ناصر الدين الأسد
في القرآن الكريم آيات وألفاظ اضطرب المفسرون في فهمها، وتوقف نفر منهم عندها فلم يقولوا فيها شيئًا، ووصفها نفر آخر منهم بأنها من المشكلات أو المعضلات. فمن ذلك ما قاله الواحدي عن قوله تعالى:
[لمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ] [البينة: 1]، قال الواحدي في كتاب البسيط: «هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظمًا وتفسيرًا، وقد تخبّط فيها الكبار من العلماء». وعقَّب الفخر الرازي على كلام الواحدي بعد أن أورده فقا1«إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها».
ومن ذلك أيضًا أن رجلًا قال لسعيد بن جُبَيْر2: «أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية [وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] [النساء: 24]، فلم يقل فيها شيئًا؟ قال: كان لا يعلمها».
وروى الطبري بسنده عن مجاهد، قال: «لو أعلم من يفسّر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله تعالى: [وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] إلى قوله [فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ] إلى آخر الآية».
وقد علَّق ابن عطيّة على هذين النصين- بعد أن أوردهما- بقوله 3: «ولا أدري كيف نُسِب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول».
ومن ذلك أيضًا ما قاله ابن العربي في قوله تعالى:[فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي] [البقرة: 196]، قال4: «هذه آية مشكلة، عُضْلة من العُضَل».
ومن ذلك ما قاله القرطبي في قوله تعالى: [وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ] [آل عمران: 73]، إلى آخر الآية، قال5: «وهذه الآية أشكل ما في السورة».
والأمثلة على مثل تلك الآيات كثيرة. أما الألفاظ والمفردات مما يسمَّى بغريب القرآن فقد ذكروا أنه6 «جاء عن أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومُشْكِله باللغة والشعر ما بيّن صحةَ مذهب النحويين في ذلك، وأوضحَ فسادَ مذهب من أنكر ذلك عليهم»، ومن ذلك «أن ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب». وكان ابن عباس أيضًا «يُسْأل عن الشيء بالقرآن، فيقول فيه هكذا وهكذا، أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا».
ولكنّ ألفاظًا في كتاب الله لم يرد فيها شعر ولا خبر عن العرب، فلم يستطع العلماء من أهل اللغة أن يشرحوها ويبينوا معناها، وإنما قَبِلوا ما قاله المفسرون الذين ربما أخذوا معناها من سياق الآيات التي وردت فيها، وأوضح مثال على ذلك ما جاء في قوله تعالى[ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ][الحج: 29]، فقد ذكروا7 أن الأزهريّ قال: التَّفَثُ في كلام العرب لا يُعْرَف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير، قيل: التَّفَثُ: مناسك الحج كلها، ورواه ابن عمر وابن عباس، قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان حُجّة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة. قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرًا ولا أحاطوا بها خبرًا، لكني تتبعت التَّفَثَ لغةً فرأيت أبا عبيدة مَعْمَر بن المثنّى قال: إنه قصُّ الأظفار وأخْذُ الشارب وكل ما يَحْرُم على المُحْرِم إلا النكاح، قال: ولم يجئ فيه شعر يُحْتَجّ به. وقال صاحب العين: التَّفَثُ هو الرَّمْيُ والحَلْقُ والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط. وذكر الزجّاج والفرّاء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء [يقصد المفسرين]. وقال الزجّاج8: «إن أهل اللغة لا يعرفون التَّفَث إلا من التفسير».
* * *
وكان مما استوقفني في كتاب الله- منذ زمن طويل- لفظ (الأمّيّ) و(الأميين)، وكنت كتبت فيهما ما تيسّر لي حينئذ في كتابي مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية9. ولكن بقي في نفسي- منذ ذلك الحين- شيء لم أسْتَبِنْه في وقته. وحين مرّت السنوات واطّلعت في قراءاتي على ما لم أكن اطّلعتُ عليه وأنا أُعِدّ لكتاب المصادر، بانت لي وجوه جديدة من الرأي. ثم وجدت غيري قد سبقني إلى شيء من هذا الذي وصلت إليه، ولكن بعض هؤلاء لم يستوف الموضوع واكتفى بالإجمال دون التفصيل، وبعضهم نثر الحديث فيه نثرًا مضطربًا فيه تداخل وغموض، وبعضهم اختلفت طرق تناوله للموضوع واستدلاله على نتائجه عن طرقي في التناول والاستدلال. فرأيت أن أجمع ما تفرق من الموضوع، وأَلُمَّ شتيته، عسى أن تتّضح صورته، وأصل فيه إلى الصواب.
وأوّل ما وَقَر في نفسي أن تفسير (الأميين) بالذين لا يعرفون الكتابة يتناقض مع ما وصلتُ إليه في بحثي عن حياة العرب قبل الإسلام. فقد أوردت في كتابي من الشعر والأخبار وذِكْر الكتابة وأدواتها والكَتَبة وما يتصل بهم، الشيءَ الكثير10. ومع كل القيود التي وضعنها على نفسي في ذلك البحث جاءت صورة الكتابة ومعرفة العرب بها في تلك العصور صورةً تدلّ على وجودها فيهم وجودًا واضحًا واستعمالهم لها في شؤون حياتهم المختلفة، حتى لقد أوردت من الشواهد ما يدلّ على وجود كتب مدونة في الجاهلية فيها شعر وأخبار11، بالإضافة إلى الكتب الدينية المعروفة لهم. ومَنْ كان هذا شأنَهم لا يُطْلَق عليهم وصفٌ عامٌّ يشملهم جميعًا ويُعْرَفون به أنهم (أُمّيّون). ولو قبلنا أن هذا الوصف يعني الجهل بالكتابة وأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان (أُمّيًّا) بهذا المعنى، فإن تلك حالة خاصة تدلّ على معجزة إلهية، وليست ظاهرة عامّة تشمل الأمة جميعها، وإذا كانت تلك الصفة خصوصية فيها تكريم لرسول الله، فلا شكّ أنها نَبْزٌ فيه حطّ من شأن الأمة حين توصَم كلها بهذه الصفة. ولم تكن حالة الكتابة في الأمة العربية في تلك العصور تختلف عن حالة كثير من الأمم الأخرى حتى تُفْرَد وحدها بهذه الصفة. ومع ذلك فإنه لا يجوز أن يفهَم من هذا الكلام أن الكتابة كانت شائعة منتشرة تشمل العرب جميعًا أو تشمل أكثرهم، فليس من سبيل إلى معرفة مدى شيوعها وانتشارها بين العرب أو بين غيرهم من الأمم في تلك العصور لعدم وجود الإحصاءات عندهم، وإنما تتبعنا ما بين أيدينا من دلائل وشواهد من الشعر والأخبار ووصلنا إلى ما وصلنا إليه، دون تعميم بالحكم.
وثاني ما وقفت عنده ووقَر في نفسي أني لم أجد في جميع كتب التفسيراستشهادًا بسيء من الشعر العربي أو من أقوال العرب ورد فيه ذكر الأميين، عند تفسير هذه اللفظة مفردة أو جمعًا. مع أن من دأب كتب التفسير أن تحفِل بهذه الأشعار والأقوال للاستشهاد بها عند تفسير كثير من غريب القرآن بل تفسير بعض المألوف من مفرداته، تمشّيًا مع ما ذكره ابن عباس ونفر من الصحابة، على ما أشرتُ إليه قبل قليل. وقد حاولت جهدي أن أبحث في الشعر الجاهلي وفيما رُوي لنا من نثرهم وسجعهم عن لفظة (أُمّيّ) أو (أُمّيين) فلم أجد لها ذكرًا. فإذا صحّ لنا ذلك فإن معناه أن هذه اللفظة لم يستعملها العرب قبل استعمالها في الآيات الكريمة التي ذُكِرَتْ فيها.
وثالث ما وقفت عنده متصل بالأمر السابق ومؤكِّد له. ذلك أن المفسرين اختلفوا في تفسير هذه الكلمة اختلافًا واسعًا، جعلني أذهب إلى ان هؤلاء المفسرين حاولوا أن يستنتجوا معناها من سياق الآيات نفسها دون أن يَؤُولوا في استنتاجاتهم إلى مُعْتمَدٍ لغوي يُطْمأنُّ إليه. وكذلك فعل اللغويون في المعاجم وكتب اللغة. فقد ذهب أكثر هؤلاء وأولئك إلى أن معنى الأُمّي «هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وعليه حُمِل: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ][الجمعة: 2]، وقريب من هذا قول قُطْرُب12: «الأمّيّة: الغفلة والجهالة، فالأُمّي منه، وذلك هو من قلة المعرفة ومنه قوله تعالى:[وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ] [البقرة: 78]، أي إلا أن يُتْلَى عليهم». وذهب آخرون إلى معنى الأمّيّة الدينية وليس الأمّيّة الكتابية، «قال الفرّاء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب...»13 وذهب غيرهم مذاهب أخرى سأعرضها حين أعرض ما في كتب التفسير المتعددة من معاني اللفظة.
وكما اختلفوا في معانيها، اختلفوا في نسبتها، قيل في (الأمّيّ) إنه منسوب إلى (الأم) وقيل إنه منسوب إلى (الأمّة) وقيل منسوب إلى (أم القرى) كما ذكر الراغب الأصفهاني.
وكان ابن منظور من أصحاب المعاجم الذين فصّلوا القول في هذا الأمر قال14: «والأمّيّ الذي لا يكتب، قال الزجّاج: الأمّيّ الذي على خِلْقة الأُمّة لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّته... قال أبو إسحاق: معنى الأمّيّ المنسوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه أي لا يكتب، فهو في أنه لا يكتب أُمّيّ، لأن الكتابة هي مُكتسَبةٌ فكأنه نُسب إلى ما يولد عليه أي على ما ولدته أُمّه عليه... قيل للعرب «الأُميون» لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة... وقيل لسيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «الأُمّيّ» لأن أمّة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولًا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخَلّة إحدى آياته المعجزة لأنه (صلى الله عليه وسلم) تلا عليهم كتاب الله منظومًا، تارةً بعد أخرى، بالنظم الذي أُنزل عليه فلم يُغيّره ولم يبدّل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص، فحفظه الله عزّ وجلّ على نبيه كما أنزله، وأبانه من سائر مَنْ بعثه إليهم بهذه الآية التي بايَنَ بينه وبينهم بها...». وهذه الجملة الأخيرة من كلام ابن منظور جملة غريبة إذْ يُفْهَم منها أنه يريد أن يقول إن الذين بعث الله الرسول إليهم كانوا غير أميين، يعرفون القراءة والكتابة، وأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفرّد بعدم تلك المعرفة!!
ومما قاله أيضًا: «والأُمّيّ: العيي الجِلْفْ الجافي القليل الكلام» واستشهد بثلاثة أبيات من الرجز، لم ينسبها إلى قائل حتى نعرف عصره هل كان قبل نزول آيات الأميين أو بعده، وهي:
ولا أعــــودُ بَعْدَها كَــرِيّا أُمارسُ الكَهْـــلَةَ والصـَّـبيّا والعَــزَبَ المُنَفَّــه والأُمـــيّا |
وقال: «قيل له أمّيّ لأنه على ما ولدته أُمّه عليه من قلة الكلام وعُجْمة اللسان».
وقد ذكر الزَّبيدي ما ذكره ابن منظور أيضًا. ولكن معاجم أخرى مثل الصحاح لم تذكر كلمة (أمّي) أو لم أجدها أنا فيه، على كثرة ما ذكر في مادة (أمم). وقال الرافعي في المصباح المنير: «والأمّي في كلام العرب(!!) الذي لا يحسن الكتابة، فقيل: نسبة إلى الأم لأن الكتابة مكتسبة، فهو على ما ولدته أمه من الجهل بالكتابة، وقيل نسبة إلى امة العرب لأنه كان أكثرهم أميين».
وقال الزَّبيدي15: «والنبي الأُمّي، بالضمّ، قيل منسوب إلى أُمّّ القُرَى، أو إلى أُمّ الكتاب، أو اللوح المحفوظ»!!
وهكذا وجدت في كل هذا الاختلاف مدعاة إلى التوقف وإلى الظن أن أصحاب تلك الأقوال إنما يحاولون أمرًا هم ليسوا على يقين ولا بيّنة منه. وآخر ما استوقفني- حين أعدت مرارًا قراءة الآيات التي وردت فيها هذه اللفظة- قولُه تعالى: [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ][آل عمران: 75]. فلفظة [الأمّيين]- على ما يبدو من ظاهر الآية- هي من كلام اليهود وليست من كلام العرب، وتقتضي أمانة البحث الرجوع إلى كتبهم، وإلى ما في لغتهم واستعمالهم، لمعرفة معنى كلمة، بعد أن وضّحتُ قبل قليل اختلاف المفسرين في معناها وفي نسبتها، وذكرت أن هؤلاء المفسرين لم يستشهدوا عليها بشيء من شعر العرب ولا من أقوالهم، وأن اللغويين أخذوا معناها من المفسرين الذين أخذوها هم أيضًا من سياق الآيات.
* * *
ويحسن بي، المُضيّ في الموضوع وتفصيل الكلام على معنى هذا اللفظ، أن أُذكِّر بالآيات التي وردت فيها- وقد جاء مفردًا في آيتين وجمعًا في أربع آيات- وسأذكرها هنا على الترتيب الذي جاءت عليه في سُوَر المصحف الشريف:
قال تعالى: [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ][البقرة: 78، 79].
وقال تعالى: [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] [آل عمران: 20].
وقال تعالى: [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] [آل عمران: 75].
وقال تعالى: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] [الجمعة: 2].
فهذه الآيات الأربع التي جاء فيها هذا اللفظ جميعًا: مرّة واحدة في حالة الرفع «أُمّيون» بغير التعريف، وثلاثَ مرّات في حالة الجرّ «الأميين». بالتعريف. أمّا الآيتان اللتان ورد فيهما اللفظ مفردًا فقد جاءتا متتاليتين في سورة واحدة هي سورة الأعراف. وذلك قوله تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 157، 158].
* * *
وقد آن لنا أن نعرض ما ورد في كتب التفسير من شرح كلمة «الأميين» وتوضيح معناها وأصل اشتقاقها. وقد ذكرت قبل قليل أن ما ورد في كتب التفسير عنها جاء متداخلًا فيه كثير من التكرار وشيء من الاضطراب، فهو محتاج إلى التلخيص من التكرار، والتخليص من التداخل والاضطراب، وذلك ما سأحاوله فيما يلي: وأبدأ بتفسير الطبري الذي يقول عن الآية الأولى في الترتيب السابق16، وهي: [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ]: «يعني بـ (الأميين) الذين لا يكتبون ولا يقرأون». وبعد أن ردّ على من يقول بخلاف ذلك حسبما سنذكره، قال17: «وأرى أنه قيل للأمّيّ (أمّي) نسبة له- بأنه لا يكتب- إلى أمّه، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنُسب مَنْ لا يكتب ولا يخُطّ من الرجال إلى أمّه، في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من قوله: إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب... فإذا كان معنى (الأمي) في كلام العرب ما وصفناه، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النَّخعيّ من أن معنى قوله [ومنهم أميون]: ومنهم من لا يحسن أن يكتب».
وبين هذين الرأيين أورد بإسناده عن ابن عبّاس قوله18«الأمّيُّون قوم لم يصدقوا رسولًا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سِفْلة جُهّال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سمّاهمأمّيين لجحودهم كتب الله ورسله».
وقد علّق الطبري على قول ابن عباس بقوله: «وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يُعْرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن (الأمّي) عند العرب: هو الذي لا يكتب».
ونقل ابن كَثِير ما أورده الطبري، وكأنما أراد أن يؤكد موقف الطبري من نفي قول ابن عباس فقال19: «قلت: ثم في صحّة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر، والله أعلم!».
ونلحظ فيما ذكره الطبري أمورًا، منها:
1- أنه قال: «وأرى أنه قيل للأمّيّ (أمّيّ) نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمّه». فهذا إذًا رأيه، لم يعتمد على حديث لأحد من الصحابة سوى إبراهيم النخعي ولم يسْنُدْهبشيء من الشعر.
2- يضاف إلى ذلك أنه ردّ على ابن عباس وقال إن رأيه «على خلاف ما يُعْرَف من كلام العرب المستفيض بينهم»!! فكيف يكون معنى (الأمي) مَن لا يعرف الكتابة هو من (كلام العرب9 وكيف يكون من (المستفيض بينهم) من غير أن يأتي بشاهد واحد من كلامهم!! على غير طريقته في التفسير.
3- ثم إن الطبري، وهو من هو، لم يشكّ في إسناده الذي ساقه لكلام ابن عباس، ولكن ابن كثير وحده هو الذي شك دون أن يفصّل شكه، ودون أن يذكر فيمن يشكّ من رجال السَّند، وهم كما قال الطبري: «حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشير بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن أبن عباس...».
ثم نجد الطبري ينقض قوله السابق وتفسيره لكلمة (الأميين) وذلك حين يفسّر هذه الكلمة في آية سورة آل عمران] وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ[ فيقول20: «والأميين: الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب». ويستشهد على ذلك بقول محمد بن جعفر بن الزبير فيما رواه عنه من قوله21: [وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ]: الذين لا كتاب لهم».
وكما خالف الطبري رأيه الأول في تفسير الأميين بأنهم الذين لا يكتبون إلى أنهم الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب، نجده يروي عن ابن عباس رأيًا آخر يختلف عن رأيه الذي رواه عنه وأوردتُه قبل قليل وقد ردّ عليه هناك. فقد روى بسنده عن ابن عباس قوله22: «الأميون: الذين لا يكتبون». وقول ابن عباس هذا يتفق مع رأي الطبري الذي أوردته قبل أسطر.
ففي تفسير هذه الآية اختلف كلام الطبري نفسه واختلف كذلك ما رواه بسنده عن ابن عباس. ويؤكد هذا المعنى الثاني أيضًا (أي الأمية الدينية) في بعض أجزاء تفسيره الأخرى في مثل قوله23: «إذْ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيّه محمد (صلى الله عليه وسلم) في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد (صلى الله عليه وسلم) وقومه، ولم يكن عِلْمُ ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) وقومه منهم، بل كان أمّيًّا وقومه أُمّيُّون» وهذا واضح في أنه يقصد أنهم لا كتاب لهم، كما ذكر محقق الكتاب وشارحه الأستاذ محمود محمد شاكر في حاشية الصفحة.
ويأتي الطبري بتفسير ثالث، مختلف عن التفسيرين السابقين، عند حديثه عن الآية الثانية من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] قال24«يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن من استحلّ الخيانة من اليهود، وجحود حقوق العربي التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربي عليه إلا ما دام له متقاضيًا مطالبًا- من أجل أنه يقول: لا حرج علينا فيما أصَبْنا من أموال العرب ولا إثم، لأنهم على غير الحق وأنهم مشركون.» وبعد أن يقول «واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك» نراه يستشهد بقول عدد من الصحابة مثل قتادة. فقد روى بسَنَده عن قتادة قوله25: «ليس علينا فيما أصَبْنَا من أموال العرب سبيل» وقوله: «ليس علينا في المشركين سبيل، يعنون من ليس من أهل الكتاب». ويروي بسنده عن السُّدّيّ قوله: «يقال له: ما بالك لا تؤدي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلّها الله لنا!!».
وحين وصل الطبري إلى تفسير آية الأعراف ]الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيّ...] نجده يقول26: «وقد بيّنّا معنى (الأمّيّ) فيما مضى بما أغنى عن إعادته». ولكنه قبل ذلك بنحو خمس صفحات يروي بسَنَده عن قتادة قوله27: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [فهو نبيكم، كان أمّيًّا لا يكتب (صلى الله عليه وسلم).
غير أنه روى قبل ذلك عن قتادة نفسه عند قوله تعالى:[لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ]، قال28: «أُكرِهَ عليه هذا الحيّ من العرب لأنهم كانوا أمّة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يُقْبَلْ منهم غير الإسلام.».
ثم أعاد الحديث عن معنى (الأميين) عند حديثه عن الآية الثانية في سورة الجمعة ]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ[ قال29: «والأميون: هم العرب، وقد بيّنّا فيما مضى المعنى الذي من أجله قيل للأميّ (أمّيّ). وبنحو الذي قلنا في الأميين في هذا الموضع قال أهل التأويل. ثم روى ثلاثة آثار بأسانيد مختلفة عن قتادة قوله: هم العرب. ثم نقل عن قتادة قوله: «كان هذا الحيّ من العرب أمّة أمّيّة ليس فيها كتاب يقرؤونه فبعث الله نبيه محمدًا (صلى الله عليه وسلم) رحمةً وهدًى يهديهم به». وقريب من هذا ما رواه أيضًا عن ابن زيد.
* * *
ونرى من كلام ما تقدم اختلاف الآراء في تفسير لفظ (الأميين) عند صاحب الرأي الواحد نفسه، سواء أكان صاحب ذلك الرأي الطبريَّ أم صحابيًّا فيما رُوِيَ عنه.
فالطبري له ثلاثة آراء هي أن الأميين هم «الذين لا يكتبون ولا يقرأون»، وأنهم «الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب». أي أن أُمّيتهم أُمّية دينية وليست قرائية أو كتابية، أما رأيه الثالث فهو قوله «والأُمّيون هم العرب».
ونجد الاختلاف نفسه فيما روَى الطبري عن ابن عباس، ففي الموضوع الأولروي عنه قوله: «الأُمّيون قوم لم يصدّقوا رسولًا أرسله الله... وقال سمّاهم أُمّيين لجحودهم كتب الله ورُسُله». ولكنه في موضوع آخر روي عنه قوله: «الأُمّيون: الذين لا يكتبون».
والاختلاف نفسه أيضًا فيما روى عن قتادة، فهم مرّة: العرب، ومرة الذين لا يكتبون، ومرة ثالثة: الذين ليس لهم كتاب يعرفونه ويقرؤونه، وحين ننتقل من تفسير الطبري (ت 310) إلى كتب التفسير الأخرى نجدها تكرر الآراء والأقوال نفسها، إمّا بنصّها وإما بتغيير في بعض الألفاظ دون تغيير في المعاني.
فجار الله الزمخشري (ت 538) فسّر الآية الأولى[وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ] بقوله30: «لا يحسنون الكَتْب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها» وفسّر الآية الثانية [وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ] بقوله31: «الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب». وفسّر الآية الثالثة [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ] بقوله32: «يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب». ولم يفسر كلمة (الأمي) في الآية الرابعة [الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ] بل تجاوزها دون أن يقف عندها33. وفسّر ما ورد في الآية الأخيرة من قوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ...] بقوله34: «بعث رجلًا أُمّيًّا في قوم أُمّيين، كما جاء في حديث شعياء: أني أبعث أعمى في عُميان وأُمّيًّا في أُمّيين».
وقد يكون مما يعين الباحثينعلى تتبّع الموضوع واستقصائه أن نذكر ما ورد في عدد من كتب التفسير الأخرى، وخاصةً ما فيه زيادة على ما ذكرنا أو اختلاف ولو في بعض الألفاظ:
فمن ذلك ما ذكره ابن عطيّة (ت 546) في تفسير الأميين في آية سورة البقرة [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ...] قال35: «وأميون هنا عبارة عن جَهَلَة بالتوراة، قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين، فالآية منبّهة على عامتهم وأتباعهم، أي أنهم ممن لا يُطمَع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال. وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين. وقال عِكْرِمة والضحّاك: هم في الآية نصارى العرب. وقيل عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: هم المجوس... قال القاضي أبو محمد [هو ابن عطيّة] رحمه الله: وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال... والأميّ في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسبة إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها. وقيل نُسب إلى الأمة وهي القامة والخِلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك، وقيل نُسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف فإنها لا تقرأ ولا تكتب...».
وكرّر ابن عطيّة أكثر هذه المعاني للأميين، باختصار، في حديثه عن الآية الأولى من سورة آل عمران36، أما في الآية الثانية من السورة فاكتفى بقوله37: «والأميون: القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة، وقد مرّ في سورة البقرة اشتقاق اللفظ...».
وقال في حديثه عن لفظ (الأمي) في آية سورة الأعراف38: «والأميّ، بضم الهمزة، قيل نُسب إلى أم القرى، وهي مكّة. قال القاضي أبو محمد واللفظة على هذا مختصة بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وغير مضمّنه معنى عدم الكتابة...».
وكذلك أعاد ما كان قد قاله في تفسير الأميين في الآيات السابقة وذلك عند حديثه عن آية سورة الجمعة، وليس فيه ما نذكره هنا إلا قوله39: «وقيل وهو منسوب إلى أمّ القرى وهي مكة، وهذا ضعيف لأن الوصف بالأميين على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب...».
أما فخر الدين الرازي (ت 604) فيقول في تفسير (الأميين) في آية سورة البقرة40: «اختلفوا في الأمّيّ فقال بعضهم هو من لا يُقرّ بكتاب ولا برسول، وقال آخرون من لا يحسن الكتابة والقراءة، وهذا الثاني أصوب لأن الآية في اليهود، وكانوا مُقرّين بالكتاب والرسول، ولأنه (صلى الله عليه وسلم) قال: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)، وذلك يدلّ على هذا القول، ولأن قوله ]لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [لا يليق إلا بذلك». وهذا القول الثاني والاستشهاد بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يحتاجان إلى فضل بيان.
وحين تحدث عن الآية الأولى في سورة آل عمران، قال41«إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين، الأول: أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أميون تشبيهًا بمن لا يقرأ ولا يكتب. والثاني: أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم، والله أعلم.
وفسّر الأميين في الآية الأخرى من سورة آل عمران بأنهم (العرب) وذلك لأنهم42«يقولون ليس علينا فيما أصَبْنا من أموال العرب سبيل...».
وكرر تفسير الأميين بأنهم العرب في آية سورة الجمعة وفي آيتي سورة الأعراف. قال في الأولى43: «الأمي: منسوب إلى أمة العرب، لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم، ولا يقرأون كتابًا ولا يكتبون. وقال ابن عباس: يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبيّ بُعث فيهم. وقيل: الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه...».
وليس في تفسيره لهذه الكلمة في آيتي سورة الأعراف ما يختلف عما قدمناه ولا ما يزيد عليه.
وأما القُرطبيّ (ت 671) فقد جمع كثيرًا من الآراء التي وردت في كتب التفسير السابقة، ولم يأتِ بجديد، فلم أر ما يدعو إلى الاستكثار بالاستشهاد بما ذكره.
ومن تمام الموضوع أن أشير إلى ما أورده بعض المُحْدَثين في تفسير لفظ (الأميين). ومن هؤلاء:
سيّد قُطْب الذي فسّر لفظ الأميين في الآية الأولى من سورة البقرة ]وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [ بالجهل، وشرح الآية بقوله44: «يقصّ على المسلمين من أحوال بني إسرائيل: أنهم فريقان، فريق أميّ جاهل لا يدري شيئًا من كتابهم الذي نزل عليهم ولا يعرف منه إلا أوهامًا وظنونًا، وإلا أماني في النجاة من العذاب بما أنهم شعب الله المختار... وفريق يستغلّ هذا الجهل وهذه الأميّة فيزوّر على كتاب الله...».
وفسّر اللفظة في الآية الأولى من سورة آل عمران بأنها تعني (المشركين)45.
وشرحها في الآية الثانية من السورة بقوله46: «كانوا يعنون بهم العرب، وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود».
وشرحها في آيتي الأعراف بقول47: «النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية- كما خرجت من يد الله- إلا تعليم الله. فلم تَشُبْ هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس...».
ويفسرها في آية سورة الجمعة بأنهم العرب48. ثم قال: «قيل إن العرب سُمُّوا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، في الأعمّ الأغلب... وقيل: إنما سُمِّي من لا يكتب أمّيًّا لأنه نُسب إلى حال ولادته من الأمّ لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم. وربما سُمُّوا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم إنهم (جوييم) باللغة العبرية أي أمميون، نسبة إلى الأمم- بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم، والنسبة في العربية إلى المفرد.. أمة.. أميون. وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة.».
* * *
وأقول: إن هذا هو التفسير الصحيح للفظة (الأميين) في جميع الآيات التي وردت فيها هذه اللفظة وليس «بالنسبة إلى موضوع السورة» هذه وحدها.
ومن أجل أن أوضّح ذلك لا بدّ لي من أن أسترجع بعض ما ذكرته في أول هذه الدراسة وأن أضيف إليه ما يزيده بيانًا، وذلك على الصورة التالية:
أولًا- أن المفسّر هو ابن عصره وابن ثقافته، ولا يستطيع أن يتجاوز معارف عصره وثقافته إلا من أتاه الله من المعرفة ما لم يؤتِ أهل ذلك العصر وخصّه بعلمٍ سبق فيه أهل زمانه، وربما كان ابن عبَّاس، وهو حَبْر هذه الأمّة، أحد هؤلاء. وكان أولئك النفر من المفسّرين يخاطبون الناس بما يفهمونه، ويشرحون لهم شرحًا يستطيعون إدراك مراميه.وقد أشار الأزهريّ إلى ذلك في حديثه عن قوله تعالى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ...] [البقرة: 178]، قال49: «وهذه آية مشكلة، وقد فسَّرها ابن عبّاس ثم مَنْ بَعْدَه تفسيرًا قرّبوه على قَدْر أفهام أهل عصرهم، فرأيت أن اذكر قول ابن عبّاس وأؤيّده بما يزيده بيانًا ووضوحًا...» وبعد مستفيض قال: «وما علمت أحدًا أوضَحَ من معنى هذه الآية ما أوضحتُه...».
ثانيًا- أن قوله تعالى عن اليهود (ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل...) ويُفْهَمُ منه- والله أعلم- أن هذه اللفظة هي من لغتهم، وهي- إنْ صحّ هذا الفهم- عبرية الأصل والاستعمال. ذلك بأن اليهود كانوا يقسمون الناس قسمين: شعبَ الله المختار، وهم اليهود أو بنو إسرائيل أنفسهم، والجوييم أو الغوييم، أي «الأمم»ومفردها «جوي» أو «غوي»(Goy) وهم كل من سواهم، تهوينًا من شأنهم واحتقارًا لهم. وقد تُرْجِمَتْ هذه اللفظة أحيانًا بلفظة «الشعوب» وأحيانًا بلفظة «الأجانب» وتكرر ورود هذه الكلمات الثلاث في كتبهم وتُرجِمت إلى الإنجليزية بلفظة Goyim وما يشبهها بالفرنسية وغيرها. كانوا يقصدون بهم في أول الأمر: الوثنيين ثم أضافوا إليهم النصارى، وبذلك شملوا كل من ليس يهوديًّا. وكانوا يستحلون دماء هؤلاء «الأمم» وأعراضهم وأموالهم، ويَعدُّونهم فاسدين وأنجاسًا، والنصوص والقصص المنقولة عنهم في ذلك كثيرة سواء في التوراة أو التلمود من أقوال الأحبار، أو من إشارات في الأناجيل ورسائل النصارى المتعددة. وحسبي هنا أن أستشهد بنص واحد من الإصحاح العشرين من سِفْر «التثنية» (10- 18) وهو50«حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعيها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُسْتَعْبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الربُّ إلهُك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاها الربُّ إلهُك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الربُّ إلهُك نصيبًا فلا تستبقِ منها نسمة ما، بل تحرمها51 تحريمًا الحثيين والأموريين والكنعانيين والفِرْزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الربُّ إلهُك، لكي لا يلّموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهمالتي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم».
فـ «الأميون» إذًا إنما هي نسبة إلى «الأمة»مفرد«الأمم» أي «الجوبيم» أو «الغوييم». والنسبة في اللغة العربية تكون في الغالب الأعمّ إلى المفرد، وحين يكون الاسم جمعًا يُرْجَعُ إلى مفرده ويُنْسَبُ إليه، فيقال «الأميون» نسبة إلى الأمّة. وقد وردت كلمة «الأمم» و«الأمميين» في عدة مواضع من العهدين القديم والجديد. بهذا المعنى في مقابل اليهود.
وقد طوّف عبّاس محمود العقّاد حول هذه المعاني لكلمة الأميين، دون أن يذكر اللفظة العبرية (جوييم)، وذلك في مقالة له، قال52«فالكلمة بصيغة الجمع قد وردت في السور المدنية خطابًا لأهل الكتاب أو ردًّا عليهم، ومعظمهم من اليهود منكري الدعوة المحمدية من سكان المدينة التي تنزلت فيها تلك الآيات. والمهم في تفسير معنى الكلمة أن نرجع إلى معناها عند أهل الكتاب، ولا سيما اليهود. فالمحقَّق الذي لا شك فيه أن أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين أجمعين كانوا إلى ما بعد ظهور الدعوة الإسلامية يقسمون العالم إلى قسمين: بني إسرائيل، والأمم التي ليست منهم، ويزعم اليهود- أن بني إسرائيل وحدهم هم أهل النبوة والرسالة الذين اختصهم الله دون سواهم من العالمين بالكتب المنزلة والأنبياء المرسلين، وأن من عداهم من الأمم لا نبوة فيهم ولا كتاب لهم وليسوا من الموعودين بالهداية والرضوان. وفي كتب العهدين القديم والجديد عشرات المواضع وردت فيها كلمة (الأمميين) في مقابلة اليهود عند التحدث عن الأفراد من الرجال والنساء. ومن أمثلة ذلك ما ورد بالإصحاح السابع من إنجيل مرقس، وفيه: (إن امرأة كان بابنتها روح نجس سمعت به فأتت وخرت عند قدميه، وكانت المرأة أممية وفي جنسها فينيقية سورية) وجاء في الإصحاح الثاني من رسالة بولس إلى أهل غلاطية: (لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل قلت لبطرس أمام الجميع: إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًّا لا يهوديًّا فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا. نحن بالطبيعة يهود ولسنا من الأمم خطاة). فلا خلاف في أن كلمة الأمميين عن أهل الكتاب كانت تعني غير اليهود في صفة الفرد أو الجماعة، ولا خلاف في أن النسبة إلى الأمم بالعربية تلحق بالاسم المفرد لا بالجمع، وفاقًا لقاعدة النسبة في اللغة العربية، فيقال (الأميون) بحسب هذه القاعدة ولا يقال الأمميون. ومن كلام اليهود الذي لزمتهم فيه حجة القرآن الكريم قولهم أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل... ويجب أن نتريث طويلًا عند قوله تعالى: [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون]. فاليهودية قد دخل فيها أناس من الأمم غير بني إسرائيل، فهم بطبيعة الحال لا يقرأون العبرية ولا الآرامية، ولا يزيد علمهم بصلوات الكتاب على التأمين عند انتهاء الكاهن إليه (آمين آمين). أما التعليلات الكثيرة التي وردت في الأقوال الشائعة عن أصل كلمة (الأمي) فمصدرها الجهل بما في كتب اليهود وما في عباداتهم من الشعائر والصلوات...».
ويستمر العقاد في قوله: «فليس أصح في تفسير الكلمة من أنها وردت على الاستعارة والتغليب للمقابلة بين أهل الكتاب وغير أهل الكتاب. وينبغي أن يتأنى المتعجلون فلا ينكروا أن أهل الكتاب كانوا يسمون العرب وغيرهم من الأجانب عنهم بالأميين، فإن ثبوت هذه الحقيقة أمر وراء كل خلاف، ومن الوزر أن يحمل الجاهل جهله على شيء يرد في القرآن الكريم. فاليهود، إذا قالوا كلمة (الأميين) فإنما يعنون بها غير بني إسرائيل ما في ذلك جدال ولا محال. ولا يمنع ذلك أن تطلق كلمة (الأمي) على من يجهل القراءة والكتابة حيث تستعار للمقابلة بين قراء الكتاب وغير قرائه، وبخاصة حين نبحث عن مرجع للمعنى فلا يستقيم لنا في نسبتها إلى الأم أو إلى السواد أو إلى أم القرى. ولنقل عن يقين أن كلمة الأمي أطلقت على من يجهل القراءة والكتابة، ولكن لا نخطئ فنجعل ذلك موقوفًا على إنكار كلمة الأميين كما وردت في أقوال لا عداد لها قبل مولد النبي عليه الصلاة والسلام.».
ثالثًا- ويستدعي البحث أن نقف قليلًا عند الآية الأخيرة التي استشهد بها العقاد وعند شرحه لها. فقوله تعالى ]ومنهم أميون...[ مرتبط أوثق ارتباط بالآيات السابقة عليها وبالآية التي تليها. أما الآيات السابقة لها فهي سبع وثلاثون تبدأ من الآية الأربعين في قوله ]يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي...[ثم كرر ذكر (بني إسرائيل) وذكر موسى وقومه في الآيات التي بعدها إلى قوله ]وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ[ فالضمير في (منهم) يعود على بني إسرائيل. وهو ما ذهب إليه المفسّرون، مثل الطبري الذي قال53«يعني بقوله جلّ ثناؤه [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ]: ومن هؤلاء اليهود الذين قصّ الله قصصهم في هذه الآيات...» وروى عن بعض الصحابة ما يسنُد قوله. ومما رواه عن ابن عبّاس قوله الذي ذكرناه من قبل وهو «الأميون قوم لم يصدّقوا رسولًا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقومٍ سِفْلة جُهّال: هذا من عند الله. وقال قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سمَّاهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله».
وهذا القول من ابن عبّاس يجعل فهم الآية مستقيمًا إذ كيف يكونون أميينبمعنى لا يعرفون القراءة والكتابة ثم يصفهم الله تعالى في الآية التالية بأنهم (يكتبون)ويتوعدهم بقوله: [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ].
وحين فسّر الطبري هذه الآية لم يربطها بالآية السابقة التي أنكر على ابن عباس رأيه في شرح (الأميين) فيها وقال عنه «وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن (الأمي) عند العرب: هو الذي لا يكتب» ولكنه ما لبث أن أخذ يفسّر هذه الآية تفسيرًا يتفق مع رأي ابن عباس، بل لقد استشهد في دَرْج تفسيره بكلمات ابن عباس نفسها في قوله الذي ذكرناه54 ثم شرح قوله تعالى [بأيديهم، فقال55: «إن قال لنا قائل: وما وجه قوله: ]فَويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم]؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطَبون بهذه المخاطبة، إلى أن يُخبَروا عن هؤلاء القوم- الذين قصّ قصّتهم- أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟ قيل له: إن الكتاب من بني آدمَ، وإن كان منهم باليد، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولّي رسم خَطّه فيقال: (كتب فلان إلى فلان بكذا)، وإن كان المتولّي كتابته بيده، غيرَ المضاف إليه الكتاب، إذا كان الكاتبُ كتَبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعْلَمَ ربُّنا بقوله: [فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ] عبادَه المؤمنين، أنّ أحبارَ اليهود تَلي كتابة الكذب والفِرْية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تَنْحَله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، تكذّبًا على الله وافتراءً عليه. فنفَى جل ثناؤه بقوله: [يكتبون الكتاب بأيديهم]، أن يكون ولي كتابةَ ذلك بعض جُهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظيرُ قول القائل (بَاعني فلانٌ عينُه كذا، وكذا، فاشترى فلانٌ نفسُه كذا)، يراد بإدخال (النفس والعين) في ذلك، نفيُ اللَّبس عن سامعه، أنْ يكون المتولَّي بيعَ ذلك أو شراءَه، غيرُ الموصوف له بأمره، ويوُجب حقيقةَ الفعل للمُخبَّر عنه. فكذلك قوله [فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِم].
فهذه الآية صريحة الدلالة على أن لفظة (الأميين) لا تعني- في أصل وَضْعها فيما وردت فيه في كتاب الله- الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. كذلك فَهِمها عبد الله بن عباس وكذلك شرحها- في هذا الموضع- الطبري، بل إنهما ذهبا إلى أن (الأميين) هنا (يكتبون بأيديهم) كما هو نصّ الآية. وقد زاد العقّاد معنى آخر بقوله: «فاليهودية قد دخل فيها أناس من الأمم غير بني إسرائيل، فهم بطبيعة الحال لا يقرأون العبرية ولا الآرامية...» وما ذكره من دخول أقوام آخرين في اليهودية صحيح من حيث هو حقيقة تاريخية، ولكنّ وصْفَه إياهم بأنهم لا يعرفون القراءة ينقض كلامه الذي أدار عليه مقالته، ويختلف مع نصّ الآية الكريمة هنا من أنه لا علاقة لِلَّفْظة بجهل القراءة. وإذا كانوا لا يعرفون قراءة العبرية ولا الآرامية فهل كانوا يقرأون لغة أخرى كانت تقرأ وتكتب في ذلك الزمان؟
وأُضِيف توضيحًا ثالثًا هو: أن من معاني (غوييم) أيضًا: اليهود الذين لا يؤدّون الشعائر الدينية، وفقًا لما ورد في تفسير اللفظ في المعاجم العبرية56. وهو معنى قريبٌ من تفسيرِ ابن عباسِ الذي ذكرناه وذلك قوله: «قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سمَّاهم (أميين) لجحودهم كتبَ الله ورسلَه». ويوضّح هذا المعنى ويؤكّده ما ورد في رسالة بولُس إلى أهل غَلاطِيَّة57 في قوله: «لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسَب حقِّ الإنجيل قلتُ لبطرس قدَّام58 الجميع: إنْ كنت وأنت يهودي تعيش أُمميًّا لا يهوديًّا، فلماذا تُلْزِم الأمم أن يتهودوا، نحن بالطبيعة59 يهود ولسنا من الأمم خطاة». وقد مرَّ بنا هذا النصّ في مقالة العقّاد.
وموضوع آخر للتوقف والتدبّر في بيان معنى لفظة (الأميين) هو ما ورد في آيتي سورة الجمعة من قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ][الجمعة: 2، 3]، فإن الضمير في كلمة (منهم) في الآية الثانية (أي في قوله تعالى: وآخرين منهم) يعود إلى (الأميين) في الآية السابقة، قال الطبري60: (فآخرون في موضع خفض عطفًا على (الأميين). وقد اختُلِف في الذين عُنُوا بقوله ]وآخرين منهم[ فقال بعضهم عَنَى بذلك العجم... وقال آخرون إنما عَنَى بذلك جميعَ مَنْ دخل في الإسلام مِن بعدِ النبي (صلى الله عليه وسلم) كائنًا من كان إلى يوم القيامة». ورأى الطبري أن الرأي الثاني هو أولى بالصواب. فإذا كان ذلك كذلك فكيف يكون كلُّ من دخل في الإسلام بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى يوم القيامة هم من (الأميين) بمعنى الذين لا يقرأون ولا يكتبون؟
وبقي أن نسترجع ما قاله الطبري في ردّه لرأي ابن عباس في تفسير الأميين من أنه تعالى «قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سمَّاهم أميين، لجحودهم كُتُب الله ورُسُله.» قال الطبري: «وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يُعْرَف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن (الأمي) عند العرب، هو الذي لا يكتب» وهذا صحيح في زمن الطبري وما قبله منذ نزلت هذه الآيات وفسّرها المفسرون- توسعًا ومجازًا- بالذين لا يكتبون، ثم استمرّ هذا المعنى إلى يومنا هذا. أما قول الطبري إنّ هذا هو معناها الذي «يُعْرَف من كلام العرب المستفيض بينهم» فهو إسقاط لما هو شائع من المعنى بعد نزول الآيات، ثم في زمن الطبري، على أصل اللفظة ومعناها الذي لم (يعرفه كلام العرب) قبل نزول الآيات ولم يكن (مستفيضًا بينهم) كما وضّحتُ ذلك بالأمثلة المتكررة السابقة.
* * *
وأحسبني قد استوفيت الحديث عن هذا الجانب من لفظة (الأميّ) و(الأميين) وبيان المقصود بهما61، ولعلّي قد بلغتُ من ذلك مبلغًا هو إلى الترجيح الواضح الذي يقرب من اليقين، إن لم يكن هو اليقين ذاته. والله تعالى أعلم بمراده.
وبقي أن أتحدث عن جانب آخر لابدّ من التطرّق إليه دفعًا لأي التباس واستكمالًا لما قد يَعْتوِر البحث من نقص. وهو أن عدم معرفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقراءة والكتابة لا يُسْتَدَلّ عليها بهذه الآيات، وإنما آية أخرى أراها صريحة قاطعة، وهي [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ][العنكبوت: 48].
وقد توقف بعض المفسرين والفقهاء عند هذه الآية، وخاصة عند قوله تعالى (من قَبْله) وأطالوا القول فيها، وكان ممن أشار إلى ذلك ابن عطية62، وابن كثير63. ولكن القرطبي استوفى الحديث في الموضوع وجمع ما تفرّق في كتب التفسير فجاء كلامه في نصٍّ طويل أراني مضطرًّا إلى اقتباسه بكامله، لأن الموضوع دقيق لا يحتمل الاختصار الذي قد يُخِلّ باستيفاء المعنى، قال64: «ذّكَر النقَّاش في تفسير هذه الآية عن الشَّعبيّ أنه قال: ما مات النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى كتب. وأسند أيضًا حديث أبي كَبْشة السَّلُولي؛ مُضَمَّنه: أنه (صلى الله عليه وسلم) قرأ صحيفة لعُيَيْنة بن حِصْن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه65. قلت: وقع في صحيح مسلم من حديثِ البَرَاء في صلح الحُدَيْبِية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لعليّ: (اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى عليه محمد رسول الله) فقال المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك- وفي رواية بايعناك- ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فأمر عليًّا أن يمحوها، فقال عليّ: والله لا أمحاه66. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (أرني مكانها) فأراه فمحاها، وكتب: ابن عبد الله. قال علماؤنا رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله- (صلى الله عليه وسلم)- بيده، وكتب مكانها: ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا. فقال: فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ور يُحْسِن أن يكتب67. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم السمناني وأبو ذرّ68 والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميًّا، ولا معارَض بقوله [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ] ولا بقوله: (إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب) بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب من غير تعلمٍ لكتابة، ولا تعاطٍ لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركاتٍ كانت عنها خطوطٌ مفهومُها (ابن عبد الله) لمن قرأها، فكان ذلك خارقًا للعادة؛ كما أنه عليه السلام عَلِم عِلْمَ الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم في فضائله. ولا يزول عنه اسم الأميّ بذلك؛ ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يُحْسِن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأميّ مع كونه قال كتب».
ويواصل القرطبي كلامه: «قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقة الأندلس وغيرهم، وشدّدوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا؛ لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح، ولاسيما رِمْيُ من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخيار آحادٍ صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها. وليس في الشريعة قاطعٌ يحيل وقوعها. قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تُنْكَر لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أميًّا لا يكتب؛ وبكونه أميًّا في أمة أميَّة قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يُطْلِقُ اللهُ تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا. وإنما معنى (كتب) و(أخذ القلم) أي أمر مَنْ يكتب به من كُتّابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه (صلى الله عليه وسلم) ستة وعشرون كاتبًا. ل[و] ذكر القاضي عِياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: (أَلقِ الدواة وحرّف القلَم وأقم الباء وفرّق السين ولا تُعور الميم وحسّن الله ومدّ الرحمن وجوّد الرحيم) قال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه (صلى الله عليه وسلم) كتب فلا يَبْعُد أن يُرزَق عِلْمَ هذا، ويُمنَع القراءة والكتابة. قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفًا واحدًا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجَّى. فإن قيل تهجَّى النبي (صلى الله عليه وسلم) حين ذكر الدجَّال فقال (مكتوب بين عينيه ك ا ف ك ر) وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أميًّا، قال الله تعالى: ]وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ[ الآية وقال: (إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب) فكيف هذا؟ فالجواب ما نصّ عليه (صلى الله عليه وسلم) في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسّر بعضه بعضًا. ففي حديث حذيفة (يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب) فقد نصّ في ذلك على غير الكُتَّاب ممن يكون أميًّا. وهذا من أوضح ما يكون جليًّا.»
وأوجز المرتضَى الزَّبِيديُّ الحديثَ في الموضوع ببيان أوضح، فقال69:«وادَّعى بعضهم أنه صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها لقوله تعالى ]مِنْ قَبْلِهِ[ في الآية، فإن عدم معرفته بسبب الإعجاز، فلما اشتهر الإسلام وأُمِنَ الارتيابُ عَرَفَ حينئذ الكتابة. وقد روى ابن أبي شيبة وغيره: ما مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى كتب وقرأ. وذكره مجالد70 للشعبي فقال: ليس في الآية ما ينافيه. قال ابن دحية: وإليه ذهب أبو ذرٍّ وأبو الفتح النيسابوري والباجي، وصنّف فيه كتابًا، ووافقه عليه بعض علماء إفريقية وصقلية. وقالوا: إن معرفة الكتابة بع أمّيته لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى بعد معرفة أميته وتحقُّق معجزته، وعليه تتنزل الآية السابقة والحديث، فإن معرفته- من غير تقدُّمِ تعليمٍ- معجزةٌ. وصنف أبو محمد بن مفوز كتابًا ردّ فيه على الباجي وبيَّن خطأه...».
* * *
وبعد،
فقد وصل بي الحديث إلى غايته، ولو أردت هنا كلَّ ما في كتب التفسير الأخرى التي اطّلعت عليها: قديمها وحديثها، أوكلّ ما في كتب اللغة والأدب، لامتدَّ الحديث وتَشَعَّبَ دون أن يضيف شيئًا جديدًا يختلف عما أوردت.
والحمد لله الذي وفَّق وأعان، غفرانَك ربَّنا وإليك المصير.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد ، 2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 111-137. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني |