أكمل الدين إحسان أوغلو([1])
«لن يموت ذاك الذى قلبه حى بالحب»
حافظ، الشاعر الإيرانى المعروف
كان إيرج أفشار (1925 - 2011م) - المؤرخ والمفهرس وخبير المخطوطات الفارسية وكاتب سير الاعلام والمؤلف - علما بين عظماء الدراسات الإيرانية. كان والده الدكتور محمود أفشار (1893 - 1983م) بدوره مفكراً، ومؤلفاً، وشاعراً إيرانياً، له تأثير نافذ ومحبة للأدب والثقافة الإيرانية، حيث كرّس لها حياته والجزء الأكبر من ثروته الخاصة، فى سبيل التعريف والرقى بهما. وقد لعبت «مؤسسة محمود أفشار» دوراً بارزاً فى تحقيق حلم الوالد وابنه فى خدمة الأهداف الثقافية.
عمل إيرج أفشار بلا كلل خلال سنوات حياته المثمرة فى التعريف والارتقاء بالدراسات الإيرانية. كان يقول عن نفسه دوماً بأنه مجرد خادم للثقافة الإيرانية والفارسية. أما شهرته، فلم تقتصر على الحدود الجغرافية لإيران. وإن رصانة وجودة أعماله وعمق حبه للثقافة الفارسية والدراسات الإيرانية جعلت منه خبيراً ومرجعاً دولياً فى الشؤون الإيرانية، وكان ذا علاقات واسعة بعلماء لهم الصدارة فى مجال الدراسات الإيرانية حول العالم.
وقد حظيت بفرصة رائعة للتعرف على بروفسور إيرج أفشار؛ إذ تعاونت معه لأكثر من عقدين من الزمان. وفى الحقيقة، فإن تعاوننا الجاد فى مجال العمل قد تزامن مع تأسيس الفرقان عام 1988م.
وقد أنشئت مؤسسة الفرقان أساسا من أجل توثيق وحفظ التراث الإسلامى المخطوط والقيام بأنشطة متنوعة في هذا المضمار. وخلال فترة عملي مديراً عاماً لمركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا)، المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامى، عملت الى جانب البروفسور أفشار عضواً فى مجلس خبراء مؤسسة الفرقان. وبالتالى كنا على اتصال أدى إلى نمو الصداقة بيننا.
كان للبروفسور أفشار سجل غني وحافل فى مجالات العلوم المتنوعة. فإلى جانب أنشطة التدريس وعمله كقيّم على مكتبات عدة فى مراكز أكاديمية إيرانية، فقد قام بتأليف وتحرير مئات الكتب وآلاف المقالات. ولاشك أن آخرين سيتفقون معي بأنه من الصعب العثور على عالم من إيران بهذا الحجم والغزارة من الإنتاج فى مجال البحث فى التاريخ والثقافة الإيرانية. وقد خلّف وراءه إرثاً ضخماً وثرّاً من المستندات والتذييلات، والمقالات، والمذكرات، والكتب، والصور، والنصوص مما لا يضاهيه فيها أحد من الباحثين الإيرانيين المعاصرين.
ولكنني أعجبت أكثر ما أعجبت بـإيرج أفشار من خلال أعماله وأبحاثه فى المخطوطات الإسلامية والإيرانية، وطريقته المنظمة فى فهرستها. وبناء على خبرتى فى المجال الثقافى، فإنى أعتبر إيرج أفشار مرجعاً ركيزاً فى مجال المخطوطات الإيرانية. وقد كان يجود علىّ بنسخة من كل جديد من كتبه المتعلقة بالمخطوطات بمجرد صدورها.
وخلال العقدين الأخيرين سنحت لي عدة فرص للقاء البروفسور أفشار فى لندن، واستانبول، وطهران، ومن ثم نقاشه بشكل مطول فى المسائل ذات الاهتمام المشترك. ومنذ أن توليت منصب الأمين العام لـمنظمة التعاون الإسلامى فى 2005، كنت أنتهز فرصة زيارتي لطهران للقاء البروفسور أفشار أو على الأقل تبادل الحديث معه بالهاتف.
كان لـإيرج أفشار شغف حقيقي بالنشاط العلمي، خاصة فى فهرسة المخطوطات. وفى الحقيقة لم يكن أى شئ ليمنع فضوله العلمى. كإنسان - عاش حياتاً تدور حول الكتب، وقد كـرّس نفسه وحياته بالكامل للبحث العلمي، والقراءة، والتأليف، والتحقيق، لدرجة أني لم أسمعه قط يتحدث فى السياسة. أعلم أنه كان يمارس التمارين الرياضية بشكل منتظم؛ وفى الحقيقة كان متميزا فى تسلق الجبال. فلا غرابة إذن أنه حافظ على لياقته البدنية الجيدة حتى النهاية. وقد كان رجلاً أنيقا كذلك؛ فمن ضمن دائرة أصدقائي الإيرانيين القدامى، كان إيرج أفشار والبروفسور محمد-تقى دانيش-باجوه الوحيدين الذين التزما لبس ربطة العنق بشكل دائم. وقد حظي بذاكرة عجيبة بقيت على حدّتها حتى آخر أيام حياته. وأذكر آخر مكالمة هاتفية بيننا قبل أسابيع من وفاته؛ فكان حاضر الذهن، وكما فى مرات سابقة، حدثني عن آخر أبحاثه.
كان إيرج أفشار ذو صلة جيدة مع أغلب مراكز الدراسات الإيرانية فى أوروبا والولايات المتحدة. ولاتكاد تجد أي عالم أو باحث فى الشئون الإيرانية إلا ويعزو إلى منشوراته، أو يستفيد من أعماله، أو حتى يطلب المساعدة من إيرج أفشار شخصياً. وبالمثل، فإن إيرج أفشار كان له احترام بالغ واتصال دائم مع كل من له اهتمام بالثقافة والتاريخ الإيراني. كانت سمعته وأمانته السبب فى أن العديد ممن يملكون المخطوطات والمستندات التاريخية يثقون فيه ويعيرونه إياها لغرض نشرها. إن المخطوطات الإيرانية والإسلامية موجودة بشكل واسع فى أوروبا والأمريكتين، وآسيا، وأنحاء أخرى من العالم. وعلى حد علمي فإن البروفسور أفشار قد نجح فى فهرسة المخطوطات الفارسية فى بعض المكتبات الغربيـة، بما فيها مكتبـة ويدنر (Widener Library) بـجامعـة هارفارد، والمكتبة الوطنية النمساوية، وأرشيف الدولة النمساوية.
كان إيرج أفشار من الركائز الثمينة التى يصعب إيجاد البديل عنها فى مسيرة الرقى بالدراسات المتعلقة بالمخطوطات الفارسية والإسلامية. وبما أن هذه المخطوطات كانت دائماً فى خطر التلف أو الضياع بسبب الطبيعة أو الإهمال، فإن عمل البروفسور أفشار في الحفاظ على هذا التراث أمر مثير للإعجاب. بالإضافة الى أنني أعلم أن البروفسور أفشار قام بهذا كله بوازع الحب وبالكثير من المثابرة والتفاني.
فى حقبة التسعينيات، قامت «إرسيكا» بالتعاون مع مؤسسة الفرقان بإقامة دورات تدريبية للمفهرسين فى إستانبول. وكان الهدف الرئيسى للدورات هو منح المفهرسين وأمناء المكتبات الشباب الثقافة الواسعة والخلفية العلمية فى التعامل مع المخطوطات. وإدراكاً من «الفرقان» بأن مهارات الفهرسة تتلاشى تدريجياً، فقد حرصت على توظيف كادر تدريسى من المحترفين ذوي المؤهلات والتجربة لتدريس الدورات. وقد كان البروفسور أفشار أحد هؤلاء المدرسين الذين ساعدوا كثيراً فى هذا الجهد. وفى الحقيقة فقد كان دائم الاستعداد للمشاركة وحضور أى نشاط يتعلق بفهرسة المخطوطات. وفوق هذا كله، كان إيرج أفشار حريصاً أشد الحرص على منح علمه للآخرين دون قيد أو استثناء.
فى عام 2000م، وبمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس «إرسيكا»، تم منح الدفعة الثالثة من جائزة «إرسيكا» للتميز فى البحث العلمي إلى أصحابها. وقد كان البروفسور إيرج أفشار أحد هؤلاء الفائزين، تقديراً لإنجازاته الراقية فى مجالي الدراسات الإيرانية والتاريخ الإسلامي.
كانت حياة إيرج أفشار حلقة متميزة من الجهد العلمي البارع والإنسانية الباذلة. ومن خلال حنكته العلمية المذهلة وإسهاماته الأكاديمية الثرّة، خلف وراءه تركة هى كنز من المعرفة للأجيال القادمة، بل، وبالتأكيد، سيكون مصدر إلهام للعلماء والباحثين فى الشؤون الإيرانية وغيرها، كي ينتجوا مستوى من الجهد العلمي المتنور الذي بذل حياته كاملة وهو يقدمه بشكل مبهر.
إيرج أفشار، بالرغم من غيابه عنا بجسده، إلا أنه سيبقى حياً فى وجداننا وقلوبنا؛ فــ«فى قلبه حقاً نارٌ لا تنطفئ».
[1]() عضو مجلس إدارة مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ومجلس خبرائها.
| ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: بحوث ودراسات مهداة إلى إيْرج أفْشَارْ، 2018، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن،13-17. |