القَوَاعِدُ الأَسَاسُ لِعِلْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَة: القاعدة الثانية: قاعدة الاستصلاح

شارك:

أحمد الريسوني

محتويات المقال:
المبحث الأول: الاستصلاح الواقع من الله تعالى
المبحث الثاني: الاستصلاح في فهم النصوص وتطبيقها
المبحث الثالث: الاستصلاح فيما لا نص فيه

هذه القاعدة امتداد مباشر للقاعدة الأولى – قاعدة التعليل – ومكملةٌ لها. إذْ لمَّاثبت وظهر أن الشريعة معللة، وأن عِلَلَها الإجمالية والتفصيلية، دائرة على جلب مصالح العباد في دينهم ودنياهم، نتج عن ذلك قولُ العلماء بأن "مقاصد الشريعة إنما هي جلبُ المصالح ودرء المفاسد". ففكرة التعليل تصب هنا، وفكرة الاستصلاح تنبع من هنا.

وبناء عليه نستطيع أن نقول : إن "قاعدة التعليل" و "قاعدة الاستصلاح" تشكلان معا "قاعدة القواعد" في الشريعة ومقاصدها وأصولها وفقهها1.

أما المراد بالاستصلاح في استعمالات أهل العلم فهو: طلب الصلح والمصلحة، والمقصدُ إليهما، واتخاذ الأسباب المؤديةِ إلى جلبهما وحفظهما. ويدخل في ذلك كله درء الفساد، واقعاً كان او متوقعا. فدرء المفاسد وجه من وجوه حفظ المصالح ونوع من الاستصلاح.

وهذا الاستصلاح الشرعي يتجلى في عدة شُعَب، أهمها ثلاث جامعة هي:

  • الاستصلاح الإلهي في شؤون الخلق والتشريع،
  • الاستصلاح في فهم نصوص الشرع وتطبيقها،
  • الاستصلاح فيما لا نص فيه.

وبيان هذه الوجوه في المباحث الثلاثة الآتية:

المبحث الأول: الاستصلاح الواقع من الله تعالى

ومعناه أنه سبحانه قد هيأ ويهيء الصلاح والمصالح وأسبابَهما للعباد، وأنه يكلفهم بما فيه صلاحهم، فهو يستصلحهم، أو يستصلح لهم ما ينفعهم.

وواضح أن هذا الاستصلاح الإلهي تدخل فيه أفعال الله تعالى وأحكامه معا (أي: التكوين والتشريع). ومنه نشأ المبدأ الاعتزالي القائل بـ"وجوب رعاية الصلاح والأصلح على الله تعالى". قال القاضي عبد الجبار الهمذاني: "فصلٌ في معنى وصفِ اللطف بأنه صلاح ومصلحة واستصلاح… وعلى هذا الوجه نَصِفُ القديمَ تعالى بأنه قد استصلح المكلفَ بالألطاف وغيرها…"2.

والخلاف مع المعتزلة ليس حول مبدأ الاستصلاح في أفعال الله وأحكامه، وإنما هو فقط في "مسألة الوجوب"3. أما الاستصلاح الإلهي في حد ذاته فمتفق عليه ومسَلَّم به. ولذلك نجد الفقيه الشافعي أبا بكر الشاشي القفال الكبير – وهومتقدم على القاضي عبد الجبار – يستعمل المصطلح ومشتقاته بالمعنى نفسه. من ذلك قوله: "الشرائع مضافة بمعانيها إلى متعبَّدٍ ملِكٍ  قادر حكيم مستصلح لعباده ما يتم لهم به البقاء في دار المحنة مدة بقائها..."4، وقولُه: "الله تعالى عرَّف عباده أنه إنما تعبدهم باستصلاحهم بالشرائع" وقوله: "الشارع مستصلح حكيم5".

ونجد هذا المعنى مستعملا بكثرة عند إمام الحرمين6

تجليات الاستصلاح الإلهي

من بديهيات الاعتقاد وضروراته أن نقول: إن استصلاح الله تعالى لخلقه متَجَلٍّ في كل شيء، وإنه لا يمكن أن يُعد ولا يحصى ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: 18] وإن كل ما يتمتع به الإنسان منصلاح واستصلاح فمنه سبحانه ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53]، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20]. وحتى ما تفتقت عنه العقول البشرية والجهود البشرية من إبداعات وابتكارات وأنظمة وحضارات، إنماهو أولا وأخيرا ثمرةٌ لما وهبهم الله تعالى وما يمدهم به ويمهده لهم من قدراتومواهب ووسائل.

وفي القرآن الكريم كثير من الآيات الجليلة الجميلة، تنبه على عظيم فضل الله وسابغ لطفه بعباده، كقوله جل جلاله:

  • ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]،
  • ·          ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحج: 65]،
  • ·          ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: 45-49]،
  • ·          ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 24-32]
  • وفي فاتحة المصحف وأولى كلماته نقرأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِالرَّحِيمِ﴾. ولفظ (رَبّ) وحده متضمن لكافة معاني التربية والرعاية واللطف والإمداد والاستصلاح. والله تعالى وتبارك هو ربُّ للعالمين أجمعين، بهذه المعاني كلها.

وقد رأيت من المفيد أن أنقل لكم في هذا السياق بعض الفقرات مما كتبه الفخر الرازي في تفسيره عن دلالات (ربِّ العالمين) وتجليات هذه الربوبية. قالرحمه الله:

"واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيانه من وجوه:

الأول: ما ذكرناه أنه تعالى يُرَبِّي عبيده لا لغرضِ نفسه، بل لغرضهم، وغيرُه يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم.

الثاني: أن غيره إذا ربى، فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر، كما قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21].

الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء).

الرابع: أن غيره من المحسنين ما لم يُطلَب منه الإحسان لم يعطِ، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنينا في رحم الأم، وحال ما كنت جاهلا غير عاقل، لا تحسن أن تسأل منه، ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية.

الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه ألبتة.

السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال: ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} [الأعراف: 156]، فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه (الحمد لله رب العالمين)"7.

ثم قال8: "وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة:

المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم، فانظر كيف أنها صارت علقة أولا، ثم مضغة ثانيا، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين. ثم اتصل البعض بالبعض. ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان. فسبحان من أسمع بعظم، وبصَّر بشحم، وأنطق بلحم. واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور. وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد.

المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض، فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت، ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب؛ أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة، وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولا، ثم الثمار ثانيا، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور، ثم اللبوب ثم الأدهان. وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة. وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا﴾ [عبس: 25، 26] الآيات.

المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابا لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سببا للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سببا للمعاش والحركة: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [يونس: 5]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُوم لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَات الْبَرّ وَالْبَحْر﴾ [الأنعام: 97]. واقرأ قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 6، 7] إلى آخر الآية.... واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان، قَضَى صريحُ عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله (الحمد لله رب العالمين)"9.

********

وعلى غرار هذا الاستصلاح في الخلق والتكوين، جاء الاستصلاح الإلهي في الأمر والتشريع، سواء بسواء. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي جمعت له كلوجوه الاستصلاح التكوينية والعقلية والتشريعية. قال الراغب الإصفهاني: "كلُّ ما أوجده الله سبحانه فإنه هداه لما فيه مصلحته، كما نبه عليه بقوله تعالى ﴿أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾، لكن هدايته للجمادات بالتسخير فقط....، وهدايته للحيوانات إلى أفعال تتعاطاها بالتسخير والإلهام ...، وهدايته للملائكة بالتسخير والإلهام، وببداهة العقل وما جعل لها من العلوم الضرورية. فأما الإنسان فهدايتُهُ له تعالىبكل ذلك، وبالفكر..."10.

ورغم كل هذه العناية والهداية والنِّعَم، فإن بعض الناس لا يرون في هذه الدنيا إلا صفحة العناء والغلاء والبلاء والشقاء، ثم هم – في أحسن أحوالهم -يرجون ويلتمسون رحمة الله هنالك، في الدار الآخرة لا غير.

وبعضهم يدركون ويلمسون ويُقَدِّرون ما أنعم الله به على عباده من الألطاف والنِّعم والخيرات في هذه الدنيا، لكنهم يظنون أنه سبحانه فرض عليهم ضريبة على ذلك، وهي هذه التكاليف الدينية الثقيلة، فكأنها نِقم بجانب النِعم، أو كأنهم يبذلون العبادات والطاعات ثمنا لتلك العم والخيرات.

وهناك من لهم تصور أفضل من هذا، وهو أن الله تعالى أمدنا في هذه الدنيا بنِعمٍ وخيرات وقدرات، لكي نستعملها ونجني بها السعادة الدنيوية، ثم فرض علينا التكاليف الدينية لنتبعها ونتحملها فنَجْنِيَ بها السعادة الأخروية.

والحقيقة أن الله تعالى قد أنزل لنا الدين تشريفا وتكريما، ولنعبده ولا نكفره، ونشكره ولا نكون من العاقين أو الغافلين، وأنزل لنا شرعه لنسعد به في الدنيا والآخرة معا، أو قل: لنسعد به في الدنيا قبل الآخرة. فلطفه تعالى وإنعامهواستصلاحه لنا بالدين وشرائعِه وتكاليفِه لا يقل نفعا وإسعاد لنا عما ننعم به من خيراتٍ ونعم دنيوية في أنفسنا ومِن حولِنا. فالشرع يحفظ علينا – في هذه الدنيا– كرامتنا وأعراضنا وعقولنا وأخلاقنا وأرواحنا وأموالنا وصحتنا النفسية والبدنية،وسائر مصالحنا الظاهرة منها والباطنة، ما علمنا منها وما جهلنا. ثم يأتي جزاء الآخرةالدار الآخرة بعد ذلك، قال تعالى:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].

أما ما تتطلبه بعض التكاليف الشرعية من جهد وبذل وصبر، فهو أولانظير ما تتطلبه خيرات هذه الدنيا من جهد وبذل وصبر، من أجل تحصيلها وصونها واستعمالها. بل هو أخف بكثير مما في الحياة العادية لكافة الناس، من مسلمين وغيرمسلمين، ومن متدينين وغير متدينين، ومن موسِرين وغير مُعْسِرين. وهو ثانيا نوع من الإبتلاء، والدنيا كلها دار ابتلاء بالخير والشر. ولكنها سُلَّمٌ للسعادة والإستصلاح والإرتقاء، ﴿ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ [المدثر: 37].

وقد مضى في (قاعدة التعليل) ذكر شيء من حكمة الله ولطفه، في شريعته وحكمه. والأمثلة مثبوثة في فصول الكتاب كلها.

المبحث الثاني: الاستصلاح في فهم النصوص وتطبيقها

وأعني به الالتفاتَ إلى المصلحة أثناء النظر في فهم النصوص الشرعية وعند تنزيلها التطبيقي، وهو ما سبق أن أسميته "التفسير المصلحي للنصوص"11. وهو مبنيعلى أساس أن الشريعة وحميعَ أحكامها إنما هي جلب لمصالح العباد ودرء للمفاسد عنهم، في دينهم ودنياهم، وليس في شيء من تفويت المصالح وجلبِ للمفاسد،إلا في العقول القاصرة. قال عز الدين بن عبد السلام "الشريعة كلها مصالح؛ إماتدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعتَ الله يقول: ﴿ياَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ فتأمل وصيته بعد ندائه: فلا تجد إلا خير يحثك عليه، أو شر يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر"12.

وما دام الأمر هكذا، وأن استصلاح الله تعالى ثابت لا شك فيه، ومُطَّرِد لايتخلف، سواء في خلقه أو شرعه، وأن ذلك هو ما يقصده ويحبه لعباده، فلا بد من اعتبار ذلك والإلتفات إليه عند فهم النصوص الشرعية وتقرير مقتضايتها وتنزيلهاعلى الوقائع والحالات المعنية، وذلك لكي تكون النصوص منسجمة مع مقاصدها ومحققة لها، وليس العكس.

وهذا الاستصلاح في تفسير النصوص الشرعية ليس افتئاتا عليها أو تحكما فيها أو تعطيلا لها، بل هو فقط حُسْنُ فهمٍ لها وحسن ظن بها، وإعمالٌ وطرد لما عُلم من مقاصدها. وهو من الناحية المنهجية نوع من أنواع الجمع بين الكليات والجزئيات، وإعمالٌ لبعضها في بعض.

- فحين نكون مثلا أمام نصوص شرعية تحتمل عدة وجوه من التفسيروالتطبيق، فيجب حملها وتنزيلها وفق أكثر الوجوه والخيارات تضمنا وملائمة لحفظ المصالح ودرء المفاسد، لأن تلك – بلا ريب – هي حقيقتها.

- وحين نجد نصا شرعيا ظاهرُ معناه ومقتضاه يؤدي إلى تفويت مصلحة مؤكدة راجحة، أو يؤدي إلى حصول مضرة محققة، أو مظلمةٍ واضحة، فهذا إشكال لاينبغي التغاضي عنه والتسليم به، بل يجب أن نتوقف عنده ونبحث عن حله، لا بدأن نتمهل ونتأمل؛ فإن وجدنا للنص معنى أو وجها ليس فيه شيء من هذا، كان أولى بالاعتبار والاعتماد، ما دام هو الأليق بالشرع ومقاصده. وإذا تطلب الأمرتخصيصا أو تقييدا للنص، نظُر فيه وفق قواعد تخصيص العام وتقييد المطلق.

فالحاصل هو ما قاله ابن القيم: "كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"13.

وقبْله قال ابن قدامة المقدسي: "والشرع لا يَرِدُ بتحريم المصالح التي لا مضرةفيها بل بمشروعيتها"14.

وقال الشهاب القرافي: "ما لا مفسدة فيه لا يكون منهيا عنه، واستقراءالشرائع يدل على ذلك"15.

وعلى مر العصور تعامل جمهور الفقهاء مع نصوص الشرع بما يحقق الانسجام والتوافق مع جلب المصالح المشروعة ودرء المفاسد الممنوعة. ولا شك أنالخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله  عنه هو رائد هذا المنهج وإمامه من بعدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإجتهادات العُمَرية مشهورة في هذا الباب...

-ومن أمثلة الباب: ما ورد في المَكس16 وأصحابِه من تحذير ووعيد شديد، مثل حديث: «لا يدخل الجنة صاحبُ مكس»، ومثل حديث المرأة التي زنت ورُجمت... فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «...فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفر له».

وفي فقه هذه الحاديث وتنزيلها هناك من الفقهاء من يعتبر أن نظام الجمارك المعمولَ به الآن هو نفسه المكوس المحرمة، وأن الموظفين الجمركيين هم أصحاب المكوس المذكورين في الأحاديث النبوية. والبعض يوسع الأمر أكثر فيعتبرأن الضرائب كلها من المكوس المحرمة.

وهناك من يرون أن المكوس المحرمة إنما هي التي تؤخذ ظلما وتسلطا، وتذهب إلى ذوي النفوذ والتحكم، فيتملكونها ويتصرفون فيها بغير حق.

أما الرسوم الحدودية التي تفرضها السلطة الشرعية على البضائع والأموال العابرة، وتسمى اليوم بالرسوم الجمركية، فإنها إن كانت تؤخذ وفق نظام عادل،يصب في بيت المال ويخدم المصلحة العامة، ويتم بلا تعسف ولا محاباة ولا نهب، فهذا لا يمكن أن يدخل فيما نهى عنه الشرع وتوعد القائمين به. ومثل هذا يقال في الضرائب عموما.

ولا شك أن هذا القول الثاني هو التفسير الصحيح والفقه السديد، الموافق لمقاصد الشرع والمصلحة العامة.

نعم إذا وجد من الموظفين الجمركيين ورؤسائهم مَن يأخذون من الناس لأنفسهم وجيوبهم، أو يزيدون عليهم تعسفا ونكاية، فهم قطعا من أصحاب المكوس المذكورين في الوعيد. ويدخل في حكمهم من يفعل مثلهم من رجال الشرطة أوالدرك أو موظفي الضرائب. 

فهذا هو الفهم الاستصلاحي والفقه المقاصدي لنصوص الشرع وأحكامه.

-ومن أيضا حكم الجماعة التي تشترك في قتل شخص واحد، كأنْ يقتله اثنان أو ثلاثة مثلا. فقد وقف الفقهاء منذ عصر الصحابة عند هذه المسألة، ووجدواالقرآن الكريم ينص على ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] أي تقتل نفس واحدة بنفس واحدة، جزاء وفاقا. فلذلك رأى بعض العلماء أن القصاص لا يطبقفي هذه الحالة، لتعذر المماثلة والمساواة فيه، وأنه لا يقتل جماعة بواحد، وإنمايعزرون...

قال ابن العربي: "المسألة الخامسة: قال أحمد بن حنبل: لا تُقتل الجماعة بالواحد؛ لأن الله تعالى قال: ﴿النفس بالنفس﴾ [المائدة: 45]. قلنا: هذا عمومتخصه حكمته؛ فإن الله سبحانه إنما قَتل17من قَتل صيانة للأنفس عن القتل، فلوعلم الأعداء أنهم بالاجتماع يسقط القصاص عنهم لقتلوه عدوهم في جماعتهم،فحكمنا بإيجاب القصاص عليهم ردعا للأعداء، وحسما لهذا الداء"18.

فهنا تَحَكَّم اعتبار المصلحة واعتبار قصد الشارع في توجيه الآية، فاعتُبرمنطوقها خاصا بحالات القتل الفردي، أي: واحد يقتل واحدا فيقتل به قصاصا، ولكن مقصودها يتسع لحالة القتل الجماعي للشخص الواحد، فيُقتلون به تحقيقا للمصلحة الكلية في حفظ النفوس.

-ومن النصوص التي تعامل معها العلماء تعاملا استصلاحيا، ما ورد فيالغيبة والنميمة من نهي ووعيد وتحريم لا شك فيه. ومع ذلك يقول العلامة ابن دقيقالعيد: "فإن النميمة إذا اقتضى تركها مفسدة تتعلق بالغير، أو فِعلُها مصلحة يستضر الغير بتركها، لم تكن ممنوعة. كما نقول في الغيبة: إذا كانت للنصيحة، أو لدفع المفسدة، لمتُمنع. ولو ان شخصا اطَّلع من آخر على قول يقتضي إيقاع ضرر بإنسان، فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن ذلك الضرر، لوجب ذكره له"19. وقال الملا الهروي القاري:"وهذا إذا لم يكن لمصلحة، فإذا دعت، كما لو أُخبر أن إنسانا يريد الفتك به، أو بأهله أو بماله فلا منع، بل قد يكون واجبا"20. وهكذا نجد الفهم الاستصلاحي لنصوص الشرع قد يخرج الفعل من دائرة التحريم الذي يقتضيه ظاهر النص وعمومه، إلى دائرة الإباحة أو الوجوب بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية.

-ومن ذلك أيضا: الآيات والأحاديث الواردة في الحث على العفووالصفح والمسامحة، فهذه النصوص الكريمة من شأن العمل بها أن يجعل الظالم المتعدي يستحيي ويرعوي ويغير سلوكه العدواني. لكنَّ هناك من لا يزيدهم العفووالصفح إلا طغيانا وتماديا، ففي مثل هؤلاء قال القرافي: "مِنَ الظَّلَمة مَن إذا علم بالمسامحة والعفو زاد طغيانه، ولا يردعه إلا إظهار الدعاء عليه. فليكن العفو عنه بينك وبين الله تعالى، ولا تُظهر له ذلك، بل أظهر له ما فيه صلاحهواستصلاحه"21

وما قيل في تفسير النصوص والعمل بها، يقال – من باب أولى – في إجراء القياس والعمل به. فالمصلحة المحققة تحدُّ من القياس وتتقدم عليه إذاعارضها. لأجل ذلك أخذ علماء الحنفية والمالكية بالاستحسان الاستصلاحي وجعلوه مسلكا من مسالكهم الاجتهادية، وقالوا: "الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس"22.

المبحث الثالث: الاستصلاح فيما لا نص فيه

الاستصلاح هنا مراد به معناه الفقهي الأصولي، وهو: الاستناد إلى المصلحة واتخاذُها دليلا شرعيا للأحكام، في المسائل التي ليس فيها نص خاص وحكم محدد. وهو الإصطلاح الذي اشتهر منذ استعمال الغزالي له في (المستصفى)، وإن كان شيخه إمام الحرمين قد استعمل قبله الاستصلاح بهذا المعنى.

وقد اشتهر كذلك أن الإمام الغزالي رافض لحجية هذا الاستصلاح، فهو أولاقد عدَّه من الأدلة الموهومة23، ثم قرر في النهاية "أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا24 برأسه، بل مَنِ استصلح فقد شَرَع..."25.

"والحقيقة أن الغزالي إنما ينفي حجية المصلحة التي لا أساس لها في الشرع، ولا تُلائم سياسته التشريعية، يقول: "فكل مصلحة لا ترجع إلا حفظ مقصودٍ فُهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع،فهي باطلة مُطَّرَحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن مَنِ استحسن فقد شرع".

أما المصلحة المرسلة، التي تكون ملائمة للشرع ومقاصده، فقد حَسم أمرَحجيتها بقوله: "وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي عُلم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياسا، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودةً، عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوالوتفاريق الأمارات، فتسمى لذلك مصلحة مرسلة. وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتِّباعها، بل يجب القطع بكونها حجة".

ويقول: "كل معنى مناسب للحكم مطَّرِدٍ في أحكام الشرع، لا يرُدُّه أصل مقطوعٌ به مقدمٌ عليه – من كتاب أو سنة أو إجماع – فهو مقُول به، وإن لم يشهد له أصل معين"26.

على كل حال، فالاستصلاح بمعنى العمل بالمصلحة المرسلة، قد اتضح أمر هو استقر مفهومه، وتجاوز مرحلةَ المنازعة النظرية حول شرعيته وحجيته، وأصبح أصلا تشريعيا لا غبار عليه. فلا حاجة بي لإثبات ذلك وسرد أدلته، وإنما أُورِد فقط بعض تطبيقاته التي هي نوع من الفقه الاستصلاحي المقاصدي27.

-وأبدأ بمثال أبي حامد الغزالي الذي اشتهر عنه رفض الاستصلاح28، لنرى مدى تغلغل النظر الاستصلاحي في فقه هذا الإمام. ويتعلق المثال بمن وقع بيده أو آل إليه مالٌ ليس له، ولكن تعذر عليه معرفة مالكه ومستحقه، ماذا يفعلبه...؟

فبعد أن استعرض الغزالي جملة من الأقوال في المسألة، قال رحمه الله:

"إن هذا المال مُرَدَّدٌ بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير، إذ قد وقع اليأس من مالكه، وبالضرورة يُعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر، فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتنا على أنفسنا وعلى المالك، ولم تحصل منه فائدة. وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركةُ دعائه، وحصل للفقير سد حاجته.  وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر، فإن في الخبر الصحيح أن للزارع والغارس أجراً في كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه وذلك بغير اختياره.

وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا،ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددْنا بين التضييع وبينالتصدق، ورجَّحنا جانبَ التصدق على جانب التضييع.

وقول القائل: لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا فهو كذلك، ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه، وللفقير حلال إذا أحله دليل الشرع. وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل، وإذا حل فقد رضينا له الحلال. ونقول: إن له أن يَتصدقَ على نَفْسه وعِيَالِهِ إذا كَان فقيراً. أما عياله وأهله فلا يخفى، لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله، بل هم أولى مَن يتصدق عليهم. وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته، لأنه أيضا فقير، ولو تصدق به على فقير لجاز، وكذا إذا كان هوالفقير"29.

-واختلف الفقهاء في العقوبة المناسبة للجاسوس الذي يتجسس على المسلمين لأعدائهم، فقال عدد منهم: يقتل، سواء كان مسلما أو ذميا أو معاهدا. قالابن العربي في توجيه هذا القول: "وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض".30

ولكن ما دام السند الحاسم في المسألة إنما هو مراعاة المصلحة والمفسدة الناجمة عن التجسس، فقد يكون الأنسب هو أن تختلف العقوبة باختلاف الحالات ومدى خطورة التجسس وضرره في كل حالة.

ولا يخفى أن الاستصلاح فيما لا نص فيه تتسع مساحته وتزداد أهميته دوما وبدون توقف، وذلك بسبب تزايد النوازل والأحوال غير المنصوصة، وظهورِمصالح ومفاسد خطيرة الشأن في حياة الأفراد والدول والمجتمعات، وهي لم تكنشيئا مذكورا من قبل. فيبقى الاستصلاح المقاصدي هو المرجع المعول عليه في الحكم عليها والتعامل معها وفق قدرها ووزنها.

ولما رغب – أو ضعف – النظر المصلحي والميزان المصلحي والتقديرالمصلحي، عند كثير من فقهاء الإسلام، تحول ذلك مع مرور الزمان إلى طامة كبرى على الإسلام والمسلمين، فلقد أغفلوا المصالح العظيمة وسكتوا عن المفاسد الجسيمة.

ففروض الكفايات تكاد تنحصر عند بعضهم في صلاة الجنازة وإنقاذ الغريق، وأما تعميم التعليم وتطويره في جميع المجالات والمستويات، ونشر دعوة الإسلام وثقافته في جميع الآفاق وبكل اللغات، والدفاع عن الحقوق وصدُّ المنكرات، وحفظ الحرية والكرامة للناس، وفي مقدمتهم العلماء أنفسهم، وتحقيقُ الكفاية والتفوق في أنواع الصناعات، وحفظ الثروة العامة وتنميتها، وحفظ الاستقلال والسيادة في جميع المجالات، وإقامةُ الحكم والسياسة على الشرعية والشورى... فهنا يخفت صوت العلماء أو ينقطع، إلا قليلا منهم.

ثم تجدهم يتعايشون مع الاستبداد السياسي والفساد المالي للحكام، وبعضهم يندمجون فيهما ويأخذون أسهمهم منهما.

وأما الإفتاء الفقهي في المعاملات والمستجدات، فقلما نجد فيه اعتماد ميزان المصالح والمفاسد، وقد يشار إليه على سبيل الاستئناس والتحلية، بينما نجد الاستدلالات اللفظية والأحاديث الضعيفة والآثار المنقطعة والأقيسة المتكلَّفة  تصول وتجول.

وللعلامة محمد الطاهر ابن عاشور تنبيه وتحذير في هذا الموضوع؛ فبعد أنفصَّل القول في المصالح وأنواعها وأقسامها قال: "هذا جِماع القول في المصالح المعتبرة شرعا. ولإطالة الكلام في ذلك فائدة عظيمة ليتعلم مُزاولُ هذا العلمِ أن طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، وأنه إذا لم يتبع هذا المسلك الواضحَ والمحجة البيضاء فقد عطل الإسلام عن أن يكون دينا عاما وباقيا، ولم يأمن أن يسلك واديا أخوفَ إلاما هدى اللهُ ساريا"31

ولقد كان من آثار تغييب الميزان المصلحي عن النظر الفقهي، أن حكام المسلمين عزفوا عن الحلول الفقهية الشرعية لمشاكل المسلمين وحاجات دولهم، لكونها لم تعد مستوعبة وشافية، وراحوا يحكِّمون آراءهم الإنفرادية ونزاعاتهم الاستبدادية، ثم استسلموا أما النُّظُم والقوانين والسياسات والحلول المملاة عليهممن الدول الغازية المتفوقة.

يقول الفقيه القاضي محمد المُرير:" ولكن وقف في هذا الطريق (يقصد طريق التجديد) فقهاء جامدون وقفوا مع مجرد المنقول، واستنكروا مزج النصوص بالمعقول، فقطعوا السلوك، وفتحوا على الشريعة أبوابا من الشر كانت مدخلا لعتاة الأمراء ومستبدي الملوك، حتى شرعوا للناس في الأحكام شرائع ظالمة يتبرأ منهاعدل الإسلام. ولو أن أولئك الفقهاء عرفوا روح الشريعة حق المعرفة وشرحوها للملوك والأمراء شرحا تقبله عقولهم لأذعنوا لها وأصبحت قلوبهم على التقوى، ولكنهم حافظوا على اللفظ وأهملوا المعنى، فاختل النظام واعتل المبنى"32.

ويقول ابن القيم أيضا: "وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع.

ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا، وفسادا عريضا فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنفاذها من تلك المهالك.

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه.

فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة. فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له"33.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
أحمد الريسوني، القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة،2014، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 53-74.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top