ليلى سويف
عنوان هذه الورقة هو «الإسهام العربي في تأسيس علم الجبر»، ومعالجة هذا الموضوع تحتاج إلى بعض الملحوظات نبدأ بها الآن مباشرة، حتى لا تكون مصدرًا للبس في الفهم حين ندخل في صلب الموضوع:
أولى هذه الملحوظات هي أن كلمة العربي هما تحتاج إلى إيضاح؛ فحين أكتب عن العلم العربي أقصد بذلك العلم الذي أنتج في القرون من الثامن حتى الرابع عشر الميلادية وكان يكتب بالعربي، ولم يكن العلماء الذين أنتجوا العلم في تلك الفترة جميعًا من العرب، كما لم يكونوا كلهم من المسلمين، بل كانوا من أجناس وديانات عدة، وبعضهم لم تكن العربية هي لغته الأم، إلا أن التيار الغالب في ذلك الزمان كان كتابة العلم بالعربية، ويحضرني هنا مثال عمر الخيام فقد كتب الشعر بالفارسية أما كتاباته في الرياضيات فقد كتبت بالعربية. خلاصة القول أن اللغة العربية في تلك الفترة كانت تلعب نفس الدور بالنسبة للنشر العلمي الذي تلعبه الإنجليزية اليوم والذي لعبته اللاتينية في الفترة من القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر.
الملحوظة الثانية أن موضوع إسهام الحضارة العربية في تأسيس العلوم الحديثة موضوع يحيط به الكثير من اللغو يتنازعه موقفان متناقضان: موقف تبناه عدد ممن أسسوا دراسات تاريخ العلوم في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وهو الموقف الذي يتلخص في القول بأن العرب لم يضيفوا شيئًا ذا بال، وأن دورهم الأساسي بالنسبة للعلم الحديث كان في حفظ تراث من أتوا قبلهم، إلى آخر تلك الأقوال التي نعرفها جميعًا، وموقف مناقض تمامًا، غالبًا ما يقوم كرد فعل على الموقف الأول، يحاول أن يثبت أن العرب قد فعلوا كل شيء واكتشفوا كل شيء. والموقفان- على ما بينهما من تناقض- يجمعهما، في رأيي، البعد عن الموضوعية، وإحلال الأفكار المسبقة محل البحث التاريخي الدؤوب، الذي يقوم على الفحص الجاد لما تركه لنا من سبقونا من آثار، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من نتائج من هذه الآثار ذاتها. وليس أدل على غياب النظرة الموضوعية في الموقفين من حقيقة أن الغالبية العظمى من المخطوطات العربية العلمية المعروفة والمفهرسة لم تحقق بعد، هذا إلى جانب آلاف المخطوطات العربية التي لا نعرف أصلًا محتواها، فكيف نصل إلى استنتاجات على هذه الدرجة من التعميم ونحن لازلنا لم نحصر بعد ولا حتى 10٪ من المادة التي نتحدث بشأنها.
أخيرًا فإن دراسة تاريخ العلم العربي في العصور الوسطى لا تكتسب أهميتها من رغبة العرب في مفاخرة الأمم بما أنجزه الأجداد (فأيًّا كان حجم ما أنجز في تلك الفترة فإن ورثته الحقيقيين هم من استوعبوه وطوروه إلى يومنا هذا)؛ إنما تكتسب أهميتها من حقيقة أن أحدًا لا يمكن أن يفهم تاريخ العلم إذا ما أهمل سبعة قرون من ذلك التاريخ.
تزداد أهمية الفهم الصحيح للتاريخ بالنسبة لعلم الرياضيات بالذات؛ حيث لا توجد قطيعة معرفية بين ماضي الرياضيات وحاضرها؛ فهندسة إقليدس وجبر الخوارزمي وغير ذلك من النظريات القديمة في الرياضيات هي جزء من الرياضيات الحديثة، أضيف إليها، وفي بعض الأحيان أعيدت صياغتها، ولكنها ظلت جزءًا من الرياضيات الحديثة؛ ذلك أن عمليات إعادة تأسيس الرياضيات التي جرت عبر العصور- والتي وقعت آخرها في النصف الأول من القرن الماضي- قد استهدفت دائمًا الحفاظ على تلك النظريات كجزء من مبرهنات النظرية الرياضية الأحدث.
