شرّف عدد كبير من العلماء والدبلوماسيين والصحفيين والدارسين للثقافة الإسلامية من مختلف الجنسيات والأعمار هذه المحاضرة، التي ألقاها رئيس الفرقان معالي الشيخ يماني بعنوان "الديمقراطية والنظام السياسي الإسلامي: تشابهات وفروقات" في مقر الفرقان في إيجل هاوس، في ويمبيلدون، لندن يوم الخميس، الثالث والعشرين من إبريل 1998.
بعد مقدمة قصيرة باللغة العربية، ألقى الشيخ يماني محاضرته بالإنجليزية. إذ بيّن أن القرآن الكريم والحديث هما المصدران الرئيسان اللذان يجسدان الإرشادات المتعلقة باستنتاج أحكام الشريعة الإسلامية. وأضاف أن التطبيقات العملية في زمن النبي والخلفاء الأوائل (الخلفاء الراشدين) تعد مصدراً مهماً كذلك. كما عرض معاليه نظام الحكم في تلك الحقبة بوصفه نموذجاً معيارياً للدولة الإسلامية. أما الأنظمة التي ظهرت بعد عهد النبي والخلفاء الراشدين والتطورات التي حدثت فيما بعد، فقد اعتبرها المحاضر خاضعة للطبيعة البشرية الخطّاءة ولهذا فهي خارج مجال محاضرتنا.
ركز الشيخ يماني الانتباه على الآية القرآنية الكريمة "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" (الإسراء: 70) لقد كرم الله الكائنات البشرية كلها بغض النظر عن العرق أو الدين أو الطبقة الاجتماعية أو القرابة.
كما لفت رئيس مؤسسة الفرقان انتباه مستمعيه إلى الآية الكريمة "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" (الشورى: 38) إذ يصف القرآن المجتمع الإسلامي بوصفه مجتمعاً واحداً يدير الناس فيه شؤونهم بالتشاور فيما بينهم. ولهذا فإن حكم الفرد الواحد غير مقبول في الإسلام.
شرح رئيس المؤسسة النظام السياسي لأول دولة "إسلامية" أقيمت في المدينة المنورة، مشيراً إلى نص وثيقة المدينة التي وضعها النبي (عليه السلام) والتي صارت تعرف فيما بعد باسم "الصحيفة". وقال إن هذه الوثيقة تجسد الأحكام السياسية والاجتماعية وقواعد العلاقات الخارجية. كانت الصحيفة دستوراً يوطد للمرة الأولى مفهوم "الأمة" في شبة الجزيرة العربية. إذ كان أهل شبه الجزيرة حتى ذلك الحين قبائل مبعثرة، فنصت الوثيقة على أن "مسلمي قريش ويثرب ومن تبعهم والتحق بهم وجاهد معهم يشكلون كلهم أمة واحدة.
وبيّن الشيخ يماني أن هذه الوثيقة تعد المرجع الأول لمفهوم المواطنة، حيث عد الفرد منتمياً إلى الدولة وليس إلى القبيلة. وورد ذكر المسلمين واليهود في الوثيقة كمواطنين متساوين في الدولة الإسلامية. ويحصل اليهود بموجبها على حصتهم من غنائم الحرب إذا ما أسهموا في تمويل الحملات العسكرية. وشمل حق الحماية المواطنين كلهم شريطة أن يظلوا مخلصين للدولة.
كما ضح رئيس المؤسسة صفات النبي: إنه رسول يتلقى الوحي من الله، فهو إمام (أي رأس للدولة)، وقاض ومجتهد (مشرع ويصوغ قرارات مستقلة فيما يخص الأمور الدينية / اللاهوتية)، وأمور الإنسان.
ربما يكون الصحابة قد سألوا النبي بمناسبة الإعلان عن الوثيقة: "يا رسول الله، هل هذا وحي أوحي إليك، أم رأي وحصافة؟" فلو أجاب بأنه رأي، فلسوف يناقشون المسألة معه في بعض الحالات طارحين مسارات بديلة من العمل. وكان النبي (عليه السلام) دائماً ينزل إلى رأي الجماعة.
قال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) أن النبي قد سُئل: "ما معنى اتخاذ القرار؟" فأجاب النبي: "استشارة ذوي المعرفة والمحاكمة الجيدة، ثم اتباع رأيهم." لقد طبق مبدأ الشورى أيضاً في عهد الخلفاء الراشدين.
بحث الشيخ يماني، أيضاً، مسألة سلطات رئيس الدولة في النظام الإسلامي. والذي يعد قائداً أو رئيساً، خالياً من أي قداسة أو تفويض إلآهي. وتنحصر وظيفة الدينية فقط في التأكد من تطبيق أحكام الدين. ووظيفة السياسية هي التأكد من تطبيق العدالة لمواطني الدولة، مسلمين كانوا أم غير مسلمين.
لخص الشيخ يماني موقف الإسلام من حقوق الإنسان في مبادئ ثلاثة:
1) العدل في جميع مناحي الحياة التي تجسد حقوق الإنسان وخصوصاً حقوق المرأة.2) المساواة بين الناس جميعاً، مسلمين وغير مسلمين. واستشهد الشيخ يماني كدليل بالحديث الشريف: "أيها المسلمون، اسمعوا وعوا: إن إلهكم لواحد. وأباكم لواحد. ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بتقوى الله." وقال النبي كذلك: "الناس سواسية كأسنان المشط؛ لا تنافس بينهم إلا في عبادة الله."3) حرية التعبير مصونة في النظام السياسي الإسلامي.
ليس في النظرية السياسية الإسلامية، على أي حال، صيغة أو آلية معينة لتطبيق الديمقراطية أو الشورى. إذ ترك ذلك للمسلمين على مر القرون، متيحاً لهم إدارة شؤونهم بالأسلوب الذي يتوافق لحاجاتهم وظروفهم الزمانية والجغرافية. وقال الرئيس إن ذلك يُعد مظهراً من مظاهر روعة النظرية السياسية الإسلامية وتفوقها. فلم يُحدد نظام سياسي معين ولا نمط خاص لمجلس التشريع. إذ إن تحديد صيغة جامدة قبل أربعة عشر قرناً والافتراض بأنها ستكون صالحة وقابلة للتطبيق في أي زمان ومكان وأي ظروف يعد منافياً للمنطق والعقل.
وخلص الرئيس، لدى مقارنته بين الديمقراطية الغربية الحديثة والنظام السياسي في الإسلام، إلى أن الوظيفة الدينية لرأس الدولة في الإسلام لا نظير لها في الغرب الدنيوي (العلماني). ففي المجتمع الإسلامي، لا يسمح بإنشاء أحزاب سياسية علمانية تنكر وجود الله. ولكن مثل هذه الأحزاب مسموح بها في الغرب. كما أن الشورى لا تسمح بخرق الشريعة. فالشورى لا تسمح بما هو ليس شرعي أو يمكن أن يحول دون تطبيق ما هو شرعي.
ليس في الإسلام قواعد أو أحكام جامدة يختارها أولي المعرفة والقضاة الصالحين وأصحاب الحل والعقد. بل يمكن اختيار القواعد والأحكام عن طريق الاقتراع إذا كانت تلبي المتطلبات الشرعية.
إذا كان الغرب يتمتع بحرية الكلام فإنك في الإسلام لست حراً في التعبير عن نفسك فحسب، بل أيضاً من واجبك أن تعبر عن رأيك. فعلى المرء أن يعبر عن رأيه بصدق وبدون التباس ولا تشويه. فقد أدان الحديث الشريف ذلك الذي يكبت وجهة نظره ليرضي الآخرين، قال رسول الله (ص): "الساكت عن الحق شيطان أخرس." والإسلام يدعو إلى الحوار الإيجابي. والواقع أن القرآن الكريم مليء بآيات الحوار والجدال.
في ختام المحاضرة، أثار الحاضرون عدداً من القضايا. هل مبادئ العدل والحرية التي بينها المحاضر قابلة للتطبيق في العالم الإسلامي المعاصر؟ متى يمكن تطبيق هذه النماذج من العدل والحرية في المجتمعات الإسلامية في هذا العصر؟
بالرغم من أن الشيخ يماني لم يتطرق إلى هذه القضايا، فإن الحضور قد أثارها في نقاش حيوي استمر حتى ساعة متأخرة. وكان اتجاه تعليقات الحضور منصباً على نعت أجزاء من العالم الإسلامي بالتخلف والافتقار إلى الشورى والعدالة والمساواة وحرية الإنسان.