الإمام الشّاطبي المُجدّد والمُربّي

شارك:

هشام نشابة

محتويات المقال:
1- الإمام الشاطبي مؤسس «علم مقاصد الشريعة»
2- هل الشاطبي مجدد؟
3- التربية عند الشاطبي
4- غاية العلم
5- أهداف العلم
6- وسائل وأساليب التعليم والتعلّم

درج العديد من دعاة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر على اعتبار الجمود سمةً لهذا الفكر منذ القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي. أي منذ كتب حجة الإسلام محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي (ت: 505هـ/ 1111م) كتابه المرجعي إحياء علوم الدين. وفي رأينا أنّ في هذا الموقف إجحافًا بحق من جاؤوا بعد الغزالي، وكانت لهم إسهامات جليلة تدلّ على أن الفكر الإسلامي لم يجمد، ولم يتأخّر في مجال من مجالاته إلّا لينمو ويزدهر في مجال آخر. وهذه طبيعة الحياة الفكرية في الحضارات الأصلية عمومًا. ولذلك سأحاول في هذه الدراسة أن أُبيِّن من خلال دراسة الإمام أبي إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي (المتوفى في غرناطة 790هـ/ 1388م عن سبعين سنة أو يزيد قليلًا)[1] أنّ من المفكّرين المسلمين الذين جاؤوا بعد الغزالي، مَن تميّز بفكر نيّر ورأي سديد وتجديد ملفت في النظرة إلى الدين والشرع والفكر بوجه عام.

ولنا أن نذكر بأن الطرق الصوفية شهدت بعد الإمام الغزالي نشاطًا بارزًا لا يجوز أن نحمله على محمل الابتعاد عن الدين لمجرد كونه لم يعنَ بالفقه والشرع، وإن كنا نخالف أهل الطرق في كثير ممّا ذهبوا إليه في تأويل الدين ونُؤْثر أهل السنة والجماعة فَهُم، في نظرنا، أولى بالاتباع.

وإن كان القائلون بجمود الفكر الإسلامي بعد الإمام الغزالي يريدون بمقولتهم هذه تعزيز مقام حجة الإسلام الغزالي، فإن مقامه لا يبنى على الاستخفاف بمن جاء بعده، وإنما يبقى مقام الإمام الغزالي شامخًا لا تنال منه رفعة مقام غيره من العلماء الأجلّاء الذين سبقوه أو جاؤوا بعده. وهذا الإمام الشاطبي يستحقّ منا الدراسة لبيان فضله على حركة تجديد الفكر الإسلامي في عصره، أي في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وما يزال أثره بارزًا حتى اليوم.

وعلينا ألا ننسى أن عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808هـ/ 1405م) جاء بعد الغزالي وكذلك الشاه ولي الله بن عبد الرحيم العمري الدهلوي (ت 1176هـ/ 1762م) الذي جاء بعد ابن خلدون. ويقضي الإنصاف أن نذكر بأن العهد العثماني الأول، من القرن الثامن الهجري/ الخامس عشر الميلادي حتى القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، قد عرف العديد من العلماء المجدّدين في مختلف ميادين العلوم الشرعية والمدنية، ولا يجوز أن يحملنا ما عرفناه من فسادٍ وتقهقرٍ وجمودٍ في الدولة العثمانية في عصرها المتأخّر إلى اعتبار كل العصور العثمانية فاسدة ومتخلّفة. فقد رعى العثمانيون العلم والعلماء يوم كانت دولتهم قويةً مزدهرة، ولكنهم تقاعسوا عن ذلك يوم أفل نجمهم لأسباب عديدة ليس هنا مجال تعدادها. ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بّيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالَمِينَ [140]﴾ (آل عمران: 140)

الإمام الشاطبي مؤسس «علم مقاصد الشريعة»:

لقد ولج الإمام الشاطبي باب التّجديد في الفكر مما يعرف اصطلاحًا بـ «علم مقاصد الشريعة»، حتى لُقب الشاطبي بشيخ هذا العلم. وفي نظرنا أن هذا العلم هو المدخل إلى كل تقدّم وإصلاح وتجديد في الفكر الإسلامي قديمه وحديثه. فالدين دستور حياة ونظرة إلى الوجود ورؤية للكون ولما وراءه مبنية على مبادئ وقواعد بيّنها الدين في كتابه المنزّل.

وإنّ القرآن والسنة هما دستور حياة المسلم وأساس نظرته إلى الوجود وما وراءه، ورؤيته للكون وما وراءه. وإن للإسلام، إلى جانب ذلك، قواعد وأصولًا في التعامل، وواجبات وحقوقًا وعبادات ومعاملات، هي التعبير العملي عن المبادئ الكلية التي بيّنها القرآن والسنة. والتعبير العملي، وإن كان لا ينفصل عن المبادئ الكليّة. لأن الدين وحدة متكاملة، سوى أن مقاصد الدين، وبالتالي مقاصد الشريعة، تبقى هي الغاية التي سعى إليها الدين والشريعة ليهتدي بهما البشر في تنظيم شؤون دنياهم توخيًّا لمرضاته عزّ وجل، وتحقيق السعادة للناس في هذه الدنيا وفي الآخرة.

ولئن كان تغيّر الأزمان يقتضي تغيّر الأحكام، فإن المقاصد الشرعية هي التي تحكم هذا التغيّر. فالمقاصد مصانة لا يطالها التغيير، لأنها الكليات الثابتة. فما يراه الدين خيرًا لا يمكن أن يصبح شرًا مهما تغيّرت الأحوال والأزمان. ولا يمكن أن يصبح الفساد أو الإفساد غاية شرعية، مهما تبدّلت الظروف. فمقاصد الشريعة هي جوهر الدين. ولذلك عمد الإمام الشيخ محمد عبده (ت: 1905م) والشيخ محمد رشيد رضا (ت: 1935م) من بعده إلى إحياء فكر الإمام الشاطبي لوضع الأساس لفكر ديني جديد ومتجدِّد[2].

وقد اخترنا أن نوجه الانتباه في هذا البحث إلى جانبين من جوانب فكر الإمام الشاطبي: الأول يتّصل بإثبات أن الشاطبي كان مجدِّدًا، والثاني يتّصل بنظرته إلى التربية، أو مقاصد الشريعة التربوية.

ولئن اخترت تخصيص الجانب التربوي بالاهتمام، فلأنني أرى أن الباحثين المحدثين قد غمطوا التربية حقها في دراستهم للتراث الإسلامي. فلعلّي بتسليطي الضوء على هذا الجانب أسهم في إيفائه بعض حقه.

هل الشاطبي مجدِّد؟

عندما دعا الشيخ محمد عبده علماء المسلمين المعاصرين إلى الانكباب على دراسة الإمام الشاطبي[3]، كان ذلك على أساس أنه من السلف الذي يساعد فكره على تجديد الفكر الإسلامي في العصر الحديث. وكان هذا شأن الشيخ رشيد رضا عندما قدّم لكتاب الاعتصام بتعريف بينّ فيه أهمية الشاطبي في تاريخ الفكر التجديدي في الإسلام[4]. وثمة دلائل واضحة أن الطاهر بن عاشور المالكي (ت: 1973م) وعلال الفاسي (1974م) وصبحي بن محمد رجب المحمصاني[5]، وجميعهم ممن اقتبس واستشهد بالشاطبي، كانوا أيضًا قد استوحوا من كتابات الشاطبي بعض المبادئ تعزّز حركة الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي الحديث.

فما هي دعوة الشاطبي، وما جوهرها الذي أنزل صاحبها هذه المنزلة المرموقة بين علماء عصره ومَن جاء بعدهم حتى يومنا هذا؟ وإذا صحّ اعتبار الشاطبي مصدَر إلهام لحركة الإصلاح والتجديد الإسلامية في مطلع القرن العشرين الميلادي، فهل ما تزال هذه الدعوة الشاطبية حتى اليوم ملهمة لحركة إصلاح وتجديد للفكر الإسلامي؟

ليس عسيرًا على كل من طالع الموافقات[6] أن يتبيّن أن الشاطبي جعل الرجوع إلى علم مقاصد الشريعة الأساس الذي بُني عليه الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي في كل عصر.

وما من شك أن الشاطبي قد آلمه وضع المسلمين في عصره، وساءه ما آلت إليه حالهم، فقد ضعفت دولهم، خاصة في الأندلس حيث قضى الشاطبي معظم أيام حياته وكتب أجلّ كتبه، ولاحظ تنازع الحكام على السلطة وسعيهم للحصول على المال كيفما كان، وابتعادهم عن جوهر الدين. كما لاحظ انتشار البدع والاهتمام بالمظاهر والابتعاد عن الأصول، وكلها سمات مشتركة لعصور الانحطاط في كل زمان ومكان. فكانت دعوته في المغرب الإسلامي، سلفيةً على غرار دعوة أحمد بن تيمية (ت: 728هـ/ 1328م) في المشرق؛ ولذلك استأثرت مواضيع الخلاف وشروط وضوابط الاجتهاد، وتحكيم الشرع وتحكيم العقل بالمباحث التي تناولها في مؤلفاته.

أدرك الشاطبي أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما أساس الدين، وأن الأخذ بما جاءا به من أحكام واجب لا جدال فيه، وأن ذلك هو السبيل الأسلم للتخلّص من البدع التي حجبت عن الناس جوهر الدين، ودفعتهم إلى ممارسات أفسدت عليهم حياتهم الخاصة والعامة. فراح يبين هذه البدع حتى وإن كانت تتحدّى عادات مستساغة عند أهل عصره. فدعا مثلاً إلى عدم الالتزام بذكر الخلفاء الراشدين، أو الأئمة في خطبة الجمعة، وإلى إلغاء عبارة في أذان الصبح، وعدم جواز قراءة القرآن الكريم للعامة في المساجد، وانتقد عادات من أهل عصره مثل الاحتفال بختم القرآن الكريم في رمضان، واعتبر بعض المتصوّفة والفقراء من المبتدعين[7]، واعتبر أن إصلاح المجتمع لا يتمّ إلاّ بمثل هذا الجهد الذي يُطهِّر الدين مما علق به.

فالشاطبي أصولي بالمعنى الشرعي، ولذلك فإن دعوته لم تكن دعوة للانغلاق أو التحجّر، وإنما هي دعوة لأصل الدين، الذي يدعو للتطوّر ولإصلاح حال المسلمين.

وقد أدرك الشاطبي أن من البدع ما هو حسن أو مستحسن، وأن مصالح العباد والمشكلات المستجدة التي تتعرّض لها المجتمعات تحتاج إلى الأخذ بمبادئ في الفقه لرفع الحرج، وصون هذه المصالح.

ومعلوم أن الشاطبي مالكي المذهب ملتزم، واعٍ لما في مذهب الإمام مالك من ميزات عملية اقتنع بصوابها. ولكنّه حرص، في الوقت ذاته، أن يوفق بين مذهبه المالكي ومذهب الإمام النعمان بن ثابت أبي حنيفة (ت: 150هـ/ 767م) بخاصة، وهو يدعو بإصرار إلى تحكيم العقل في سبيل ذلك. فالعقل عند الشاطبي يأتي في مرتبة بعد النقل مباشرة، بل إن العقل عنده أصل من أصول الشرع نفسه. ولكنّه يدرك حدود العقل وقصوره، ولذلك يحمل بشدة على مَن وضع العقل فوق منزلة الشرع المبني على القرآن والسنة.

فالشرع يقضي بما فيه صلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة. والكبائر والصغائر تبنى على حسب المصالح والمفاسد[8]. ويستشهد الشاطبي في هذا الشأن بالإمام الغزالي الذي قال: «ولو تصوّرت كبيرة وحدها بغتةً، ولم يتّفق عودُه إليها، وربما كان العفو إليها أرجَى من صغيرة واظب عليها عمره»[9].

والشرع لا يفرق بين أمر وأمر، فأوامره كلها واحدة من حيث الأهمية، وإنما يكون التفريق على أساس مبدأ عام يشير إليه الشاطبي في أكثر من مكان، وهو مبدأ «جلب المصالح ودرء المفاسد»[10] الذي كان قد سبقه إليه العديد من الفقهاء فجعله الشاطبي أساسًا في بناء الشرع كله.