ننتقل الآن إلى إسهام الحضارة العربية في تأسيس علم الجبر:
هناك ثلاث مواقف من هذه القضية: موقف هو في تصوري السائد الآن بين دارسي تاريخ الرياضيات، وهو في تصوري أيضًا الموقف الصحيح في حدود ما لدينا من معرفة بذلك التاريخ؛ وهو أن علم الجبر قد أسس على يد العلماء العرب (كما سنسميهم من الآن فصاعدًا، كي لا نظل نقول العلماء الذين كانوا يكتبون بالعربية) بدءًا من الخوارزمي ومرورًا بمن تبعه منهم. وموقف ثان يرى أن تأسيس الجبر سابق على صدور كتاب الخوارزمي، والبعض يرجعه إلى اليونان: إقليدس أحيانًا (ح 300 ق م) وديوفنطس1 أحيانًا أخرى. وهناك من يرجعه إلى البابليين أو الهنود أو غير ذلك.
وموقف ثالث يرى أن كل ما قام به العلماء القدامى سواء العرب أو من قبلهم لم يكن سوى إرهاصات، وأن الجبر لم يؤسس إلا في أوروبا، في القرن السادس عشر، على يد فييت2 أحيانًا أو على يد آخرين في أقوال أخرى.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه يحتوي خلافًا مضمرًا حول ما هو الجبر أصلًا، وبالطبع، في مثل هذا الخلاف، يصعب الوصول لقول نهائي، حيث يستطيع كل منا أن يدعي أن الجبر هو بالضبط ما أسسه مرشحه المفضل لتأسيس علم الجبر، وأن ما وجد قبله ليس جبرًا، ويصبح القول بأن فلانًا هو الذي أسس علم الجبر هو من باب تحصيل الحاصل.
للخروج من هذه الحلقة المفرغة أقول إنني في عرضي هنا سأوضح أن الخوارزمي بدأ شيئًا مختلفًا عما نعرفه من أعمال قبله، وأن هذا الشيء الذي بدأه الخوارزمي أدركه معاصروه ومن تلوه مباشرة على أنه شيء مختلف، وأطلقوا عليه اسم الجبر، وقاموا بتطويره حتى نما نموًّا كبيرًا وظل في أثناء ذلك النمو محتفظًا باسم الجبر3.
صدر كتاب الخوارزمي الجبر والمقابلة أثناء حكم الخليفة المأمون (198/ 813- 218/ 833)، ولنبدأ النظر فيما فعله الخوارزمي بقراءة كلماته في مقدمة كتابه4: «... وقد شجعني ما فضل الله به الإمام المأمون أمير المؤمنين... من الرغبة في الأدب وتقريب أهله... ومعونته إياهم على إيضاح ما كان مستبهما وتسهيل ما كان مستوعرا. على أن ألفت من كتاب الجبر والمقابلة كتابًا مختصرا حاصرا للطيف الحساب وجليله، لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجارتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكرى الأنهار والهندسة...»
وحين نقرأ كتاب الخوارزمي نلاحظ أن تعبير «الجبر» الذي يرد في عنوان الكتاب وفي مقدمته المشار إليها في الفقرة السابقة، ليس اسم عَلم يطلق على فرع من فروع العِلم بل الجبر هو مصدر للفعل جَبَرَ، وجَبَرَ الشيء أي أكمل ما كان ناقصًا منه؛ والجبر عند الخوارزمي هو وصف يطلق على إجراء من نوع:
a – b = c إذًا a = b + c
أما المقابلة فتطلق على إجراء من نوع:
a + b = a + c إذًا b = c
وفي هذا الدليل على أن العلم لم يطلق عليه الجبر قبل الخوارزمي، ثم نجد من تلوه يطلقون عليه الجبر والمقابلة ويقولون أن الخوارزمي هو من وضع أسس هذا العلم.
بعد أن قدم الخوارزمي كتابه يدخل في موضوعه فيقول: «وإني لما نظرت فيما يحتاج الناس إليه من الحساب وجدت جميع ذلك عددا...» ثم يقول: «... ووجدت الأعداد التي يحتاج إليها في حساب الجبر والمقابلة على ثلاثة ضروب وهي جذور وأموال وعدد مفرد لا ينسب إلى جذر ولا إلى مال...»
الخوارزمي سيعالج حل المعادلة العامة من الدرجة الثانية
ax2 + bx + c = 0
والمجهول x في هذه المعادلة هو ما يسميه الخوارزمي «الجذر» ثم «الشيء» في مواقع أخرى من الكتاب، وx2 هو «المال»، ولما كانت المعاملات العددية a، b، c لدى الخوارزمي دائمًا أعدادًا موجبة (أعداد نسبية موجبة إذا شئنا الدقة)، فإن تلك المعادلة تتخذ ست صور:
ثلاث صور ثنائية الحدود هي:
a x2 = bx
a x2 = c
b x = c
وهو يصفها بقوله: «... فمن هذه الضروب الثلاثة ما يعدل بعضها بعضًا وهو كقولك أموال تعدل جذورا وأموال تعدل عددا وجذور اعدل عددا».
وثلاث صور ثلاثية الحدود هي:
a x2 + bx = c
a x2 + c = bx
b x + c = ax2
ويصفها بقوله «.. ووجدت هذه الضروب الثلاثة التي هي الجذور والأموال والعدد، تقترن فيكون منها ثلاثة أجناس مقترنة وهي أموال وجذور تعدل عددا. وأموال وعدد تعدل جذورا. وجذور وعدد تعدل أموالا».
يقدم لنا الخوارزمي كيفية حل كل معادلة من هذه المعادلات حين يكون عدد الأموال مالًا واحدًا (اي حين يكون a = 1)، كما يشرح كيف نحول كل معادلة من هذه المعادلات إلى تلك الحالة، سواء كان a أكبر من 1 أم أقل.
وغذا كان الخوارزمي يستخدم أمثلة عددية لشرح طريقته، فإن هذا فقط لدواعي السرد التي تفرضها عليه عملية وصف المعادلات بالألفاظ وليس بالرموز، لكن الطريقة عامة وهو يشرحها كطريقة عامة، فهو حين أراد أن يشرح حل:
x2 + bx = c
x2 + 10 x = 39 استخدم المثال:
لكننا نجده يقول «... فبابه أن تنصف الأجذار وهي في هذه المسألة خمسة...»
وإذا كان الخوارزمي قد اكتفى فيما يتعلق بالمعادلات الثلاثة الأولى (ثنائية الحد) بوصف كيفية الحل، ربما لشيوعه أو لأن صوابه بدا له بديهيًّا، فإنه في المعادلات الثلاثة الأخيرة (ثلاثية الحد) حرص على أن يقدم «علة» لحله عن طريق برهان هندسي لصواب حله. جدير بالذكر هنا أن الخوارزمي قد أدرك أن المعادلة
x2 + c = bx
سيكون لها جذران وبرهن على ذلك5، كما ذكر أنه إذا كان()2= c
فسيكون جذر المعادلة مساويًا ، وأخيرًا إذا كان ()2 أقل من c«فالمسألة مست» 6، وإن كان لا يبرهن على ذلك.
بهذا يكون الخوارزمي أعطى بالفعل طريقة عامة لحل المعادلات من الدرجة الثانية مع التدليل على صواب طريقته.
يلي الجزء الخاص بحل المعادلات في الجبر والمقابلة بابان قصيران، هما باب الضرب، وباب الجمع والنقصان. في باب الضرب يوضح الخوارزمي كيفية «ضرب الأشياء بعضها في بعض غذا كان معها عدد أو استثنيت من عدد أو استثنى منها عدد...» أي أن الخوارزمي يشرح لنا كيف نضرب أي كثيرتي حدود من الدرجة الأولى (bx + c) أو (bx – c) أو (bx – c) في بعضهما. أما باب الجمع والنقصان فيوضح كيف نجمع (وكيف نطرح) كثيرتي حدود درجتهما لا تزيد على الثانية.
لا يتسع المجال هنا للاستطراد في عرض باقي أجزاء الكتاب، ويكفي ما عرضناه لنرى أن الخوارزمي قد قدم حل معادلات الدرجة الثانية بطريقة نظامية تغطي كافة صورها، كما عنى بتقديم براهين لحلوله، وكذلك عنى بتقديم وصف عام لكيفية إجراء العمليات الحسابية على كل كثيرات الحدود من الدرجة الأولى والثانية كي يتسنى له تحويل مسائل ذات صور مختلفة إلى واحدة من الصور التي سبق له أن شرح كيفية حلها. فهل نجد فيما وصل إلينا من أعمال السابقين على الخوارزمي عملًا كهذا؟
فيما يتعلق بكتاب ديوفنطس Arithmetica فهو كتاب في المسائل العددية، وهو يورد المسألة ثم حلها دون محاولة للتنظير أو التعميم، صحيح أن مسائل ديوفنطس العديد منها أصعب، وربما أيضًا أكثر تشويقًا، من تلك التي وردت في كتاب الخوارزمي، صحيح كذلك أن الحلول التي يقدمها ديوفنطس لتلك المسائل تستخدم بعض الأساليب الجبرية، مما يغري المطلع على الكتاب بإطلاق التكهنات حول العقلية الرياضية لكاتبه، ولكن يظل النص الموجود بين يدينا كتابًا فيه حلول لمجموعة متنوعة وغنية من المسائل العددية. ومما زاد اللبس حول كتاب ديوفنطس أن مترجمه إلى العربية سماه «صناعة الجبر»7 واستخدم العديد من المصطلحات الجبرية في ترجمته، لكن المترجم العربي قام بهذه الترجمة بعد عشرات السنين من صدور كتاب الخوارزمي، فقسطا بن لوقا مترجم كتاب ديوفنطس توفي ح 299/ 912 بينما صدر كتاب الخوارزمي قبل عام 218/ 833، فيمكننا القول أن قسطا بن لوقا قرأ كتاب ديوفنطس بروح عصره، ذلك العصر الذي ساهم فيه الخوارزمي مساهمة أساسية في تشكيل الفكر الرياضي.
أما كتاب الأصول لإقليدس فقد ترجم بالفعل إلى العربية خلال حكم هارون الرشيد عندما كان الخوارزمي صبيًّا، والأرجح أن الخوارزمي قرأه، وربما كان كتاب الأصول هو الذي أوحى للخوارزمي ببراهينه الهندسية، وربما كان أيضًا هو الذي أوحى للخوارزمي بمعالجة موضوعه كنظرية معممة تبحث كل الحالات المختلفة وتبرهن عليها، لكن هذا لا ينتقص من أصالة ما قدمه الخوارزمي؛ فكتاب الأصول كتاب في الهندسة، وأي قراءة لنظريات فيه كنظريات جبرية هي في اعتقادي إسقاط لمعرفة لاحقة على النص الأصلي. وسأعطي مثالًا لتوضيح ما أعنيه:
في كتابه حول تاريخ الرياضيات اليونانية8 يقول توماس هيث أن المسألة الحادية عشر من الكتاب الثاني لإقليدس تعطينا «مكافئ هندسي» لحل المعادلة.
Ax + x2 = a2
وهاهو نص تلك المسألة: «كيف تقطع خط مستقيم بحيث يكون المستطيل الذي يحويه الكل وواحدة من القطعتين مساويا للمربع المقام على القطعة الباقية؟».
بالفعل إذا اعتبرنا المستقيم المعطى هو a، والقطعة الباقية هي المجهول x، فستكون القطعة الأخرى x – a، وبالتالي يكون (x= x2 – aa) وهو ما يكافئ
ax + x2 = a2 لكننا نرى هذه العلاقات لأننا تعودنا النظر لهذه المسائل بعيون الجبر، أما من داخل كتاب إقليدس فالمسألة مسألة هندسية بحتة، وحلها أيضًا حل هندسي بحت.
ولعل كلمات المرحوم الدكتور علي مصطفى مشرفة تعطينا خلاصة معبرة عما أوضحناه في الفقرات السابقة: «رغم الأبحاث المستفيضة في تاريخ الرياضيات عند الإغريق وعند الهنود لم نعثر على كتاب واحد يشبه كتاب الخوارزمي، وإنني أميل إلى الظن بأنه لم يكن قبل الخوارزمي علم يسمى علم الجبر، إذًا فعبقرية الخوارزمي قد تجلت في خلق علم من معلومات مشتتة وغير متماسكة، وتذكرنا هذه العبقرية بعبقرية السير إسحاق نيوتن الذي وضع علم الديناميكا أي علم حركة الأجسام، فإن كثيرًا من المعلومات الواردة في كتاب Principia لنيوتن كان معروفًا لأهل زمانه بل وقبل أهل زمانه، ولكن أحدًا قبله لم يقم بتنظيم شتات هذه المعلومات وصوغها في صورة علم منسق ذي وحدة ظاهرة، وكذلك الحال- في رأيي- في الخوارزمي وعلم الجبر9.
لو اقتصر الإسهام العربي في الجبر على ما قدمه الخوارزمي، لحق موقف القائلين أن ما قدمه العلماء العرب في الجبر إرهاصات لا أكثر. لكن الخوارزمي تبعه الكثيرون يضيق المجال هنا عن التعرض لهم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أبا كامل10 والماهاني11 والخازن12 والكرجي13 والسموءل14 والخيام15 وشرف الدين الطوسي16. فها هو أبو كامل يتعامل مع كل القوى المختلفة للمجهول، ويستخدم تقنيات الجبر لحل أنواع متعددة من مسائل الحساب، ويفرق بشكل صريح بين المسائل التي لها عدد منتهي من الحلول وتلك التي لها عدد لا نهائي من الحلول، والكرجي يبني حساب كثيرات الحدود حتى يضع، حسب تعبير السموءل: «الطريق إلى التصرف في المجهولات بجميع الأدوات الحسابية كما يتصرف الحاسب في المعلومات»17، ويطور الكرجي أساليب جديدة للبرهان الجبري، مختلفة عن البراهين الهندسية التي رأيناها عند الخوارزمي؛ فمثلًا نجد عند الكرجي نوعًا بدائيًّا من الاستقراء الرياضي. ويستكمل السموءل مشوار الكرجي، فيعرف القوة الصفرية للمجهول، ويضع قواعد الإشارات بالنسبة للضرب والجمع والطرح في صورتها العامة، بما فيها الطرح من الصفر أو من «المرتبة الخالية»على حد تعبيره، وبهذا يصير الجبر بناءً قائمًا بذاته، مستقلًّا عن الهندسة وإن لم ينقطع تفاعله معها.
فقد بدأت محاولات عدة لحل مسائل في الهندسة، وكذلك في حساب المثلثات، عن طريق إعادة صياغتها كمعادلات جبرية مطلوب إيجاد المجهول فيها، ومن هذه المسائل مسائل يونانية شهيرة كتضعيف المكعب وتثليث الزاوية، وكانت العديد من تلك المسائل تؤدي إلى معادلات من الدرجة الثالثة، فيتعذر حلها أحيانًا وينجح أحيانًا أخرى، فمثلًا نعلم من رسائل الخيام الجبرية18 أنه قد عن للماهاني «تحليل المقدمة اتي استعملها أرخميدس مسلمة في الشكل الرابع من المقالة الثانية من كتابه في الكرة والأسطوانة، بالجبر، فتؤدي إلى كعاب وأموال وأعداد متعادلة فلم يتفق له حلها بعد أن فكر فيها مليا، فجزم القضاء بأنه ممتنع حتى نبغ أبو جعفر الخازن وحلها بالقطوع المخروطية».
ودفع هذا الخيام إلى البدء في بناء نظرية كاملة للمعادلات من الدرجة الثالثة، بحيث صنفها جميعًا على غرار ما فعل الخوارزمي من قبل حين عالج معادلات الدرجة الثانية، وشرع في حلها تباعًا، وإن كان حله هندسيًّا يعتمد على تقاطع قطاعات مخروطية، وليس حلًّا جبريًّا بالجذور. وقد استكمل شرف الدين الطوسي في مؤلفه عن المعادلات19 مشروع الخيام، فقدم حلول المعادلات التكعيبية عن طريق تقاطع القطاعات المخروطية مبرهنًا تلك الحلول، وزاد عن ذلك بأن فحص الحالات حيث لا يكون للمعادلة حل20، وكشف شرط وجود الحل أو استحالته وبرهن عليه، وخلال إيجاده لشرط وجود الجذر نجده يحسب القيمة العظمى لكثيرة الحدود ax – x3 عن طريق إيجاد جذر المعادلة 3x2 = a، والتعويض به في كثيرة الحدود، أي أنه يستخدم المشتقة الأولى لكثيرة الحدود دون أن يسميها. ويعطي كذلك طريقة تفصيلية للحساب العددي التقريبي لجذور المعادلات التكعيبية.
ختامًا، لعل هذا العرض الموجز قدم دليلًا، ولو جزئيًّا، على ما دفعنا به في بداية هذا المقال من أن علم الجبر قد أسس على يد العلماء العرب بداية من الخوارزمي في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد ، 2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 45-58. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني |