سيد حسين نصر
بسم الله الرحمن الرحيم
"ن والقلم وما يسطرون"
صدق الله العظيم
(سورة القلم: الآية الأولى)
"قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً"
صدق الله العظيم
(سورة الكهف: الآية 109)
إن الأمة التي كان قدرها أن تتلقى الوحي المشتمل على الآيات السابقة ما كان يمكن لها إلا أن تتأثرر – على الصعيد البشري – سواء بالمعنى الجوهري للقلم الذي يقسم به الخالق في الآية السابقة، أو بالمعين الذي لا ينضب لكلمات الله.
إن الأمة التي أبدعت الحضارة الإسلامية ما كان يمكن لها إلا أن تسمو بالقلم وثماره في شكل الكلمة المكتوبة، وما كان يمكن لها أن تتوقف عن إنتاج عدد كبير من الأعمال المكتوبة، أولا: باللغة العربية، وفي المقام الثاني: باللغة الفارسية، ثم ببقية اللغات المحلية للعالم الإسلامي، من اللغة التركية إلى لغة الملايو، ومن اللغة البنغالية إلى اللغة البربرية.
إن الحضارة التي تلقت الوحي القرآني قد أنتجت مادة كتابية هائلة ولميكن لها مضارع من ناحية الكمية في إنتاج أية حضارة أخرى سابقة على اكتشاف الطباعة، قد أنتجت سجلا كتابيا لا يحتوي على الأفكار والمشاعر،والفنون التي تميز ذلك القطاع النابه من البشرية –الذي يتمثل في الشعوب الإسلامية – فحسب، وإنما يحتوي أيضا الكنوز الفكرية للحضارات القديمة التي آل إرثها للإسلام، ذلك الإرث الذي حافظ عليه الإسلام بما يتواءم مع رسالته – بوصفه آخر الديانات البشرية الشاملة – علاوة على هذا فقد كتب المسلمون، والأقليات – التي كانت تقطن في العالم الإسلامي – المخطوطات الحاوية لمعارف الحضارات، والشعوب الأخرى.
إن المخطوطات التي دونت على مر العصور، والتي بقيت حتى اليوم تغطي – على التقريب – كل جانب من جوانب الفكر الإسلامي وثقافته، فيمايختص بالتراث الإسلامى، ورغم ذلك يجب ألا ننسى أهمية التراث الشفهي الذي يعد مكملا للنصوص المكتوبة في الكثير من المجالات، ومع أنه لا يجدر بنا أن نجزم بأي شيء في مجال المخطوطات الإسلامية عامة بسبب نقص وضعنا المعرفي الراهن، إلا أننا ما زلنا بمأمن من الخطأ حين نزعم: أن القسم الأعظم من هذه المخطوطات، يندرج تحت راية العلوم الدينية – التي تتراوح ما بين الشروحات القرآنية، وكتب تعليم الصلاة والدعاء – مع أن الكثير من المخطوطات قد درس وطبع خلال القرن ونصف القرن الماضيين، حيث تفاوتت موضوعاتها من التفاسير الكبرى، ومجاميع الأحاديث النبوية إلى أعمال تناولت الفقه وأصوله، والاقتصاد الإسلامي وفكره السياسي، إضافة إلى علم الكلام، والعبادات اليومية، إلا أننا لا نغالي في القول إذا قلنا: إن غالبية الأعمال الموجودة – حتى في حدود هذا المجال المركزي – ما زالت في هيئتنا المخطوطة، لم تحقق، وهو ما يبدو واضحا في مجال علم الكلام المتأخر – السنيمنه والشيعي – وبالإضافة إلى هذا فإن الكثير من الأعمال التي طبعت – بمافيه عدد من الشروح المعروفة – لم تحقق تحقيقا نقديا، وما زال يتعين على الباحث الجاد أن يرجع إلى المخطوطات ذاتها لفحص محتواها، ولا نبالغ إذاقلنا: إن مثل هذه المخطوطات لا غنى عنها في تلقين – الأجيال لمعاصرة، والمقبلة من المسلمين – الفهم الصحيح لتراثهم الديني، بل وفي فهمهم لانفسهم كمسلمين، فكل جيل يعرف ذاته ويراها في ضوء فهمه لتراثه، فمثل التراث كمثل جذع شجرة يصل الغصن بالجذر الذي هو التنزيل ذاته. ويأتي في المرتبة الثانية – بعد الأعمال المكرسة للعلوم الدينية من حيث وفرة المخطوطات – القسم الذي يتناول اللغة والأدب، وهنا نجد (على الرغم من الجهود الفائقة التي بذلها عدد من الباحثين خلال القرن ونصف القرن الماضيين – منذ دخول الطباعة الحديثة إلى العالم الإسلامي – والتي أثمرتنشر العديد من الأعمال النثرية، وداواوين الشعراء المبرزين) أن مادة غزيرة لا تزال باقية على هيئتها المخطوطة، فعلى حين أن أعمال الكثير من الكتاب الصغار تبقى غير محققة، فإن كتابات بعض الكتاب الكبار كثيرا ما طبعت على نحو قاصر، ولا زالت الحاجة ماسة للرجوع إلى نسخ المخطوطات من أجل التوصل إلى نص صحيح لها، وإذا كان لي أن أستقي مثالا من لغتي الأم -الفارسية – فإن ديوان حافظ – الذي ربما هو أعظم شعراء الفارسية – قد تم تنقيحه خلال الجيل الماضي، عقب اكتشاف مخطوطات جديدة، في حين أن الطبعة النهائية لمثنوي جلال الدين الرومي هي الآن بصدد الإعداد للنشر فقط، ولا يزال هناك من يأمل اكتشاف مخطوطة ديوان رودكي، أبو الشعر الفارسي،في مكتبة نائية بالهند.