كذلك أكّد الشاطبي على مبدأ «الإحسان» في كل شيء، حتى في القتل مستشهدًا بالحديث الذي يقول: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة» (أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأحمد والبيهقي)[11].

ولعلّ أجلّ ما فعله الشاطبي تأكيده على «الكليات» التي بُنيت عليها الشريعة الإسلامية، فهذه «الكليات» هي الأساس في كل تشريع، ولا علم إلّا بها وبناءً عليها. وهذه «الكليات» هي خمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال. فعلم مقاصد الشريعة يرعى هذه الكليات ويصونها، لأن في مراعاتها تكمن المصلحة العليا، وفي إهمالها أو التغاضي عنها فساد حال الأمة.

ومع أن الشاطبي يشير إلى «مصالح مكملة»[12] غير المصالح العليا المبنية على «الكليات» الخمس، غير أن تلك المصالح مبنية هي أيضًا على هذه «الكليات» ولا يجوز أن تتعارض معها.

هذا هو جوهر التشريع في الإسلام وحكمته. ولبيان هذا الجوهر كتب الإمام الشاطبي الموافقات. ويبدو أن اسم الكتاب في الأصل كان «التعريف بأسرار التكليف» وهو أقرب إلى بيان أهداف الكتاب. ولكن الشاطبي عدل عن هذا العنوان لأسباب بينّها في مطلع الكتاب[13].

بناءً على ما تقدّم، نعود إلى السؤال: هل الشاطبي مجدّد، وبالتّالي هل من اتّبعه من رجال الإصلاح في العصر الحديث من أمثال: محمد عبده ومحمد رشيد رضا وابن عاشور وعلال الفاسي مجدّدون؟ وهل يمكن للتّجديد في الدين أن يكون بالعودة إلى الأصول، ونبذ البدع وإعمال العقل «لتحقيق المصالح ودرء المفاسد؟ إذ يبدو أن لا تجديد في الإسلام إلّا في هذه الحدود.

أما إذا كان القصد من التجديد في الدين نقد مصادره الثابتة لنقضها أو الخروج عنها، ودرس كليات الشرع لإنزالها من مرتبتها ككليات لجعلها مسائل ثانوية أو «جزئيات»، فالتجديد يصبح عندئذٍ تمردًا على الدين وتقويضًا لدعائمه يُستظل بها لإقامة مجتمع ليس للدين فيه مكان يذكَر.

التربية عند الشاطبي:

خصّ الشاطبي التربية والتعليم بفصول عديدة من الموافقات والاعتصام[14]،فالشاطبي صاحب مدرسة في الفقه والشريعة، وله طلاب كثر أخذوا العلم عنه، ومنهم من اعترف بفضله عليه، ومنهم مَن تنكّر له. والشاطبي بحكم نقده لبعض علماء عصره، والتزامه الصارم بالقرآن والسنة، رأى أن أهل زمانه، حتى العلماء منهم، قد حادوا عن جادة الصواب في علمهم فانتقدهم بلباقة أحيانًا، وبقسوة أحيانًا أخرى، وتوقّع أن يناله منهم مثل ما نالوه منه، وهو لذلك حرص أن يوجّه خطابه إلى «المستنيرين من العلماء»[15].

فممّا يلفت النظر عند الشاطبي تصنيفه للعلماء إلى «مستنيرين» و«جهال» وتصنيفه الناس إلى «عامة» و«خاصة»، وأنّ التعامل مع كل من هؤلاء وأولئك يجب أن يقوم على مبدأ «خاطبوا الناس على قدر عقولهم» أو «على قدر فهمهم»، وهو مبدأ يدخل في الباب الذي يعرف في المصطلح التربوي الحديث بطرق التعليم وأساليبه. وسنعود إلى هذه النقطة لاحقًا. واهتمام الشاطبي بالتربية جزء من اهتمامه العام بعلم مقاصد الشريعة. فالتربية، أي طلب العلم، مقصَد من مقاصد الشريعة وفرض من فروضها.

