محَمّد الحَبـيبْ الهــيْلة، أستاذ الدراسات العليا، التاريخية والحضارية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة
بِسْــــمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحِيــمِ
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
تأسَّـستْ خلال هذا القرن، على المسـتوى الإنساني، الدراسات المعمّقة التي وَضعتْ قواعد دقيقة لعلم التاريخ وفلسفته، وبيَّنت أساليب نقد المادة لضمــان صحــة الاستنتاج منهـا، ووضّحــتْ مناهــج المؤرخيــن، مــن قـدمـاء ومحدثين، وأبانتْ أساليبهـم في التعامل مع الإنتاج التاريخي. فعمل المسـلمون من العرب على الاستفادة من قوانين علم التاريخ العام، ساعين إلى تطبيق هذه القواعد على التاريخ الإسلامي في مختلف مراحله وأقطاره، فظهرت بذلك دراسات حديثة وُ ضعتْ على أسس جديدة، وأُعيدتْ قراءة بعض مصادر التاريخ الإسلامي على ضوء النظريات المستجدّة، فظهرت نتائج البحوث التي قام بها المسلمون من الباحثين والجامعيين، وإذا هي تقدم للفكر الإسلامي تفسيرات جِدّية للكثير من أحداث التاريخ. إذا استثنيْنا تلك الدراسات المغرضة المتعصّبة التي ظهرت عند باحثين صَبغتْ أفكارَهم لوثةُ التفسير المادي، أو امتلكت عليهم عقولَهم ظلماتُ الفكر الاستشراقي المتطرّف، أو أزاغت أبصارهم عنصريات ووطنيات محدودة.
ومن بين المجالات التي اهتم بها المؤرخون المسلمون المعاصرون مجالات دراسة مناهج الكتابة التاريخية التي أدَّتْ بصفة حتمية إلى بروز بحوث تكشف القناع عن تيارات عديدة من الكتابة التاريخية عند المسلمين، وتميط اللثام عن مدارس لكتابة التاريخ تنتسب إلى المراكز الحضارية الكبرى في حياة الإسلام. فظهرت بذلك ملامح المدارس التاريخية من مصرية وشامية وعراقيـة
وأندلسية وغيرها، كان ظهورها كلياًّ أو جزئياً في دراسات كتبها باحثون خصّصوا لها أعمالهم ورسائلهم الجامعية.
وبحثتُ عن المدرسة التاريخية المكية من بين ما قرأته، فلـم أجد لها أثراً في ما قرأتُ، ولا وجوداً بين المدارس التاريخية العربية الأخرى، على الرغم من توافر البحوث والرسائل التي تناولت قضايا التاريخ المكي.
وبقيتْ أم القرى دون أن تجد مدرستُها التاريخية عناية واهتماماً من الدارسين، إلى أن ظهرت بعض آراء من أبناء جيلنا تقول بأن «مكة وتاريخها ومؤرخيها كانوا دائماً تبَعاً لمراكز حضارية أخرى كالمدرسة المصرية والمدرسة الشامية».
وعندما ترددتْ على مسمعي هذه الآراء عرضتها على ما بقي في ذاكرتي من مطالعات الإنتاج التاريخي للمكيين، وأعدتُ النظر في ما كنتُ قرأته ثمّ وسَّعْتُ مجال المطالعة في ما لم أقرأه سابقاً، فإذا تلك المقولة عندي واهية الخيوط ضعيفة الحجة، لأنها تجعل ارتباط مكة بالسياسة المملوكية والعثمانية في مصر أساساً لرفض الشخصية المتميّزة للمؤرخين المكيين، والنمط المتميز للكتابة التاريخـة في البلــد الأمــين. مغفليــن أهميـة تميّـُز المـدينـة المقـدسـة بخصائصها الاجتماعية ومجالات كتابة مؤرخيها وغير ذلك من العناصر المكوّنة للمدرسة.
وكانت مثل هذه الآراء تدفعني إلى مواصلة تتبع الإنتاح التاريخي المكي ومطالعته وتبيُّن مناهجه وخصائصه فإذا أنا أُفَاجَأُ بما هو أهمّ مما كنت أتوقع.
فَدَرَجْتُ في المرحلة الأولى إلى عملية التعرّف والجمع، وبعد سنتيْن اجتمعتْ بين يديّ قائمة طويلة من المؤرخين المكيين، وقائمة أطول من عناوين مؤلفاتهـم، فاستقر رأيي على الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تمثلت في التعريف الموجز بهؤلاء المؤرخين وبما أمكنني التعرّف عليه من مؤلفاتهم في جميع مجالات التاريخ وما كتبوه في فنون أخرى لها علاقة بالتاريخ والحضارة.
وكـم كانت دهشـتي كبيرة عندما أنهيتُ عملية الجمع والإحصـاء حين
وجدتُ نفسي أمام قائمة تشمل 187 مؤرِّخاً مكياً عاشوا في ما بين القرنين الثالث والثالث عشر الهجريين، وأمام قائمة ثانية تشمل 846 من التآليف التي تناولت التاريخ ومتعلقاته أو التي تعتبر من المصادر الأساسية للدراسة التاريخية.
ولكن أسفي كان أكبر من دهشتي عندما دلّني الإحصاء إلى ما يلي:
أ - لم يُطْبَع من بين مجموعة هذه التآليف غير 98 عنواناً.
ب - أغلب ما طبع كان من الطبعات القديمة أو الطبعات التجارية غير المحققة.
ج - الكتب المطبوعة محققة تحقيقاً علمياً لا تصل إلى عدد أصابع اليدين.
د - إن ما بقي غير مطبوع من الإنتاج المكي التاريخي يبلغ مبدئياً 750 عنواناً.
هـ - إنّ ما أمكنني التعرف عليه من مخطوطات موجودة يبلغ 245 عنواناً.
و - إن ما بقي من هذا الإنتاج، وهو 505 عنواناً، لم نتوصّل إلى معرفة وجود مخطوطاته، وإنما وجدنا له ذكراً في المصادر ولم نعثر له على أثر في العديد من فهارس المخطوطات التي اطلعنا عليها، وهي – يعلم الله - كثيرة جداً1.
وإيماناً مني بأنه لا يسوغ لي ولا لغيري الحديث عن المدرسة المكية للتـاريـخ إلاّ بعـد أن تتـوفّـر المعـرفـة الكـاملـة بشخصيــات المؤرخيـن المكييـن ومجالات كتاباتهم التاريخية، حصرتُ على إبراز هذا الإنجاز الأوَّليّ الذي أنشره تحت عنوان «التاريخ والمؤرخون بمكة، من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثالث عشر – جمع وعرض وتعريف» ليمكن بعد ذلك تناول المدرسة التاريخية المكية في تصنيف منفرد، إن شاء الله.
وقد حاولتُ في عملي هذا أن أقدّم للقارئ والباحث ترجمة موجزة لكل واحد من هؤلاء المؤرخين المكيين مع قائمة لمصادر ترجمته ثـم عرضـتُ تِعداداً لآثاره التاريخية، فإن كان الكتاب مطبوعاً طبعة محققة تحقيقاً علمياً محترماً اكتفيتُ بالإشارة إلى طبعته وذِكْر محتواه وإذا كانت طبعة الكتاب لا تفي بغرض الباحث المدقق عرضتُ ما أمكن التعرّف عليه من مخطوطاته الأمهات القديمة، تسهيلاً وإفادة للمحققين.
أما إن كان الكتاب مخطوطاً غير مطبوع فإني أذكر ما عرفتُ من مخطوطاته ودللتُ على أماكن حفظها وأرقامها وعدد ورقاتها وتواريخ نسخها - إن وُجدتْ – ويكون ذلك نتيجة لما استفدته من مطالعتها أو من أوصاف فهارس المخطواطات. وأخص المخطوطات التي أطلعتُ عليها بالوصف المفصّل وعرْضٍ لمحتواها مما يقدم للقارئ صورة تبين أهميتها وموضوعاتها.
وإذا كان الكتاب مذكوراً في المصادر المعتمدة الموثوق بها ولـم أجده بين المطبوعات والمخطوطات فإني أكتفي بعرض أهم مواطن ذكره في المصادر والإحالة عليها.
وقد رتّبتُ الكتاب على تواريخ وفيات المؤرخين المكيين بداية من سنة 244 هــ تـاريـخ وفـاة الأزرقـي إلى سنة 1295 هــ تـاريـخ وفـاة محمـد بـن عبد الله بن حميد الحنبلي المكي.
أمّا المؤرخون الذين اعتبرتُهم مكيين فهمْ من كانوا مِن أهل مكة أصالة وولادة أو مَن ورَدُوا عليها مجاورين قاصدين الإقامة الدائمة بها فانتسبوا أو نسبتْهم المصادر التاريخية غليها. وقد سلكتُ في ذلك مَسلك السابقين من علماء المكيين مثل التقي الفاسي في كتابه العقد الثمين، والنجم بن فهد في الدرّ الكمين، والمتأخّرين مثل عبد الله مرداد في نشر النّور والزهر.
وسوف يلاحظ القارئ أنني عندما عرضتُ قوائم الإنتاج التاريخي للمؤرخين جمعتُ فيها كل مؤلفاتهم في السيرة والتاريخ العام والخاص وكتب الفضائل والتراجـم والطبقـات والمناقـب والمعاجم والفهارس وكتب رجال
الحديث والأثبات كما أضفتُ إليها كتب مناسك المكيين وبعض الرسائل الفقهية والعقدية التي تناولت القضايا الحضارية ذات العلاقة بالدراسات التاريخية.