تلعب المخطوطات دورا بالغ الأهمية في بعض اللغات المحلية مثل لغة الملايو، حيث أنها لم تحقق تحقيقا نقديا حتى اليوم، إلا أقل القليل من الأعمال التي تمثل عيون الأدب الملايوي باعتباره أدبا إسلاميا، وهناك اللغات الأفريقية – ذات الأدب الإسلامي الثري – كاللغة الصومالية، واللغة الفلانية حيث بقي القسم الأكبر من آدابها يتناقل شفاها، وإن بعضه قد حفظ في مخطوطات، وفي مثل هذه الحالات، فإن الوثائق المكتوبة تكون ذات أهمية خاصة في الحفاظ على سجل الحياة الأدبية لأمة بأكملها، أمة تتعرض لخطر فقدان تراثها الأدبي، وهناك مخطوطات إسلامية لم تتم دراستها دراسة وافية بعد، أو لم تعرف على نطاق واسع، وهي تحتوي على واحد من أثرى الكنوزالأدبية في العالم، ما يعكس الروح الفكرية، والأخلاقية لشعوب يفصل بينها ما يفصل بين الأندلس والفلبين، ولغات تختلف بقدر اختلاف البربرية عن الصينية، وتلك المخطوطات تضم تراثا إسلاميا هاما لم يدرس منه إلا القليل،وخاصة في اللغتين العربية والفارسية أثرى لغات العالم من الناحية الأدبية،وخاصة الشعرية.
إن المسلمين في تاريخهم الطويل، قد اقتدوا بالنموذج القرآني الذي تشابكت فيه الأوامر الأخلاقية بأحداث التاريخ المقدس، فكانوا دائما يولون اهتمامهم للكتابة التأريخية، والحق يقال: إن الإسلام ينبغي أن يعد جنبا إلى جنب مع الحضارة الصينية أكثر الحضارات القديمة وعيا بالتاريخ، وليس المقصود بهذا تفسيرا لاهوتيا للتاريخ تتجسد بمقتضاه الحقيقة في التاريخ بما ينتج عنه في النهاية نوع من الحتمية التاريخية، وانما المقصود الوعي بالتاريخ، والشغف بتدوينه، وتقصي أهميته في حياة الجماعة، وغني عن القول إن الكثير من التواريخ التي دونها المسلمون لم تكن إلا سجلا للحوادث،إلا أنه كان أيضا ثمة تواريخ تتمتع برؤيا في معنى التاريخ – من حيث هومجاوز للوقائع التاريخية – على كل حال فقد ألف المسلمون عددا كبيرا من المؤلفات التاريخية، أغلبها بالعربية، والفارسية، وإن شملت التركية وغيرها من اللغات، وأنتجوا بذلك كما غزيرا من الأعمال التي تعد مصدرنا المعرفي الوحيد، ليس لحياة الأمم المسلمة الماضية فحسب وإنما لنشاط شعوب أخرى كثيرة، من المغول إلى الأفارقة أيضا. وإن أغلب كتب التاريخ مثل تاريخ الطبري وتاريخ المسعودي قد طبعت، إلا أن كثيرا من كتب التاريخ المحلية لاتزال مخطوطة، وعلاوة على هذا فإن بعضا من أشهر الأعمال التاريخية لا تزال في حاجة إلى طباعة محققة تحقيقا علميا جيدا، تعتمد على أصح المخطوطات الموجودة، ولا تستعبد من هذه الأعمال مقدمة ابن خلدون، التي تفتقر – على الرغم من شهرتها العظيمة – إلى نص محقق تحقيقا نقديا.
كان المسلمون أقل إنتاجا في مجالات الفلسفة، والعلوم الطبيعية، والرياضية من إنتاجهم في العلوم الدينية والأدب، إلا أنهم – على الرغم من ذلك- قد أخرجوا عددا كبيرا من المؤلفات التي ما زالت مخطوطة، وما أحرانا أننقول: إن ثمة عوالم بأكملها في هذه المجالات، بانتظار من يكتشفها. ومما حققتجميع أعماله تحقيقا نقديا وطبعت. (ولو أن جميع مخطوطات أعمال كانط أوهيغل ضاعت لسبب من الأسباب، فإن النصوص النهائية لكتاباتهم سوف تبقى، على الرغم من ذلك، من خلال طبعات أعمالهم العديدة) ولكن ماذا يحدث إن فقدت – حاشا لله- كل مخطوطات أعمال ابن سينا، أشهر فلاسفة الإسلام قاطبة؟ بوسع المرء أن يتكهن بالإجابة إذا ما تذكرنا أن أكبر أعماله وأذيعها صيتا، ألا وهو كتاب الشفاء، الذي طبع في القاهرة تباعا على مدى ثلاثين سنة يحوي من الأخطاء – في بعض مجلداته – ما يجعل الرجوع إلى المخطوطة ضروريا في كثير من الأحيان لفهم بعض أجزاء النص، فإذا كان هذا هو الحال مع ابن سينا، فكيف يكون الأمر مع الفلاسفة الذين هم أدنى منه طبقة، مثل:غياث الدين منصور دشتكي الذي تبقى جل أعماله على هيئة مخطوطات؟
وكيف يكون الحال مع غير هؤلاء من الكتاب: الذين يمثلون سبعة قرون منتاريخ الفلسفة الإسلامية، في العالم العثماني، أو الهند، حيث ينتظر في كليهما عدد كبير من المخطوطات دوره في الدراسة التي بدونها لا سبيل للتعرف على التاريخ الفكري لتلك الديار، وذلك التاريخ الذي يمتزج بعلم الكلام الذي لا يزال متواريا – بالكامل تقريبا – داخل صفحات تلك المخطوطات التي تحيق الأخطار بكثير منها، والتي ما زالت ضمن المكتبات العامة والخاصة
أما بالنسبة للعلم، فلسنا في حاجة إلى التذكير بأن أغلب الدراسات حول تاريخ العلم الإسلامي قد اضطلع بها مؤرخو العلم الغربيون الذين شغفوا بالفترات المبكرة من تاريخ العلم الإسلامي خاصة، ومن ثم ركزوا جل جهودهم عليها حتى عهد قريب، وبالتالي فإن عددا كبيرا من الأعمال المبكرة قد حقق وطبع ودرس، إلا أنه على الرغم من الجهد البحثي المرموق – الذي بذله الباحثون حتى الآن – فإن مساحات شاسعة بقيت غير مرتادة، فخلال العقود القليلة الأخيرة وحدها اكتشف أ.س. كندي فصلا جديدا تماما في تاريخ علم الفلك الإسلامي يرتبط بمدرسة مراغة نتيجة لدراسته مخطوطة واحدة لقطب الدين الشيرازي في المكتبة البريطانية، في حين فتح دافيد كينج أبوابا جديدة في دراسة علم الفلك الإسلامي باكتشافه مخطوطات لم تكن معروفة من قبل في علم الفلك عند المماليك واليمنيين، وكذلك عما يمكن أن يسمى بعلم الفلك الشعبي المرتبط بتحديد اتجاه القبلة، ومواقيت الصلاة، الخ ...
لا يزال هناك الكثير بانتظار من يكتشفه – في مجال العلم الإسلامي -عن طريق فحص العديد من المخطوطات التي لم تدرس بعد، وكشف النقاب عن الأعمال التي ما زال الباحثون على جهل بها، ويصدق هذا القول بصفة خاصةعلى العلم في غضون القرون السبعة، أو الثمانية السالفة، وخاصة الطب الذي ازدهر في فترة متأخرة في بلاد فارس، والهند من القرن العاشر/السادس عشر فصاعدا، وجدير بنا أن لا ننسى مجال العلم العثماني والذي ابتدأ مؤخرا يجتذب انتباه الدارسين بفضل جهود البحاثة الأتراك – في المقام الأول – وفي صدارتهم أكمل الدين إحسان أوغلى، بالإضافة إلى هذا ينبغي أن نؤكد هنا مرةأخرى أهمية التراث المخطوط في تأسيس النصوص النهائية للعلم الإسلامي،بما فيه ما هو معروف منها، إذ أن الكثير منها قد طبع إلا أنه لم يحقق تحقيقا نقديا، ولا نستثني من هذا بعض أعمال البيروني الكبرى، ومن ناحية أخرىفإن بعض الأعمال الأخرى الهامة معروفة جيدا إلا أنها لم تحظ بالتحقيق، أوالطبع على الإطلاق، ولدينا مثال بارز على هذا في كتاب "التحفة الشاهية" لقطب الدين الشيرازي.