ولئن كان المعاصرون من رجال الفكر يؤكّدون على أن للعلم غاية يجب تحديدها بوضوح، ثم يُتبعون تحديد الغاية بتحديد الأهداف، ثم بيان الأساليب التي يجب اتباعها لتحقيق الغاية والأهداف، فإن الشاطبي كان مميزًا في اتباع هذا النهج العلمي فيما كتب بشأن طلب العلم وآداب العلماء والمتعلّمين.

ولعلّ هذا النهج العلمي هو أبرز ما قدمه الشاطبي لطلابه ومعاصريه، وهو من أدْعى دواعي إعجابنا به اليوم. فمعلوم أن بيان الغاية ثم الأهداف ثم الوسائل، ما يزال هو النهج الحديث لوضع خطط العمل وتنفيذها.

صحيح أن الغايات والأهداف والوسائل هي دومًا محاور أساسية في كل مجال وقد تناولها العديد من الفقهاء والعلماء، ولكن الشاطبي هو، دون منازع، من أوضح العلماءِ في معالجته لهذه الشؤون، إذ هو يتناولها بصورة مباشرة لا لبس فيها ولا إبهام. ولذلك فإن أثره مباشر على قرّائه، سواء اتّفقوا معه أو لم يتّفقوا.

غاية العلم:

إن غاية العلم عند الشاطبي هي مرضاة الله عزّ وجل. فهذا هو الأصل في طلب العلم. وبناءً على هذا الأصل فإن العلم يعزّز الإيمان بالله وبما أنزل على أنبيائه ورسله. غير أن من العلوم ما لا يجعل مرضاة الله غايته، كالسحر والشعوذة مثلًا. إن الشاطبي لا يحرّم تعلّم هذه العلوم، لأنه على يقين بأن من يدرك حقيقتها لابد له أن يعترف أنها علوم لا تصمد أمام ما أنزل من شرع، لأن مقاصد الشريعة «ضرورية وحاجية وتحسينية»[16]. ويضرب الشاطبي على ذلك مثل السَحَرة الذين اعترفوا لسيدنا موسى عليه السلام بتفوّقه عليهم، رغم وعيد فرعون وتهديده لهم.

فالشاطبي مطمئن إلى أن العالم، أيًا كان العلم الذي ينصرف إليه جهده، لابدّ أن يجد في كتاب الله وسنة رسوله عونًا له، ولذلك تبقى غاية العلم مرضاة الله تعالى.

وإذا كانت غاية العلم مرضاة الله، فلابدّ للعالم أن يكون متمتّعًا بالفضائل التي لا يمكن أن يرضي الله إلا بها، كما أنه لا يمكن أن يستعمل علمه إلّا لخير الناس؛ لأن ذلك هو السبيل لمرضاته عز وجل.

أهداف العلم:

الأهداف هي الغايات القريبة أو الثانوية، باعتبار أن الغاية الأسمى هي مرضاة الله عزّ وجل، وقد حدّد الشاطبي «أهداف العلم» بوصفٍ جامع هو «جلب المصالح ودفع المفاسد»[17]، غير أن مصالح الدنيا لا تتّفق دائمًا مع مصالح الآخرة، ولذلك حرص الشاطبي على التنبيه بأن مصالح الدنيا تُعرف بالنظر إلى الآخرة. وليس في هذا الرأي جديد. وإنما جديد الشاطبي هو معالجة الخلاف الذي قد ينشأ عند تعريف هذه المصالح. فهو يدرك أن «المصالح في الدنيا غير محضة، بل تخالطها المفاسد، والعكس بالعكس»[18]، وهذا يبعث على اختلاف الآراء والإجتهادات. والشاطبي في هذه الحال يدعو العالمِ إلى محاولة فهم خصمه[19]. وعدم التسرّع في الحكم عليه. وهو موقف فيه الكثير من التسامح الذي لا يتميّز به إلّا كبار العلماء، فيقول: «(إن) الاجتهاد لا يقتضي الاتفاق[20]».

ويؤكّد الشاطبي أن من أجلّ أهداف العلم أن يؤدّي إلى العمل. وقد تحدث في هذا الشأن وفي مواضع مختلفة في كتاب الموافقات. فهو يتحدّث بإسهاب عن «العلم النافع»، أي الذي يفيد العمل. وهو يستشهد بالقرآن الكريم والحديث الشريف لتأييد رأيه. حتى أن العلوم النظرية إن لم تهدف إلى العمل، فإنها في نظره، غير مجدية. ولكنه يدرك بأن العلم النظري ضروري للتوصّل إلى الفائدة العملية. وهو يضرب لذلك الأمثال[21]. ولأن الشاطبي مالكي المذهب، فكثيرًا ما يستشهد بالإمام مالك بن أنس (ت: 179هـ/ 796م) الذي قال في هذا الصدد: «لا أحب الكلام إلاّ فيما تحته عمل».

وسائل وأساليب التعليم والتعلّم:

هذا التوجّه العملي طبع جميع آراء الشاطبي، ودفعه إلى انتقاد الأبحاث النظرية، ولكنه لم يمنعه من بيان فضائل بعض آراء المتصوّفة من أهل زمانه. أما في التعليم والتعلُّم، فإن أسلوبه هو في عرض «المسائل» ومعالجتها. «والمسائل» عنده هي أشبه بما يعرف في يومنا هذا بـ «دراسة الحالة» Case Study. فهو كلما أبدى رأيًا أتبعه بعرض لحالة أو لمسألة يبين من خلالها صواب رأيه أو خطأ رأي غيره.

ويتناول الشاطبي في عدة فصول من الموافقات[22] موضوع الأسئلة التي يطرحها الطلبة على أساتذتهم. فالسؤال عنده من أهم وسائل التعلّم. وقد عانى الشاطبي، على ما يبدو، من أسئلة الطلاب والناس وما أوقعته فيه من إحراج، ولذلك يضع الشاطبي للسؤال آدابًا وأصولًا قد تبدو صارمة وضيِّقة بالنسبة لأهل زماننا. ولكنّها تتوخّى في الواقع الحفاظ على علاقة الاحترام بين الطالب والأستاذ، ومنع تطاول الطالب على أستاذه أو إحراجه.

لكن الشاطبي يدعو الأستاذ إلى أن «يخاطب الناس على قدر عقولهم» ويستشهد على ضرورة الأخذ بهذا المبدأ بأقوال السلف الصالح، معتبرًا أن من أهم الأسباب التي تعرّض الأستاذ للحرج والنزاع مع مستمعيه وطلابه كونه اختار أن يحدثهم بما لا يستوعبون أو بما لا يفهمون على الوجه الصحيح.

ولعلّ لهذا السبب يقسم الشاطبي الناس إلى خاصة وعامة[23]، فالخاصة وحدهم هم الذين يستطيع العالم أن يتبسّط معهم في الحديث ويعرض عليهم القضايا الفكرية التي تخالف معتقداتهم وعاداتهم. أما «العامة» فمهمته التعليمية معهم أصعب، لأنهم قد يسيؤون الفهم، وقد يتسرّعون برمي العلماء بالمروق أو الكفر. وواضح من حديث الشاطبي في هذا المجال أنه تعرّض لمثل هذه المواقف التي جعلت «العامة» تتعرّض له بمختلف الاتهامات. غير أننا كنا نتوقّع من الشاطبي، أن يبيّن مَن هم «الخاصة» وما مراتبهم، وكذلك مَن هم «العامة» وما مراتبهم، ولو أن الشاطبي تحدّث عن أسلوب مخاطبة طلبة العلم حسب الفئات العمرية مثلًا، وحسب مختلف المعارف لأمكن عندئذٍ أن يؤدي للفكر التربوي خدمات جليلة. ولكن الشاطبي عالم موسوعي وقد يكون من الشّطط الطلب إليه، أو التوقّع منه الإفاضة في كل موضوع يتعرَّض له.

ويلاحظ الباحث المعاصر أن الشاطبي، كغيره ممن سبقه، لم يتعرّض عند الحديث عن التعليم والتعلّم إلى إتاحة فرص التعلُّم لجميع الناس، كما يجري الحديث اليوم على كل لسان وفي كل بحث تربوي. ولعل سبب ذلك أن المجتمع الإسلامي لم يعانِ من عدم فرص التعلّم للجميع. فقد كان الجامع، وما يزال، المؤسسة التربوية الأساسية في الحضارة الإسلامية. والجامع مفتوح لجميع الناس من دون تفريق أو تمييز اللهمّ إلّا بالنسبة للنساء، وكذلك بقيت غالبيتهن محرومة من العلم في مختلف العصور. إذ ظلّ الجامع عمومًا مقصورًا على الذكور. ومع أن الشاطبي، وهو السلفي المنفتح، لا يعارض تعلّم النساء، غير أنه لم يفرد للحضّ على تعليم المرأة بابًا خاصًا، لا في الموافقات ولا في الاعتصام.

أخيرًا تجدر الإشارة إلى أن فضل الشاطبي الكبير أن سلفيّته التي لا جدال فيها هي التي دفعته إلى تأسيس علم مقاصد الشريعة، وجعلت منه مجتهدًا منفتحًا، بعيدًا عن التزمّت، وداعيًا إلى التطوّر في الفكر والعمل. وهكذا تمكّن الشاطبي من الجمع بين الالتزام والانفتاح، الأمر الذي جعل آراءه وأسلوبه في معالجة مختلف قضايا الفكر الإسلامي، بما فيها قضايا التربية، مصدر تجديد وتجدّد للمفكرين المسلمين في العصر الحديث.

&


[1] الإمام الشاطبي، الإفادات والإنشادات، تحقيق محمد أبو الأجفان، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408هـ/ 1988م، ص17، الهامش رقم 2.

[2] الموافقات في أصول الشريعة، 6 ج، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، ط 1، دار أبي عفانة، القاهرة، 2000م، ج1، ص53.

[3] سبب هذا الاختيار أننا نكتب هذا البحث تكريمًا لذكري الدكتور يوسف إيبش الذي عُنيَ طوال حياته بالفكر الإسلامي الوسيط والحديث وبحركة التجديد عمومًا. وكان رحمه الله شغوفًا بالتدريس، متقنًا لأساليبه. فلا أعلم بين مَن عرفت من الأساتذة الجامعيين مَن أتقن مثله عرض المادة التي يدرّسها لطلابه، فأحبّه هؤلاء حبًا جمًا، وترك في أنفسهم رغبة في طلب العلم، ومنهجًا فكريًا متميزًا، وأفقًا فضلًا عن روح مرحة هنيّة. العبيدي، حمادي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ط1، طرابلس، ليبيا، 1401هـ/ 1992م، ص109.

[4] الإمام الشاطبي، الاعتصام، ج1، تحقيق أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت (د. ت)، ص 3 وما بعدها.

[5] المصدر نفسه، ص110.

[6] الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الموافقات، 6 أجزاء، تحقيق أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الطبعة الأولى، دار ابن عفان الجيزة، القاهرة، 1421هـ/ 2000م.

[7] راجع، الإفادات والإنشادات، ص36 – 39.

[8] الموافقات، ج1، ص213.

[9]الموافقات، ج1،ص 216، الغزالي، إحياء علوم الدين، 4ج، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1957م، ج4، ص32.

[10] عبد الرحيم إبراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، عرضًا ودراسةً وتحليلًا، دار الفكر، دمشق 1421هـ/ 2000م، ص144.

[11] الموافقات، ج1، ص217 الحاشية.

[12] العبيدي، المرجع نفسه، ص123.

[13] الموافقات، ج1، ص10.

[14] الشاطبي، الاعتصام، حققه أحمد عبد الشافي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ/ 1988م.

[15] حمادي العبيدي، المرجع السابق، ص105.

[16] انظر: الموافقات، ج 2، ص17.

[17] الموافقات، ج 2، ص63

[18] الموافقات، ج2، ص44 – 45.

[19] الموافقات، ج2، الهامش 52.

[20] الاعتصام، ص469.

[21] انظر الموافقات، ج1، ص2، 73، 101 - 104.                                                  

[22] انظر الموافقات، ج1، ص47 - 52.

[23] انظر الموافقات، ج1، ص89 - 105.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
صفحات من تاريخ دمشق، و دراسات أخرى، 2006، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، 471 - 484.
Back to Top