مصطلح الاختلاف وتعبيراته في الفكر الإسلامي القديم والوسيط

شارك:

أحمد الموصللي

محتويات المقال:
1- الاختلاف في التفسير وعلم الكلام والفلسفة
2- الاختلاف في الفقه والسياسة
3- المعارضة في الإسلام

شهد تاريخ الإسلام خلافات عدّة، وتعدّدًا في الرؤى بسبب تعدّد تفسيرات النص الديني، وبسبب متغيّرات الظروف الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والسياسية. فقد تمّ تفسير النص الديني بتوجهّات عدّة ومستويات مختلفة، ومن وجهات نظر متباينة. وهذه الأمور شملت الظواهر الخارجية والداخلية، والمتشابهة والمحكمة. وُظِّفت من أجل تبرير وجهة نظر دينية معيّنة أو غيرها، أو مدرسة معيّنة أو غيرها، أو تيار فكري أو غيره. فحول النص المقدس، القرآن الكريم، نشأت وتطورت واعتمدت ورفضت عدة علوم ومدارس في اللغة والتفسير والفقه وعلم الكلام والتصوّف والأخلاق. فالنص لم يرتبط فقط بالفقه وعلم الكلام، ولم يكن بالإمكان استيعاب الحقائق القرآنية بشكل واحد ونهائي ولكل البشرية. إذ نظر المسلمون إلى النص على أنه أغنى من الحقيقة المرحلية التي هي في حال تحوّل وتطوّر دائم، وبالتالي على المسلمين إعمال النص تبعًا للسياقات، إذ إن النص القرآني عند المسلمين صالح لكل زمان ومكان.

الاختلاف في التفسير وعلم الكلام والفلسفة:

يركّز القرآن الكريم على مبدأ حرية الاعتقاد والالتزام الديني، وهناك العديد من الآيات التي تحرّم إكراه إنسان ما على اعتقاد معين. ينص القرآن على أنه ﴿لَآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبّيَّنَ الرُشْدُ مِنَ الغَيِ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اْسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [56]﴾[1]، كما ينص القرآن في آية أخرى على أن ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [99]﴾[2]، ﴿وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بَوَكِيلٍ [107]﴾[3]، ﴿وَلَوْ شَآَءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [18]﴾[4].

إنّ مهمّة النبي محمد ﷺ، هي هداية البشرية إلى حقائق الألوهية، ودعوة الإنسانية إليها، دون إكراه. وقد حدد القرآن مهمة النبي ﷺ، هذه بقوله: ﴿فَإِنْ حَاجُوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِ وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اْهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ [20]﴾[5]،﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا البَلَاغُ...﴾[6]، كما يوضّح القرآن الكريم حق حرية المعتقد للجميع مع إعلانه اختلافه مع بعض العقائد المسيحية واليهودية: فالقرآن لم يدعُ إلى إدخالهم في الإسلام بالقوة بل عبر الحوار والمجادلة. كما أنه سمح لهم بدور العبادة القائمة وصيانتها وتسيير شؤونهم الدينية الشخصية والاجتماعية كجماعات مستقلة ضمن الجماعة الكبرى. جاء في القرآن الكريم: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدُ عِنْدَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتّمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ [7]﴾[7]، ﴿الذِّينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضُهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهَ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [40]﴾[8]، ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وقُولُوا ءَامَنَّا بِالذّي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيكُمْ وَإِلَاهُنَا وإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [46]﴾[9].

ويحتوي القرآن الكريم، ككتاب للهداية، على أوامر وطرق وأسس التقييم، والتصنيف. فهو يصنف الأشياء عمومًا إلى مشروعة وغير مشروعة، أخلاقية وغير أخلاقية، وخيِّرة وشريرة. كما أنه يزوّد المؤمنين بالحجج التي يمكن توظيفها مع غير المؤمنين. إلا أن أهمية النّص تتجاوز هذا المستوى الذي لا يمكن قصر النص عليه. وبالرغم من أن القرآن هو النص القطعي لدى المسلمين، إلا أن الكثير من مضامينه ليست بالضرورة قطعية بل تحتمل التأويلات المتعددة.

إنّ الاستناد إلى النّص عبر الاقتباس منه هو محاولة لشرعنة رأي ما في مقابل الآراء الأخرى، لكن هذا الرأي لا يتحوّل إلى حكم قطعي. إذ إن معنى ذلك أن النص قابل للتحوّل ويبقى خاضعًا للنقاش والتبدّل. ولذا فإنّ كل محاولة من أجل الإدعاء بالصحة المطلقة في التعبير عن النص قابلتها في التاريخ الإسلامي ادعاءات مضادة. وهذا يعني أن النص لا يسمح بدعوى احتوائه على جميع المستويات، وخاصة مستوى المعرفة والفلسفة، وعبر طوائف أو مدارس معينة. ويمكننا القول إذًاً أنّ المشروعية القرآنية لا يمكن لأي فئة من الناس أن تستحوذ عليها؛ فالتصنيف الدقيق للناس هو خارج إطار المؤسسات الدينية. فكل مسلم، من حيث المبدأ، هو قارئ للنص ومفسّر له. واتفاق مجموعة معينة من الناس على تفسير أو قراءة ما لا يجعل منهما القراءة الشرعية الوحيدة أو ذات الصحة المطلقة. ففي حال عدم رفض القارئ أو المفسّر للنص أو تفسيره بما هو مخالف للنص، فله الحرية في قراءة النص حسب الظروف والشروط المفضية إلى خير الفرد والجماعة. فالقارئ قد يعتمد في قراءته على النص أساسًا، فيما يعتمد آخر على الإجماع أو الرأي أو المصلحة. فكل هذه الطرق تنبع أساسًا من إمكانيات النص.

ولأنّ النّص كَوَحْي إِلَهي هو مصدر التفسيرات أو القراءات المتعددة والالتزام فهو يشرعن الاختلاف والتنوّع والتعدّد. فهناك العديد من الآيات الكريمة التي تتحدّث عن الاختلاف كعامل طبيعي وسياسي. ومع أن القرآن لا يحبذ الانشقاقات السياسية والفتن، إلا أنه يتحدّث بإيجابية عن التنوّع القبلي والطائفي والأممي والشعبي وتنوّع الأعراق واللغات والحضارات. كما أنّ القرآن يعترف بالاختلافات الطبيعية الجسدية والفكرية للأفراد. فالتنوّع في طرق المعاش هو جانب من الخلق الإلهي، وعليه، لا يجوز إجبار الناس على التوحد[10].

إنّ أحد العوامل المشرعنة للاختلاف والتعدّديّة هو النص القرآني نفسه. فمعنى النص يحتمل التفسيرات المتعددة، فلا يمكن لأي سلطة أن تدّعي ادعاءً قطعيًا بتوصّلها إلى المعنى الحقيقي للنص دون الإخلال بالالتزام الديني[11].

وهكذا، كانت التفسيرات المختلفة والاختلافات المنهجية نتائج لطبيعة النص. وبينما وحّد الإسلام كعقيدة وشريعة الجماعة، إلا أنه سمح بالتعدّد والاختلاف وحتى بالمعارضة، وخاصة عند ربط النص بسياق معيّن.

إنّ الإشكالية الأساسية في التاريخ الفكري للإسلام لا تكمن في شرعنة التعدّد والاختلاف، بل في النهائية التي ادعتها مذاهب فقهية ومدارس فكرية وربط الالتزام الديني بها. وتحوّل اضطهاد المذاهب بعضها لبعض إلى مصدر للعداوة والبغضاء. فاعتبر كل مذهب أنه التجسيد العملي للنص، مع أنه لم يكن هناك مقياس موضوعي لقياس هذا الادعاء. ومثل هذه الدعاوى أدّت إلى تعميق الانشقاقات والاضطهاد وإلى النزاع والحروب، وبالتالي إلى اختلافات سياسية وعقائد استئصالية.

ويمكننا بالتالي الاستنتاج أن ما كان في بداياته قضية عملية أو خاصة، كقضية الحكم السياسي والإفطار في رمضان، تحول مع الوقت والنقاشات إلى توجّهات دينية عقائدية أوصلت إلى قيام المدارس المختلفة والطوائف والنظريات والأيديولوجيات المتناقضة. وهكذا، فقدت كل فرقة حقيقة معنى النص والتزمت بتفسيرها لهذا النص. مثل هذه العمل القائم على التنازع دون استيعاب الآخرين أوجد وعيًا استئصاليًا وهويات طائفية ومذهبية. وأصبحت هذه الهويات دوائر مغلقة ولدت خطابات منغلقة حلت محل السلطة التأسيسية للنص وحرية قراءته وحرية الالتزام الديني. ومع أن الهدف الأصلي للنص كان وحدة المجتمع وتطوره وتغيره عمليًا، إلا أن التفسيرات الضيّقة التي تطورت حولا النص أضعفته وناقضت مغزاه.

وبهذه الطريقة رفضت معظم المدارس الفكرية آراء الآخرين، واعتبرت مدارسها السلطة الأساسية في الأمور الدينية. فهم لم يستأصلوا فقط الآخرين بل اتهموهم بالكفر أو الهرطقة وشككوا في التزامهم الديني. ومع أن كل المدارس تقبلت مفهوم الاختلاف من الناحية النظرية، إلا أنهم لم يطوّروه حتى يصبح منهجًا فكريًا. إن الرؤية الأصلية للتعددية في الإسلام تقوم على قاعدة أن كل رأي نتج عن الاجتهاد فهو صحيح (كل مجتهدٍ مُصيب)، إذ إن العقل البشري لا يمكنه التوصّل إلى المطلق، وأن كل الاجتهادات لها طبيعة مؤقتة وخاضعة للصواب والخطأ[12]. وعندما يدَّعي أي مفكر أن رأيه صواب، وأن الآخرين على خطأ، فهذا ينطبق فقط على الحجة المقدمة، ولهذا لا يمكن إلا أن يكون غير نهائي عند الإمام أبي حامد الغزالي (ت: 505هـ/ 1111م)[13]. اعتبر الفقهاء الاختلافات عند هذا المستوى على أنها آراء مختلفة في قضايا فقهية والتي يمكن أن تتغير من وقت إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. وهكذا، تم الاعتراف بأن الفقه هو علم تطبيقي يظهر فيه تعدّد الرؤى والآراء ويتعلّق بالظروف العامة والسياقات المختلفة كما يتعلّق بالإرادة والمصلحة.

مثل هذا الفكر لم يستطع إلا أن يُنتج اختلافات حقيقية ومدارس كلامية مختلفة. وبسبب اعتبار كل مدرسة كلامية أنها تمتلك الحقيقة، تقلصت إمكانية التبادل العقلاني والمنسق، واستُبدلت عوضًا عن ذلك بأحكام قطعية حول زيف الآخرين. فقد ماهت هذه المدراس فهمها لأسس الدين مع الدين نفسه، وحاولت تشويه المدارس الأخرى. ومع أن الغزالي تقبّل مبدأ الاختلاف في التفسير، إلا أنه رفض قطعيًا تفاسير الآخرين، كالباطنية والفلاسفة الذين اتّهمهم بالكفر. ومع أن الهدف الأولي للغزالي كان دحض ادعاء الفلاسفة والباطنية بتوصّلهم إلى الحقيقة المطلقة، إلا أنه انتهى إلى رفض الآخرين في المبدأ[14]. لذا، كان من الظاهر أنه كلما ادعى فرد أو مدرسة ما تمثيل الإسلام الحق فإن مثل هذا الادعاء يفضي إلى رفض التعددية الفكرية لصالح الفكرة القائلة أن للحقيقة معنى واحدً فقط. ولهذا انتهت معظم الاختلافات في الفكر الإسلامي إلى تحولها إلى حركات معارضة تحمل أيديولوجيات مناوئة للسلطة. إن تاريخ علم الكلام وتاريخ الانشقاق هو التاريخ نفسه[15].

وتشكّل مرحلة تأسيس علم الكلام وتطوّره مثالًا جيدًا على التعدّدية في أغلب الأحيان، فقد آمن المعتزلة أن العقل يمكن أن يفضي إلى الإيمان، وخاضوا حربًا طويلة مع التقليديين. ومع دفاعهم عن الدين طوّروا علم الكلام كعلم مستقل في القرنين الثاني والثالث للهجرة، ولم ينظر الفقهاء بإيجابية إلى هذا العلم، وشككوا في جدواه، إلا أن أغلب الفقهاء، كابن تيمية، شاركوا في النقاشات الدائرة في ذلك الوقت.

ويرى أبو الحسن الأشعري (ت: 324هـ/ 936م)، وهو مؤسس مدرسة جديدة في علم الكلام، أنّ آراءه تمثّل آراء الصحابة وأتباعهم، وكذلك أهل السنة وأهل الحديث. وهو بهذا أعطى مصداقية لعلم الكلام، وجعله من العلوم الإسلامية. كما أباح الخوض في هذا العلم، مما أعطى شرعية للنقاشات والنقاشات المضادة حول الله تعالى وصفاته، وحول القضاء والقدر وقضايا كلامية أخرى. كما لم يكن لدى أبي حنيفة (ت: 150هـ/ 767م) تحفّظات حول الخوض في قضايا علم الكلام، لأن المعتزلة كانوا أحنافًا، ولأنهم تمسّكوا بأهمية الرأي كأحد مصادر التشريع. كما شارك القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت: 403هـ/ 1013م)، وهو مالكي المذهب، في إضفاء الصبغة الدينية على علم الكلام. أما المذهب الوحيد الذي لم يجز شرعية علم الكلام فهو الحنابلة، والذين قلّلوا من أهمية العقل في التشريع، إلا أن الأشاعرة تحالفوا مع الصوفية فأصبحت لهم سمعة كبيرة، مما سهّل تقبّل العقل على أنه وسيلة وليس أصلًا في دراسة القضايا الاعتقادية. أما الحنابلة فاعتبروا أنفسهم في حالة اتباع حرفي وأصلي لتقاليد السلف الصالح والالتزام الديني.

وعندما ظهر الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري، كان على الأشاعرة معالجة قضيتين أساسيتين، الرؤية الدينية لعلم الكلام والرؤية الدينية للصوفية. ويصّر الغزالي على أن علم الكلام هو علم لا يصحّ أن تخوض فيه العامة، بالرغم من الحاجة إليه لإزالة بعض الشكوك عند المؤمنين. لكن الأفراد ذوي القناعات القوية ليسوا بحاجة إلى علم الكلام. مع هذا، شكّك الغزالي في قدرة العقل على فهم حقيقة الله. ومع أنه يصنّف قضايا علم الكلام على أنّها إما صائبة أو خاطئة، إلا أنّ مناهج علم الكلام لا تفضي إلى نتائج قاطعة أو نهائية. وهكذا كان لنشوء المذاهب الأربعة الفقهية والتزام الأكثرية بعلم الكلام للأشعري والتشكيك في قدرة العقل دور في تقليص دور العقل وترسيخ التقليد[16].

كانت الشافعية المذهب الفقهي الأول الذي يتبنّى الأشعرية في القرن الرابع. فآراء مؤسس المذهب الإمام الشافعي (ت: 204هـ/ 819م)، هي آراء وسطية بين أهل الحديث الذين يمثّلهم الإمام مالك (ت: 179هـ/ 785م)، وأهل الرأي الذين يمثلهم النعمان بن ثابت أبو حنيفة (ت: 150هـ/ 767م). والأشعرية هي فكر وسطي يضع العقل في خدمة النص. لقد اعتقدت أن الأفكار تتبع منحى معينًا في الأصول ولا مجال للحوادث. كما اعتقدت بوجود قيّم صحيحة وقيّم خاطئة: فأمر ما إما أن يكون صحيحًا أو خاطئًا، شرعيًا أو غير شرعي، أخلاقيًا أو غير أخلاقي. إن مثل هذا التقسيم أدى إلى انشقاقات سياسية وكلامية بين الفقهاء والصوفية، والصوفية والحنابلة، والحنابلة والمعتزلة، والمعتزلة والشيعة، والشيعة والسنة، والسنة والخوارج.

ومع أن هذه الانشقاقات كانت في بداياتها تمثّل الاتجاهات المتعدّدة في الفهم الديني في المجتمع الإسلامي، إلا أنها تحوّلت عند ضعف العالم الإسلامي والصراع على السلطة إلى فرق متناحرة هدفت إلى السيطرة الأيديولوجية والسياسية. ففي خلافة المأمون (170هـ/ 786م - 208هـ/ 823م) أظهر حدث كبير خطورة تدخّل السلطة السياسية في صياغة مبادئ دينية. فهذا الحدث الذي عُرف بالمحنة، كان نوعًا من محاكم التفتيش أقامه المأمون الذي تبنّى الفكر الاعتزالي، وأجبر الناس على القول بخلق القرآن. أما الفقهاء والعلماء الذين عارضوا هذا المبدأ ووقفوا ضد الخليفة والمعتزلة فتمت محاكمتهم وسجنهم. وكان أحمد بن محمد بن حنبل (ت: 241هـ/ 855م) من هؤلاء العلماء. وعندما تحوّلت السلطة وتبنّت رأي المعارضة الدينية، كان هناك اضطهاد معاكس، فلم يسمح للمعتزلة حتى بالتدريس والمناقشة، وتعاملت السلطة معهم على أنهم خارجون على «القانون»، وشكّكت في التزامهم الديني[17].

ومن المحن الأخرى التي تدلّ على خطر تدخّل السلطة السياسية في الشؤون الدينية محنة غلام الخليل (ت: 285هـ/ 898م 363هـ/ 973م) حيث عُذِّب الصوفيون على يد المتشدّدين. فغلام الخليل، وهو حنبلي، اتّهم الصوفية بالكفر وحرّض الرأي العام ضدّهم، فقام الخليفة باعتقال أكثر من سبعين صوفيًا. وبلغت محنة الصوفية الذروة بإعدام الحسين بن منصور الحلاّج عام (309هـ/ 928م).

ومع مرور الوقت قلّت مثل هذه المحن، وأصبح الرأي العام والسلطة السياسية أكثر قبولا للرأي الآخر وللتعدّدية. فالصوفية دخلت في الثقافة العامة عند المسلمين، بعد أن تمّ تطهيرها من تعابيرها الغامضة حول الاتّحاد مع الله. فتمسّك المتصوّفة بالشريعة، واتبعوا الطريق الذي رسمه الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين». كما تقلّصت سلطة المذاهب والطوائف، حيث تبنت كل منها آراء خاصة بها حول العقل والنص، كما كان حال المعتزلة والحنابلة. إلا أن غالبية المسلمين تبنت مواقف وسطية في علم الكلام والفقه، كما عبر عنها الأشاعرة والماتريدية. ووجد الأشاعرة خاصة دعمًا في الدوائر الثقافية في بغداد ونيسابور والبصرة وأصفهان والموصل، وهذا بفضل جهود نظام الملك (ت: 485هـ / 1092م) وزير السلطان السلجوقي ملكاشاه، الذي أسس المدارس النظامية لمحاربة الدعوة الشيعية[18].

من حيث المبدأ، كانت الخطابات الفلسفية الإسلامية أكثر انفتاحًا من الخطابات الفقهية وعلم الكلام، فلقد سمح أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (ت: 595هـ/ 1199م)، على سبيل المثال، بالخروج على الإجماع في الأمور النظرية، بينما يصرّ على ضرورة التقيّد بالإجماع في الأمور العملية.

كما أكدّ أن للدين عدة قراءات تتوقّف على القدرات الفكرية للمفسّر.

كما رأى أن التأويل هو وسيلة حل التناقضات الظاهرة داخل النصوص أو بين النص والعقل. إذ إن التأويل يقتضي دراسة الاحتمالات كلها، فيسمح بتوسيع دور العقل في فهم النص. وأظهر ابن رشد دور العقل عبر اعتقاده أن أرسطو طاليس (384 - 322 ق. م) توصّل إلى الحقيقة دون الاعتماد على نص ديني[19].

وقام أبو النصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي (ت: 339هـ/ 950م)، قبل ابن رشد، باختراع الطرق المتعدّدة للتوصّل إلى الحقيقة. ومع أن الفارابي آمن بأن الحقيقة واحدة، إلا أنه اعتقد أن التعبير عنها متعدّد ورموزها متعدّدة. فكل مجتمع يقوم بتوظيف رموز الحقيقة حسب ظروفه وعاداته ولغته. فما يتوصّل إليه العقل هو واحد، لكن التعبير عنه وتصوّره يختلف من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى[20]؛ ولأن كل ادعاءات التوصّل إلى الحقيقة تنشأ من المخيّلة، فلا يمكن لأي مجتمع ادعاء التوصّل إلى الحقيقة المطلقة النهائية. إلا أن الفلاسفة قسّموا العقل على طريقتهم، وكذلك الحال مع المجتمع. فقد قسّم العقل الفلسفي البشرية إلى قسمين: الفاضل وغير الفاضل، فالأفراد والجماعات إما سعداء وفضلاء، وإما تعساء وغير فضلاء. أمّا التعساء والجهلة فهُم يشكّلون المدينة الجاهلة، ويفتقدون إلى الشرعية وبحاجة إلى الإصلاح.

لكنّ الانفتاح الصوفي تجاوز الانفتاح الفلسفي. فالرؤى الصوفية لم تتقبّل فقط التفسيرات المعرفية المتعدّدة بل الوجودية أيضًا. كان المحور الوجودي للصوفية يزيل كل التصنيفات الإنسانية كالمدينة الفاضلة وغيرها، مثّل مفهوم الاختلاف في الفكر الصوفي أساس الصوفية، لأن هذا المفهوم لا يتقبل فقط التنوع في المجال السياسي والاجتماعي بل وجود الأضداد أيضًا، فالله، على سبيل المثال، هو الأول والآخر والظاهر والباطن؛ لذا فإن كنه الحقيقة لا يمكن استيعابه عقليا.[21]

وقد وجد الصوفي وحدة بين كل الأديان، ووجد أن الله موجود في كل الأديان. كما أن الصوفي وجد أنه جزء من الجماد والحياة والحيوان والإنسان؛ حيث يمكن للإلهي أن يتجلى، إن لم يكن بذاته فبلطفه وقدرته ورحمته[22]. لكن مع انتصار العقل الفقهي والكلامي، تحوّل العقل الديني إلى الالتزام بتصنيفات دقيقة حول الحقيقة والمذهبية ورفض الحوار. وهكذا، فإن الآراء المطلقة النهائية التي أسبغتها المذاهب والفرق على الفكر الديني في شكل نظام معرفي إيماني مطلق أفضى إلى توقيف تطوّر الفكر الإسلامي عبر التشدّد في الالتزام الديني[23].

الاختلاف في الفقه والسياسة:

قد يختلف المسلمون حول قضية ما حتى لو كان هناك نص ديني حول ذلك؛ لأن الناس قد تقرأ معاني مختلفة في هذا النص وقد تكون لها خبرات متعدّدة. إن حق الناس في الاختلاف قد تقبله الفقه الإسلامي، كما أن التاريخ الإسلامي شاهد على تقبّل الاختلاف في السياسة والفقه واللغة والتاريخ. وفي البيئة المتقبلة للتعدّد كان الحاكم يقوم بدور الحكَم بين الآراء المتعدّدة والمختلفة، وكان لاختيار الحاكم لوجهة نظر معيّنة سياسية أو فقهية دور في جعل وجهة النظر هذه حكمًا سياسيًا أو فقهيًا له دور في تقليص حدّة الاختلافات. إلا أن هذا الحكم لم يتحوّل إلى تشريع نهائي في حدّ ذاته. ومثال على ذلك الاختلاف بين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب حول حكم من امتنع عن دفع الزكاة إلى الخليفة بعد وفاة النبي ﷺ، إذ اعتقد عمر أن الممتنعين عن دفع الزكاة هم مسلمون ولا تجوز محاربتهم، خاصة أن عددهم لم يكن كبيرًا ليهدّد سلامة الدولة الإسلامية، أما رأي أبي بكر فكان أنّ هؤلاء الناس قد ارتدّوا لأنهم امتنعوا عن القيام بفريضة دينية، وبالتالي تجب محاربتهم. بالطبع، انتصر رأي أبي بكر لأنه كان الحاكم، فقد كان هذا حكمًا سياسيًا[24].

كان الخلاف الأصلي بين الخليفة والقبائل إذن خلافًا حول تفسير آية قرآنية وحقّ النبي ﷺ بأسهم الزكاة، لكن أبا بكر أوجد هذه السابقة المهمة في التدخّل في الشؤون الدينية التعبّدية. وهذه السابقة سمحت للخليفة بالتدخّل في تفسير آيات القرآن الكريم التي ترتبط بتنفيذ الدولة للسياسة المالية. فالردّة هنا لم تقم على رفض أي مبدأ أساسي للإسلام بل نبع من الاختلاف مع الدولة على إدارة وتوزيع أموال الزكاة[25].

كما تطوّرت الخلافات حول وضع الأراضي التي احتلها المسلمون بعد السيطرة على العراق وسوريا ومصر، وكذلك حول كيفية توزيعها. أحد الآراء اعتبر وجوب توزيع الأراضي على المحاربين الذين حاربوا في تلك الأراضي؛ ورأى رأي آخر أن هذه الأراضي هي أرض خراج، ويجب أن يعود ريعها على الأيتام والأرامل. بينما قرّر الخليفة عمر بن الخطاب أنها أرض خراج، وأن هذا مجرّد رأي له، إلاّ إنّه أعمل قراره. وهنا أيضًا كان هذا القرار قرارًا سياسيًا نابعًا من السلطة السياسية للخليفة وعدم وجود حكم شرعي فقهي في مثل هذه الأراضي[26]. وهكذا، ومع أن الشريعة الإسلامية كانت التشريع الأعلى، إلا أن سكوتها في عدة قضايا قديمة وحديثة سمح للحاكم بتوسيع نطاق أحكامه وإلزام الجماعة بها. وكان هذا حقيقيًا، خاصة عندما لم يكن هناك تعارض مع الشريعة الإسلامية، وعندما لم تكن المدارس الفقهية منظمة بشكل يسمح لها بالضغط على الحكام في قضايا معيّنة. وهذا أثّر في مجمل نواحي الحياة الفقهية والاقتصادية والإدارية.

لقد شجّع النبي ﷺ خلال حياته الصحابة على التفكّر في عدة قضايا. وقام العديد من الصحابة بالاجتهاد في قضايا عدّة كالآذان. وكانت هذه القضايا تشمل الأمور الدينية. فالنبي ﷺ مدح هؤلاء الصحابة الذين يجتهدون في أفضل السبل للقيام بواجباتهم والتزاماتهم الدينية. ولذا، ففي رسالته الشهيرة إلى أبي موسى الأشعري، يطلب منه عمر بن الخطاب الحكم بالقرآن والسنة أولًا، ومن ثم بالرأي في الأمور المستجدة[27].

وأثناء الخلافة الراشدة، كان أبو بكر وعمر يجتمعان مع رؤساء القبائل من أجل التشاور في الأمور الهامة، فإذا انتهوا إلى رأي واحد كان ملزمًا للجميع، أما عند عدم الاتفاق فكان لكلٍّ رأيه. لكن الخليفة كان قادرًا على فرض رأيه كسلطة سياسية. ومع أنه كان من الواضح أن الإجماع عند الصحابة كان مصدرًا للتشريع، إلا أن غياب الاتفاق، وهو الحال عادة، شرع التعدّدية والتنوّع. وفي الواقع كان إجماع جماعة المدينة مهمًا؛ إذ هنالك عاش معظم الصحابة الفقهاء مما جعلها العاصمة الفقهية للمسلمين. وعكَس إجماع المدينة إجماع أغلب الفقهاء.

ومع هذا، حثّ الفقهاء الجماعة على التعبير عن آرائها من أجل إتمام عملية الإجماع والابتعاد عن الانشقاق في المستقبل. يخبرنا ابن خلدون بأنه أثناء حياة النبي ﷺ كان القرآن والسنة مصدري التشريع. أمّا بعد وفاة النبي، فقد وافق الصحابة على أن الإجماع هو مصدر تشريع كالقرآن والسنّة. وقد نظر الفقهاء إلى الإجماع باعتباره لا يقوم على ضلالة وهو مُلْزِمٌ لكل المسلمين[28]، إلا أن الإجماع القاطع لم يكن حقيقة في أغلب الأحيان؛ إذ غالبًا ما كان هناك معارضةٌ لما سُمِّيَ إجماعًا، حتى في مسألة مثل جمع القرآن أو وظيفة الحاكم.

علاوة على هذا، تقبل مؤسّسو المذاهب الفقهية شرعية الإجماع والتعدّدية[29]. وكان الشافعي أول من كتب بشكل معمّق في أصول الفقه، فتقبل الإجماع السكوتي على أنه إجماع الجماعة، العملية والشعبية، بينما اعترف بأن مثل هذا الإجماع هو صعب من الناحية العملية، إلا أنه اعتبره أعلى أنواع الإجماع من الناحية النظرية، كما كان إجماع العلماء ملزمًا لكن بدرجة أقل، إلا أن مثل هذا الإجماع يعاني من العيب نفسه، أي وجود بعض العلماء الذين لا يقرِّون إجماع غالبية العلماء، بمعنى آخر كان تعدّد الآراء بشكل ما شرعيًا حتى مع وجود ما يشبه الإجماع. لهذا، قال بعض الفقهاء أنه يمكن لبعض العلماء الادعاء بوجود إجماع سكوتي.

وقد تمّت مأسسة تعدّد الفقه الإسلامي مع تحوّل المدارس الفقهية إلى أسس النظام القضائي للدولة الإسلامية. وخلال الفترة المملوكية، كان القضاة ذوي نفوذ كبير، وأصبحوا مسؤولين عن المذاهب الفقهية، وراقبوا التعيينات في أجهزة الدولة والمؤسسات الدينية. بيد أن نخبةً من فقهاء العصور الوسطى لم تتحمّس للعمل في خدمة الدولة؛ لأنّ في ذلك استغلالًا للعلم من قبل السلطة السياسية وإخضاعها للعلماء لمصلحة السلطان وزيادة الحسد في ما بينهم. وقد اعتقدوا أن العالم يجب أن يخدم الأهداف الدينية لا السياسية. فالسياسية كانت خطرًا على العلم والالتزام الديني، ولا بدّ من منع الدولة من التسلّط على العلم.

كان تطوّر الفقه السياسي نتاج التفاعل الاجتماعي بين العلماء والفئات الأخرى في المجتمع. ومع أن الفقه كان مدنيًا بطبيعته وليس تحت سيطرة الدولة، إلا أنه تناول بعمق مواضيع سياسية، سواء مبادئ إنشاء الدولة الصالحة أو الدفاع عن المجتمع. مثل هذه المواضيع كانت تدرس في المساجد. فإذا ما تمكّن فقيه ما من جذب الأتباع إلى حضور دروسه، كان يتحوّل إلى شخصية مؤثّرة في المجتمع، تنبع سلطته من القبول الاجتماعي لعمله وليس من سلطة الدولة. وفي الواقع، كانت معظم المفاهيم السياسية والقضايا الدينية تنضج خارج إطار الحكم والحكومة. فعندما يكون هناك رأي معين لفقيه ذي قبول شعبي كبير كان على الحكومة احترامه وتنفيذه. لهذا، لم يعمل المسلمون على مأسسة عملية التشريع والفقه بل أبقوها بعيدة عن السلطات السياسية وآلياتها حتى القرن التاسع عشر. منذ ذلك الوقت، في العالم الإسلامي وفي غيره، تحوّل التشريع إلى جزء من عمل الدولة وآلياتها، فوظّفتها الدولة لزيادة سيطرتها على المجتمع[30].

وبالرغم من هذا، لم يتمكّن العثمانيون من الدمج الكلي لمؤسسة العلماء في أجهزة الدولة أو فرض مذهب فقهي واحد، أي الحنفي، إذ أن المجتمع تقبّل صلاحية المذاهب الأربعة. وقد صدّ العلماء محاولات الاستيعاب أو التدمير حتى زوال الإمبراطورية العثمانية، مع أن بعضًا منهم أصبحوا موظفين في أجهزة الدولة، كشيخ الإسلام في تركيا وعلماء الأزهر في مصر. فقد كان الدور التاريخي للعلماء هو تأدية دور الوسيط بين الدولة وفئات المجتمع المدني، إذ إن معظم الفقهاء كانوا من أصحاب الحرف والتجارة وأصحاب سلطة مالية واقتصادية[31].

كما أنّ واجب الحسبة، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قام به المجتمع المدني، لا الدولة[32]. وإذا ما أهمل المجتمع القيام بهذا الواجب، فقد كان ذلك دليلًا على أن المجتمع يعاني من علل اجتماعية. وهذا الواجب يفترض حق المجتمع في المشاركة في النقاشات العامة، عبر التعبير عن آرائه ونقد السياسات العامة وطريقة الحكم. وبهذا، تتخطى الحسبة المفهوم المجرد للمواطنة فتتطلّب المشاركة الفعلية للمجتمع والدولة. ولكون هذا الواجب هو فريضة دينية فإنّ للقائم به أجرًا كبيرًا. أما الذي يمتنع عن القيام به بالرغم من قدرته عليه، فإنه يأثم إثمًا كبيرًا[33].

ومن الدلائل المهمة على ترسّخ مفهوم المجتمع المدني في التاريخ الإسلامي هو الدور الذي قام به السادة والأشراف كوسطاء بين الأفراد والدولة. هذه الفئة خفّفت من حدّة التوتّر بين الدولة والمجتمع، إذ أنّ أعضاءها كانوا من سلالة النبي ﷺ ممّا أسبغ عليهم سلطة معنوية ضمن فئات المجتمع الأخرى. أما زعيمهم، نقيب الأشراف، فقد كانت له سلطة اجتماعية معتبرة سمحت بالتدّخل عند الدولة لصالح الأفراد وفئات المجتمع[34].

ومن القوى الاجتماعية الأخرى النقابات والحرف التي ربط بينها وبين الأشراف شبكة من المصالح التجارية التي ساهمت في تطوير روابط اقتصادية واجتماعية محلية مهمة. ففي أغلب الأحيان، كان الأشراف يترأّسون الكثير من الحرف، ويسمّون شيوخ الحرف. كل هذا أدّى إلى تطوّر البنى المحلية للمجتمع وقواعد العمل التي وظّفتها الدولة لتسهيل ممارستها للسلطة وعلاقاتها مع المجتمع. هذه البنى والقواعد، بالإضافة إلى روابط الدم والعائلة، أدت دورًا مهمًا في حماية الأفراد وفئات المجتمع من ممارسة السلطة بطريقة عشوائية. وكان شيخ الحرفة أو النقابة يمثّلها أمام الدولة في رعاية شؤونها وحل المشاكل الناشئة والإشراف على العقود وحسن سير العمل. وعادة ما كان للشيخ قدرة على الاجتماع بالقضاة من أجل تسجيل العقود وإيصال الشكاوى التي تتعلّق بالحرفة. كما كان الشيخ هو القناة التي يتمكّن من خلالها الحاكم المحلي من الاتصال بأعضاء كل مهنة. من الناحية التنظيمية الداخلية كان التنظيم دقيقا وهرميا، بدءا من الدخول في المهنة وحتى التوصّل إلى الاحتراف. كانت تُعقد الاحتفالات لإضفاء الحرفية على المتخرّجين الذين يقسمون الولاء لشيوخ المهنة وللتمسّك بقواعدها التي اشتملت على الأمانة والكمال والسعر المعتدل والتضامن مع أفراد المهنة. وكانت المهن والحرف أشبه بتنظيمها بالطرق الصوفية[35].

كل هذا عكَس حق المجتمع المدني في إدارة قطاعاته كما يناسبه مما عنى أن حق ممارسة السلطة الاجتماعية كان للمجتمع المدني لا للسلطة السياسية. أوجد الوسطاء، الحرفيون والأشراف والمتصوّفة أو الأشراف أو المتصوّفة منهم، إطار انتماء متعدّد المستويات للمجتمع المحلي، كما ربطوا هذا الإطار بالمثل العليا للأمة. وتركّزت العلاقات بين السلطات المحلية والدولة حول الضرائب وحفظ الأمن وتطبيق القانون، كما كان لهذا الترابط بين المهن والحرف دور مهم في حفظ الاستقرار العام[36].

أخذ الدور المدني للمهن والحرف والحركات الدينية بالتراجع في أواخر القرن التاسع عشر، وانتهى نهائيًا مع ظهور الدولة الحديثة والنقابات المهنية في القرن التاسع عشر والعشرين. فتم استيعاب الأسواق الإسلامية في الأسواق العالمية، مما أدّى إلى زوالها وزوال المجتمع المدني الذي بنته. وشهدت المدينة الإسلامية ضمور المؤسسات الحقيقية للمجتمع المدني، واستبدالها بمؤسسات حكومية لم تتمكّن من القيام مقام المؤسسات الأولى ذات الاستقلالية من حرف ومهن وأشراف وصوفية[37].

ومن مؤسسات المجتمع المدني المهمة التي وجدت في المجتمعات الإسلامية الأقليات أو أهل الذمة الذين حافظوا على كياناتهم عبر حرية الالتزام بتعاليمهم وقوانينهم ونصوصهم. فقد أدى رؤساء طوائف الأقليّات دورًا محوريًا مشابهًا لدور شيوخ الحرف والمهن والصوفية، وكانت لهم حرية كبيرة في تسيير الشؤون الداخلية. وللتعدّدية أهمية كبيرة في بناء الهوية، والتي تتطلّب الاعتراف بحق الاختلاف بين فرد وآخر وبين جماعة وأخرى. وهي اليوم من الأمور المطروحة على المستوى العالمي. فكل جماعة بشرية تختزن تعدّدًا في الآراء، مما يعكس حالة طبيعية بين البشرية، إلا أن مفهوم الوحدة هو بناء عقلي؛ وبهذا المعنى، كل ثقافة هي مشروع لتنظيم الجماعة في وحدة معينة. ويظهر التاريخ أن التعدّد هو مبدأ وأصل التطوّر.

إن رفض صحة التعدّدية السياسية والاختلاف هو إحدى الإشكاليات الكبرى في الفكر الإسلامي. فالاختلاف لا التوحّد، هو الخاصية الأساسية للفكر والتنظيم السياسي الإسلامي. فبعد وفاة النبي ﷺ مباشرة بدأت الاختلافات حول طبيعة الحكم السياسي، وتطوّرت فيما بعد إلى رؤى أيديولوجية متكاملة، وإلى تيارات سياسية ما زالت قائمة في الوعي الإسلامي الاجتماعي حتى اليوم. فالاختلافات حول الخلافة أنتجت تعدّدًا في الآراء حول طبيعة الخلافة وارتباطها مع المجتمع السياسي.

فالمشروعية السياسية لم تنبع من القوة بل توقّفت على الروابط الاجتماعية. وبالرغم من هذا، فإن للمشروعية السياسية في الإسلام تبريراتها الدينية والعقلية. فالقرآن الكريم، النص الإسلامي الأول، تحوّل إلى أداة للمشروعية السياسية في مقابل توظيف القوة المجرّدة. وعبر القرون الغابرة كان هذا النص مشرعًا للتعدّدية والخطابات المختلفة التي ارتبطت بالقوة ومصالح المجموعات المختلفة وتنظيماتها الاجتماعية. وبما أنّه لم تكن هناك جماعة لها حق الحكم التلقائي، كان هذا الحق يعود للجميع الذين كان عليهم التفكير في الطرق المثلى للحكم، وصفات الحاكم، والطبيعة السياسية للتنظيم الاجتماعي، والالتزام الديني والحرية العامة[38].

فالشريعة الإسلامية تطالب بتغيير المنكر في الحياة الإنسانية، سواء كان الذي يسبّبه شخص أو جماعة أو نظامٌ ما. فالنبي ﷺ أمر المؤمنين بتغيير أحوالهم لما هو أفضل. كما أنّ النبي ﷺ أعلن أن أولئك الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ليسوا جزءا من الجماعة وليسوا مؤمنين بحق[39]. وعلى الجماعة واجب المشاركة في معالجة قضايا المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضايا السياسية والاجتماعية. ومن أفضل الأمثلة على هذا تطوّر المذاهب الفقهية والمدارس الكلامية والطرق الصوفية، وهي تماثل اليوم في وظيفتها الأحزاب السياسية. فالأحزاب التي تعتبر طرقًا حديثة في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية وتهدف إلى خير المجتمع هي ضرورة حديثة في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنّ مصطلح «الحزب» كمجموعة سياسية لم يكن معتمدا في الأدبيات السياسية الإسلامية حتى أواخر القرن التاسع عشر، مع أن مصطلح الحزب في دستور المدينة كان له مدلول سياسي. كما أنه مذكور في القرآن الكريم للتفرقة بين حزب الله وحزب الشيطان. فحزب الله يشتمل على المؤمنين بالله ورسله، وهم حزب التوحيد، أما حزب الشيطان فيشتمل على من لا يؤمنون بالتوحيد أو تناسوه وحاربوا النبي ﷺ وحاولوا تفتيت المجتمع. فمصطلح الحزب، إذًاً، كان مقصورًا على قضايا الإيمان والكفر[40]. أما مصطلح «الملة» فقد كان يوظّف لوصف أتباع دين أو مبدأ ما؛ أما مصطلح «النحلة» فيدل على أتباع وجهة نظر معينة ضمن الملة؛ بينما استعمل مصطلح «الفرقة» للدلالة على النحلة والملة[41]. وبهذا المعنى فهي تدل على ما يتضمنه مصطلح الحزب بالمعنى الحديث. إلا أن مصطلح الحزب لم يكن له مدلول سياسي أو أيديولوجي.

المعارضة في الإسلام

وتمظهرت المعارضة في المحاولات الفكرية التي تمثّلت في مدارس فلسفية وكلامية، كما تمظهرت الخلافات السياسية في المذاهب الفقهية وحركات المعارضة. وقد وظّف مفهوم المعارضة للدلالة على الفروقات الفكرية في التاريخ الإسلامي. وقد اختلف مفهوم المعارضة من مرحلة إلى مرحلة، وارتبط بإشكاليات كل مرحلة. إلا أنّ هناك خصائص عامة شكّلت سلوك المعارضة.

أولًا: يجب أن تحكّم المعارضة مفاهيم الشريعة الإسلامية، كشرط خرق الحاكم لشروط العقد السياسي، على سبيل المثال.

ثانيًا: أنها لم تتّخذ عادةً شكلًا مؤسساتيًا بل كانت فضفاضة؛ فهي عادة ما تكون فردية، إذ إن الفرد هو مناط الخطاب الإسلامي في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في الحقيقة، عكست المعارضة، سواء كانت مدرسة فقهية أو حركة سياسية، ظاهرة سياسية في المجتمع الذي كان يهدف إلى تحقيق المثل الإسلامية. يقول الغزالي في «إحياء علوم الدين» إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فريضة قرآنية. وهذه الفريضة التي تحقّق الكمال في الإيمان والحياة يمكن أن يقوم بها الفرد أو جماعة ما أو المجتمع ككل. لقد جعل القرآن الأمة الإسلامية مميّزة لأنها تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الأمر ينطبق على نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والشخصية[42].

وبما أن إجماع أو موافقة كل الجماعة لم يكن أمرًا قابلًا للتحقيق عمليًا في أغلب الأحيان، وظّف الفقهاء مفهوم الجمهور كبديل عملي للإجماع. يتقبّل الغزالي، مثلًا، إمامة هؤلاء الذين يحصلون على موافقة الجمهور أو الأغلبية؛ وهذه الفكرة موازية للفكرة الغربية الحديثة عن الحكم الديموقراطي. كما أنّ المعارضة غالبًا ما كانت تظهر على أنها مرتبطة بآراء الأقليات، والتي عادة ما كان يعبّر عنها بشكل حر في إطار الجماعة. إن نظام الحكم في الإسلام تقبَّل مبدأ المعارضة؛ والمسألة المهمة كانت تدور حول نطاق المعارضة التي يسمح بها الإسلام[43]. فالمعارضة تتطلّب تقبّل شرعية التعبير الحر للآراء المختلفة في سياق عام من التحمّل والاستيعاب.

لقد وضع القرآن عدة مبادئ تنظم العلاقات بين الحاكم والمحكوم، سواء كان المحكوم في المعارضة أو الموالاة. فالحاكم هو أحد المؤمنين، وعليه بالتالي الخضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أن الشورى هي مبدأ آخر ناظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم. لذا، فإن طاعة الحكام ليست مطلقة بل هي مشروطة بموافقة الشريعة[44]. إن المعارضة الشرعية مرتبطة بنفس الشريعة. إن مبدأ المعارضة ليس مذكورًا في القرآن، لكن هناك مفاهيم موازية، مثل الاختلاف والخلاف والانشقاق والجدل[45]. إنّ تقبّل القرآن لمثل هذه المفاهيم في الجماعة هو اعتراف بأنه لا يوجد رأي أو منهج واحد يجب على الجماعة الأخذ به. فهذه المفاهيم تتعدى مجرد المعارضة لتشتمل على تنوع أساليب الحكم والاختلافات السياسية والفلسفية والتفسيرية. فإذا ما كان الاختلاف جائزًا في أمور الدين، فمن باب أولى أن يكون جائزًا في أمور الدنيا، وخاصة في مسائل التنوّع والتعدّد. فالقرآن إذًاً لا يحرّم مبدأ المعارضة بل هو الأساس الشرعي لتلك المعارضة[46]. إن آيةً قرآنيةً محكمة، على سبيل المثال، لا تؤدّي بذاتها إلى حل الصراعات بين الجماعة، بل إنّ القرآن يتطلّب من الجماعة العمل على حل الاختلافات عبر العودة إلى القرآن والسنة وتحكيمهما. إلا أن مثل هذه العملية لا يمكن أن يقوم بها القرآن نفسه، بل لا بدّ من هيئة من الجماعة أو العلماء تنهض بمثل هذه العملية.

كما أنّه يجب في حالة عدم توافر آية قرآنية أو حديث نبوي العودة إلى الجماعة أو العلماء من أجل النظر في تلك الحالة. والشورى هي إحدى الوسائل لحل الاختلافات؛ فيمكن تقديم عدة حجج وآراء من أجل الحصول على موافقة الجماعة. ورغم عدم وجود معارضة شرعية في الدولة الإسلامية للعقيدة الإسلامية، إلّا أنّ كل القضايا التي ترتبط بالتعامل البشري هي عرضة للمعارضة والاختلاف[47].

كما أنّ الفرقة ليست من المعارضة الشرعية. لكن من الطبيعي أن المعارضة التي تقوم كرد فعل على خرق الشريعة هي جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلا أنّ أغلبية المعارضات كانت تتمحور حول أمور وقضايا يسمح بها الشرع وخاضعة لمبدأ الشورى.

وفي الخلاصة، فإن القرآن يشرعن المعارضة عندما لا تتعدّى على مبادئ الدين، إذ أنّ المعارضة هي قضية لا يمكن الاستغناء عنها. كما أنها مطلوبة شرعًا ومبررة عبر مبدأي الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنّ السنة النبوية، المصدر الثاني للشريعة، تبيح أيضا المعارضة. وعندما وضع النبي الدستور الأول، أو الصحيفة، في الإسلام في شكل عقد بين الفئات المختلفة، سمح بالاختلاف والمعارضة في حالة عدم احترام مواد تلك الصحيفة. أما حول القضايا الدينية فلم يكن مساومًا لكنه أخضع القضايا السياسية والاجتماعية للرأي والاجتهاد والشورى. كان النبي ﷺ غالبا ما يسأل عن أحكامه، هل هي دينية أو دنيوية، وكان بعض الصحابة يعارضونه في قضايا سياسية واجتماعية. وقد قال ﷺ للناس إنهم أعلم بشؤون دنياهم، وهو أعلم بشؤون دينهم[48].

ورغم أن شرعية المعارضة قائمة على الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورغم اتفاق الفقهاء على أن الشورى هي عماد الحكم السياسي، إلا انهم اختلفوا حول طبيعة إعمالها من قبل الحاكم، هل هي ملزمة أو استشارية، لهذا، يربطها العديد من الفقهاء بالاجتهاد، الذي يتطلّب رأي العلماء. إلا أن الشورى كفرض جماعي هي الخطوة الأساسية في عملة اختيار الحاكم عندما تتعدّد الآراء حول شخصية الحاكم قبل اختياره. إن فشل الشورى في التوصّل إلى إجماع أو أغلبية ما يعطي المعارضة حقًا شرعيًا في الاختلاف. ففي الحياة السياسية وإدارة شؤون الجماعة تصبح الشورى هي المحك.

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي تمأسس لاحقًا في مؤسسة الحسبة، هو مبدأ شامل يشرعن المعارضة، لا في الأمور السياسية والاجتماعية فحسب بل في التصرّفات الأخلاقية[49]. فهو واجب فردي وسياسي؛ لأن القرآن يفرض ضرورته لقيام المجتمع الصالح[50]. فالحسبة هي التفسير السياسي للأمر بالمعروف، إذ إن الجماعة والفرد، كذلك الدولة، يعبّرون عن آرائهم من منطلق الحسبة، كما أنه من واجب الحاكم أكثر من غيره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد قامت المعارضة أيضًا برفع لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما كانت تقف في مواجهة الدولة والنظام السياسي؛ فالمسلمون مطالبون بعدم السكوت عن الخطأ بل العمل على تصحيحه. وكمبدأ شرعي، أعطى الأمر بالمعروف المعارضة سلاحًا قرآنيًا لتوظيفه ضد الحاكم أو الحكومة التي تقوم بأعمال مخالفة للإسلام أو في غير صالح الأمة. فهو مبدأ ديني قادر على موازنة مبدأ آخر، وهو ضرورة طاعة الحاكم. علاوة على ذلك، فهو يعطي الجماعات داخل المجتمع الإسلامي، وخاصة المعارضة، نظامًا أخلاقيًا لا تقوم شرعيته على النظام السياسي؛ إذ إن أساس الشرعية هو الحكم حسب مصالح الجماعة دون مخالفة الشريعة.

وقد طالب النبي ﷺ بشكل صريح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والعمل، وبالتصريح وبالرأي، وبالمقاومة السلبية والإيجابية. كما أن هناك مستويين من المعارضة، السلبية والإيجابية. فالمعارضة الإيجابية تقوم على العمل الفعلي من أجل التغيير، أما المعارضة السلبية فتقوم على الرغبة دون العمل على المعارضة. ويقول ابن حزم إن الجماعة اتفقت على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن الاختلاف يدور حول طرق تطبيق هذا الأمر. ورأت جماعة من أهل السنة أن أفضل طريقة هي المعارضة السلبية، وأعلاها الوعظ، لكنها ارتأت ضرورة العمل الفعلي عندما تتعرض الدولة للخطر. بمعنى آخر، أن هذه الجماعة لم تر ضرورة العمل المسلح ضد الدولة من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[51]. إلا أن جماعات سنية أخرى، وكذلك المعتزلة والخوارج والزيدية، رأت ضرورة المقاتلة من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على شرط القدرة على مغالبة الحاكم[52]، واعتقدوا أن من الأفضل عدم مقاتلته إن لم تكن شروط النجاح متوفّرة؛ وإلا فإنّ سفك الدّماء وانشقاقات الاجتماع هي النتيجة. وباختصار، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الشورى، هي أساس شرعية المعارضة، سواء من أجل تغيير السياسات العامة أو الحاكم.

وبالرغم من أن الخلافة مثّلت النموذج الأول للحكم السياسي بعد حكم النبي ﷺ، والتي تحوّلت فيما بعد إلى شكل من أشكال الملك، ظهر نوع آخر من الحكم السياسي: الإمامة، والتي شكّلت الأنموذج الأول للمعارضة السياسية المنظمة. وفيما بعد، أصبح للإمامة وللخلافة المعنى نفسه[53]. وحول مفهوم الإمامة تبلورت عدة جماعات معارِضة، كالخوارج والشيعة. أما المعارضة السنيّة، فغالبًا ما اتّخذت شكلا مسالمًا سلبيًا تجاه الدولة، إذ اعتقدوا أن مساوئ المعارضة تتجاوز محاسنها وتضرّ بغالبية الجماعة، ولذلك لم يتحمّسوا للثورة ضد الحكام الظالمين. لكن من الناحية النظرية، كانت المعارضة السنية دائمًا حاضرة، لكنها لم تتّخذ أشكالًا ثورية والتي اقتصرت على جماعات الشيعة[54].

كانت المعارضة السنية ترى معارضتها كشكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وربطت وجهة نظرها في الخلافة بمدى التزامها بتطبيق الشريعة، لا المزايا الشخصية للحاكم. ولهذا السبب، عارض السنة معظم آراء الشيعة حول شخصية الإمام. وعوضًا عن ذلك، وضعوا شروطًا عامة للخليفة وأعوانه ولأهل الحل والعقد، ووضعوا دراسات عدة حول تنظيم مؤسسات المظالم والحسبة والقضاء[55]. وعلى العموم، يمكننا القول إن المعارضة السنية اتخذت أشكالًا مؤسساتية ضمن النظام نفسه، بينما كانت المعارضة الشيعية خارج النظام. على سبيل المثال، لم يتقبّل السنة قضية عصمة الأئمة، اعتقدوا بأن لأهل الحل والعقد الشرعية بإخراجه من الحكم، كما اعتقدوا أن إخراج الحاكم لا تكون لكل كبيرة وصغيرة، بل يجب مراعاة أوضاع الجماعة. إلا أن الإمام مسؤول بشكل كلي عن أفعاله، كما أن سوء إدارته التي تفضي إلى الإضرار بمصالح الأمة أو انتهاك الشريعة تُشرعن المعارضة الجذرية ضده[56].

وقد مال الفكر السني إلى تفضيل الصبر خوفًا من التفرقة. كما لم يستسغ نظريات الثورة المسلحة؛ لأنها تهدّد اسقرار المجتمع. وقد ركّز الفكر السنّي على قضية الاستمرارية والاستقرار أكثر من قضية شرعية الحاكم. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في نهاية المطاف المبدأ الذي يحدّد الموالاة والمعارضة. كما أن العمل على النهي عن المنكر له أسبقية على الأمر بالمعروف؛ لأن رفع الضرّر مقدّم على جلب المنفعة. لذا، يمكن للأمر بالمعروف أن يتّخذ أشكالًا عدة، إلا أنها يجب أن لا تفضي إلى العنف والحروب الأهلية والفتنة وعواقب مشابهة[57].


[1] سورة البقرة آية (256).                                                                                      

[2] سورة يونس، آية (99).

[3] سورة الأنعام، آية (107).

[4] سورة هود، آية (118).

[5] سورة آل عمران، آية (20).

[6] سورة الشورى، آية (48).

[7] سورة التوبة، آية (7)

[8] سورة الحج، آية (40).

[9] سورة العنكبوت، آية (46).

[10] راجع الآيات في سورة البقرة، الآية 213، وفي سورة يونس، الآية 19، وفي سورة المائدة، الآية 48، وفي السجدة، الآية 25. وراجع: علي حرب، في الاختلاف، منبر الحوار، سنة 3، عدد 12، 1988 - 1989م، ص18 - 26.

[11] بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794هـ/ 1392م)، البرهان في علوم القرآن، دار المعرفة، بيروت، لا. ت، الجزء الأول، ص5 – 9.

[12] أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت: 548هـ/ 1154م)، الملل والنحل، دار المعرفة، بيروت، 1961م، ص201.

[13] أبو حامد محمد بن محمد بن حمد الطوسي الغزالي (ت: 505هـ/ 1111م)، فضائح الباطنية، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1964م، ص96 – 98.

[14] الغزالي، المصدر نفسه، ص2 – 4.

[15] تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني، ابن تيمية (ت: 728هـ/ 1328م)، فتاوى، مكتبة المعرفة، المغرب، لا.ت، الجزء 21، ص304 - 310. أبو بكر أحمد بن علي الرازي (ت: 370هـ/ 981م) الجصاص، الإجماع: دراسة في فكره: باب الاجتهاد، حققه وقدمه زهير كبي، دار المنتخب، بيروت، 1993م، ص30 - 40؛ فضل الرحمن، الإسلام، هولت وراينهارت وونستون، نيويورك، 1966م، ص85 - 99Fazlur Rahman , Islam , N.Y.1966.

[16] أحمد محمود صبحي، في علم الكلام، دار النهضة العربية، بيروت، 1985م، ص7 - 18.

[17] المرجع نفسه، ص19 - 34.

[18] أحمد محمود صبحي، المرجع ذاته، ص35 - 42.

[19] أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد المالكي (ت: 595هـ/ 1199م)، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1981م، ص 34 - 62.

[20] أبو النصر محمد بن محمد بن طرخان، الفارابي (ت: 339هـ/ 950م)، المدينة الفاضلة، المؤسسة الشرقية، بيروت، 1980م، الفصل 36.

[21] انظر على سبيل المثال: محيي الدين محمد بن علي بن محمد ابن عربي (ت: 638هـ/ 1240م)، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي، بيروت، 1980م، ص79 – 107، 111.

[22] انظر على سبيل المثال: آراء مولانا جلال الدين الرومي، محمد بن محمد البلخي الرومي (ت 672هـ/ 1273م) في مصطفى غالب جلال الدين الرومي، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1982م، ص654.

[23] في هذا الموضوع، راجع علي حرب، «في الاختلاف» منبر الحوار، سنة 3، عدد 12، 1988 ـ 1989م، ص8 – 17.

[24] أبو بكر بن العربي، محمد بن عبد الله المعارفي الإشبيلي المالكي، (ت: 543هـ/ 1148م)، أحكام القرآن، 4ج، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، 1987م، ص156 – 157.

[25] محمد سعيد عشماوي، الخلافة الإسلامية، سيناء للنشر، القاهرة، 1992م، ص105 – 108.

[26] أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، (ت: 182هـ/ 798م) كتاب الخراج، بولاق، لا. ت، القاهرة، ص 14– 15؛ ص8182. محمود خالدي، معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي، دار الجيل، بيروت، 1984م، ص436348.

[27] أبو بكر أحمد بن علي بن محمد الرازي الجصّاص (ت: 370هـ/ 980 – 981م)، الإجماع، ص 9 – 10.

[28] الجصاص، المصدر نفسه، ص11 – 12؛ عبد الرحمن بن محمد الحضرمي ابن خلدون (ت: 808هـ/ 1405م)، المقدمة، دار القلم، بيروت، 1978م، ج1، ص453.

[29] ابن خلدون، المصدر نفسه، ج1، ص15 – 16.

[30] في موضوع تطور التشريع الإسلامي، انظر: طارق البشري، «عن مؤسسات الدولة في النظم الإسلامية والعربية» منبر الحوار، ص19، صيف 1989م، ص79– 82؛ رضوان السيد، مفاهيم الجماعة في الإسلام، دار التنوير، بيروت، 1984م، ص41 – 42؛ مجلة الاجتهاد، بيروت، سنة 5، عدد 19، 1993م، ص23 – 55؛ وانظر: علي بن محمد بن حبيب الماوردي (ت: 450هـ/ 1058م)، الأحكام السلطانية، الوطن، القاهرة، لا. ت، ص، 3.

[31] محمود إسماعيل، سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988م، ص154 ـ 156، وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع والعمل السياسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988م، ص35، 38، 43، والبشري، «عن مؤسسات الدولة» ص83 - 90.

[32] هذا رأي الكاتب.

[33] طارق البشري، «عن مؤسسات الدولة» ص86 – 89؛ رضوان السيد، مفاهيم، ص41 – 42.

[34] من أجل تفاصيل أكثر راجع وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع، ص46؛ إسماعيل، سوسيولوجيا، ص 140 - 143؛ ورضوان السيد، مفاهيم، ص77 – 91، 94 – 96.                        (28 - مقالات)

[35] وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع، ص47 – 49؛ رضوان السيد، مفاهيم، ص100 – 101. وحول حدود الحكم السياسي انظر:

M.Kamali, “The Approved and Disapproved Varieties of Ray in Islam ” Amer - Ican Journal of Islamic Social Sciences 7 , No.1, 1990, pp. 39 - 65

[36] رضوان السيد، مفاهيم، ص110 – 111.

[37] وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع، ص35 – 38، 67 – 72؛ ورضوان السيد، مفاهيم، ص119 - 129.

[38] في الاختلافات السياسية، راجع: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت: 548هـ/ 1153م)، الملل والنحل، ص17 – 42.

[39] أبو عيسى بن عيسى السلمي المشهور بالترمذي، (ت: 279هـ/ 892م)، الجامع الصحيح: سنن الترمذي، 5ج، تحقيق أحمد محمد شاكر، ج4، ص322، 469 – 470.

[40] على سبيل المثال، الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، 30ج، القاهرة، شركة مصطفى الحلبي، ط2، 1954.

[41] الشهرستاني، الملل والنحل، ج3، ص16.

[42] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت: 505هـ/ 1111م)، إحياء علوم الدين، 4ج، القاهرة، مؤسسة الحلبي، 1967م، ج2، ص391 – 424.

[43] ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، مكتبة أنجلو المصرية، القاهرة، 1957م.

[44] ﴿يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شّيْئٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [59]﴾ النساء: 59.

[45] محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم الفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، 2001م، ص202، 294، 473.

[46] ﴿يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شّيْئٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [59] أَلَمْ تَرَ إلى الذِّينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلَالًا بَعِيدًا [60]﴾ سورة النساء، آية 59 – 60.

[47] محمد بن عفيفي الخضري (1345هـ/ 1927م)، أصول الفقه، المكتبة التجارية، القاهرة، 1969م، ص 20.

[48] تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ/ 1328م)، الصارم المسلول على من شتم الرسول، مكتبة الرسول، القاهرة، 1960م، ص191 – 192؛ عن بعض الحوادث، حيث عارض بعض الصحابة الرسول، راجع عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر، ابن كثير، (ت 774هـ/ 1372م)، البداية والنهاية، مكتبة السعادة، القاهرة، لا. ت، ج3، ص105.

[49] أبو القاسم حسين بن محمد، راغب الأصفهاني (ت: 502هـ/ 1109م)، المفردات في غريب القرآن، دار المعارف، بيروت، لا. ت؛ ومحمد بن علي الشوكاني (ت: 1250هـ/ 1834م)، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، مكتبة السعادة، القاهرة، لا. ت، ص74.

[50] ﴿الذِّينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الأَمُورِ [41]﴾ سورة الحج، آية 41؛ وانظر: ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، دار المعارف، الكويت، لا.ت، ص6.

[51] علي بن أحمد بن سعيد، ابن جزم (ت: 456هـ/ 1064م)، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة التضامن، القاهرة، لا.ت، ج4، ص170 – 176.

[52] ابن حزم، المصدر والمكان ذاتهما، 171– 176؛ محمد عمارة، الإسلام وفلسفة الثورة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980م، ص233 – 234.

[53] محمد أبو زهرة، المذاهب الإسلامية، دار الفكر، بيروت، لا. ت، ص30.

[54] انظر على سبيل المثال: أحمد محمود صبحي، نظريات الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية، دار المعرفة، القاهرة، 1969م، ص63 – 72.

[55] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص222 – 242؛ وابن تيمية، الحسبة في الإسلام، ص7 – 10.

[56] أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي (ت: 403هـ/ 1012 – 1013م) التمهيد، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص184؛ وابن تيمية، الحسبة في الإسلام، ص54.

[57] حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988م، ج 5، ص315 – 321.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
صفحات من تاريخ دمشق، و دراسات أخرى، 2006، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، 417 - 446.
Back to Top