هناك مجال هام آخر للمخطوطات – سواء في العربية أو الفارسية أوغيرهما من اللغات الإسلامية – ونعني به المخطوطات التي تتناول التصوف، والروحانيات الإسلامية، فبالإضافة إلى الشعر الصوفي – الذي قد يدرجه البعض تحت عنوان "الأدب" – فهناك الكثير من الأعمال النثرية بحاجة إلى التحقيق والنشر، وأن مجموعات المخطوطات غير المحققة تحفل بالمادة الدسمة،وليس من المستبعد – من ناحية أخرى – حدوث اكتشافات مفاجئة في المجموعات التي لم تتم دراستها بأكملها حتى الآن. وحتى في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي – حيث تركز جل اهتمام الباحثين – ما زالت الاكتشافات الجديدة تتابع، ومثال ذلك: الدراسات الحديثة لأعمال أبي منصور الإصفهاني التي كشفت – للمرة الأولى – عن فرع كامل من الصوفية الحنبلية المبكرة لميعرفه المختصون حتى اليوم، أما فيما يتعلق بالقرون المتأخرة، فإن ما تم التعريف به علميا من المخطوطات المتعلقة بالتصوف لا يتجاوز مقدارا ضئيلا، ناهيك عن تحقيقه أو طبعه، وتعتبر مكتبات الهند نموذجا جيدا لهذاالأمر، وإن أية دراسة عابرة لأي من المخطوطات الرئيسية سواء أكانت فيرامبور أو بتنا أو حيدر آباد سوف تكشف عن رسائل صوفية هامة لم تحظ بالالتفات أو الدراسة حتى يومنا هذا، وحتى أعمال الأساطين العظام –مثل ابنعربي – تبقى إلى حد كبير على هيئة مخطوطات، بل إن عمله الكبير"الفتوحات المكية" يجري تحقيقه تحقيقا نقديا الآن فقط بفضل الجهد الطويل الذي بذله عثمان يحيى.
تحتاج الأعمال المطبوعة في مجال الصوفية –كما هو الحال في أغلب مجالات البحث الإسلامي الأخرى – إلى إعادة تحقيقها تحقيقا نقديا، وذلك بالعودة إلى المخطوطات الموجودة، إذ أن الكثير من الأعمال الصوفية التي طبعت في العالم الإسلامي تعتمد على مخطوطة واحدة، أو مخطوطتين، وقلما يكون اعتمادها على تقويم كل ما هو موجود من المخطوطات. ولا يستثنى من ذلك الأعمال الواسعة الانتشار، مثل ملفات الغزالي الذي يحتاج الكثير من كتبه – بما في ذلك كتابه الشهير "إحياء علوم الدين" والذي هو متوفر فيطبعة بولاق المتقنة – إلى أن يحقق تحقيقا نقديا على ضوء المخطوطات الهامة المتيسرة.
إن التقاليد الروحية والصوفية الإسلامية مكتوبة في المحل الأول على ألواح قلوب الرجال والنساء الذين ينتهجون سبيل اللـه، إلا أن الكثير منها مكتوب أيضا في المخطوطات المنتشرة في كل أرجاء العالم الإسلامي، والت يما زالت غير متاحة لعلماء الأمة الإسلامية ككل.
إن التراث المخطوط للحضارة الإسلامية يحوي أيضا بين طيات صفحاته غير المدروسة معتنقات المتصوفة وممارساتهم، وتاريخهم وكل تشعباتهم في التاريخ الإسلامي، وياله من كنز معرفي يبقى مجهولا لجمهرة العلماء!
إن جزءا كبير من الفن الإسلامي – الذي يتراوح من الخط إلى الموسيقى – قد نقل شفاها من العلم إلى التلميذ، ولعله من غير المقدر لنا أننكتشف نصا يصف كيف صنع بلاط "الكوبالت" الأزرق الخاص بالعصرالتيموري والمستخدم في التشكيلات الهندسية بالمساجد القاهرية. إلا أنه لايزال هناك أمل، بل احتمال أن نعثر على نصوص تكشف لنا سر الأساليب التي بواسطتها أنشأ المعماريون المسلمون تلك الصروح التي تنهض شامخة وسط أعظم منجزات الحضارة الإسلامية، وثمة مجالات في الفن الإسلامي مثل الخط، الذي ألفت فيه العديد من الرسائل، ولم يطبع منها إلا النزر اليسير،وتبقى الاكثرية مخطوطة.
رغم توفر مخطوطات في بعض الفنون، أو عدم توفرها، يبقى رصيد المخطوطات الإسلامية مصدرا ثمينا – لا غنى عنه – من أجل فهم أفضل، ليسلتاريخ شتى الفنون الإسلامية فحسب، وإنما لأساليب تلك الفنون، ورموزها،ولغتها، ومعانيها أيضا، وإن هذا المجال لم يبدأ البحث فيه إلا من عهد قريب، ولايزال باب الإنجاز فيه مفتوحا على مصراعيه، ومن الشائق أن نلاحظ أن ضربا من المخطوطات المتصلة بالفن قد حظي بالاهتمام المبكر منذ القرن الثالث عشر/التاسع عشر فصاعدا، وأن كثيرا من مخطوطاته قد نقلت – من العالم الإسلامي – لتنضم إلى مجموعات غربية، ونقصد بذلك تلك المخطوطات التي تحوي نصوصا مصورة، وخاصة مخطوطات القرون المتأخرة التي شهدت تطورا في فن المنمنمات في بلاد فارس، ومن بعدها في تركيا والهند، وإنه لمن المشغف أن نسجل: أن الموجود – من المخطوطات الإسلامية المزدانة بالمنمنات الفارسية الدقيقة – في دائرة حول لندن لا يعدو قطرها خمسين ميلا لهو أكثرمما يوجد في إيران كلها، ومع ذلك، وحتى في هذا المجال الذي درس من غير كلل لما يربو على مائة عام، فلا تزال توجد مجموعات هامة من المخطوطات – غيرالمدروسة – تحوي في طياتها فصولا كثيرة تتناول تاريخ الفنون التصويرية في الإسلام.
لا بد من كلمة بصصد الحرف، وما يعرف بالعوم الغريبة والصناعة وهيكلها أمور متصلة ببعضها البعض، وإن كانت تتفرع من العلوم الغريبة فروع تتصل بعلوم أخرى، فالمخطوطات الإسلامية التي تتناول الأجهزة الميكانيكية (علم الحيل) قد درست إلى حد ما، كما درس عدد من الرسائل التي تتناول الكيمياء، وخواص الأشياء، إلا أنه في هذا المجال كما في غيره ما زالت أغلب المادة باقية في شكل مخطوطات، وثمة أعمال كثيرة لم تدرس بعد، أو لم يعثرعليها، بمقدورها أن توفر إجابات على الأسئلة المتعلقة بالري، وعلم المعادن،والأصباغ، وغير ذلك من الصناعات والأساليب المستخدمة في التعامل معشتى أشكال المادة، والتي تزين ثمارها متاحفنا، بينما تبقى المعارف الكامنة فيها محجوبة عن أفهامنا.
بإمكاننا أن نستمر في تسمية المجالات الأخرى – من الفكر والثقافةالإسلاميين – التي تنمي معرفتنا بها مجموعات المخطوطات الموجودة فيالعالم الإسلامي، ولكن المجالات الرئيسية التي أشرنا اليها تكفي للتنبيه علىأهمية المخطوطات في كل ما يمكن أن ينعت بالإسلام، وإن معرفة الأمة الإسلامية بذاتها – بوصفها أمة حية – والمحافظة على أربعة عشر قرنا من التاريخ الديني والفكري والفني الإسلامي وإحيائه، وكل هذا يعتمد على تلك الذخيرة الهائلة من الوثائق المكتوبة بخط اليد، والمشتتة في أرجاء العالم الإسلامي، بل في أركان المعمورة.
إن أهمية المخطوطات الإسلامية لا تنحصر في العالم الإسلامي وحده،وإنما يمتد نفعها، وتتيح لنا تفهم عدة ثقافات أخرى، كما أنها تتصل بمجالات دراسية كثيرة خارج النطاق الإسلامي، فالمخطوطات (خاصة العربية منها) تحوي معارف قيمة عن الحضارة المصرية القديمة، وحضارة ما بين النهرين،والحضارة البيزنطية، وكذلك مجتمعات شرق المتوسط قبل الإسلام، مثلا لأقوام التي عرفت بصابئة حران، وإن العربية لا تقتصر أهميتها على إثراء معرفتنا باللغات السامية، ولكنها أيضا اللغة التي تحتوي على قدر هائل من المعلومات فيما يتعلق بالكنائس المسيحية الشرقية، والطوائف الغنوصية،والمذاهب اليهودية الشرقية، إلى جانب عناصر معينة من الفكر الديني،والعلمي للمصريين القدماء، ولحضارة ما بين النهرين.
أضحت اللغة العربية مستودعا للفكر اليوناني الإغريقي سواء في المجالات العلمية، أو الميتافيزيقية، ولا نظننا بحاجة إلى التنويه بأهمية المؤلفات العربية، التي ما زال الكثير منها مخطوطا، لفهم كل من الأفلاطونية الشرقية المحدثه، والأرسطية المصطبغة بالأفلاطونية المحدثه، والهرمسية،والفيثاغورثية المحدثة، والفكر الطبي الإغريقي المتأخر المرتبط باسم جالينوس، وكثير من العلوم المرتبطة بمدرسة الإسكندرية، والحق أن كثيرا من الباحثين الغربيين انجذبوا إلى المخطوطات الإسلامية، وخاصة العربية منها بينما كانوا يسعون وراء الآثار الإغريقية القديمة، وبسبب من تأثير الفكرالإسلامي (في حد ذاته من ناحية وفي حفظه للتراث الإغريقي – الإسكندري من ناحية أخرى) في تكوين الفلسفة، والعلم، والأدب، وحتى الدراسات اللاهوتية نفسها في أوروبا – في العصور الوسطى وإلى حد ما في عصرالنهضة – بسبب من هذا التأثير يمكن القول: إن المخطوطات الإسلامية لا تخلو من أهمية بالنسبة لتاريخ الفكر الغربي، والأمر كذلك خاصة لأنه على الرغم منا لجهود الطويلة للباحثين الغربيين فإن كثيرا من المؤلفات العربية المتصلة بالتراث الإغريقي القديم ما زالت مخطوطة، كما أن بعضا من النصوص التي نشرت يلزمها إعادة التحقيق – في صورة نقدية مضبوطة – وذلك بالرجوعإلى الأصول المخطوطة المتوفرة.
