مهدي محقق
كان من نتائج حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية، أنها وضعت الأعمال الفلسفية لعلماء الإغريق في متناول أيدي المسلمين. 1 ولم يقتصر الأمر إذ ذاك على نقل المترجمين لمختلف كتب أرسطو وأفلاطون وجالينوس وغيرهم من الفلاسفة إلى العربية فحسب، بل لقد قام بعض العلماء بترتيب آثار فلاسفة اليونان والفهرسة لها. ويمكننا أن نشير من بينها إلى كتابي أبي نصرالفارابي، قدم في أحدهما آثار أفلاطون،2 وفي الآخر آثار أرسطو.3 كما أنحنين بن إسحق – في رسالته إلى علي بن يحيى – يعدد مائة وتسعة وعشرين كتابا ترجمها هو وأعوانه، ويعدد أسماءها كتابا كتابا، ويشرح له بالتفصيل كيف حصل على تلك المخطوطات، وكيف قارنها الواحدة بالأخرى ليصل إلى نص صحيح كامل، فالسعي للحصول على المخطوطات من آثار السابقين، والبحث عنها كان دائما محل يقظة العلماء المسلمين وعنايتهم واهتمامهم.
يقول أبو الريحان البيروني في رسالته: "بقيت أربعين سنة ونيف أتحرق شوقا إلى رؤية كتاب "سفر الأسرار" لماني – الذي تأثر به محمد بن زكريا الرازي في تحرير كتابه "العلم الإلهي" – وعانيت كثيرا حتى أتى بريد من همدان إلى خوارزم يحمل كتبا لي كان من بينها ضالتي "سفر الأسرار"،4 ويقول ابن سينا: "لقد قرأت كتاب أرسطو "ما بعد الطبيعة" أربعين مرة، ولم أفهم معانيه، حتى اتفق أن عرض شخص علي في دكان أحد الوراقين كتابا مقابل ثلاثة دراهم، ولما كان صاحبه ذا حاجة فقد اشتريته، ولم ألبث أن عرفت أن الكتاب هو "أغراض ما بعد الطبيعة" للفارابي، وبواسطته استطعت أن أذلل ما واجهني من صعوبات في الكتاب"،5 ويقول حنين بن إسحق: "وحتى أحصل على نسخة يونانية كاملة من كتاب "البرهان" لجالينوس، سافرت إلى الجزيرة، والشام، وفلسطين، ومصر، فلم أعثر على شيء منه حتى في الإسكندرية، إلى أن أظفرت في دمشق بنصف من الكتاب فحسب"6، ومن طليعة العلماء المسلمين الذين بذلوا جهدهم في التعريف بالمخطوطات، والكتب العلمية، والفلسفية، ابن النديم (المتوفى بعد عام 350هــ)، الذي وصف مخطوطات العلوم والفنون المختلفة الموجودة في زمانه. ويجب أن نذكر أيضا ممن جاءوا بعده أشخاصا كابن القفطي (المتوفى عام 668هــ)، صاحب "عيون الأنباء"،والشهرزوري (المتوفى بعد عام 687هــ)، صاحب "نزهة الأرواح".
لقد كان للعلوم العقلية الإسلامية وسائر شعبها 7– وخاصة الفلسفة، والكلام، والمنطق – على مدى ألف سنة من التطور والتغير، سهم مرموق في الارتفاع بمستوى الفكر البشري؛ إلا أن مقدار ما نعرفه من هذا التراث وماوصل إلى علمنا لم يبلغ حتى العشرين في المائة مما خلفه السلف لنا. وإنه المهمة الباحثين المعاصرين المتخصصين في الإسلام، أن يبذلوا غاية ما في وسعهم لتعريف العالم بهذه الآثار حيثما كانت، وأن يعدوا لها فهرسا واحدا شاملا، حتى تتيسر للأيدي وتسهل مهمة تحقيقها، ونشرها، وتحليلها، ودراستها، والإفادة منها. فالأمر في إيران لا يقتصر على المكتبات الكبيرة التي تتمتع بالفهارس –مثل المكتبة المركزية بجامعة طهران، ومكتبة "آستان قدسرضوي" و"ملى ملك" و"ملى فرهنكـ" و"آية الله المرعشي" بمدينة قمحيث توجد مئات الكتب والرسائل والمجاميع الفلسفية، فحسب – بل أن المكتبات الشخصية التي عرفت أخيرا، وفهرس لها – بهمة- علماء مثل محمد تقي دانش يزوه، لتجذب النظر بما عمرت به من نفائس المخطوطات ونوادرها.
إن هذا البحث الموجز لا يتسع للحديث عن جميع النسخ الخطية الفلسفية الموجودة في مكتبة واحدة، أو كافة ما تركه أحد الفلاسفة من آثار، فمراعاة لمقتضى الحال، نكتفي هنا بالإشارة المجملة إلى بعض النسخ الخطية التي وقعت عليها عين كاتب المقال؛ على أن نذكر قبل ذلك أن الفلاسفة، والمتكلمين، والمناطقة الإسلاميين قد ألفوا – في هذا المجال – أربعة أنواع من الكتب:
النوع الأول:
كتاب كبير حاو لعلوم مختلفة أو أبواب مختلفة لعلم خاص، مثل "الشفاء" لابن سينا؛ فهو شامل لجميع شعب العلوم الإلهية والرياضية والطبيعية والمنطق،8 و"رسائل إخوان الصفا" المؤلفة من اثنتين وخمسين رسالة في العلوم المتداولة في ذلك الزمان وفنزنه، و"الحاوي" للرازي وكلها بالعربية، و"ذخيرة خوارزم شاهي بالفارسية، وهو كتاب يشتمل على جميع مباحث الطب، والعلل من الرأس إلى القدم.
النوع الثاني:
كتاب ينفرد بمبحث خاصmonograph ، وهذا على نوعين: إما مفصل ومبسوط للمعلمين والمتخصصين، وإما مختصر وموجز للمتعلمين والمبتدئين. وكانوا يطلقون على الأول صفة "الكبير"، وعلى الثاني صفة "الصغير"؛ مثلماكان للرازي من كتب باسم "النفس الكبير"، و"النفس الصغير" و"الهيولى الكبير"، و" الهيولى الصغير".9
النوع الثالث:
ما يقوم العلماء فيه بشرح كتب غيرهم وتفسيرها، وهذه الشروح إما أن تكون منفصلة عن المتن بحيث يبدأ المتن بكلمة "قال" والشرح بكلمة "أقول"، وإماأن يمتزج الشرح بالمتن، وذلك ما كانوا يطلقون عليه "الشرح المزجي". ومن أكثر الشروح الفلسفية شهرة في الإسلام "شرح الإشارات والتنبيهات" لابنسينا، الذي شرحه فخر الدين الرازي المتوفى عام 606هــ ، كما شرحه أيضانصير الدين الطوسي المتوفى عام 672هـ ومنها كذلك "شرح حكمة الإشراق"لشهاب الدين السهروردي المقتول سنة 587ه، الذي شلرحه قطب الدينالرازي المتوفى سنة 667هــ. وثالث هو "شرح شواهد الربوبية" لمؤلفة صدرالدين الشيرازي المتوفى سنة 1051هــ ، وشرحه حاجي ملاّ هادي السبزواريالمتوفى سنة 1289هــ وهذا العالم الأخير كتب شرحين لمنظومته في المنطق،والفلسفة، الأول باسم: "شرح اللآلئ المنتظمة"، والآخر باسم "شرح غررالفرائد".10
النوع الرابع:
التعليقات، يعني ما يعلق به عالم على كتاب عالم سبقه، ونذكر من بينه"تعليقة صدر الدين الشيرازي" على كتاب "الشفاء" لابن سينا. وفي العصر الحديث، إلى "تعليقه مبرزا مهدي الآشتياني" المتوفى سنة 1372هـ على"شرح منظومة الحكمة"، يعني "شرح غرر الفرائد".11
ومما يستحق الذكر أيضا أن الرسائل القصيرة الموجزة لأحد العلماء كانت أحيانا تضم إلى بعضها في مجاميع، وأحيانا أخرى كانت الرسائلالقصيرة لعلماء مختلفين في موضوع واحد، أو مواضيع مختلفة، تنضم معا في مجاميع.
وفي هذا المقال يجري التعريف ببعض آثار فلسفية وكلامية ومنطقية،مما وصلتنا مخطوطاتها وبعضها مستقل بذاته، بينما البعض الآخر في هيئة مجاميع، كما أن بعضها قد نشر بالفعل ولا يزال البعض الآخر على هيئة مخطوطات.
نذكر من بين المجموعات المخطوطة مجموعتين، أولاهما محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني، والأخرى في المكتبة المركزية بالجامعة. فأما مجموعة المتحف البريطاني فمدرجة تحت رقم (7473Add)، بعنوانScientific Treatise وهي تضم حوالي عشرين رسالة لعلماء مختلفين، وتاريخ كتابتها سنة 639هـ وأول رسالة في هذه المجوعة هي "السيرة الفلسفية لمحمد بن زكريا الرازي"، التي طبعت بمعرفة بول كراوس سنة 1925م. في مجلةOrientalia ، بعددها الرابع ص300-334 مع الترجمة الفرنسية، ثم نشرتها بعد ذلك جامعة القاهرة سنة 1939م، في القاهرة تحت عنونا "رسائل فلسفية"12Opera Philosophica والرسالة الثالثة في هذه المجموعة ذاتها هي "كسر المنطق" لمؤلف غيرمعروف، اسمه أبو النجا الفارض، وهي في نقد المنطق الأرسطي، وقد صححهاسنة 1352هـ عبد الجواد فلاطوري الأستاذ بجامعة كلن الألمانية، ونشرها في مجموعة "المنطق"، ومباحث الألفاظ"13Logic and Language . وأهمية هذه الرسالة أنها كتبت قبل "الرد على المنطقيين" لابن تيمية؛ ولعلها من باكورة إنتاج الحركة ضد المنطق الأرسطي في الإسلام. ومن بين رسائل هذه المجموعة رسالة أخرى بعنوان "قول الحسن بن سهل بن السمح بن غالب في الأخبار التي يخبربها كثيرون"، وموضوعها، معيار قيمة الخبر المتواتر، وحجيته، وقد طبعت مرة بمعرفة برنارد بالاديM Bernard Baladi في المجلة الآسيوية سنة 1969م، ص25، ومرة أخرى بمعرفة محمد تقي دانش بزوه، في مجلة الإلهيات والفلسفة الإسلامية فى طهران، وتتنوع رسائل هذه المجموعة فأكثرها في الرياضيات والنجوم، وتشمل فيما تشمل الأدب العربي، ومع ذلك فعديد من الرسائل تختص بالمباحث الفلسفية وهي حرية بأن تحظى بعناية العلماء تحقيقا ونشرا ودراسة. ومن جملة هذه الرسائل: "دليل موجز على حدوث العالم" لأبي الحسن علي بن رضوان، و"رسالة الرئيس أبي علي لبن سينا فيما تقرر عنده في حجج المثبتين للماضي مبدءا زمانيا وتحليلها إلى القياسات"14، ورسالة "سياسة النفوس" لسنان بن ثابت بن قرة الحراني، وأخيرا "المسائل التي سأل عنها أبوموسى عيسى بن أسد أبا الحسن ثابت بن قرة الحراني"، وفيها جرى البحث في مسائل فلسفية منها: علم اللـه بالجزئيات، وتعداد المقولات، ومفهوم العدد.
وأما المجموعة الأخرى، فهي مجموعة المكتبة المركزية بجامعة طهران،المفهرسة تحت رقم 5469، وقد كتبت في سنتي 556 و557هـ ، وهي كسابقتها – من حيث احتوائها على رسائل فلسفية وأخرى علمية – وقد قام كاتب هذه السطور بنشر إحدى رسائلها وهي: "فصل فيما هي صناعة المنطق وفي ماذا ينتفع بها"، نشرت ضمن مجموعة أبحاث بعنوان "المنطق، ومباحث الألفاظ "سنة 1353هـ و"رسالة ابن السمح في غاية الفلسفة" في "جشن نامه"،الكتاب التذكاري لهنري كوربان سنة 1356هـ ، كما نشرت رسالة أخرى من هذه المجموعة تحت عنوان:" كتاب جالينوس في أنه يجب أن يكون الطبيب الفاضل فيلسوفا" بتحقيق بيتر بخمانPeter Bachmann سنة 1966م في كوتينكن بألمانيا، عن نسخة كثيرة الأخطاء15 ومن مزايا هذه المجمعة أنها اشتمات على رسائل متعددة لأبي الريحان البيروني؛ وقد ورد في آخرها عبارة تقول "نقلتهمن خط أبي ريحان". من جملة ما اشتملت عليه أيضا "جدول تاريخ الحكماء"الذي نقله إسحق بن حنين عن يحيى النحوي،16 وهذا الجدول قد جاء في رسالة أبي الريحان بصورة غير صحيحة، وهذه المخطوطة تعين على تصحيح أخطائه.17 كما توجد في هذه المجموعة رسائل أخرى تثير الاهتمام وينبغي للعلماء أن يتناولوها بالتصحيح، والتحقيق، إذا لم يكن ذلك قد تحقق حتى الآن، من بينها: "رسالة أرسطاطاليس إلى الإسكندر في العالم"، و"مقالة قسطا بن لوقا البعلبكي في الاستقصاء" و"فصل في كلام الفلاسفة والإبانة عن العلة القريبة الفاعلة للكون والفساد وفي الكائنات الفاسدة."
من الكتب الفلسفية الجامعة المستقلة التي بقيت لنا، مخطوطة نفيسة تحت رقم 257، في المكتبة المركزية بجامعة طهران، من كتاب "بيان الحق بضمان الصدق" لأبي العباس اللوكري تلميذ بهمنيار بن مرزبان الذي كانبدوره تلميذا لابن سينا. يقول اللوكري في مستهل كتابه: "إن بعض الكتب الفلسفية مفصل حتى قصر الطلبة عن فهمه، وبعضها مختصر حتى اكتفى فيه بالمطالب الكلية، وقد جعلت كتابي على أساس آثار ابن سينا والفارابي، بين الطرفين الإفراط والتفريط، حتى يحصل الباحثون على مقاصده بسهولة". جعلت أهمية كتاب اللوكري صاحب "تتمة صوان الحكمة" يقول عن مؤلفه:"ومن الأديب أبي العباس اللوكري انتشرت علوم الحكمة بخراسان"18، وكان حسنون الطبيب الرهاوي المتةفى سنة 629هـ ، (أي بعد الوكري بقرنونصف) يصطحب الكتاب معه أينما ذهب لإفادة منه، كما كان ابن العبرييقول: "كان أكثر مطالعته كتاب اللوكري في الحكمة".19 ولحسن الحظ أن قسمالمدخل إلى النتطق من هذا الكتاب قد طبع سنة 1364هـ من تحقيق الدكتورإبراهيم الديباجي الذي شرح "قصيدة أسرار الحكمة" للوكري سنة 1253هـ ،ونشر شرحها في مجموعة "المنطق ومباحث الألفاظ"، والذي ينوي هذا العامأن ينشر "قسم اللإلهيات" من الكتاب عن طريق معهد الدراسات الإسلامية التابع لجامعة مكغيل، شعبة طهران.
من الكتب الفلسفية ذات الأهمية التي كتبت في موضوع خاص، كتاب"إثبات حدوث العالم" لفريد الدين الغيلاني، الذي توجد مخطوطته في المكتبةالمركزية بجامعة طهران تحت رقم 1314، وقد كتب الغيلاني كتابه في نقد ابنسينا، ورد رسالته المذكورة في مجموعة مكتبة المتحف البريطاني تحتعنوان: "الحكومة في حجج المثبتين للماضي مبدءا زمانيا"، وفريد الدين هذاهو من عرفه فخر الدين الرازي: بأنه "مستقيم الخاطر صافي القريحة، ولكنه قليل المحصول، بعيد عن النظر، والجدل"، كما قال: "إن الملخص، وشرح الإشارات، والمباحث المشرقية من كتب الغيلاني، كانت تقرأ في سمرقند"20. وفي هذه الرسالة يرد ابن سينا وينقده بشدة، كما يستخف من حين لحينبأفكار الفارابي في "رسلة خلق العالم" ويعتبرها واهية، ويستشهد في إثبات عقيدته بأقوال المخالفين كحجة الأسلام الغزالي، والإمام شرف الدين محمد المسعودي.21 وهو يذكر في نفس الرسالة: كيف بدأ سنة 523هـ بتحصيل العلوم الفلسفية في المدرسة النظامية بمرو، ثم ذهب بعد سنتين إلى نيشابورلتعلم المنطق، وأنه كان قد قرأ الحساب، والجبر قبل ذلك في بلخ،22 وهذا الكتاب سوف يطبع وينشر في القريب العاجل بعناية كاتب هذا المقال، والأستاذ محمد تقي دانش بزوه، ضمن مطبوعات معهد الراسات الإسلامية، شعبة طهران.
في موضوع المناظرات العلمية والفلسفية هناك كتاب "الأسئلة والأجوبة" ذو الأهمية البالغة، وهو عبارة عن الأسئلة التي أرسلها أبو الريحان البيروني من خوارزم إلى ابن سينا، ينتقد فيها أرسطو في بعض المباحث الفلسفية والمعرفة بالعالم في كتاب "السماء والعالم"، وإجابات ابن سينا عليها، وهذا الكتاب، مع أنه قد طبع بالقاهرة سنة 1335هـ مجموعة باسم"جامع البديع"، وطبع سنة 1952م ضمن "رسائل ابن سينا" بإستانبول، إلا أن هناك مخطوطتين في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي بإيران تحت رقمي 599، 1968، تشتملان – علاوة على ما جاء في الطبعتين المذكورتين – على جواب أبي الريحان على ابن سينا مرتين، وكذلك على دفاع أبي سعيد أحمد بنعلي، عن ابن سينا. وأبو سعيد أحمد بن علي هذا هو علي الظاهر أبو سعيد المعصومي، المعروف بتتلمذه على ابن سينا، كما ورد اسمه في سيرة ابن سينا الذاتية. ونظرا لأهمية هذين القسمين من الكتاب، فقد قمت أنا والدكتور سيد حسين نصر بنشره على أساس نسخة مجلس الشورى، سنة 1352هـ فيطهران. وفي سنة 1974م نشرت رسالة "الأسئلة والأجوبة" للمرة الثانية، في إستانبول ضمن مجموعة عنوانها "أرمغان البيروني"، وورد بها تنويه بمزايا طبعتنا.23 وسينشر هذا الكتاب عاجلا مع إعادة النظر، والتفصيل في مقدمة فارسية، بقلم كاتب هذه السطور، ومقدمة إنجليزية، بقلم الدكتور سيد حسين نصر، في سلسلة "تاريخ العلوم في الإسلام" التي تصدر عن معهد الدراسات الإسلامية التابع لجامعة مكغيل، شعبة طهران. وربما اقترن ذلك بصدور ترجمة إنجليزية للكتاب في صورة رسالة للدكتوراة، بقسم تاريخ العلوم وفلسفتها في جامعة لندن، أعدها السيد حسن جمشيديى بور، وأرسلها إلى كاتب هذا المقال للإصلاح، وبذلك تصل إلى أيدي أهل العلم والمعرفة.24
وجدير بالذكر ونحن نتحدث عن مخطوطات الفلسفة، أن نشير إلى وجوب الاهتمام بمخطوطات الطب التي امتزجت بالمسائل الفلسفية والمنطقية، فقد كانت عادة الأطباء أنهم كانوا يستهلون كتبهم الطيبة بمقدمات في الفلسفة، وهذا الأمر يمكن ملاحظته بصورة كاملة في الأقسام الأولى منكتب "فردوس الحكمة" لعلي بن ربن الطبري، عالم القرن الثالث الهجري. و"المعالجات البقراطية" لأبي الحسن الطبري، عالم القرن الرابع الهجري. وماكام ذلك إلا لأن السلف كانوا يؤمنون بالتداخل بين الطب والفلسفة، حتى قيل: إن الفلسفة طب الروح والطب فلسفة البدن25، والكتاب المعروف لجالينوس بعنوان "في أن الطبيب الفاضل يجب أن يكون فيلسوفا" والذي سبقت الإشارة اليه، يؤيد هذه المسألة، ولعل العلة في أن يطلق ابن سينا على كتابه الطبي "القانون" وعلى كتابه الفلسفي "الشفاء"، كانت من باب هذا التداخل بين العلمين.
ومع هذه المقدمة يود الكاتب أن يعرف بمخطوطتين من هذا القبيل من الكتب: احداهما: لكتاب "الشكوك على جالينوس الحكيم "امحمد بن زكريا الرازي26 وهذا الكتاب، وإن كانت منه مخطوطتان في مكتبتين تركيتين، إلاأن أحسن نسخة منه توجد في مكتبة "ملي ملك" (ملك الأهلية) في إيران ضمن مجموعة نفيسة برقم 2124. في هذا الكتاب يرد الرازي على عدة كتب لجالينوس في الطب وينتقدها، وأول ما رد عليه من كتب جالينوس كتاب"البرهان"، وأول نسألة "مسألة وجود العالم"، حيث يقول الرازي: "إن قوله في هذا الأمر متناقض، لأنه في هذا الكتاب يعتقد بقدم العالم، وفي بعض كتبهالأخرى يقول بالتوقف؛ يعني: أنه لا يعلم ما إذا كان العالم قديما أم حادثا". وممايسترعي النظر هنا أن الغزالي- في "تهافت الفلاسفة"- قد نقل قول الرازيفي رد عقيدة جالينوس بقدم العالم، دون أن يشير إلى المصدر الذي نقلعنه.27 وهنا ينبغي التذكير بأن كتبا متعددة قد كتبت لرد كتاب "الشكوك" للرازي، وقد ألفها علماء مثل ابن أبي صادق النيشابوري عالم القرن الخامس الهجري، وابن رضوان المصري المتوفى سنة 453هـ ، وابن ميمونMaimonides المتوفى سنة 601هـ، إلا أن نسخة فريدة من رد ابن زهر الأندلسيAvenzoer المتوفى سنة 456هـ تحت عنوان: "البيان والتبيين في الانتصار لجالينوس"قد بقيت لنا، وهي محفوظة في مدرسة نواب بمدينة مشهد. وكاتب هذا المقال يعتزم طبع "شكوك الرازي" على أساس المخطوطات الثلاث المذكورة، ومنتخبات من رد ابن زهر، وينشرها على وجه السرعة ليقدمها لأهل العلم فيالمؤتمر الدولي لتاريخ الطب في الإسلام وإيران، الذي سينعقد في مطلع خريف السنة القادمة بطهران.
وكتاب آخر تداخلت فيه المسائل الفلسفية، والمسائل الطبية هو "بستان الأطباء وروضة الألباء" لأسعد بن إلياس بن المطران المتوفى سنة 587هـ ،وكان طبيب صلاح الدين الأيوبي، ويوجد في مكتبة "ملك" التابعة لــ"آستان"قدس رضوي" برقم 4210. وتشير القرائن إلى أن هذه النسخة إما أنها كتبت بخط المؤلف، وإما أنها قرأت عليه. ويقدم ابن المطران في هذا الكتاب مسائل مختلفة ترتبط بالطب، وتاريخه وخواص الأدوية والعقاقير، أما أغلب المسائل الفلسفية في الكتاب فترتبط بالطبيعة،28 وعناصر الإنسان في مجرى اتصاله بالعالم، وتأثير تحولاته الطبيعية في الوجود الجسماني، والروحاني للإنسان. وأصبح هذا الكتاب – بعد ابن المطران – مصدرا استفاد منه علماء آخرون مثلعبد اللطيف البغدادي، وابن أبي أصيبعة, وقد وفق كاتب هذا المقال إلى نشرمصورة من هذا الكتاب مع مقدمة، وخلاصة لمسائله بالفارسية كما ألحق بهفهارس متعددة، وذلك عن طريق مركز نشر المخطوطات التابع لمؤسسة دائرةالمعارف الإسلامية سنة 1368هـ في طهران.
ومن المخطوطات الفلسفية التي ترجع إلى ما تلا ذلك من القرون يمكنأن نذكر كتاب "شرح الإلهيات من كتاب الشفاء" لملاّ مهدي نراقي المتوفى سنة 1209هـ ، الذي كتب شرحا مزجيا على "قسم الإلهيات" من كتاب "الشفاء"،وبلغ بالشرح حتى أوائل الفصل الثاني من المقالة الثانية، وكانت نسخة منهبخط المؤلف لدى السيد حسن نراقي من أحفاده. وقد نشر صاحب هذه السطورهذه النسخة، مع مقابلتها بنسخة أخرى كتبت بأمر المؤلف سنة 1203هـ ،وقامت بنشرها شعبة طهران من معهد الدراسات الإسلامية التابع لجامعة مكغيل عام 1986م. وفي منتصف هذه النسخة حاشية من "ميرزا" طاهرالتنكابني"29، يقول فيها : "رأيت هذه النسخة في كاشان، وقد بلغت دقة نظرالمؤلف الغية في شرح كلمات الشيخ". ومبرزا طاهر هذا بالذات كان شديدالولع باستنساخ المخطوطات وتصحيحها. وتوجد كذلك نسخة من "أوائل المقالات" للشيخ المفيد في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي برقم 4 386 وقدوردت بها العبارة التالية في الصفحة الأولى منها: "في سنة 1355، في شهرجمادى الآخرة في مكتبة الفقير محمد طاهر الطبرسي، وذلك عن طريق المطالعة، والمقابلة مع نسخة صحيحة".
من المخطوطات قريبة العهد بالزمان الحاضر – والتي بقيت لنا بخطمؤلفها –كتابان لميرزا فضل اللـه شيخ الإسلام الزنجاني المتوفى في شوالسنة 1303هـ أحدهما، "تاريخ الشيعة" والآخر "الفرق الإسلامية"، وقد حررهماالمؤلف بصورة موجزة وموثقة. ومن مزايا هذين الكتابين: أن المؤلف قد استفادمن الكثير من المصادر التي لا تزال مخطوطة آنذاك، والتي كانت تزخربها مكتبته الكبيرة الجامعة، ومن جملة تلك المصادر: آثار أبي الحسن الأشعري،والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي، والشريف الرتضى المتكلم الشيعي،وهذان الكتابان يقوم الآن كاتب هذه السطور بطبعهما في مؤسسة"بزوهشهاي إسلامي" (البحوث الإسلامية) "في آستان قدس رضوي". وشيخالإسلام الزنجاي نظرا لتعلقه الشديد بمخطوطاته الفلسفية والكلامية، كانبأمر بأن تستنسخ له العديد من المخطوطات. فهناك في مجلس الشورىالإسلامي نسخة من "أوائل المقالات" للشيخ المفيد منضمة إلى "المسائل العكبرية" برقم 1332، وفي ختامها وردت العبارة الآتية: "حسب الأمر المبارك من حضرة المستطاب الحبر التحرير النبيل شيخ الإسلام الزنجاني دام ظله العالي".
وما دامت المخطوطات التي تناولناها بالقول حتى الظن باللغة العربية، نرى من المناسب أن نختتم المقال بذكر مخطوطتين باللغة الفرسية:
من المخطوطات الفارسية "شرح رباعيات جلال الدين محمد الدواني"الفيلسوف متكلم القرن التاسع الهجري؛ وهو كتاب صغير الحجم، كتبه غياث الدين بن محمود بن محمد الباقر سنة 983هـ. وهذا الكاتب كتب "الحواشي الجمالية" في نفس هذه السنة في مدينة هرات في مدرسة "ملك برزكر"،30 أما "شرح الرباعيات" فيختمه هذان البيتان اللطيفان من الشعر العرفاني:
إلى سرقصة العنقاء وقصة الهدهد
يصل من كان يعرف لغة الطير
ما أدراك ما لغة الطير
أنت يا من لم تر سليمان لحظة واحدة؟
وكان كاتب الرسالة يبدأ بذكر الرباعي، ثم يشرع في شرح المفردات اللغوية، ويبين معناها، ومفهومها العرفاني، والفلسفي، فمثلا تحت هذاالرباعي الخاص بالأعيان الثابتة، يقول:
الأعيان الثابتة في حرم ملك القدم
موجودة بوجه، وبوجه هي العدم
وإن كانت بذاتها أقل من لا شيء
إلا أنها مرآة إسكندرية وكأس "جم"
يقول: الأعيان الثابتة وهي لدى الطائفة صور علم الحق – هي قديمة باعتبارها ثبوت علم الحق، فمن حيث أن صفاتها ظاهرة في الوجود، فهي موجودة،ومن حيث أن ذاتها باقية على معدوميتها، فهي معدومة، وهي لا شيء لا علما ولاعينا، ومع هذا فهي أمارات الوجود الحقيقي على الوجه الذي سبق بيانه.
وهناك أيضا من مخطوطات الرسائل الفارسية الفلسفية –صغيرةالحجم- رسالة في مكتبة مجلس "الشورى الإسلامي" بعنوان "رسالة شرح مقامات العرفين" من كلام المولى المعظم علامة العالم سلطان المحققين قطبالملّة والدين، معين الإسلام والمسلمين، حجة اللـه على الخلق الأبهري، قدس الله سره. وفي مستهلها يشير المؤلف إلى النمط التاسع من "إشارات أبي علي"حيث أورده في "مقامات العارفين" فيقول: 'فاعلم أن سلامان مثل ضرب لك،وأن أبسال مثل ضرب لدرجتك في العرفان إن كنت من أهله، ثم حل الرموز إن أطقت" ثم يشرع، نزولا على رغبة صديقه العزيز المعطوف، في تأويل رموزعناصر هذه القصة وحلها. وحسبنا أن نذكر هنا أحد عبارات الرسالة على سبيل المثال: "أما قوله إنه صائم أربعين يوما، فيعني أنه قد ثبت في الإنسان أربعون طورا من الحكمة الإلهية، وكل من كان صاحب سير يطلب العبور منهذه المقامات الأربعين، فيجد الأربعين حكمة تلك التي ركبها الحق تعالى فيأطوار التركيب" وإنه لشيء يذكر بقول حافظ الشيرازي:
إن سالكا في أرض وقت السحر
كان يقول هذا المعمى مع قرين
أيها الصوفي، إنما يصفو الشراب
إذا ما بقي في الزجاجة أربعين
ونظرا لأن اسم "الأبهري" ورد بصورة مطلقة، لا يمكننا أن نجزم بأن المقصود هو أثير الدين الأبهري السمرقنديى المتوفى سنة 660 أو 700 هجرية،صاحب كتاب "الهداية" الذي شرحه كل من الميبدي وملاّ صدرا.
وفي الختام ما أحوجنا ّإلى أن نذكر أن الهدف من تحرير هذا المقال هوالإشارة إلى ضرورة الاهتمام الفائق بمخطوطات العلوم العقلية الإسلامية الحافلة بالتنوع الخاص، من حيث الكم والكيف، والقالب، والمحتوى، والمشتملة على المسائل النفيسة القيمة، وضرورة بذل المزيد من العناية بها. ولما كان الكثير من هذه المخطوطات ما زال حتى الآن لم يحظ بالتعريف والتحقيق والدراسة، لزم أن يعد فهرس مشترك للكتب والرسائل الفلسفية والكلامية والمنطقية الموجودة في أقطار العالم، مرفقا ببيان القيمة العلمية لكل منها، ثميت داول هذا الفهرس بين الجامعات والمراكز العلمية في العالم. كما يجب أنتعقد المؤتمرات والمحاضرات حيث يدور البحض والنقاش بين العلماء حول القيمة العلمية لهذه الآثار، مما يؤدي إلى استخرج المطالب الكثيرة من مطاويالتراث العلمي الماضي، هذه المطالب التي يمكن تقديمها وعرضها للحضارة البشرية من أجل الارتقاء والتعالي بمقام الإنسان.
تم بعون اللـه تعالى وتوفيقه
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: أهـمية المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الافتتاحي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 30 نوفمبر_ 1 ديسمبر 1991/جمادى الآخر 1413_ النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 229-243. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |