إسهامات صلاح الدين المنجد في تأصيل علوم المخطوط العربي

شارك:

عبد الستار الحلوجي

محتويات المقال:
- الكتابة عن صلاح الدين المنجد
- مجلة معهد المخطوطات
- معهد المخطوطات
- دراسة عن الخط العربي والتراث العربي المخطوط
- القواعد والأسس لعلوم المخطوط العربي

الكتابة عن صلاح الدين المنجد

من اليمين: المستشرق الألماني جوستاف قون جرونبوم، الدكتور صلاح الدين المنجد، والسير هاملتون جيب

الكتابة عن صلاح الدين المنجد كالخوض في أعالي البحار، لا يجرؤ عليه إلّا من يجيد السباحة حتى لا يجرفه التيار ويبتلعه الماء. فهو رجل متنوع الثقافة غزير الإنتاج. يجيد الغوص في الأعماق، ويعرف كيف يستخرج منها اللآلئ دون الأصداف. بلغ نتاجه العلمي أكثر من مائتي كتاب1 في فنون متنوعة، ثلثها- تقريبًا- نصوص محققة. استمع إليه يقول عن نفسه: «أما ثقافتي فهي ثقافة متنوعة. كان الأقدمون يصفون الذي يحيط بجميع العلوم ويأخذ بطرف من كلٍّ منها بأنه عالم مشارك. وكان يعجبني هذا الاسم، فبدأتُ حياتي أديبًا... ثم حدث حادث جعلني أهتم إلى جانب الأدب بالتراث والتاريخ»2 و«إن مؤلفاتي هي انعكاس لثقافتي. نَشَّأْتُ نفسي أن أكون عالمًا مشاركًا في جميع نواحي الثقافة العربية الإسلامية، لذلك تجدون في مؤلفاتي ألوانًا من هذه الثقافة»3. وهو يفسر لنا سرّ غزارة إنتاجه بقوله: «كان الكثيرون يُعجبون من كثرة تأليفي فكنت أضحك. لقد كان لديّ مفتاح التأليف الأول وهو الثقافة المشاركة في كل علم عرفه العرب، ومكتبتي التي كانت تمدني بكل مصدر أريده في أي موضوع فلا أحتاج إلى الذهاب إلى مكتبة ولا استعارة كتاب. كان في مكتبتي ثلاثون ألف كتاب»4.

فنحن إذًا بصدد رجل موسوعي في عصر انعدمت فيه الصفة الموسوعية أو كادت تنعدم نتيجة لتضخم حكم المعرفة وتنوعها وتشابكها. رجل كتب في الأدب والتاريخ والآثار والسياسة، وألّف في التراجم والسِّيَر والموضوعات الإسلامية، وأصدر دراسات عن الاستشراق والمستشرقين، ونشر أعمالًا ببليوجرافية ضخمة وفهارس للمخطوطات الموجودة في عدة مكتبات.

فمن تصانيفه الأدبية: رثاء المدن في الشعر العربي- أمثال المرأة عند العرب- مؤلفات الحب عند العرب.

ومن مؤلفاته التاريخية: الحوادث الكبرى في عصر بني أمية- دراسات عن الخلفاء الأمويين- ولاة دمشق في العهد العثماني.

ومن كتبه في التراجم: أعلام التاريخ والجغرافيا عند العرب- معجم الخطاطين والنساخين والمصورين والمزوقين في الإسلام- ابن مقلة- أشهر الخطاطين في الإسلام؛ ياقوت المستعصمي- فيصل بن عبد العزيز.

ومن مؤلفاته في السياسة: أعمدة النكبة؛ أسباب هزيمة حزيران 1967- بلشفة الإسلام- التضليل الاشتراكي- خصومات دبلوماسية- سورية ومصر بين الوحدة والانفصال.

ومن دراساته الأثرية: دمشق القديمة؛ أسوارها، أبراجها، أبوابها- مساجد دمشق؛ نصوص ودراسات.

ومن كتاباته الإسلامية: الإسلام والعقل- المجتمع الإسلامي في ظل العدالة- التاريخ الدبلوماسي في الإسلام.

ومن دراساته عن الاستشراق والمستشرقين: المستشرقون الألمان؛ تراجمهم وما أسهموا به في الدراسات العربية.

وإلى جانب مؤلفاته التي تجاوزت المائة كتاب، حقق صلاح الدين المنجد أكثر من سبعين من المخطوطات العربية في التاريخ والجغرافيا والأدب، واهتم بصفة خاصة بكل ما يتصب بدمشق. ففي التاريخ والتراجم حقق كتبًا منها: أنساب الأشراف وفتوح البلدان، وكلاهما للبلاذري، كما حقق الجزء الأول من سِيَر أعلام النبلاء للذهبي، وفضائل الشام ودمشق للربعي، والمجلدة الأولى والقسم الأول من المجلدة الثانية من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، وأمراء دمشق في الإسلام للصفدي.

وفي الأدب واللغة حقق: ديوان أبي محجن الثقفي، وكتاب أدب الغرباء لأبي الفرج الأصفهاني، ونزهة الجلساء في أشعار النساء للسيوطي، والألفاظ المهموزة لابن جني، وغيرها.

وفي الدين حقق بعض فتاوى ابن تيمية مثل فتواه في معاوية بن أبي سفيان وفي يزيد بن معاوية، كما حقق المجلدين الأولين من شرح أبي بكر محمد بن سهل السرخسي لكتاب السِّيَر الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني، وهو أول كتاب يتكلم عن القانون الدولي العام.

وفي الدبلوماسية حقق رسُل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة لابن الفراء، ونال عنه جائزة المجمع العلمي العربي بدمشق لأحسن نص قديم محقق.

وإلى جانب التأليف والتحقيق، نشرت له أعمال ببليوجرافية هامة منها:معجم المخطوطات العربية وهو كتاب في خمسة أجزاء يغطي «ما ظهر في البلاد العربية والإسلامية والغربية من النصوص القديمة»5في الفترة من 1954 حتى 19806 ويعدّ أداة ببليوجرافية أساسية يسترشد بها من يتصدى لتحقيق أي مخطوط أو نشره.

ومنها أيضًا معجم ما أُلِّف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من المطبوعات والمخطوطات وأماكن وجودها. كما نُشرت له عدة فهارس للمخطوطات مثل:فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الكونغرس، وفهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأمبروزيانا.

وفوق هذا كله ترجم شذرات من الطبعة الأولى من كتاب Introduction to the History of the Muslim East: a Bibliographical Guide الذي ألفه جين سوﭬاجيه Jean sauvaget للتعريف بمصادر التراث الإسلامي7 ونشرت الترجمة عن دار العلم للملايين ببيروت سنة 1947 في 183 صفحة باسم رائد التراث العربي.

ومعنى هذا أننا أمام نهر زاخر بالعطاء المتجدد، وأننا نتعامل مع مؤلف ومحقق وببليوجرافي ومفهرس يتميز إنتاجه بالخصوبة والتنوع والثراء، ولا يستطيع باحث أن يكتب عن المخطوط العربي دون أن يرجع إليه، فلا يخلو جانب من الجوانب الأساسية في دراسة المخطوط من رأي له أو إضافة جديرة بالتنويه والاعتبار. ولولا أن له جناحين قويين ما استطاع أن يحلق في تلك الآفاق الرحبة من سماء الفكر والإبداع.

مجلة معهد المخطوطات العربية

ولكن الذي يعنينا من هذا الفيض الغزير من الإنتاج هو جهوده البارزة في حقل التراث بصفة عامة، وفي تأصيل علوم المخطوط العربي على وجه الخصوص. وقد تمثلت هذه الجهود في عدة مظاهر:

أولها: إصدار مجلة معهد المخطوطات العربية إثر تعيينه مديرًا للمعهد في سنة 1955 «وكان من أبرز وأنشط رؤساء المعهد» كما شهد بذلك المرحوم الدكتور محمود الطناحي8 الذي يقول عنه: «لم أعرف هذا الرجل ولم ألتق به.. لكني في خلال عملي بالمعهد- الذي استمر خمسة عشر عامًا- كنت أحسّ بصماته ولمساته في جميع أرجاء المعهد. فهذه شهادة أؤديها على وجهها»9.

ومجلة معهد المخطوطات هي أول مجلة علمية عربية تعنى بشئون المخطوطات والتعريف بها وبأماكن وجودها ورصد ما نشر منها. «وقد أصابت هذه المجلة نجاحًا كبيرًا- وبخاصة في أعدادها العشرة الأولى- وكتب فيها كبار العلماء في الشرق والغرب»10، وأثراها المنجد بكتاباته المتميزة خلال السنوات الست التي تولى فيها إدارة المعهد (من 1955 حتى 1961) فلم يَخْلُ عدد من الأعداد التي صدرت في تلك الفترة من إسهاماته، تعريفًا بمخطوطات تم تحقيقها ونشرها مثل:خريدة القصر للعماد الأصفهاني، تحقيق شكري فيصل11ومشاهير علماء الأمصار لمحمد بن حبان البستي، تحقيق فلايشهمر12أو بفهارس وببليوجرافيات لمخطوطات مثل فهرست المخطوطات بدار الكتب المصرية، المجلد الأول: مصطلح الحديث، وضع فؤاد سيد13، والمخطوطات التاريخية في خزانة كتب المتحف العراقي ببغداد، وضع كوركيس عواد14، أو تعريفًا بنوادر المخطوطات العربية في العالم شرقه وغربه مثل:«نوادر المخطوطات في المغرب»15و«نوادر المخطوطات في مكتبة ملك بطهران»16، وتقرير عن نوادر المخطوطات في ليننغراد وطشقند17.

معهد المخطوطات العربية

وثانيها: اهتمامه بإيفاد بعثات من معهد المخطوطات لتصوير أهم المخطوطات العربية في مكتبات العالم، فقد طوَّف بالآفاق خلال فترة إدارته للمعهد، واكتسب خبرة هائلة بمظان المخطوطات العربية والإسلامية، وساعده حسّ مرهف دقيق، وثقافة واسعة على اكتشاف نوادر المخطوطات والتنويه بها. وفي ذلك يقول: «قمنا أنا وبعض موظفي المعهد برحلات في بلاد العالم لتصوير المخطوطات فيها، فأتيح لي أن أبلغ ليننغراد وموسكو وطشقند وبخارى وسمرقند، وأن ازور مكتبات طهران ومشهد، ومكتبات باكستان والهند، وأن انعم بمخطوطات تونس والمغرب، وأن أدخل مكتبات الفاتيكان والأمبروزيانا... وأن افيد من مكتبات توبنجن وغيرها في ألمانيا. وتعداد ما زرته من المكتبات في العالم يطول، ولا أبالغ إذا قلت إني رأيت بعيني من المخطوطات ما لم يره غيري. وقد صورنا الكثير من المخطوطات النادرة أو ذات الشأن للمعهد، وبلغت ألوفًا كثيرة»18.

دراسة عن الخط العربي والتراث العربي المخطوط

وثالثها دراسة عن الخط العربي، ومنها: الخط العربي من الناحية الحضارية، ودراسات في تاريخ الخط العربي، والكتاب العربي المخطوط إلى القرن العاشر الهجري الذي صدر منه الجزء الأول متضمنًا نماذج مصورة من المخطوطات العربية في ترتيب تاريخي، وكان المأمول أن يظهر جزء ثان يتضمن دراسة تلك النماذج19. ومنها أيضًا دراسته عن إسهامات المرأة في مجال الخط العربي وعنوانها:

«Women's roles in the art of Arabic calligraphy»20

ورابعها: ما حققه من رسائل ونصوص تراثية عن الخط العربي مثل: جامع محاسن كتابة الكتّاب للطيبي، وعدة الكتّاب في البري والكتاب لابن مقلة.

وخامسها: ما كتبه من دراسات عن التراث العربي المخطوط ونشره، مثل: «ماذا ننشر من المخطوطات القديمة وكيف ننشره»21، و«من مشكلات التراث العربي»22، و«جهود المستشرقين في تحقيق التراث العربي»23 و«منهج نشر التراث في أوائل القرن الرابع عشر الهجري»24.

القواعد والأسس لعلوم المخطوط العربي

أما سادسها وأهمها فهو إرساء القواعد والأسس لعلوم المخطوط العربي. فقد استرعى انتباهه ما تتسم به كتب التراث المحققة من تفاوت واضطراب في المنهج. فأقدم على وضع قواعد للتحقيق نشرت في مجلة معهد المخطوطات العربية في عام 195525 ، وقدمت إلى مؤتمر المجامع العلمية الذي انعقد بدمشق سنة 1956 وشارك فيه أعضاء مجامع القاهرة ودمشق وبغداد، فأحالها المؤتمر إلى لجنة التراث العربي لدراستها، وقد أقرتها تلك اللجنة مع بعض التعديلات «رغبة في توحيد قواعد نشر المخطوطات في البلاد العربية»26، «ولتكون دليلًا للمحققين عندما ينشرون النصوص القديمة»27 . وقد أعيد طبع هذه القواعد أكثر من خمس مرات، وترجمت إلى ست لغات هي الفرنسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية والفارسية والتركية28 .

وفي صيف عام 1972 دعي المنجد لإلقاء مجموعة من المحاضرات عن فهرسة المخطوطات العربية في دورة نظمتها جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وقد جمع تلك المحاضرات ونشرها بعد ذلك في كتاب صدر عن دار الكتاب الجديد في بيروت سنة 1396/ 1976م بعنوان: قواعد فهرسة المخطوطات العربية.

وهذان الكتابان رغم صغر حجمهما كانا- ومازالا- دعامتين أساسيتين من دعامات علوم المخطوط العربي، وهما يدلان على براعة صاحبهما في ارتياد الآفاق الجديدة، واقتناص الموضوعات الجيدة، واكتشاف الأرض البكر وزراعتها بمحاصيل غير تقليدية- إن جاز لنا أن نستعمل مصطلحات الزراعيين. وهو لا يزرع نباتات قصيرة القامة، وإنما هو مغرم بغرس الأشجار الطوال التي سرعان ما تنمو وتكبر وتتوالد حولها شجيرات كثيرة وكثيفة. وسيظل هذان العملان الرائدان من الأعمال البذرية أو الجنينية- إن صحّ التعبير- لأنهما يضمان أبكار الأفكار، ويعدَّان نموذجًا للتأصيل والإبداع في زمن كثُر فيه التقليد والاجترار، بل والسطو على أفكار الآخرين وكتاباتهم بغير حياء.

ويتفق هذان الكتابان في أنهما رائدان في مجاليهما. فكل منهما يشق طريقًا جديدًا، ويضع علامات إرشادية بارزة تهدي السائرين فيه. ولكن كتاب قواعد تحقيق المخطوطات في مجاله أطول قامة من كتاب قواعد فهرسة المخطوطات العربية. ومن ثم يستحق منا وقفة متأنية تستجلي ملامحه وتبين قيمته.

ولكي تتضح أهمية هذا الكتاب الذي نشره صاحبه منذ أكثر من خمسة وأربعين عامًان ينبغي أن نتتبع الخيط من أوله حتى نتبين موقع المنجد على هذا الطريق، وتأثره بمن قبله وتأثيره فيمن أتى بعده.

ترجع نشأة علم نقد النصوص ونشر الكتب القديمة إلى أواسط القرن التاسع عشر عندما بدأ الأوروبيون يضعون أصولًا علمية لنشر التراث الكلاسيكي، اليوناني واللاتيني. «وقد استعمل المستشرقون تلك القواعد والأصول في نقد الكتب العربية والشرقية، ولكنهم لم يؤلفوا في ذلك تأليفًا خاصًا»29، وكان أول كتاب صدر في هذا المجال دراسة مختصرة أعدها بلاشير R.Blachère وسوﭬاجيه J. Sauvaget، ونشرت في باريس سنة 1945 بعنوان: Regles Pour edition et traductions des textes Arabesوصُرف معظمها للحديث عن ترجمة الكتب العربية إلى الفرنسية.

وبعد أكثر من عشرين عامًا، نشرت دار الكتب بالقاهرة في عام 1969 محاضرات كان المستشرق الألماني برجستراسر Bergestrasser قد ألقاها على طلبة الماجستير بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة في العام الدراسي 1931/ 1932، وقد أعدها وقدم لها الدكتور محمد حمدي البكري، وصدرت بعنوان: أصول نقد النصوص ونشر الكتب. وهي من أفضل ما كتب في الموضوع، وأغناها بالنماذج والأمثلة التوضيحية الشارحة. ولذا أعادت دار المريخ بالرياض نشرها في عام 1982.

أما في العالم العربي فقد بدأ نشر كتب التراث القديم على أيدي بعض الناشرين التجاريين الذين لهم إلمام بالتراث ومعرفة بأمهات كتبه مثل الخانجي والحلبي (في مصر)، فكانوا يتخيرون الكتب المهمة التي يتوقعون لها رواجًا عند القراء، وينشرون إحدى نسخها المخطوطة كما هي دون تحقيق أو تدقيق أو دراسة أو تعليق. وكانت الغاية الوحيدة من هذا النشر هي إتاحة عدد كبير من نُسخ الكتاب لجمهور القراء. وعندما أقدم المجمع العلمي العربي بدمشق على نشر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، قامت اللجنة التي ألفها المجمع العلمي لتولي هذه المهمة بوضع قواعد عامة تتبع في تحقيق كتب التاريخ، وهي لا تشغل أكثر من نصف صفحة من صفحات المقدمة30.

وعندما شرع مجمع اللغة العربية بالقاهرة في تحقيق كتاب الشفاء لابن سينا، وضعت اللجنة المشكلة لهذا الغرض قواعد ومبادئ عامة للتحقيق ذكرها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في مقدمة الكتاب31.

ولكن أول عمل علمي نشر في شكل كتاب كامل ومستقل هو كتاب تحقيق النصوص ونشرها للأستاذ عبد السلام هارون، الذي صدرت طبعته الأولى عن مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1954، وحملت صفحة عنوانه عبارة: «أول كتاب عربي في هذا الفن، يوضح مناهجه ويعالج مشكلاته»، ونصَّ مؤلفه في مقدمته على أنه «أول كتاب عربي يظهر في عالم الطباعة معالجًا هذا الفن العزيز: فن تحقيق النصوص ونشرها»32، وذكر أنه علم بالمحاضرات التي ألقاها برجستراسر في كلية الآداب، وحاول جاهدًا أن يطلع على شيء منها فلم يوفق33.

وهو يبدأ بالحديث عن كيفية وصول الثقافة العربية إلينا، ثم يتحدث عن الورق والوراقين، وعن الخطوط، وعن أصول النصوص، ثم ينتقل إلى الحديث عن تحقيق عنوان المخطوط واسم المؤلف ونسبة الكتاب إلى مؤلفه، ثم تحقيق متن الكتاب، ومقدمات التحقيق. ثم يعرج إلى التصحيف والتحريف، وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن معالجة النصوص (ترجيح الروايات، وتصحيح الأخطاء، والزيادة والحذف، وما شابه ذلك). ويختم الكتاب باستعراض المكملات الحديثة ويعني بها التقديم للنص، والإخراج الطباعي، وصنع الفهارس (الكشافات)، يلي ذلك عرض لنماذج من التصحيف والتحريف، ونماذج مصورة لصفحات من بعض المخطوطات.

وفي عام 1955 ينشر الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة معهد المخطوطات العربية دراسة بعنوان: «قواعد تحقيق النصوص»34، ويعيد نشرها في القاهرة كعملمستقل في العام نفسه، وتتتابع طبعاتها في بيروت في الأعوام 1965، 1970، 1976.

وهي دراسة في عشرين صفحة غير المقدمات35، ولكنها كانت أساسًا اعتمد عليه كل من تصدى لتحقيق نصّ من نصوص التراث أيًّا كان موضوعه، وكانت نواة لكل المؤلفات التي صدرت بعد ذلك عن تحقيق التراث، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

• تحقيق التراث، لعبد الهادي الفضلي، جدة: مكتبة العلم، 1982.

• تحقيق التراث العربي؛ منهجه وتطوره، لعبد المجيد دياب، القاهرة: المركز العربي للصحافة، 1983.

• مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، لرمضان عبد التواب، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1985.

• تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل، لعبد الله بن عبد الرحيم عسيلان، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1994.

ومع أن كل واحد من هذه الكتب يبلغ مئات من الصفحات قد تتجاوز الأربع ككتاب رمضان عبد التواب، إلا أنها جميعًا اعتمدت على كتاب المنجِّد وذكرته في قائمة مراجعها، باستثناء كتاب واحد لا أسمِّيه، ولا يضير المنجِّد أن كتابه لم يُذكر فيه، لأنه لم يغفل كتاب المنجِّد وحده وإنما تعمد إغفال الكتب الأساسية التي نقل عنها، وحشا قائمة مراجعه في مقابل ذلك بكتب وقوائم ببليوجرافية لا صلة لها بفنّ التحقيق، فأساء بذلك إلى نفسه قبل أن يسيء إلى المؤلفين الأعلام الذين لا تخطئهم أي عين بصيرة في المجال.

ورغم كثرة ما أُلِّف في الموضوع وضخامة بعض المؤلَّفات، إلا أن كتابي عبد السلام هارون وصلاح المنجد ظلَّا دستور المحققين، والمصدرين الأساسيين لكل من يحاول تحقيق أي نص من نصوص التراث العربي، بغضّ النظر عما ثار بين الرجلين من خلاف وصل إلى حدّ الصدام. فقد انتقد المنجِّد صاحبه بأنه تطرق إلى موضوعات خارجة عن الموضوع مثل: «كيف وصلت إلينا الثقافة العربية»، و«الورق والوراقين»، و«الخطوط»، فضلًا عن أنه «لم يستوعب البحوث الجيدة التي نشرت في تلك المجالات». وعاب عليه أنه «لم يطلع قط على ما كتب في هذا الموضوع باللغات الأجنبية... وأنه خلط بين قواعد تحقيق النصوص والعلوم المساعدة على التحقيق»36.

ويبدو أن عبد السلام هارون قد استفزّه الاتهام بعدم الرجوع إلى المصادر الأجنبية، وإلى كتابات المستشرقين على وجه الخصوص، فردّ عليه في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه37 ردًّا فيه حدة لا تليق بالعلماء حين يتحاورون. ولم يسمت صلاح المنجد وإنما ردّ الصاع صاعين في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابه38. وأنا أعفّ عن ذكر الألفاظ التي تجم بها كل من الشيخين الجليلين على صاحبه، فلكلٍّ منهما قَدره ووزنه العلمي، وكلاهما بالنسبة لي أستاذ ومدرسة تعلمت منها الكثير.

ولست هنا في معرض المقارنة بين الكتابين أو الفصل بين الخصمين، ولكنني في معرض الحديث عن صلاح المنجد وكتابه عن قواعد التحقيق. وهو كتاب صغير ولكنه كتاب جليل في الوقت نفسه. ويلفت الانتباه فيه أمور أهمها:

(1) الإيجاز الشديد، والاقتصاد في العبارات دون إخلال بالمعنى المراد، وتركيز الأفكار في عناصر محددة يعرضها صاحبها في تسلسل بديع ودقيق39. فهو يكتب بلغة البرقيات التي تصبّ أكبر قدر من المعاني في أقل قدر من الألفاظ. ولهذا لم يتجاوز حجم الكتاب ملزمتين. وهو أقرب غلى «روشتة» الطبيب التي لا يذكر فيها غير اسم الدواء ومقادير تعاطيه.

(2) وضوح الرؤية لدى المؤلف. فهو قد سماه قواعد تحقيق المخطوطات، ولذا نراه يقتصر على «القواعد» ولا يخرج عن هذا الإطار الذي حدده لنفسه في قليل أو كثير. فهو يستعرض في صفحتين ونصف صفحة المحاولات السابقة لوضع قواعد نشر النصوص، ثم يدخل في الموضوع مباشرة، ويسلك طريقًا مستقيمًا فلا يجنح يمينًا او يسارًا.

(3) المنطقية في استعراض قواعد التحقيق. فهو يبدأ بالحديث عن جمع النُّسخ وأدواته وترتيب النُّسخ، ثم ينتقل إلى صُلب الموضوع وهو تحقيق النص، ويبدأه بالحديث عن غاية التحقيق ومنهجه، وعن الحدود التي يتحرك فيها المحقق ولا ينبغي له أن يتجاوزها. ثم ينتقل إلى الحديث عن (الرسم) ويعني به القواعد الإملائية، ثم المختصرات والشكل، وتقسيم النص وعلامات الترقيم، والحواشي، والإجازات والسماعات وكيفية ذكرها. يلي ذلك الفهارس (أو الكشافات) وأنواعها. ثم يتحدث عن المقدمة وعناصرها، وعن مسرد المراجع والبيانات الببليوجرافية التي ينبغي ذكرها عن كل مرجع.

(4) الاستيعاب، ونعني به شمول الكتاب لكل الأساسيات التي يهم المحقق معرفتها مثل: أهم المختصرات الموجودة في المخطوطات (ص ص 17، 20)، والأقواس والخطوط والرموز التي يجب عليه استخدامها عند نشر النص (ص 23)، والعناصر التي ينبغي أن تتضمنها المقدمة (ص 28).

(5) المقارنة بين المدارس المختلفة في التحقيق والترجيح بينها، كما في حديثه عن طريق إثبات الحواشي (ص 24).

(6) إيراد الأمثلة في أضيق الحدود، وفي حالات الضرورة فقط، مثل: كتابة أسماء الأعلام كما تُكتب اليوم (ص 19)، وضبط المبني للمجهول (ص 21). وليته توسع في ذكر الأمثلة التوضيحية لفائدة المحققين المبتدئين. وهذه السمات مجتمعة تجعل من الكتاب دليلًا إرشاديًّا يبصِّر الباحثين بطريقة نشر نصوص التراث، ودستورًا للمحققين صيغت مواده بعبارات دقيقة وألفاظ محددة لا تحتمل اللبس ولا تثير الجدل.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد،2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 45-58.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top