لقاء الطاولة المستديرة حول:
«حاجي خليفة وكتابه الموسوعي:أنظار في كتاب كشف الظنون، ومنهج تحقيقه»
الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى والأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف
شهدت قاعة المحاضرات بمركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا)، بمدينة إسطنبول، يوم الجمعة 25 مارس 2022م، لقاء الطاولة المستديرة حول: «حاجي خليفة وكتابه الموسوعي: أنظار في كتاب ” كشف الظنون“، ومنهج تحقيقه»، من إلقاء كل من الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى والأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف، وقام بتنظيم اللقاء مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا) بالتعاون مع مركز دراسات المخطوطات الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي؛ وقد تميّز الحضور بكوكبة من علماء التحقيق، وطلبة الدكتوراه، والباحثين، وممثلي الهيئات الثقافية وبعض وسائل الإعلام.
افتتحت الجلسة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تلتها كلمة الافتتاح والترحيب من الأستاذ الدكتور محمود أرول قليج، المدير العام لمركز إرسيكا الذي رحّب بالحضور وعبّر عن سعادته بالتعاون المثمر بين مركز الأبحاث للتاريخ ومؤسسة الفرقان، ووعد بأن المركز سينظم في المستقبل نشاطات عدة في هذا المجال.
ثم أتيحت الكلمة للأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلى الذي تطرق إلى الجزء الأول من عنوان الطاولة في كلمة بعنوان: كاتب جلبي/حاجي خليفة: آخر كبار الموسوعيين المسلمين.
استهلّ الدكتور أكمل الدين كلمته بعرض نبذة شاملة عن حياة كاتب چلبي وآثاره العلمية ومكانته الثقافية، ووصفه بأنه واحدًا من أبرز الشخصيات العلمية التي عرفها العالم الإسلامي على الإطلاق في القرن 11 الهجري، 17 الميلادي (وهو بداية عهد «الانحطاط»). وقد صَرَفَ حاجي خليفة همّته وقضى عمره في تحصيل العلم وتدوينه ونشره، فحفظ القرآن الكريم، واجتهد، منذ نعومة أظفاره كثيرا، في التخصّص في علوم الشريعة، والتمرّس بالعلوم الرياضية والحساب والطبيعية والخط، مع إتقان للغة الفارسية وأدبها، إلى جانب إتقانه للغة العربية، وكان يؤلف باللغتين العربية والتركية والفارسية في آن معًا، فيستخدم اللغة التركية في مخاطبة النخبة العثمانية وزمرة رجال الحكم في عاصمة الدولة، ويستخدم اللغة العربية عندما يريد مخاطبة العلماء والمثقّفين. يضاف إلى ذلك انفتاحه على الحياة الثقافية والعلمية الأوربية، واهتمامه بها، وعمله الدؤوب على نقل بعض المؤلفات الأوربية من كتب التاريخ والجغرافيا، ومحاولاته في الاستفادة من المصادر الغربية في كتاباته، ممّا جعله يتبوّأ مكانةً تليق به بين الرواد الذين أقاموا أولى الاتصالات فيما بين الشرق والغرب.
وأضاف المحاضر بأن من السمات المهمّة التي جعلته يحوز مكانة متميّزة في الشرق والغرب هي همّه في البحث عن الحقيقة، وشجاعته في عرض أفكاره والدفاع عنها، وكذلك شجاعته في التناول المحايد للموضوعات الخلافية والجدلية. فتحدث الغربيون عنه وعن أعماله بالإعجاب الشديد، حتى وصفه أحد المستشرقين بأنه «السيوطي» التركي.
أما أصل اسمه فهو مصطفى، ابن عبد الله، وكانت شهرته بين علماء المدينة باسم «كاتب چلبي»، وبين أهل الديوان باسم «حاجي خليفة» [وكلمة خليفة في المصطلح العثماني تعني آمر القلم ورئيسه] وهو حين يعرِّف بنفسه يقول إنه: «حنفي المذهب إشراقي المشرب (صوفي)»، و«قسطنطيني المولد والدار».
قضى حاجي خليفة قدر عشر سنوات يصاحب الجيش في الحروب والحملات المختلفة من بينها حملة ترجان والعـراق وهمدان وبغداد و رَوَان وحصار مدينة أرضروم.
وقال الدكتور إحسان أوغلى إن حاجي خليفة أنفق على شراء الكت بكل ما وقع تحت يده من مال. وكان أثناء إقامته في حلب قد بدأ يسجّل أسماء الكتب التي يراها في حوانيت الوراقين، وكان يميل بطبعه إلى مطالعة كتب التاريخ والطبقات والوفيات أكثر من غيرها.
أما فيما يتعلق بشخصيته فقد حظي بسمعة طيبة ونال تقدير الناس واحترامهم في حياته، وبعد مماته كان رجلًا صاحب همّة، حَسَنَ الطباع، قليل الحديث، حكيم النزعة.
وذكّر المحاضر الحضور بأن المؤلفات العديدة التي خَلّفها لنا كاتب چلبي، تنم عن معرفة موسوعية، وعن عمق في تمثل التراث الحضاري الإسلامي. ولا شك أن كتابه «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» الذي صار مرجعًا أساسيًا لا غنى عنه لدارسي الحضارة الإسلامية وهو خير دليل على موسوعية كاتب چلبي، على عقلية نقدية موضوعية، ونظرة تحليلية.
وبعد إسهاب في شرح مراحل حياة حاجي خليفة وشخصيته طفق يعدد أهم أعماله سواء ما كتبه باللغة العربية ككتاب سلم الوصول إلى طبقات الفحول كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون أو ما كتبه باللغة التركية ككتاب تحفة الكبار في أسفار البحار وتقويم التواريخ وتاريخ فرنكى ترجمه سى وتاريخ قسطنطينيه وقياصره و إرشاد الحيارى إلى تاريخ اليونان والروم والنصارى وبيضاوي تفسيرينك شرحي (شرح تفسير البيضاوي)...الخ أو ما كتبه باللغتين العربية والتركية ككتاب فذلكة، أوما كتبه باللغات الثلاث ككتاب تحفة الأخيار في الحكم والأمثال والأشعار.
وختم الدكتور إحسان أوغلى كلمته بأن وفاة كاتب چلبي كانت يوم الجمعة 27 من ذي الحجة عام 1067هـ الموافق لـ6 أكتوبر 1657م، عندما شعر بضيق وهو يشرب قهوة الصباح، فسقط الفنجان من يده ومات فجأة.
وتناول بعده الكلمة العالم الخبير الدكتور بشّار عوّاد معروف في مستهلّ محاضرته قائلًا بأنّ كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» يعتبر أكبر معجم ببليوجرافي في التراث الإسلامي، وأهمّ كتاب في تاريخ الأدبيات الإسلامية حتى القرن 11 الهجري، وأهمّ الموسوعات المعرفية في تاريخ الإسلام، كما يعدّ هذا الكتاب النوعي النادر عمدة المُشتغلين بالتراث ومرجعهم الأساسي، وقد احتلّ أهمّية كبيرة بين الباحثين والدارسين والمحقّقين، فكانوا كثيري الرجوع إليه والاعتماد عليه في أبحاثهم ودراساتهم وتحقيقاتهم؛ وهو ما يدلّ على العبقرية الموسوعية الاستثنائية لحاجي خليفة، رحمه الله.
و أضاف المحاضر بأنّ المسلمين قد اعنتنوا منذ وقت مبكر بتأليف الكتب الخاصة برصد المؤلفات فألّف النديم كتاب «الفهرست»، كما ألّف ابن السّاعي كتابه «الدر الثمين في أسماء المصنفين»، فباستثناء هذين الكتابين فإن أحدًا قبل حاجي خليفة لم يفكر بمثل هذا العمل العلمي الموسوعي الراصد لحركة التراث الإسلامي. إذ قام هذا العالم العثماني المتنوّر بجمع هذا الكم الكبير من المؤلفات التي تعَدُّ نقلة نوعية وتفكيرًا متقدمًا لذكر أمهات الكتب المؤلفة، وما جرى عليها من شروح أو تعليقات أو ما كُتِب عليها من الحواشي. وأنّ هذا العمل يُعد نقلة نوعية في تاريخ الفكر الإسلامي الذي شهد في هذه الأعصر الكثير من الجمود وقلّة الإبداع. ومن ثم صار هذا الكتاب من الكتب التي احتلت منزلة متميزة عند العلماء الذين جاؤوا من بعده تدلّ على ذلك كثرة الذيول والمستدركات المؤلّفة عليه، بل نجد الأوربيين يهتمون به ويعتنون بتحقيقه وطبعه وترجمته إلى اللاتينية. ولعلّ الذين اعتنوا برصد التراث العربي الإسلامي في عصرنا أمثال كارل بروكلمان وفؤاد سزكين كانوا ممن تأثّروا بصنيع حاجي خليفة المتميّز في زمانه.
ونبّه الدكتور بشار الحاضرين بأنه مما يذكر لحاجي خليفة من الفضل العميم تلك الهمّة العظيمة في حشد الشروح والمختصرات والمنظومات لكثير من أمهات المؤلفات المشهورة التي عني المسلمون بالتعليق عليها أو شرحها أو تحشيتها أو اختصارها أو نظمها، مما لم يُسبق إلى مثل هذه الفكرة الرائدة التي يعجز عن الإحاطة بها كثيرون.
وبعد إسهاب في الثناء على المؤلف ذكّر الدكتور بشار عوّاد معروف الحضور أنَّ الرجل مع طموحه الشديد وفكره النيّر الذي قاده إلى تأليف هذا الكتاب، فإنّ ثقافته التراثية ضعيفة، لأنّه لم يكن من الموسوعيين الذين سبروا العلوم والمؤلّفات التي كُتبت فيها، لذلك وقع في أخطاء كثيرة لا سيما في أسماء العلماء وسيرهم وتواريخ وفياتهم وعناوين مؤلّفاتهم، ونسبته لبعض الكتب إلى غير أصحابها، مؤكّدا بأنّ الملحق الذي كتبه وفريقه وقد بيّنوا أخطاءه في أكثر من ست مئة وخمسين صفحة كونت المجلد الثامن من هذا الكتاب شاهد على ذلك. وأضاف بأننا ينبغي أن ننصف الرجل فقد اقتحم موضوعًا يُعْجزُ الكثير من العلماء، وأخطاؤه مغفورة مغمورة في الفكرة الرائدة التي حاول تحقيقها في ذلك الزمن الرديء الذي غلب عليه الجمود والتخلّف وقلّة الابتكار.
وقد استوقفت المحاضر نقطة مهمّة جدّا وهي أن حاجي خليفة لم يكتف بذكر المؤلّفات العربية، بل ذكر أيضا ما كُتِب باللغة التركية والفارسية. وقد استغرق عشرين سنة في جمع مادّة الكتاب وكتابته في مسودة، ثم بدأ بتبييضه، فكتب منه إلى أثناء حرف «الدال»، ثم وافته المنية، رحمه الله، تاركًا وراءه القطعة المبيضة وجميع المسودة. فقد عني المؤلف بذكر أسماء الكتب والفنون، فكان يذكر الفن ويُعَرّف به اعتمادًا على «مفتاح السعادة» لطاش كبري زادة في الأغلب الأعمّ، مع استدراكات عليه، ثم يذكر أسماء الكتب مرتّبة على حروف المعجم، مع ذكر مؤلّفيها، إن وقع له ذلك، ويُتبع ذلك بالشروح والمختصرات والحواشي المتّصلة بهذا الكتاب، وربما أشار إلى موضوع الكتاب، أو ذكر أوّله، لا سيما في المؤلّفات التي اطّلع على نسخ منها.
ونتيجة لهذه الأهمّية البالغة للكتاب، قام الأوربيون بتحقيقه ونشره وترجمته إلى اللغة اللاتينية، لغة العلم في أوربا إلى عهد قريب، فقام المستشرق الألماني فلوجل (Flügel) بتحقيق الكتاب، ونشر المجلّدين الأولين منه خلال السنوات 1835-1858م، في لايبزيغ، ثم طُبعت مجلداته من الثالث إلى السابع - مع كشافاتها - في لندن. ثم قام اثنان من العلماء الأتراك بإعادة نشر الكتاب، اعتمادًا على النشرة الأوربية، ومقابلتها على نسخة المؤلّف الخطّية من المبيّضة والمسوّدة. وممّا يؤسف عليه أنَّ هاتين الطبعتين لم تستوفيا المنهج العلمي في تحقيق النصوص، إذ تصرّفا في النصّ زيادةً وحذفًا، وقاما بتغيير الكثير من العبارات، ظنًّا منهما أنّ هذا ممّا ييسر فهم النص واستوائه، فضلًا عمّا وقع عندهما من تحريف وتصحيف لا تخلو منها صفحة من صفحات طبعاتهما.
ثم عرض الدكتور بشار نهج العمل في التحقيق مضيفا بأنه وفريقه من المحققين أعطوا أهمية خاصة لتفصيل النص من حيث إظهار أسماء الكتب وشروحها وحواشيها ومختصراتها وكل ما يتصل بها، فوضعوا لكلٍّ منها رقمًا مبدوء بفقرة جديدة، وهي الأرقام المعتمدة في فهارس الكتاب لتيسير الوصول إليها والإفادة منها. ثم فصّلوا النص من حيث بداية الفقرات، ووضع النقط والفواصل ونحوها مما يُظهرُ المعاني ويُجَلِّي النص، فضلًا عن ضبط النص بالحركات، لأهميتها البالغة في قراءة النص قراءة سليمة، وإيمانًا منا بأن تحقيق النصوص من غير ضبط بالحركات لا يُعد تحقيقًا علميًّا متقنًا، فالضبط في النصوص الخالية منه هو المنبئ عن قدرة المحقق في حُسن قراءة النص قراءة سليمة وفهمه فهمًا سويًا كما أراده مؤلفه.
وختم المحاضر كلمته بأنه وفريقه رأوا من المفيد إلحاق عدد من الكشافات المُيسّرة للإفادة من هذا النص المهم، فصنعوا، كشافًا بأسماء المؤلفين المذكورين في هذا الكتاب، وآخر بأسماء المُصَنّفات، وثالثًا بأسماء العلوم التي ذكرها في الكتاب، ورابعًا بأسماء الأمكنة والبقاع، وخامسًا بجريدة المصادر والمراجع المعتمدة في تحقيق هذا الكتاب.
ثم تناول الكلمة السيّد صالح شهسواري، المدير التنفيذي لمؤسّسة الفرقان للتراث الإسلامي الذي رحب من جهته بالحضور وشكر المحاضرين على كلمتهما المفيدة والماتعة، كما عبّر عن سعادته الغامرة بالتعاون المثمر بين مؤسسة الفرقان ومركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا).
وبعد هذه العروض الماتعة فتح الباب للأسئلة والتعقيب، حيث دارت نقاشات موسعة وطويلة و مستفيضة وتعليقات معمّقة، وأسئلة هامّة تناولت موضوعات لقاء الطاولة، وشارك فيها عدد من الأساتذة، والباحثين، وبعض الشخصيّات الثقافيّة وغيرهم.
وحظي هذا اللقاء الممتع والمفيد بإعجاب الحضور.
أعمال لقاء الطاولة المستديرة على قناة اليوتيوب: