صلاح الدين المنجد كما عرفته

شارك:

عرفان نظام الدين

محتويات المقال:
معرفة عن بعد
المنجد والدور الإعلامي
معرفة عن كتب
الإعلام.. والدور السياسي
رجل صريح.. وجريء!

لا أدعي امتلاك القدرة على كتابة بحث في تقييم إبداعات الدكتور صلاح الدين المنجد في مجال المخطوطات الإسلامية وغيرها لأنني لم أتعوّد أن اتجاوز حدودي وحدود إمكاناتي خلال عملي الإعلامي الممتد والمتواصل على مدى 35 عامًا. ولكني قادر على كتابة انطباعات شخصية عن الرجل الذي عرفته منذ اليوم الأول لاشتغالي في الصحافة وعن دور الدكتور المنجد في الإعلام وقدرته على سد النقص الحاصل في مثل هذا المجال الحيوي من تاريخنا وتراثنا وقيمنا.

معرفة عن بعد

عرفت الدكتور المنجد عن بعد على مرحلتين من حياتي، وتعرفت عليه عن كتب في المرحلة الثالثة، قبل أكثر من ثلاثين عامًان والبداية فيها شيء من الطرافة، والخجل، والإعجاب، فقد سمعت باسم الدكتور صلاح الدين المنجد عن طريق أحد رفاقي في المدرسة، الذي حمل إلي كتابًا كان يخفيه بين كتبه، وهو مضطرب وكأنه يرتكب إثمًا ويخشى أن ينكشف أمره، وعندما قرأت عنوانه انتقلت العدوى إلي وشعرت بإحراج شديد، ولكن الفضول شدّني إليه، فأخفيته في حقيبتي، وحمرة الخجل تصبغ وجنتي.

الكتاب الأول الذي قرأته في حياتي عن الجنس كان كتاب الدكتور المنجد «الحياة الجنسية عند العرب» فقد كان مجرد التلميح إلى هذا الموضوع من المحرّمات، رغم أنه محْور الحياة وأشدّ ألغازها تعقيدًان ولا سيما في مجتمعاتنا، التي كانت تعاني من انفصام شخصية، وتزمت، وقيود «تزيد الطين بلة» وتؤدي عكس أهدافها، نتيجة لعوامل الكبت، ومنع الوصول إلى المعرفة، واكتشاف الحقائق، وتثقيف النفس، وتحصينها، ودرء أخطار الانحراف والجهل.

ومن يطالع هذا الكتاب اليوم يجد أنه قمّة الأدب والتهذيب، ويحتوي على معلومات مفيدة لكل إنسان، يستطيع من خلالها الاطلاع على تراثنا في هذا المجال، مثله مثل عشرات الكتب التراثية التي تتحدّث عن الجنس، أو على العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة بصراحة، مما يثبت أن الأقدمين كانوا أكثر انفتاحًا منا.

ولهذا أجد أن الدكتور المنجد قد سبق عصره في إثارة مثل هذه المواضيع في هذا الكتاب وغيره مثل: جمال المرأة عند العرب، ونساء عاشقات، مؤلفات الحب عند العرب، تحليل لمؤلفات الحب عند الجاحظ المتوفى عام 255 حتى داوود الأنطاكي المتوفى عام 1008. فبعد سنوات طويلة من صدور كتاب «الحياة الجنسية عند العرب»، الذي اعتبره وسيلة تثقيفية وخطوة إعلامية جريئة، بدأت حملة في الغرب لتدريس الجنس في المدارس، وتعميم الثقافة الجنسية، حتى لا يبقى هذا الشأن حبيس النفوس والهواجس، وأسير الأوهام والأساطير والأضاليل، وقد أثبتت الدراسات أن فكّ أسر المعلومة وتداولها بشكل عادي بسيط، بعيدًا عن الإثارة والأهداف الرخيصة لاستغلال الغرائز، يحصن النفس، ويمنع الانحراف، لاسيما في صفوف الشباب والمراهقين، الذين لا يجدون من يوجههم، أو يجيب على أسئلتهم الملحّة، أو يطلعهم على حقائق الحياة البديهة.

وفي مقابل هذه المعرفة باسم الدكتور صلاح الدين المنجد، كانت هناك معرفة متلازمة معها تثير الإعجاب. فقد كانت عائلتي على صلة بآل المنجد الذين ينتمون إلى عائلة دمشقية محافظة متدينة تشتهر بالعلم.

أما المرحلة الثانية من معرفتي عن بعد بالدكتور المنجد فقد توثقت خلال دراستي الجامعية، غذ دفعني اهتمامي بالتاريخ العربي والإسلامي إلى البحث عن كتب التراث والمخطوطات التي تزودني بالمعرفة والعلم والثقافة المدعمة بكثرة معلومات يمكن البناء عليها في الدراسة الجامعية والحياة العامة. وقادني بحثي هذا إلى كتب عالمنا الجليل ودراساته التي تقدر الآن بأكثر من 150.

وقد أثار اطلاعي على هذه الإبداعات إعجابي وفضولي لمعرفة المزيد عن عالمنا الجليل، خاصة وأننا كنا نمر بحالة تشكيك بأمجاد أمتنا وتاريخنا وتراثنا، وظهور موجة تصف كل ما هو قديم وأصيل بالرجعية، وموجة أخرى تطلق على نفسها صفة الحداثة لتثير ما سمي بالصراع بين الأصالة والمعاصرة، فيما غالى البعض وتطرّف ليطالب بالتخلي عن كل إرث الماضي، والتشبه إما بالغرب عن طريق تبني الصرعات والثقافة الغربية، والاقتداء بأتاتورك في تركيا، أو باستيراد المبادئ من الشرق ومحاولة نشرها، لتلبس لبوس الشيوعية أو الماركسية أحيانًا، أو تحمل اسم الاشتراكية في أحيان أخرى. ولهذا كان الدكتور المنجد يبدو لبعض المشككين والمتشائمين وكأنه يغرد خارج السرب، أو أنه يعيش في غير عصره، ولكن من يتمعن جيدًا في أبعاد هذه المرحلة وأخطارها، ودقة الأوضاع فيها، يدرك جيدًا أن عالمنا كان حكيمًا ومناضلًا في آن، بقدرته على تحمّل الأذى والانتقاد والجحود، وصموده في وجه التحدّيات والتعدّيات والمضايقات، وإصراره على المضي في عمله، وإتقانه له، وإصدار كل ما يعزز رسالته، وبنشر التراث والكتب التي تثبت أصالة الحضارة العربية والإسلامية، وعظمة تاريخنا الذي لم يقم على السيف وحده كما يزعم المغرضون، بل على العلم والقلم والعطاء والفكر والثقافة النيّرة المنفتحة التي تدحض الأضاليل وتغني أمتنا بمبادئ وثروة فكرية وإنسانية وحضارية تضاهي بأشواط بعيدة كل ما تم نشره من مبادئ مستوردة وثقافات هدّامة.

وفي رأيي أن هذا الدور الذي قام به علماء الأمة، وفي مقدمتهم الدكتور المنجد يجب أن يسجل بأحرف من نور، فقد ساهموا في الحفاظ على تراثنا وموروثاتنا الحضارية الإنسانية، ونشروها في ظروف صعبة، إن لم أقل أنها كانت مستحيلة في وقت من الأوقات، كما تحدّوا كل المحاولات والخطط الرامية لمحو ذاكرة الأمة وتاريخها وحضارتها، وتشويه صورتها، وحافظوا عليها بعد أن خفنا عليها من الضياع.

أما دور الدكتور المنجد عندما تولّى إدارة معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية فلا حدود له ولا وصف، فقد أعاد تنظيمه، ووضع أنظمة جديدة له، وأنشأ مجلة للمخطوطات، وهو يصف هذا الدور بقوله: «إن هذا المعهد هو همل من أعظم الأعمال التي قامت بها الجامعة العربية. وكان هدفه إحصاء المخطوطات العربية التي تركها أجدادنا، والموجودة في مكتبات العالم، العامة والخاصة، وتصوير أكبر عدد ممكن منها، ووضع المصوّرات تحت تصرّف العلماء، والعمل على نشر الآثار الهامة من التراث العربي».

وقد استطاع عالمنا الجليل التحقيق في مئات المخطوطات العربية في أنحاء العالم، وتم تصوير آلاف المخطوطات النادرة المنتشرة في المتاحف العالمية، كما وضع قواعد لتحقيق المخطوطات بشكل منهجي علمي سليم ثم إقرارها من مؤتمر المجامع العلمية عام 1959 ثم ترجمتها إلى معظم اللغات.

وقد سألته مرّة عن أسباب عدم مطالبة الدول العربية والإسلامية باستعادة كنوزها ومخطوطها المسلوبة عبر التاريخ من قبل الاستعمار والغزاة، فأبدى استهجانه لهذا الإهمال المتعمّد، وعدم تقدير أبناء أمّتنا لقيمة هذه الكنوز، بينما يتهافت عليها العالم كأنها من عجائب الدنيا، مع عدم إغفال نظرية تقول إن من حسن حظ أمّتنا أن هذه الكنوز قد سرقت وحفظت في متاحف الغرب والشرق، لأنها لو بقيت في ديارنا لتعرّضت للنهب والتحريف والإهمال والتخريب. فحفظ مثل هذه الكنوز يحتاج إلى طرق ووسائل علمية وصحية وبيئية خاصة حتى لا تتعرّض للتلف، ونحن نرى مدى العناية التي يخصّها القائمون عليها في المتاحف العالمية والأجواء الصحية التي يحيطونها بها.

وقد سمعت الدكتور المنجد يتحدّث عن هذه النقطة في كلمة ألقاها في منتدى (إثنيتية)، مساء يوم الاثنين الواقع في 24/7م1405 هجريًا الموافق 25/3/1985 ميلادي، قال فيها بالحرف الواحد: «أودّ أن اتحدث قليلًا عن مشكلة تسرب تراثنا العربي إلى أوروبا على غفلة منا، أو بقصد من بعض تجارنا، فلو أن أحدًا منكم ذهب اليوم إلى أي متحف أو مكتبة في أوربة تجدون فيها النوادر والروائع من تراثنا المخطوط أو الآثار الفنية المنقولة كالسجاد والأواني الخزفية والتحف والمجوهرات.. هذه الأشياء.. قسم منها انتقل نهبًا أو غصبًا كما فعل الفرنسيون في شمال إفريقيا، وفي سورية ولبنان، وكما فعل الإنجليز في مصر وبلاد الشرق الأقصى، وكما فعل الروس في بلاد إيران وتركيا. وما أقوله ليس افتراء فقد رأيت بنفسي مخطوطات عليها وقفيات على مدارس أو مساجد في مدينة تركية أو إيرانية أو مغربية فوجدتها في ليننغراد أو باريس. وقسم آخر باعه التجار عندنا ابتغاء المال لأننا كنا مغفلين لا نعرف قيمة هذا التراث. فبيع على الأغلب بأسعار بخسة. ولعلكم تعلمون قصة ذلك التاجر الإيطالي الذي كان في صنعاء يبيع للناس الأقمشة والأرز والسكر ويرفض أخذ النقد الدارج عندهم، كان يطلب منهم أن يحضروا له كتبًا. والكتب كانت كلها مخطوطة. فجمع ما يقرب من ستة آلاف مخطوط، كما قيل وحملها معه إلى الفاتيكان. والفاتيكان أهداها إلى مكتبة مشهورة في ميلانو، اسمها (الأمبروزيانا)، وأنا ذهبت إلى هذه المكتبة وبقيت فيها شهرًا ووضعت فهرسًا لقسم من هذه المخطوطات اليمنية».

وبعد أن يورد الدكتور المنجد أمثلة على هذه السرقات ويسمي الأشياء بأسمائها يقول: «لا شك أن تسرب تراثنا هذا أمر مؤسف جدًا. وسيجعلنا يومًا من الأيام فقراء في التراث الفني. ولرُبّ سائل يسأل: أيهما أحسن- إبقاء هذا التراث عندنا أم بيعه إلى المكتبات والمتاحف في أوروبا والولايات المتحدة؟»

والجواب أن ذهابه إلى أوروبا قد ضمن سلامته وحفظه لأن المتاحف والمكتبات تعني بالمحافظة على المخطوطات عناية فائقة تجعلها لا تشعر بحر ولا يصل إليها السوس، ولا يصيبها البلل. توضع في أمكنة مبردة بالإضافة إلى العناية بفهرستها، وإصدار فهارس لها. وبصورة عامة الإحساس بقيمة هذا التراث المكتوب أشد في أوروبا مما هو عندنا. ولكن بدأت اليقظة عندنا في جامعاتنا ومكتباتنا، وحتى عند الناس، فظهر فينا من يهتم بالتراث ويقتنيه ويشتريه بأسعار باهظة. ولكن هؤلاء قلائل. ولا بد من تعميق هذا الإحساس بقيمة هذا التراث. والعمل على التنافس فيه والغيرة عليه، حتى نوقف انتقاله إلى الغرب ونضمن إبقاءه في ديارنا. وكنت كتبت في هذا الموضوع مقالة في جريدة «الشرق الأوسط» ذكرت فيها أن اليهود أقاموا الدنيا لأن رجلًا اشترى من أمريكا توراة قديمة هربت من ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية. فأقامت الجمعيات اليهودية دعوى في محكمة القضاء الأعلى في نيويورك وطلبت أن يجبر الرجل الذي اشتراها- وهو ليس يهودي- بإعادتها وجعلها لليهود لأنها من التراث العالمي اليهودي.

المنجد والدور الإعلامي

هذا الدور الذي قام به الدكتور صلاح الدين المنجد أعتبره عملًا إعلاميًّا رائدًا، بالإضافة إلى اهميته التاريخية والحضارية العربية والإسلامية، وهذا يوصلني إلى بيت القصيد، وهو ما اقترحته في البداية بكتابة انطباعات شخصية عن عالمنا الذي نحتفي به، ودوره في الإعلام، وقدرته على سدّ النقص الحاصل في مثل هذا المجال الحيوي من تاريخنا وتراثنا.

فمن خلال معرفتي بالدكتور، وعملنا معًا لسنوات في هذا الحقل، أستطيع الإدلاء بشهادة حقّ وصدق، أؤكد فيها أنه قدّم لأمته الكثير في هذا المجال، إن على الصعيد الأدبي والفكري والثقافي والمعلوماتي، أو على صعيد جمع أعمدة التراث الإسلامي، والحفاظ عليه، وتأكيد عظمة الحضارة العربية والإسلامية، عبر التحقق من المخطوطات النفيسة، والمحاضرات التي ألقاها في أعْرق جامعات العالم ومراكز الأبحاث والدراسات، دون أن نغفل دوره الإعلامي والسياسي، الذي استطاع أن يضع يده عبره على الجروح العربية، ويدلّ على مواطن العلل، ويصف العلاج، ويحثّ على الإسراع بحل المشاكل قبل استفحالها. وقد دفع الدكتور المنجد ثمنًا غاليًا لمواقفه الصريحة والجريئة، في زمن كان التضليل الإعلامي هو السيد، والنفاق هو السائد، فقد تعرّض لحملات ظالمة، واتهامات وهجمات بهدف إيذائه، كما أحرقت مكتبته النفيسة خلال الحرب الأهلية، وخسر الكثير، وكاد يفقد حياته كما هو معْروف، ولكن الله كتب له طول العمر، فانتقل من بيروت إلى جدّة، حيث احتضنته المملكة العربية السعودية، ورعته، واستفادت من علمه، ومنحته جنسيّتها بمكرمة ملكيّة.

وعندما أتحدّث عن الدور الإعلامي المميّز لعالمنا الجليل، فإنني أنطلق من إيماني الأكيد بأن إعلامنا العربي يتّجه نحو الإسفاف، وتستطيح العقول، والانحراف نحو إثارة الفتن والغرائز، والبعد عن الجديّة والموضوعيّة، وتغييب البرامج الثقافية والفكرية والمعلوماتية، فالإعلام هدف ومسؤولية، صدق وموضوعيّة، ودور ورسالة بكل ما تحمل هذه الصفات من معان، وما حضّنا عليه ديننا الحنيف في القرآن الكريم والسنة المطهّرة، وليس مجرّد وسيلة ترفيه ورقص وغناء و«سدّ فراغ» ودعاية لشخص أو لحزب أو مؤسسة أو شركة.

وبكل أسف فإننا نعاني اليوم من هاجس «القصور والتقصير» في إعلامنا العربي إزاء قضايانا وحضارتنا وثقافتنا، في الوقت الذي تتهدد فيه الأجيال بغزو ثقافي أجنبي، يحيط بنا من كل الاتجاهات، ويشارك فيه معْظم التيارات، في حملة منظّمة تحمل اسم «فوبيا الإسلام» تارة و«صراع الحضارات» تارة أخرة بزعم أن الإسلام هو الخطر الداهم الذي يتهدد البشرية في القرن الحادي والعشرين.

وفي المقابل لا نجد أمامنا إعلامًا واعيًا لخطورة المواجهة، ودقّة المرحلة لكي يشحذ أسلحة المواجهة، ويقدم الدليل تلو الدليل على عظمة الحضارة العربية والإسلامية، كما كان يفعل الدكتور المنجد في مقالاته، وكتبه، ودراساته، ومن خبراته.

معرفة عن كتب

وهنا بيت القصيد في حديثي عن المنجد والمرْحلة الثالثة من معْرفتي به.. أو بالأحرى تعرّفي عليه عن كتب قبل أكثر من 30 عامًا، حيث عملنا معًا في عدة صحف وهي «الحياة» في بيروت، «الشرق الأوسط» التي كنت أتولى رئاسة تحريرها، و«الحياة» الدّولية في لندن، كما جمعتني علاقة أخوّة وصداقة به وبعائلته الكريمة: زوجته الإعلامية القديرة وأستاذة الإعلام التي تخرّج مئات الإعلاميين على يديها السيدة دنيا مروّة المنجد، شقيقة شهيد الحرية والصحافة معلّمي وأستاذي كامل مروّة مؤسس «الحياة»، وأولاده كامل وزاهر والدكتورة منى، وقد أحسنا تربيتهم وتوجيههم وتزويدهم بسلاح الإيمان والعلم والمعرفة والأخلاق الإسلامية الحميدة.

عندما بدأت عملي في الصحافة في صيف 1964، كانت «الحياة» محطتي الأولى، حيث تتلمذت على يد الأستاذ كامل مروّة، وتعرّفت على زوج شقيقته الدكتور صلاح، الذي كان يكتب زاوية يومية بعنوان «زاويتي»، كانت تعد من أنجح الزوايا الصحفية لما فيها من معلومات وطرائف، وقصص من التراث، تربط الماضي بالحاضر، وتجيب على تساؤلات القرّاء بشأن تراثهم الأصيل، وتزودهم بالمعلومات عن شمولية الإسلام لكل شأن من شؤون الحياة وتفاصيلها الدقيقة.

وبعد أن توطدت وشائج الصداقة والمحبّة بيننا، كنت أتعمّد البحث عن الدكتور صلاح للاستماع إلى أحاديثه ورواياته الطريفة وحكمته، وأستفيد من خبرته... أو لسؤاله عن كثير من الأمور والقضايا التي كانت تستعصي علي، وكان يقول لي دائمًا: اقرأ يا عرفان، وتزود بالعلم والثقافة، فالثقافة هي سلاحك وهي المشاركة في كل علم عرفه العرب.

وقرأت له مرّة عبارة يقول فيها: لقد كان لدي مفتاح التأليف الأول، وهو الثقافة، ومكتبتي التي كانت تمدني بكل مصدر أريده في أي موضوع، فلا أحتاج إلى الذهاب إلى مكتبة ولا استعارة كتاب، كان في مكتبتي ثلاثون ألف كتاب (أحرقت المكتبة كما أشرْت من قبل).

أما عن الصحافة وأسباب خوض غمارها فيرجع الفضل من بعد الله عزّ وجلَّ إلى «نابغة الصحافة العربية كامل مروّة» ولكنّي أضيف أنه أفاد كامل مروّة وجريدة «الحياة» بعلمه وعلاقاته كما استفاد، فكانت العلاقة تبادلية فيها أخذ وفيها عطاء، وفيها محبة وفيها وفاء، فكان الدكتور صلاح وزوجته السيدة دنيا من أكثر الناس فاء لذكرى استشهاد كامل، فلا تمر دون مشاركة من هنا أو مقال هناك أو اتصال بي وبغيري من تلامذة كامل للمشاركة بإحياء الذكرى والتأكيد أن كامل مروّة حيّ في مبادئه وقيمه وفي الرسالة التي كان ينادي بها، بينما قَتَلتُه هم الأموات الذي يلاحقهم العار كل يوم.

وللدكتور المنجد رأي جميل في الصحافة والإعلام، فقد قرأت له مرة قوله: «إن الصحافة علم وفن وموهبة ولا يكفي أن تجيد الكتابة حتى تصبح صحفيًّا ماهرًا، ولا بد أن يرشدك رجل معلم ماهر ويقوِّم اعوجاجك».

وتاريخ عالمنا الجليل في عالم الصحافة والإعلام قديم يعود إلى بداية نشأته الأولى وانطلاقته الأدبية والعلمية، وهو يروي بنفسه هذه البداية عندما بدأ بمراسلة مجلة «الرسالة» و«الثقافة» في القاهرة ومجلة «المجمع العلمي العربي» وصحف ومجلات أخرى في بيروت ودمشق بقوله: مِلت إلى الأدب وتأثرت بـ«الرسالة» وبالزيّات رحمه الله. وقرأت عددًا كبيرًا من كتب الأدب العربي. وكان لأستاذنا خليل مردم بك الذي كان يدرسنا الأدب العربي في الكلية العلمية الوطنية ويحببنا فيه فضل في ذلك. وكان لي ذاكرة قوية، كنت أحفظ كل يوم صفحات من أقوال الأدباء وشعر الشعراء. وبدأت أنشر في الصحف وأنا في التاسعة عشرة من عمري. وتاقت نفسي أن أرى اسمي بين كُتّاب «الرسالة» وكان يكتب فيها طه حسين، وأحمد أمين، والرافعي، والعقاد، وسيد قطب، والطنطاوي، وزكي مبارك وغيرهم، فكتبت يومًا مقالة جهدت في تنقيحها وذوقتها على الطريقة الزيّاتية، وأرسلتها إلى الأستاذ الزيات، ورجوته أن ينشرها إذا كانت تصلح للنشر.

وبقيت أسبوعين أتقلب على الجمر وأتساءل: هل تنشر أم ترفض. وذات يوم فوجئت برسالة من الزيات يثني فيها على المقال ويطلب أن أرسل له صورتي لأن المقال سينشر في العدد الممتاز الهجري. فاضطربت وقلت: إذا أرسلت له صورتي سيرى أني ما زلت فتى ولست من طبقة الأدباء الكبار، الذين يكتبون في (الرسالة). وقد يشك أني أنا كاتب المقالة. وجابهت الأمر، وأرسلت صورتي الطبيعية وبعد أسبوعين أو أكثر قضيتها وأنا مضطرب البال، دائم التفكير، وصلت إلي رسالة من الأستاذ الزيات، يوافق فيها على المقالة ويثني عليها. فكان ذلك عيدًا عندي. وكان هذا المقال بداية عهدي بالكتابة في (الرسالة)، وانطلاقي في الأدب. وكان لي في (الرسالة) ثم في مجلة (الثقافة) مقالات كثيرة.

الإعلام.. والدور السياسي

ولكن الجانب الأدبي والثقافي والحضاري، الذي برع به الدكتور المنجد، ولاسيما في مجال التحقيق في المخطوطات العربية والإسلامية، لم يكن وحده الذي ميّز مسيرة هذا الرجل المتعدد المواهب والعطاء والإبداعات، فقد كان للجانب السياسي من حياته وكتاباته دور مهم في الإعلام تميّز بالموضوعية والصراحة والصدق.

وتكمن الأهمية الخاصة لهذا الدور في تحليل الأجواء العربية والدولية التي كانت تسود المنطقة في مرحلتي الستينات والسبعينات، فقد غلب التضليل الإعلامي والتعتيم على الحقائق على معظم النشاط الإعلامي، وسط صراعات وانقلابات وثورات وأحداث جسام شهدتها معظم الدول العربية.

مع الدكتور محمد عبده يماني وكان وزير الإعلام، في جدة

وكان من يضع النقاط على الحروف أو يسير في عكس التيار السائد يتهم بالخيانة والعمالة للاستعمار والإمبريالية والرجعية وكل ما يمت إلى هذه المفردات القبيحة بصلة. وفي المقابل كانت تغلب على المنطقة التيارات الثورية والناصرية والشيوعية والاشتراكية وتعيش أجواء الحرب الباردة بين الشرق والغرب والمعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وتتفاعل معها أو تتحوّل في بعض الأحيان إلى أداة أو بوق من أبواقها.

كما أن الطابع الغالب على الإعلام العربي في تلك المرحلة كان يقوم على الشعارات البراقة والكلمات الطنانة والرنانة التي تثير غرائز الرأي العام وتنال إعجابه دون أن تقدم إليه حلولًا للمشاكل ولا استراتيجية عقلانية تبني للمستقبل ولا نظرة موضوعية تقوم على التعامل مع الواقع بحنكة وحكمة في مواجهة التحديات الخطيرة ومنها تحدي الاستقلال والتحدي الصهيوني الغاشم الذي بدأ يغرس أنيابه في الجسد العربي بعد أن تمكن من احتلال أجزاء من فلسطين ثم واصل مدّه الاستعماري ليشمل فلسطين بكاملها ومعها مرتفعات الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية، إضافة إلى تحديات التنمية والتعليم وبناء الاقتصاد الوطني السليم.

في ظل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، والأوضاع البالغة الخطورة والحساسية، برز الدكتور صلاح الدين المنجد ككاتب سياسي، يحذر من الأخطار، ويسبح عكس التيار، لينبه من الغوص في غمار الشعارات الزائفة، والتمادي في التغلغل في غياهب المبادئ المستوردة، وكان رائدُه في هذا المجال الشهيد كامل مروّة، الصحافي المرموق، والإنسان الوطني والعروبي، الذي عرفه العرب مناضلًا في قلمه، وصاحب فكر نيّر ومبادئ ثابتة يتمسك بها، ويرفض أيَّ تراجع عن سبيل الحق وقد قرأت أجمل وصف للرجلين، أي صلاح وكامل، على لسان الأديب الشاعر السعودي بلخير الذي قال: عندما ترك صلاح الدين المنجد القاهرة وانتقل إلى بيروت كنا نجتمع في جريدة الحياة مع الأستاذ الكبير المرحوم كامل مروّة. وعندما أصبح عنده دار للنشر سمّاها (دار الكتاب الجديد) واتخذ مقرها في بناية العازارية كنت كثيرًا ما أزوره ونقطع الوقت باستعراض الأحداث، وما زرته مرة إلا وجدت أمامه على طاولته أكداسًا من المطبوعات والمخطوطات يقرأها ويصححها أو ينتقدها. وأنواعًا من الصحف اليومية والمجلات يراجعها ويرى أخبارها. وكانت تلك السنوات في الستينات، فوّارة بأخبار التقدمية والاشتراكية والناصرية وغيرها. وإني لذكر للأستاذ المنجد مواقف عظيمة وقفها للدفاع عن بلادنا هذه، وبيان ما دبّره لها بعض الحكام من مؤامرات. وقد أوذي كثيرًا فأحرقوا في بيروت مكاتبه ومزقوا مؤلفاته، وباعوا مخطوطاته.

ولقد كان صهره كامل مروّة ثابتًا على مبادئه، ونصحته مرات أن يخفف من حملاته ضد أصحاب المبادئ الواردة. فكان يقول: أنا أكتب وأدافع وأحارب وأنافح عن الإسلام وعن العروبة. وقد عرفته صلبًا صادقًا. وقد كلّفه ذلك ذهاب حياته واغتياله. رحمه الله.

أما الدكتور المنجد نفسه فيقول عن عمله في هذا المجال: «لقد دفعني مقامي في بيروت والجو الثقافي الحر الذي يسود فيها إلى أن أخوض غمار السياسة ومعالجة المشكلات التي تعاني منها البلاد الإسلامية والعربية جمعاء. وقد ألّفت في ذلك عدّة كتب كانت كالحميم، وأصابني بسببها كثير من الجروح، وأحرقت مكاتبي، وخسرت الكثير وكدت أفقد عمري».

وقد حاولت مرات عديدة أن أطلب من الدكتور المنجد التخفيف من عبارة ما أو حذف عبارة أجدها جريئة إشفاقًا عليه وخوفًا على حياته في ظل أجواء الإرهاب التي كانت سائدة في تلك المرحلة فكان يرد عليَّ بابتسامته المعهودة وبرودة أعصابه: «الرّب واحد والعمر واحد يا عرفان.. أنت شاب في مقتبل العمر وربما لديك ما تخاف عليه.. أما انا فإنني لا أخاف إلا من ربّ العالمين فهو القوي القهّار، وقد نذرْت نفسي لخدمة أمّتي في أي مجال أستطيع فيه أن أفعل.. فلا تخف ولا تحزن فالأعمار بيد الله.. اتكل على الله وانشر المقال كما هو.. على مسؤوليتي الخاصة».

وفي إحدى المرّات، وكنت سكرتيرًا للتحرير قبل أن أصبح رئيسًا للتحرير قرأت لعالمنا الجليل مقالًا عنيفًا ينتقد فيه سلبيات كثيرة ويحذّر من أخطار التمادي في الأخطار القاتلة التي لا نهاية لها سوى الهزيمة أمام العدو المتربص بنا والأعداء الآخرين، فالشعارات لا تطعم خبزًا، ولا تبني وطنًا، وتخوين الآخرين نهايته شق الصف وإثارة فتنة داخلية، والصراعات العربية ستؤدي إلى حروب عربية- عربية تفتك بالأمة وتفيد الأعداء، والدكتاتورية ستسبب هزيمة نكراء لنا في وجه العدو الطامع بثرواتنا وأوطاننا.. إلخ.

وعندما حاولت إقناع الدكتور المنجد بالتخفيف من لهجة المقال قال لي بالحرف الواحد: إن علينا مسؤولية تجاه أمتنا وعلينا واجب المصارحة والجهر بالحقيقة وتصحيح الاعوجاج.. وهذا من صلب مبادئ ديننا الحنيف الذي يدعونا للجهاد بالسلاح أو باليد أو باللسان والقلب.. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وردد أمامي الآيات البينات: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]، ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: 283]، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ﴾ [العنكبوت: 68]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 70]، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9].

وعندما كنت أقول له إن التيار السائد هو المسايرة وعدم مجابهة الأوضاع بمثل هذه الصراحة وسط مظاهر النفاق والتضليل والشعارات الزائفة كان يردد أمامي الآية الكريمة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: 204]. ويضيف: اسمع مني يا عرفان سيكتشف الناس إن عاجلًا أو آجلًا حقيقة المنافقين وسيعرفون من الذي خدعهم وكان منافقًا ومن الذي كان صادقًا معهم، ولو بحثت في القرآن الكريم لوجدت أن هناك 63 آية تذمّ المنافقين ومنها: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1] و ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67]. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: «آية المنافق ثلاثة، إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان.» فهل تريد يا أخي عرفان أن أكون من هؤلاء.. لا سمح الله!!

ويسقط في يدي وأقنع بحجج العالم الجليل الدامغة وبراهينه التي لا يمكن مناقشتها وأتعلم منه جرأته وإيمانه العميق فأتكل على الله وأنشر المقال كاملًا وأنا أقول: «حسبي الله ونعم الوكيل».. والله يستر. ولم يكتف الدكتور المنجد بمقالاته التي كانت تنشر في «الحياة»: ثم خلال عملنا معًا في «الشرق الأوسط» جريدة العرب الدواية الصادرة في لندن التي كنت رئيسًا لتحريرها.. بل أصدر مجموعة مهمة من الكتب السياسية التي أحدثت دويًّا هائلًا من بينها: «أعمدة النكبة: أسباب هزيمة حزيران (يونيو) 1967»، وتضمن تحليلًا موضوعيًا صريحًا وضع فيه النقاط على الحروف وتحدث بجرأة بالغة عن السياسات الخاطئة التي أدت إلى هذه الهزيمة التي أطلق عليها معظم الإعلام العربي اسم: «نكسة» مع أنها أدت إلى كارثة نفسية وسياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية فضلًا عن ضياع أجزاء غالية من وطننا العربي وكل فلسطين العربية الطاهرة وفي مقدمتها درة العرب والإسلام وزهرة المدائن، القدس الشريف، وفيه مقدساتنا وتاجها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

وقد أحدث هذا الكتاب ضجة كبرى في العالم العربي وفي العالم وخصصت له صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية صفحة أوردت فيه مقاطع منه وتحليلات للنقاط التي أوردها المؤلف.

ومن الكتب الأخرى التي أصدرها الدكتور المنجد: «بلشفة الإسلام» و«التضليل الاشتراكي» و«فيصل بن عبد العزيز» و«مشروع الملك فهد للسلام» إضافة إلى وثائق سياسية مهمة مثل «سورية ومصر بين الوحدة والانفصال» و«اليمن والجمهورية العربية المتحدة بين الوحدة والانفصال» ومجموعة التصريحات الصحافية والرسمية للملك فهد بن عبد العزيز ووثائق سياسية عن العهد الفيصلي (نسبة للملك فيصل الأول) بدمشق والعهد الوطني. وفي المجال الإعلامي والتوجيهي أيضًا لا بد من الإشارة إلى دراسات إسلامية أصدرها وفيها الكثير من الفائدة للأجيال العربية والإسلامية مثل: «رسائل إلى شباب متشكك» و«الإسلام والعقل» و«الآمرون بالمعروف في الإسلام» و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: معناه، حدوده، شروطه، تطبيقه في تاريخنا» و«المجتمع الإسلامي في ظل العدالة» و«أحسن ما قرأت عن الإسلام».

رجل صريح.. وجريء!

صلاح الدين المنجد
Salah al-Din al-Munajjid
مع العالم والمستشرق الفرنسي الاب ستاركي

ولا بد عند قراءة مقالات الدكتور المنجد وكتبه ودراساته ووثائقه من الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي رافقت إصدارها والأجواء الدقيقة والحرجة والحساسة التي كانت سائدة وقت صدورها، وسخونة المادة التي تحتويها.. وعنفها في معظم الأحيان رغم عقلانيتها.

وأذكر أنني كنت أتحدث مع رجل كبير عن الدكتور المنجد فوصفته بأنه رجل صريح، فردّ عليّ قائلًا: وجريء جدًا في كل كتاباته منذ بداياتها في الكتب الأدبية مثل: «مؤلفات الحب عند العرب» و«الحياة الجنسية عند العرب» حتى كتبه السياسية وأهمها «أعمدة النكبة».

لكن هذه الصراحة والجرأة التي تميزت بها شخصية عالمنا الجليل تقابلها ميزات أخرى يمارسها في حياته العادية، مثل الطيبة وارقة ودماثة الخلق، والتي عبر عنها الأديب الكبير المرحوم، الأموي، بحديثه عن تأثير هذا الرجل بابتسامته وبشاشته ودماثته وانكبابه على العلم.. فهو زاهد ترك الدنيا وما عليها من أطايب ونعم ومغريات، وانصرف إلى التنقيب والدرس والتصنيف، وذهابه غلى اقصى الأرض في سبيل البحث عن مخطوطة وتحقيقها، وكان لا يخاف في قول الحق لومة لائم.. فقد تعرض عدة مرات لضغوط وحالات ترهيب وترغيب من أجل أن يشهد بأن مخطوطة ما صحيحة وليست مزوّرة ولكنه كان يقاوم كل الضغوط ويرفض كل المغريات ويشهد بأنها غير صحيحة أو أنها مزوّرة فيُضيع على من كان يريد الانتفاع بثمنها غايته ويكشف خِداعَه حتى ولو كان من الأصدقاء أو المقربين أو حتى من النافذين.

وبعد، هذا غيض من فيض عطاء هذا العالم الجليل، وقد قلت في البداية أن «شهادتي مجروحة» ولهذا أشرت في البداية إلى أنني أقدّم شهادة شخصية، لا أنكر أن فيها نظرة عاطفية، نظرًا لما يربطني بالدكتور المنجد وعائلته الكريمة من وشائج صداقة وأخوة، ولكنها تتضمن حقائق ثابتة، ووقائع وأحداث عشتها بنفسي، ولمستها لمس اليد.. وحفظتها عن ظهر قلب.. وقد أحببت أن أركز على الدور الإعلامي الرائد الذي قام به، لأنه يدخل في صميم اختصاصي وخبرتي وتجربتي الشخصية، على أن اترك للعلماء والكتاب الأجلاء أن يكتبوا عن جوانب أخرى من شخصية هذا الرائد من رواد جيل عملاق، لم يَجُدْ علينا الزمان بأمثالهم بكل أسف.

فتحيّة من القلب إلى الدكتور المنجد في كتاب تكريمه والاحتفاء به، وشكر وعرفان لمؤسسة الفرقان على خُطْوتها الحضارية، وقرارها الحكيم، بإصدار كتاب عن حياته، جزاها الله كل خير، وللقائمين عليها كل تقدير واحترام لما يقومون به من أعمال جليلة، وما يقدمونه من خدمات لرفعة أمتنا العربية والإسلامية. والله وليّ التوفيق.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:

مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد،2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 21-36.
Back to Top