فقد كنتُ ولا زلتُ أقول بأن إنتاج فقهاء المسلمين – على اختلاف مذاهبهـم – هو من بين أهـم المصادر اليقينية الصادقة التي يحتاج إليها المؤرخ المعاصر. فإن علم الفقه عند المسلمين هو من أكثر العلوم تفاعلاً مع المجتمع الإنساني، وأسرعها استجابة لما يطرأ على الناس من تحوّلات اجتماعية. لذلــك كــانت أقــوال الفقهــاء وآرائهـم ومواقفهـم هي الميزان الذي يضـع المجتـمع المسـلم على كَفَّـته كل مظاهـر تطـوره ليـرى قَوْلَــة القســط والعــدل في ما يظهر فيه من حوادث وتطورات. لذلك تكون آراء الفقهاء وخاصة في أجوبتهم عن استفتاءات المسلمين من أصدق النصوص التاريخية التي لا يرقى إليها شك، إذ هي تمدّنا بصورة واضحة لواقع المجتمع والأنماط الحضارية الشائعة فيه، مما يعيننا على التفسير التاريخي الصحيح.
كما أنّ ما ألّفه الفقهاء من كتب مناسك الحج – وخاصة فقهاء المكيين - يمكن أن يعتبَر مصدراً هامًّا لتصوير كثير من أحوال الحرميْن وأوصاف المشاعر والمنشآت الدينية والعلمية والحضارية، مع التعرّض غالباً إلى وصف مواسم الحج في عصر المؤلف وعرض بعض الحوادث الاجتماعية والتاريخية فيه.
وتجاه أهمية هذه التآليف في العملية التاريخية فقد اهتممنا بكلّ ما كان منها متعلقاً بالتاريخ وأضفناه إلى إنتاج المؤرخين، لأن هذه التآليف، وإن كانت فقهية الموضوع، إلاّ أنها مصادر ذات أهمية أولى في كل بحث تاريخي جاد.
ولم يكن ذلك مستحدَثاً مِنّا وإنما سِرْنا فيه على منهج أسلافنا من المؤرخين المسلمين الذين لم يكونوا في تواريخهم يكتفون باعتماد الكتب التاريخية، وإنما كانوا يعتمدون الكثير من الإنتاج الفقهي الذي يقدّم فوائد ومعلومات تاريخية وحضارية.
٭ ٭ ٭
ولا يفوتني أن أتقدم بشكري للمؤسسات والمكتبات ومراكز البحوث التي فسحتْ لي المجال للاستفادة من مخطوطاتها ومصوّراتها، وأخصّ بالذكر منها، مركز البحوث بجامعة أم القرى، مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الخزانتين الحسنية والعامة بالرباط، مكتبات السليمانية باسطنبول، المكتبة الوطنية بباريس، دار الكتب الوطنية بتونس، وغيرها من المؤسسات العلمية التي استفدتُ منها.
أما تلك المكتبات التي شحَّتْ بالمعرفة وضنَّتْ بالفائدة العلمية وأساءتْ فهم وظيفتها في مجال الثقافة الإسلامية، فلن أدعُو لموّظفّيها والقائمين عليها إلاّ بالهداية والتوفيق.
كما لا يفوتني أن أعرب عن جزيل شكري وصادق تقديري لمؤسسة الفر قان للتراث الإسلامي وعلى رأسها مؤسسها معالي الشيخ أحمد زكي يماني لاختيار هذا الكتاب كي يكون باكورة سلسلة مطبوعات فرع نشاطها الجديد الخاص بموسوعة مكة المكرمة، داعياً المولى عز وجل أن يكلل الجهود المخلصة التي تقوم بها هذه المؤسسة بالنجاح والتوفيق في خدمة الإسلام والمسلمين.
وفي الختام فإني أشكر الله العلي القدير الذي يسّر لي إتمام هذا العمل وأقْدَرنِي على إنجازه خدمة لأم القرى وحرمها الأمين، فقد كان من بدايته إلى نهايته عملاً تلقائياً شخصياً، لم أقم به ضمن مؤسسة ولا لجنة، ولم أتحمّل أعباءه ابتغاء ترقية ولا شهادة، ولا رغبة في عنوان تشريفي، وإنما كان قصدي منه – والله أعلم بالقصد – فتح أبواب من العمل العلمي أمام طلاّب العلم والباحثين والمؤرخين. فقد بذلتُ فيه من الجهد والوقت والمال والرحلات الصعبة، ما لا يعوّضه ويجزيه إلاّ حصول الأجر من الله الكريم.
والله ولي التوفيق، وله الحمد أولاً وآخراً
محمد الحبيب الهيلة
مكة المكرمة في 10 رجب 1414 هــ
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: التاريخ والمؤرخون بمكة من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثالث عشر: جمع وعرض وتعريف،1994 مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص9-14. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني |