْديّ.
6- النصّ الكامل المتعدّد المخطوطات
وهذا أمرُ الكثير من النصوص، فبعضها وصلنا في مخطوطات تُعدّ على أصابع اليد أو اليدَيْن، والبعضُ الآخر في مخطوطات يتجاوزُ عددُها العشرات. وهَمُّ المحقق في كل حال هو تصنيفُ هذه المخطوطات حَسب شَجَرة انتمائها: جذرها الأصل، وفروعها التقاليد النصّية المختلفة. ولا يمكن البدء بالتحقيق الدقيق لأيّ نصّ دون مَعْرفة هذه الشجرة وتلك التقاليد. وعلى المحقق هنا أن يتجنّب شَـركًـا يقعُ فيه الكثيرون عندما يظنون أنّ قِدَمَ المخطوطة دليلٌ على جَوْدتها وأصالتها. فهناك العديدُ من الأَمْثلة التي تُبْطلُ ذَلك وتكذّبه، مثل مخطوطة لرسالة كمال الدّين الفارسي في الأعداد المتحابة نُسخت بعد وفاة المؤلّف. بما يقلّ عن عَقْد، وعلى الرّغم من ذلك فهي أقلّ جودة من مخطوطات أخرى متأخّرة، وكذلك مثل مخطوطة رسالة الخيّام في الجَبْر، وهي مخطوطة الفاتيكان، فمع قِدَمها النسبيّ إلاّ أنها أسوأ مخطوطات هذا النصّ.
وتصنيف النسخ المختلفة ليس بالأمر الهيِّن وخاصّة عندما يزداد عددُها. فعلينا أولاً البدء بإثبات كلّ الفروق بين مخطوطات النصّ وبيان ما ينقُص كلّ منها بمقارنتها بالأخرى، وكذلك إحصاء أخطاء كلّ منها بالنّسبة للأخرى. ولكنّنا نقرّ أنّ الاختلافات بل الأخطاء نفسها لا تتساوى في الأهميّة. فالخطأ النحويّ في كتابة الأعداد، على سبيل المثال، كان فاشيًا بين الرياضيّين في القرن الثالث الهجري وما بعده، ولم يكن يومًا عائقًا عن فهم النصّ ولم يُمثِّلْ أبدًا عيبًا فيه، بل الخطأ النحويّ عامة في النصوص الرياضيّة والعلميّة كان منتشرًا.
فالسؤال إذًا هو: ما هي أهم الفروق بين المخطوطات التي تسمح لنا بتصنيفها عندما لا نملك إلاَّ وسائل النّقد الداخلي؛ أعني دون اللّجوء إلى عوامل خارجيّة- لا تتيسر في كثير من الأحيان- مثل النَّسْخ وتاريخه وهويّة الناسخ وعمله وقيمة النّسخة التي نُسخ منها... إلخ.
وأهم الفُروق بلا شكّ هي النّاتجة عن سهو من النّاسخ، أعني الفروق الغير مقصودة والأخطاء التلقائية، مثل سقوط جملة أو أكثر، سقوط حرفين أو أكثر، سُقوط رَقْمين أو أكثر من النص الرياضي. فإذا وقَفْنا على إحصاء ما ينقُص كلّ مخطوطة بالنسبة إلى مخطوطة أخرى أمكننا الاستناد إلى هذه المبادئ في التصنيف.
- إذا نقصت مخطوطةٌ ما جمل أو حروف أو أرقام أو أشكال، كما سبق أن أشرنا، لا تنقص مخطوطة أخرى، لا يمكننا اعتبار الأولى أصلاً وحيدًا للثانية.
- المخطوطات التي تنتمي إلى نفس الأسرة تنقصها كلّ الجمل والحروف والأرقام والأشكال التي تنقص إحداها على الأقل.
- المخطوطات التي تنقصها جمل أو حروف أو أرقام أو أشكال تنقص مخطوطات أخرى من أُسَر مميّزة فلا بد من اعتبارها نسخًا نُقلت ابتداءً من أصول متعددة إمّا في نفس الوقت وإمّا بالتتابع.
هذه المبادئ البديهية التي أتينا بها هي التي اتّبعناها في تصنيف المخطوطات، وعلينا إقامة الجداول لإحصاء ما ينقص المخطوطات، الواحدة بالنسبة للأخرى، وكذلك للأخطاء المختلفة والأخطاء المشتركة... إلخ. ومن المفضل الآن اللجوء إلى الحاسوب لمثل هذا العمل إن زاد عدد المخطوطات أو حجمها عن الحد الذي لا تنفع عنده الوسائل التقليدية.
7- النُّسخةُ الأمّ، أو مخطوط المؤلِّف
وهذا أيسر الحالات. فتُراث النصّ في هذه الحالة هو تعقب كل التصحيفات والزيادات وغيرها مما طرأ على النصّ عند نقله من هذه النسخة الأمّ لو كان حدث ذلك.
من هذا العرض السريع، يُمكن أن نستخلص العديدَ من النّتائج، سنذكر اثنين منها فقط. الأولى هي شرط لازم لكلّ من يَعْمل حول تُراث النصّ، أعني صلته القويّة بتُراث الفكر. فحتّى عهد متأخّر كان النصّ كائِنًا حيًا. يُنسخ للبحث والتّعليم، فهذا الكائن الحيّ مثيرًا ما تأثّر بالفكر العلميّ وتطوره وانحطاطه أيضًا. وكثيرًا ما أثّر في الفكر العلمي بمضمونه وهيئته؛ وباختصار شديد يمكن القول أن تُراث النصّ وتراث الفِكْر لا ينفصلان؛ هذا هو الشّرط. أمّا النّتيجة الثانية فهي ضرورة مستقبليّة حتّى يتمّ ما نعمل من أجله، أعني ضرورة تطوير بعض الفُروع اللاّزمة لدراسة تُراث النصّ، منها علم النسّاخ، وهو علم بالرجال وبوسائِلهم وبمراكزهم، ومنها تاريخ التربية والتّعليم ومؤسساتها في المدينة الإسلامية، ومنها فِقْه اللّغة العلميّة وتاريخها... هذه الفروع وغيرها ستساعد على إرساء المعايير العلميّة اللازمة عند العمل على تُراث النصّ وتُراث الفكر.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: تحقيق مخطوطات العلوم في التراث الإسلامي: أبحاث المؤتمر الرابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي 29- 30 نوفمبر 1997م. _ النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 29-76. |