أصدر مركز دراسات المخطوطة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي منذ شهور كتاب التراث العلمي العثماني للأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى، عضو مجلس إدارة مؤسسة الفرقان، وترجمته من اللغة التركية إلى اللغة العربية الدكتور ماجدة مخلوف، الأستاذة بجامعة عين شمس. ويضمّ هذا الكتاب في طياته زُبدة الإنجازات العلمية والحضارية التي تمّت في رحاب الدولة العثمانية طوال تاريخها الممتدّ لستّة قرونٍ، وإسهامها في الجهد التراكمي للتراث البشري.
ونظرًا للأهميّة البالغة لهذا المرجع الكبير، ارتأت مؤسّسة الفرقان للتراث الإسلامي - من خلال مركز دراسات المخطوطة الإسلامية - أن تنظم بالتعاون مع مركز دراسات الحضارة الإسلامية بمكتبة الإسكندرية، ندوة علمية واحتفالية بمناسبة إصدار هذا الكتاب، وذلك يوم الأربعاء، 14 ديسمبر 2022، من الساعة 12.00 ظهرًا إلى الساعة 4.30 مساءً، بقاعة الوفود في مركز المؤتمرات، بمكتبة الإسكندرية.
شارك في هذه الندوة، إضافة إلى مؤلف الكتاب ومترجمته، نخبة من العلماء، على رأسهم الأستاذ الدكتور أحمد زايد، مدير مكتبة الإسكندرية، والدكتور أيمن فؤاد سيد، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، والدكتور محمد عفيفي، الأستاذ بكلية الآداب - جامعة القاهرة، والأستاذ الدكتور سيد محمد محمود، الأستاذ بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية، والأستاذ الدكتور محمد صبري الدالي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، والأستاذ صالح شهسواري، المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
وقد سبق الندوة حفل تبادل المطبوعات بين مكتبة الإسكندرية ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
بعد كلمة تمهيدية للدكتور محمد الجمل، مدير برنامج دراسات الحضارة الإسلامية بمكتبة الإسكندرية، الذي رحب فيها بالأساتذة المحاضرين والضيوف والمشاركين، وأعطى لمحة بسيطة عن برنامج دراسات الحضارة الإسلامية بالمكتبة، وقرأ برنامج الاحتفالية؛ أعطيت الكلمة إلى الأستاذ الدكتور أحمد زايد، مدير مكتبة الإسكندرية، الذي افتتح الندوة ورحب بدوره بالأساتذة المحاضرين والحضور، ثم أعطى نبذة قصيرة عن مكتبة الإسكندرية، ونشاطها، إذ، كما قال، هي بمثابة مركز للتميز في إنتاج المعرفة ونشرها، ومكان للتفاعل بين الشعوب والحضارات، ونافذة مصر الفكرية على العالم، ومركز للتعلم والتسامح والحوار والتفاهم، وإبراز الجوانب النيرة للنهضة الفكرية للحضارة العربية، كما أن لديها اهتماما عميقا بالتراث والمحافظة عليه. وعبر الدكتور أحمد زايد عن سعادته الغامرة بتنظيم هذه الندوة احتفاء بالكتاب، الذي هو مرجع تاريخي مهم، ومصدر في تاريخ العلوم إبان عصر الدولة العثمانية، واحتفاء أيضا بمؤلفه الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى، ومترجمته الأستاذة الدكتور ماجدة مخلوف؛ واختتم كلمته بالإشادة بالندوة، واستمرار التعاون بين مؤسسة الفرقان والمكتبة.
واستهل الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى كلمته بتهنئة مدير المكتبة، الدكتور أحمد زايد، على توليه منصب مسؤولية المكتبة خلال الأسابيع الماضية، وأضاف أن مكتبة الإسكندرية مؤسسة رائدة في التفاعل الثقافي؛ كما شكره على حفاوة الاستقبال وحسن الترحاب، وفتح المكتبة لهذه الندوة والاحتفالية؛ كما شكر العاملين فيها، وتمنى لهم دوام التوفيق؛ وشكر مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي على تنظيم الندوة، ورحب بالأساتذة المحاضرين في هذه الفعالية، وسعيهم الحثيث للمشاركة فيها، والدكتورة ماجدة مخلوف، التي قامت بترجمة الكتاب؛ وأثنى على كل من أسهم في تنظيم هذه الندوة والاحتفالية ونجاحها. واختتم كلمته بالترحم على روح الفقيد، معالي الشيخ أحمد زكي يماني رحمه الله وطيب ثراه.
وكانت الجلسة الأولى، التي ترأسها الدكتور محمد الجمل، قد بدأت بعرض للأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى، التي أفصح فيها عن سبب اهتمامه بتاريخ العلوم، ثم أعطى لمحة عن الكتاب، الذي هو عصارة وملخص لـ 18 مجلدا عن تاريخ أدبيات العلوم عند العثمانيين، من القرن الرابع عشر الى مطلع القرن العشرين، والذي تم الشروع فيه -قبل أكثر من ثلاثة عقود، وبذل فيه جهد عظيم. وأضاف أن الكتاب يتكون من جزئين؛ ويحتوي الجزء الأول على تحليلٍ ودراسةٍ مستفيضةٍ حول التراث العلمي العثماني: التاريخ، المفهوم والنشأة، والانتشار، إضافة إلى حركة الترجمة، وتعليم العلوم العقلية، كما يتطرّق إلى مرحلة التحديث والعصرنة، وبداية ظهور المؤسسات العلمية الجديدة، وانتهاءً بالاتصال بأوروبا خصوصًا، وبالغرب عمومًا. أمّا الجزء الثاني، الذي يتكوّن من مجلدين، فيعرض بالتفصيل المصنّفات العلمية الكاملة لـ 370 عالمًا من كبار العلماء، من بين خمسة آلاف مؤلّف، تمّ انتقاؤهم على امتداد الجغرافيا العثمانية، كما يعرض 92 عملًا مهمًّا، من بين 7145 عمَلاً غير معروف المُؤلّف.
وذكر الدكتور إحسان أوغلى نماذج من العمل عن العلماء، كتقي الدين الراصد وقاضي زادة الرومي وغيرهم، وعرض نماذج للجداول المستعملة في الكتاب وقام بتحليلها؛ كما تطرق إلى استخدام العلماء للغات الثلاثة في مؤلفاتهم: العربية والعثمانية والفارسية، وإنشاء المؤسسات التعليميَّة والعِلميَّة عِندَ العُثمانِيين ودورها المهم؛ وأشار إلى التجربة العثمانية لنقل العلم والتكنولوجيا الحديثة، مقارنة مع الصين- اليابان – روسيا.
أما الأستاذة الدكتورة ماجدة مخلوف، الأستاذة بجامعة عين شمس، فقد بدأت كلمتها بالإعراب عن سعادتها بانعقاد هذه الندوة للاحتفال بصدور كتاب التراث العلمي العثماني، وذلك بمكتبة الإسكندرية، بالتنسيق مع مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، وهما منبران علميان لهما مكانتهما في العلم والثقافة، ليس في العالم الإسلامي وحده، إنما في العالم كله شرقا وغربا؛ متمنية أن تكون هذه الندوة هي البداية لتعاون دائم وبناء بينهما، يُرسي قاعدة للتعاون، ويقدم نموذجا ناجحا للتفاعل بين المؤسسات العلمية المنتجة للعلم والمعرفة. كما تقدمت بالشكر الجزيل للأستاذ الدكتور أحمد زايد، مدير مكتبة الإسكندرية، والأستاذ صالح شهسواري، المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقان، والأستاذ الدكتور محمّد الجمل، والأستاذة الدكتورة مروة الوكيل، ورحبت بمؤلف هذا الكتاب، الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى.
وقالت الدكتور ماجدة إن الاهتمام بدراسة التراث العلمي في العصور الإسلامية، بما فيها العصر العثماني، أمر مهم جدا، خاصة أن هناك فراغا كبيراً، وكأن أحدا لم ينتبه إلى وجودِ تراثٍ علمي قَيِّم جدير بالاهتمام يمتد عبر ستة قرون، وهي عمر الدولة العثمانية؛ فضلا عن هذا، فإن الأعمال القليلة التي تمت من قبل وخاضت في هذا الموضوع، طرحت - ولسنوات طويلة - أحكاما وأفكارا مسبقة وتعميمات أيديولوجية عن العلم العثماني، فقطعت السبيل أمام الاهتمام بالحياة العلمية عند العثمانيين، وقدمت العلم العثماني بوصفة مجالا عديم القيمة وعديم الأهمية. وأضافت أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وعنوانه التراث العلمي العثماني، يقدم مشهدا مختلفا عن النشاط العلمي في الدولة العثمانية، فهو من تلك الكتب التي تفتح آفاقا جديدة للمعرفة، تدفع إلى إعادة النظر في كثير من القضايا العلمية. وقال إن تعبير "عثماني" لا يعني فقط الانتساب إلى الدولة العثمانية، التي أسسها الأمير عثمان في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، إنما هو تعبير له مفهوم حضاري، يعني التفاعل بين الثقافات العربية والتركية والفارسية وشعوبها معا داخل النطاقين الجغرافي والزماني للدولة العثمانية، ويمكن تعريفها بأنها اللغة والثقافة والحضارة التي شكلتها مجموع الشعوب التي انطوت لفترة من فترات التاريخ تحت إدارة هذه الأسرة الحاكمة، الذي هو أيضا مرحلة من التراث العلمي الإسلامي. وأضافت بأن هذا الكتاب - بمجلداته الثلاثة - يجيب إجابة علمية، تدفع إلى إعادة النظر في الادعاء بأن منجزات الحضارة الإسلامية، خاصة في مجال العلوم، قد توقفت بعد العصر العباسي، الذي أسموه العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
وبعد أن فصلت في التعريف بالكتاب ومحتواه، اختتمت كلمتها بالقول بأن هذا الكتاب هو عمدة في موضوعه، راصد للتراث الإسلامي ولمؤلفيه، ويعتبر نقلة نوعية في التأليف. فهو من حيث المنهج مثلا، يختلف عن الكتب التي رصدت أسماء الكتب والفنون، وعن تلك المؤلفات التي رصدت أسماء المؤلفين في أي فن من الفنون أو علم من العلوم، أو كتب الببليوجرافيا؛ إنما هو كتاب جامع لكل هذا؛ ومن حيث الفترة الزمنية، فهو متمم لكل ما سبق كتابته عن العلم والتراث العلمي في العالم الإسلامي، خاصة في العهد العثماني.
أما الأستاذ صالح شهسواري، المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، فقد استهل كلمته بشكر لـ مكتبة الإسكندرية، بدءا من مديرها الجديد، الأستاذ الدكتور أحمد زايد، والأستاذ الدكتور محمد الجمل، والعاملين بالمكتبة، كما رحب بمؤلف هذا الكتاب، الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى، وبالأساتذة المشاركين في الندوة.
تطرق الأستاذ صالح إلى أهمية المشروع الذي هو بمثابة عصارة لعمل ضخم في 18 مجلدا عن تاريخ أدبيات العلوم عند العثمانيين. وفي هذه المجلدات الثمانية عشر 13009 عملًا في فروع العلم المختلفة، ألّفها أو ترجمها 4897 عالمًا، عاشوا في الفترة العثمانية، يُضاف إليها 7145 أثرًا مجهول المُؤلّف. وأما النسخ المخطوطة لهذه الآثار، وعددها 22229 مخطوطًا، وأماكنها في المكتبات والمجاميع المختلفة في جميع أرجاء الدنيا. انتخب الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى منهم 370 عالما من كبار العلماء من أصحاب المؤلفات العلمية المعتبرة الذين قدموا إسهاماتٍ للعلم من بين خمسة آلاف مؤلّف، وتمّ انتقاؤهم على امتداد الجغرافيا العثمانية، كما يعرض 92 عملًا مهمًّا من بين 7145 عمَلاً غير معروف المُؤلّف.
وأضاف بأن أهمية موضوع الكتاب يكمن في أنه نتاج الفكر الإسلامي في جميع فروع العلوم الطبيعية؛ أما أهميته من حيث المنهجية، فهو رصد للحركة العلمية أثناء العصر العثماني، ويقدم تحليلا عميقا ضافيا متكاملا من خلال قوائم وجداول بيانية وإحصائية ورسوم، تسهل الوصول إلى المعلومة.
وقال الأستاذ صالح بأن الكتاب لا يقدم مادة دسمة فحسب، بل يفتح آفاقا جديدة أمام الباحثين، وتبعث حراكا علميا لديهم لعمل دراسات أكثر عمقا وذات موضوعات جديدة.
وذكر الحضور بأن هذا العمل هو من صميم عمل مؤسسة الفرقان، إذ ينصب من بين المحاور المختلفة التي يعتمدها ويعمل في إطارها مركز دراسات المخطوطات الإسلامية التابع لمؤسسة الفرقان، وهو محور المسح والرصد. وأضاف بأن الكتاب يحتوي على فهرسة تحليلية موسعة، ناهيك أنه عمل بيو-بببليوجرافي (في التراجم والتصانيف)؛ كما أنه عمل مرجعي هام، جامع ومانع في تاريخ العلوم، وينصب في محور العلوم الدقيقة. وقد قامت بترجمته الأستاذة الدكتور ماجدة مخلوف من اللغة التركية إلى العربية، وتعمل المؤسسة في الآونة الأخيرة على ترجمته إلى اللغة الإنجليزية.
وختم الأستاذ صالح كلمته بالشكر الجزيل لمكتبة الإسكندرية، وعلى رأسها الأستاذ الدكتور أحمد زايد، وإلى كل المسؤولين والعاملين بها، كما شكر الأساتذة والمشاركين والحضور.
ثم أحيلت الكلمة إلى الحضور لطرح أسئلتهم حول مداخلات الجلسة الأولى.
وكان من المتحدثين في الجلسة الثانية - التي ترأسها الأستاذ الدكتور أحمد الشربيني - الدكتور أيمن فؤاد سيد، الذي أثنى على الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى، والأستاذة الدكتور ماجدة مخلوف، وأضاف بأن الكتاب مهم جدا، ونقلة نوعية، إذ يدخل في إطار الببليوجرافيا، و يغطي مرحلة مهمة، ويرصد حركة إنتاج الفكر العلمي. وقد أحصى المحاضر مجموعة من المؤلفات التي تتوافق معه في موضوعه، ككتاب الفهرست للنديم، وطبقات الأطباء لابن جلجل، وتاريخ الأطباء لإسحاق بن حنين، وتاريخ الحكماء للقفطي، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وكشف الظنون لحاجي خليفة؛ وفي العصر الحديث، تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، وتاريخ التراث العربي لفؤاد سزجين.
أما الأستاذ الدكتور محمد عفيفي، فقد أثنى ثناء كبيرا على التعاون الهام بين مؤسستين، اللتين هما بمثابة منارتان ثقافيتان كبيرتان؛ كما شكر الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى على هذا العمل الحضاري الرائع، وأضاف بأن خروج هذا الكتاب إلى النُّور هو فتحٌ جديدٌ، وإنجازٌ هائلٌ، إذ أن منهجه مختلف تماما، فقد عالج الموضوع بذكاء شديد، يتناسب مع طبيعة العصر. ناهيك بأن هذا الكتاب يؤكد - بدون أدنى شك - أن العالم الإسلامي لم يكن يختلف عن التطور في غرب أوربا؛ كما ينتقد ضمنيا قومية التراث، فقد كان العلماء يكتبون باللغات العربية والفارسية والتركية، إذ كانوا فوق القوميات. كما أعطى إشارة مهمة لمساهمة منطقة شرق البلقان في التراث وانفتاحها على أوربا، فقد كانت الموسيقى مثلا تعلم كعلم، ولها ارتباط بالرياضيات والصوتيات. أما ما يتعلق بالجانب الإحصائي فهو إضافة مهمة ونقطة مضيئة لهذا السفر العلمي الرائع.
وأثنى الدكتور عفيفي بأن تراجم العلماء في الكتاب كانت مهمة جدا، مختتما كلمته بأن الكتاب اهتم بالتاريخ المقارن بين العالم عند العثمانيين والصين واليابان وروسيا.
ومن جانبه أثنى الأستاذ الدكتور سيد محمد محمود على نشر كتاب التراث العلمي العثماني، الذي يحلل التطور التاريخي للحضارة الإسلامية عبر ما ألفه علماء بغداد والقرخانيون والبويهيون والسلاجقة، ونقلوها الى الأناضول. وذكر المحاضر بأن الكتب كانت تكتب باللغة الفارسية ثم العربية والعثمانية؛ واستمر العثمانيون ينقلون من اللغة العربية الى العثمانية. وواصل الدكتور في سرد مراحل تطور العلم عند العثمانيين طيلة فترات الحكم إلى مرحلة التحديث.
أثنى الأستاذ الدكتور محمد صبري الدالي من جانبه، في كلمة قصيرة، على إصدار المؤسسة لهذا الكتاب المهم، الذي يستعرض مسار العلم العثماني، وأكد بأن تراث الأمة العلمي هو أبعد وأعمق ممن يتقولون عليه. ودعا الدكتور الدالي الأمة إلى قراءة تراثها العلمي.
ثم فتح المجال للتعقيب والنقاش الطويل والمستفيض، ووجهت أسئلة مهمة حول الموضوعات التي تمت إثارتها في هذه الندوة.