إن المخطوطات الإسلامية، وخاصة العربية منها، وبدرجة أقل الفارسية- تعتبر مصادر هامة لفهم الديانات والثقافات الفارسية قبل الإسلام، منالزراشتية إلى المانوية، فلقد ترجم الكثير من الملفات الساسانية إلى العربية على حين فقدت أصولها البهلوية، وخاصة الرسائل المتعلقة بإدارةالدولة، وإن المخطوطات الإسلامية لا غنى عنها – في الواقع – لفهم العديد منجوانب الفكر الزرادشتي المتأخر، والمعتقدات والممارسات الخاصة ببعض الجماعات المانوية أيضا. وبالمثل فإن هذه المخطوطات ذات أهمية في فهم التاريخ الفارسي القديم، الذي انعكس فيما بعد ليس في المؤلفات الفارسية المنتميةإلى الفترة الإسلامية – مثل الشاهنامه للفردوسي – فحسب، وإنما في الكثيرمن المؤلفات العربية التي تناولت التاريخ العام أيضا، وإن المخطوطات الإسلامية ما زال بإمكانها أن تكشف الكثير عن التاريخ الساساني، والديانات إلايرانية، مثل الزرادشتية، والمانوية التي لعبت أدوارا هامة في الحياة الدينية لكثير من الشعوب فيما وراء الحدود الفارسية، وبإمكاننا أن نرى موقفا مشابها لذلك في الهند فيما يتعلق بالناحية التاريخية، فمن الصحيح أنه على النقيض مما حدث في بلاد فارس – حيث لم يبق إلا القليل من النصوص البهلوية – فإنالكثير من المؤلفات السنسكريتية والبالية قد بقيت حافظة بين طياتها ذخائرالحكمة الهندوسية والبوذية، إلا أن العجيب حقا أن أغلب تاريخ الهند مدونب اللغة الفارسية، وأن المخطوطات الإسلامية (وخاصة المكتوب منها بالفارسية) لاغنى عنها لمعرفة التاريخ الهندي خلال الألف سنة الماضية، وتشهد على ذلك المحاولة الواسعة النطاق التي جرت خلال العقود الأربعة الأخيرة لترجمة
مصادر التاريخ الهندي إلى اللغة الهندية، ولكن حتى مع تلك المحاولات، تبقى المخطوطات الإسلامية مصدرا هاما للمؤرخين الهنود، سواء الهندوس منهم أوالمسلمين، وكذلك لأولئك الدارسين المهتمين بالتفاعلات المختلفة التي جرت على المستويين الروحي، والديني بين الإسلام والهندوسية، وحتى بالنسبة للهندوسية القروسطية فإن المصادر الإسلامية – الباقي أغلبها حتى اليوم على شكل مخطوطات – تشكل منبعا لا غنى عنه، ولا يمكن بدونه أن نفهم تيارات كثيرة – من تيارات الفكر الديني الهندوسي وممارساته – فهما صحيحا، وفيهذا المجال تلعب اللغات الأخرى التي يتكلم بها المسلمون مثل الأوردية والبنغالية والبنجابية دورا متميزا.
إن المعروف عن المخطوطات الإسلامية الصينية هو أقل مما هو معروفعن أي مجموعة رئيسية أخرى، إلا أننا نعرف ما فيه الكفاية، بحيث نستطيعأن نؤكد وجود مخطوطات قيمة كتبها المسلمون باللغة الصينية، وبلغات تركية شتى كانت تستخدم خاصة فيما كان الجغرافيون المسلمون يطلقون عليه اسم: تركستان الشرقية، والتي تضم اليوم إقليم صن كيانج في الصين الغربية،وهنا أيضا تشتمل المخطوطات الإسلامية على معارف ثمينة، ليس فقط بخصوص عقائد مسلمي الصين، منذ بداية العصر الإسلامي. وليس من سبيل للكشف عن محتويات مجموعة المخطوطات الثمينة هذه إلا بدراستها دراسة وافية، وهذا المخطوطات التي تمتد في عمق الماضي إلى القرنين الثاني/الثامن، والثالث/التاسع ذات أهمية بالغة كمصدر لدراسة جوانب بعينها من تاريخ الصين وثقافتها.
بالنسبة لجنوب شرق آسيا، فالمخطوطات الإسلامية تعتبر أهم مصدرمعرفي لتاريخ تلك المنطقة الشاسعة، وذلك إبان تحولها من ممالك بوذية،وهندوسية إلى واحدة من أكثف المناطق الإسلامية سكانا، حيث تسيطرالثقافة الإسلامية اليوم على إندونيسيا، وماليزيا، وجنوب الفلبين، وبروناي،وبعض مناطق تايلاند، وكثير من هذه المؤلفات، ومن ضمنها المؤلفات المشهورةلا تزال مخطوطة، وهي تمثل أهم مصدر معرفي مكتوب ليس في بلاد الملايوالإسلامية فحسب، ولكن في تلك المناطق كلها في الفترة السالبقة على نشأة الإسلام، وانتشاره، والتداعيات التي صارت بها المنطقة جزءا من دار الإسلام أيضا.
إن المخطوطات الإسلامية هي أهم مصدر مدون لتاريخ أفريقيا السوداء،وإن المكتبات القائمة في المدن، كمدينة تمبكتو لتحتوي على ثروة ليس فقط من المؤلفات التي تتناول الإسلام في أفريقيا، وإنما أيضا لأفريقيا غير المسلمة التيكان المسلمون على صلة وثيقة بها، سواء قبل فترة الاستيطان الأوروربي، أوفي غضونها. وهذه المخطوطات لا تقتصر على المخطوطات المدونة بالعربية والتي تتناول موضوعات التاريخ، والدين، والرحلات، ولكنها تضم أيضا مخطوطات مدونة باللغات المحلية يغطي بعضها بضعة قرون من التاريخ المكتوب، وفي مثل هذه القارة – التي يبقى التراث الشفهي فيها قويا، والتيتعرض فيها الكثير للتلف، نتيجة للكوارث الطبيعية، والبشرية – تصبح المعارف المحفوظة في المخطوطات، ويعكف على دراستها فإن تاريخ أفريقيا وثقافتها، والكثير من نشاطاتها الشعبية – بما فيها الطب – سيبقى مجهولا إلى الأبد.
وأخيرا فإنه لا ينبغي أن ننسى أن المخطوطات الإسلامية تنطوي على أهمية كبرى لمعرفتنا بجوانب عديدة من التاريخ الأوروبي سواء أكان ذلك يتعلق بتاريخ يهود، ومسيحيي أسبانيا، وثقافتهما، أو بالروس القاطنين في أعالي الفولجا، فالتراث الإسلامي ينطوي على مصادر ذات قيمة عظمى لم يدرس الكثير منها بعد، وما زال مخطوطا، وعلاوة على هذا فإن المخطوطات الإسلامية تلعب دورا خاصا فيما يتصل بتاريخ أوروبا الشرقية البيزنطية،وثقافتها التي كانت أجزاء منها تشكل قسما لا ينفصم من العالم العثماني لفترة خمسمائة عام، وأن الكثير من المعلومات المتعلقة بتاريخ تلك البلاد يبحث عنه في الوثائق التركية، وفي المؤلفات المكتوبة ليس بالتركية وحسب وإنما بالعربية والفارسية أيضا، وهي وثائق ينبغي أن نضم إليها تلك الوثائق الخاصة بالبوسنة وألبانيا بما لهما من تراث إسلامي طويل خاص بهما، ولا بدفي هذا الموضع من التنويه بدور الإسلام البوسنوي حيث أن هذا المجتمع الإسلامي الذي يبلغ عمره خمسة قرون، والذي يرجع إلى أصول عرقية سلافية يقع في قلب البلقان، وكان يتمتع على مدار التاريخ بعلاقات تربطه بكل منا لكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، وبالعالمين الأوروبي والعثماني، ولاجدال في أن حالة المخطوطات في البوسنة التي احتفظ بها هي أفضل نوعا مامما في المناطق الأخرى، وبمقدورها أن تسهم إسهاما كبيرا في معرفتنا بتاريخا لإسلام في أوروبا من جهة، وفي معرفتنا بخمسمائة عام من تاريخ البلقا من جهة أخرى.
وإلى جانب الأهمية العظمى للمخطوطات الإسلامية بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية، والعديد من الحضارات غير الإسلامية مما بيناه سابقا، فإنها تنطوي على أهمية كبيرة بالنسبة إلى الفن الإسلامي أيضا، ليس منحيث محتوياتها فقط، وإنما من حيث كونها أعمالا فنية أيضا، فهي تحتوي على أغلب روائع ذلك الفن الإسلامي السامي، ألا وهو فن الخط، وأن بعض أعظمالأعمال الفنية الإسلامية مثل المصاحف المملوكية هي في شكل مخطوطات،وفضلا عن ذلك، فهي تحتوي – كما أسلفنا – على كل الإبداعات الصورية للحضارة الإسلامية على هيئة زخارف، ورسومات، ومنمنمات بالغة الإتقان. ناهيك عن فن تجليد الكتب بمنجزاته الرائعة التي تزدان بها الكثير من المخطوطات بمكتبات العالم، أما من الناحية التقنية فهناك فن صناعة الورق الذي يقوم الدليل عليه في أنواع المخطوطات التي دونت على مر القرون، ولاننسى في هذا المقام صناعة الحبر، وزراعة القصب التي تتصل كلها بتاريخ التقنية والزراعة والفن، وبصفة عامة يمكن القول: إنه ليس هناك من حضارة كبرى غير الحضارة الإسلامية، حيث يرتبط هذا القدر من إبداعاتها الفنية بفن صناعة الكتاب، ولكي نفهم أهمية المخطوطات الإسلامية بالنسبة للفن الإسلامي إجمالا فليس علينا إلا أن نتساءل: ما الذي يبقى من الفن الإسلامي لو أن كارثة ما قضت على المخطوطات الإسلامية برمتها؟ سيكون المتبقي أقل بكثير مما لو أن المأساة حلت بحضارة الغرب، أو الهند، أو الشرق الأقصى،وحين يتأمل المرء في أهمية المخطوطات الإسلامية فلا ينبغي أن يقتصر التأمل على محتواها الفكري والأدبي، وإنما عليه أن يدرك أيضا أهميتها الفنية،والدور الذي لعبته على مر القرون في الحياة الفنية لحضارة لم يغب عن بالها أبدا الحديث النبوي الشريف القائل "إن الله جميل يحب الجمال".
تكالبت عوامل معقدة – ليس من شأننا بسط القول فيها هنا – كان منجرائها أن تناثر هذا الكنز الإسلامي المخطوط اليوم ليس في شتى مناطق العالم الإسلامي نفسه فقط، وإنما في مكتبات تمتد على رقعة العالم الغربي أيضا، وفي بعض البلدان الأخرى التي هي ليست بإسلامية ولا غربية، وبعض هذه المجموعات محفوظة في أماكن آمنة، بينما بعضها الآخر إما في خطر قائم أو خطر وشيك، وثمة أسباب داخلية، وأخرى خارجية تتهدد الكثير من هذاالمجموعات، سواء في داخل العالم الإسلامي، أو في تلك المناطق التي يشكل الإسلام فيها أقلية، كما في الهند والصين، على حين أن الأمر لم يعد كذلك -ويا للمفارقة! – في الغرب، وفي بعض البلاد تسببت العوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية خلال العقود الأربعة الأخيرة – كما حدث في الهند -في القضاء على بعض من أثمن المجموعات، أو في حفظها في أمكنة غيرمناسبة على الإطلاق، وفي أماكن أخرى تسببت الثورات الداخلية، أو الحروب الخارجية في تعريض المخطوطات للخطر، أو في تدمير بعض منها كما أظهرت الأحدات في كل من الصين، والعراق خلال العام الفائت وحده.
أينما وقعت حرب أهلية، أو ثورة، أو غير ذلك من ضروب الانقلابات، سواء أكان ذلك في أثيوبيا، أو اليمن، أو نيجيريا خلال العقود القليلة الماضية،أو انهيار الإتحاد السوفيتي، ويوغوسلافيا الحاصل اليوم، فهناك خوف دائم من أن يحل الدمار بجزء من ذلك التراث الذي لا يقدر بثمن، والذي تشتمل عليه المخطوطات الإسلامية، وحتى في ظروف عصر الدمار الثقافي التي نعيشها اليوم، فإن المخطوطات الإسلامية تبدو عرضة أكثر من غيرها للتلف، أما الأماكن التي تحظى فيها المخطوطات برعاية جيدة كما في أكسفورد، والفاتيكان فإن الفهارس تبقى في أحسن الظروف ناقصة كما تبقى هوية الكثير من المؤلفات مجهولة.
في ضوء هذا الوضع تبرز أهمية الجهود التي تبذلها "مؤسسة الفرقان" في مسح المجموعات الموجودة، وفي فهرسة المخطوطات التي بقيت حتى اليوم بدون فهرسة، وفي المساعدة قدر الإمكان في المحافظة على المخطوطات المهددة بالتلف، وأخيرا في بذل العون في نشر محتويات تلك المجموعات الهائلة التي تترامى فوق جهات الأرض الأربع. وبصفتي باحثا متواضعا في مجال الدراسات الإسلامية أنفق عمره في تناول الكتب، والمخطوطات الإسلامية، وبصفتي أيضا واحدا كان له دور صغير في إنشاء هذه المؤسسة قبل أن تجاوزحيز التصور، فإني أتوجه أولا: بالحمد والشكر لله العلي القدير الذى منّ علينا بهذا اليوم، هنا إلى معالي الشيخ أحمد زكي يماني الذي فكر في هذه المؤسسة،وخطط لها ببصيرة قل أن يوجد لها مثيل في العالم الإسلامي اليوم، ثم راح يواليها بتأييده ماليا وذهنيا وروحيا عند كل منعطف على الطريق.
لقد قال نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) "يوزن مداد العلماء – يوم القيامة – بدم الشهداء فيرجع مدادهم على دمائهم أضعافا مضاعفة"، وعلى هذايمكن القول: إن المخطوطات الإسلامية تشتمل في معنى من المعاني على شيء أثمن من دماء أولئك الذين وعدوا بالجنة. وبالمثل فإن أولئك الذين يحافظ ونعلى المعارف في بطون تلك المؤلفات، ويعلمون على نشرها يحق لهم أن ينعموا بقسط من ذلك الثواب العظيم الذي وعد به أولئك الذين فضل النبي حبرهم على دم الشهداء.
وإنني إذ أشكر أصالة عن نفسي كل من شارك في إقامة "مؤسسةالفرقان" فإني أتضرع إلى الله العلي القدير أن تحتل هذه المؤسسة مكانها باعتبارها مركزا رئيسيا للثقافة الإسلامية، وأن يعيننا المولى على تحقيق سائر نواحي النشاطات التي تصورها معالي الشيخ يماني للمؤسسة، ذلك أنهذه النشاطات لا يمكن إلا أن تعود على العالم الإسلامي بأعظم النفع، وهو نفع لايقتصر على الباحثين المهتمين بالدراسات الإسلامية، بل يشمل الإنسانية جمعاء التي هي اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى لتلك المعارف التي يزخر بها التراث الإسلامي الفكري والأدبي.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: أهـمية المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 30 نوفمبر_ 1 ديسمبر 1991/جمادى الآخر 1413_ النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 29-42. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني |