شهد المقرّ الجديد لمؤسّسة الفرقان للتراث الإسلامي يوم الخميس 3 جمادى الثاني 1433هـ/ الموافق 24 مايو 2012م، محاضرة نظمتها المؤسسة بالتعاون مع مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة (FSTC)، وكانت تحت عنوان دراسة المخطوطات الإسلامية في القرن الحادي والعشرين، من إلقاء العالم الخبير في علم المخطوطات الأستاذ الدكتور فرانسوا ديروش، عضو مجلس الخبراء بمركز دراسات المخطوطات الإسلامية التابع لمؤسسة الفرقان ومدير الدراسات بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس. أدار هذا اللقاء الأستاذ صالح شهسِواري، مدير المؤسسة، الذي رحّب بالحضور المتميّز، ثم دعا الأستاذ شرف يماني، أول المتدخّلين، الذي تكلّم نيابة عن رئيس المؤسسة الشيخ أحمد زكي يماني ومجلس إدارتها وموظفيها، والذي من جانبه رحّب بالحاضرين، وشرع بعدها في استعراض الجهود التي بذلتها المؤسسة في مجال المحافظة على التراث الإسلامي، ولا سيما المخطوط منه، كالقيام بمهمة رصده وتوثيقه وفهرسته ونشره وتحقيقه بطرق علميّة، وبحث سبل حفظه وصيانته، وتيسير وسائل الاطلاع عليه، خدمة للأجيال المقبلة، مؤكّدا أنّ من أجل هذه الغاية وغيرها أُنشِئت مؤسسة الفرقان، إدراكًا منها أنّ المخطوطات الإسلامية هي النّواة الحقيقية لتراث الأمّة وعنصر هويّتها، ووثيقة أثريّة ثقافيّة وتاريخيّة وحضاريّة، تعكس في جوهرها ذاتيّة الحضارة الإسلاميّة وخصوصيتها، إذ أنّها استوعبت تراث المسلمين في شتى بقاع الأرض، وفي مختلف مجالات المعرفة البشريّة، كما أنّها الوعاء الذي صبّت فيه عصارةَ فكر العلماء وخلاصةَ تجاربهم وثمراتِ عقولهم على مرّ العصور؛ وأنّ هذا التراثَ هو الذي يشكّل وجدان الأمّة وعقلها، ويصوغ فكرَها وضميرَها، وهي في نهاية المطاف مقوّم أساسيّ من مقوّمات ذاكرة الأمّة في ماضيها، ومرتكزَا متينًا لنهضتها في الحاضر والمستقبل. ثم قام بشرح الخطّة التي وضعتها المؤسسة لنفسها أثناء تأسيسها، وفق منهجيّة علميّة ومراحل مدروسة. فقد شرعت المؤسسة أوّلا بمسح شامل للمكتبات التي تحتوي على المخطوطات في العالم، تلاها الشروع بفهرسة ما لم يفهرس من المخطوطات، ثمّ تحقيق بعضها ونشرها. وقد سارت بالتوازي مع هذه الأعمال دورات في الفهرسة والتحقيق والمحاضرات والمؤتمرات والندوات.
كما ذكّر الحاضرين بأنّ أول خطوة بدأت بها مؤسسة الفرقان مسيرتها، بعد تأسيسها مباشرة سنة 1988، هي إعداد مشروع بحثي طموح وشامل لحصر مجموعات المخطوطات الإسلامية الموجودة في 106 دولة. لتبدأ بعدها مرحلة الفهرسة، وذلك بالتركيز على المناطق المحفوفة بالمخاطر والحرمان من التمويل. ولما واجهت المؤسسة صعوبات في وجود المفهرسين، بدأت الدورات التدريبية في الفهرسة والتي بلغ عددها (9) دورات إلى الآن، وذلك في 7 دول (القاهرة واسطنبول ولندن والرباط وكوالالمبور وحلب وعَمّان)، وقد تخرّج منها أكثر من 380 مفهرسا من الدول العربية وإفريقيا والهند ومن منطقة البلقان وتركيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق ومن دول أوربا وأمريكا ومن ماليزيا واندونيسيا وبروناي.
أما في مجال المطبوعات والنشر، فقد تمكّنت مؤسسة الفرقان من إعداد وإصدار أكثر من 200 مجلد في علم المخطوطات ومقاصد الشريعة ومؤلفات موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، من بينها ما يقارب 70 مجلدا لفهارس المخطوطات بمجمل 65,000 مخطوطة في بلدان مختلفة في إفريقيا وآسيا وأوروبا. وبالتوازي، شرعت مؤسسة الفرقان في تحقيق مخطوطات كثيرة ذات أهمية علمية وتاريخية خاصة في شتى العلوم: من طب ورياضيات وتاريخ وجغرافيا وتفسير وغيرها، بالتعاون مع بعض العلماء الأفاضل على نشر عيون تراثنا المعتدة المحقّقة على أقوم المناهج وأكثرها دقةً وثراءً. كما قامت المؤسسة في الشهور الماضية بنشر الجزء الأول من رصيد دار الكتب المصرية في 4 مجلدات، وستنشر قريبا الجزء الخاص بالمكتبات الملحقة بالدار الذي يتكوّن من 8 مجلدات، وستشرع في الشهور المقبلة في فهرسة ما يزيد عن 22,000 رسالة خاصة بمجاميع الفنون. وانتهت من فهرسة مخطوطات ومجاميع آيا صوفيا بالمكتبة السليمانية، ومن المتوقَع أن يتم نشر هذه المجاميع والمخطوطات في نحو 16 مجلدا، بمجموع 8,000 رسالة ومخطوطة.
ونظّمت المؤسسة، بالتوازي مع أنشطتها، 5 مؤتمرات حول المخطوطات الإسلامية، أسهم فيها بأبحاثهم صفوة من الباحثين والمختصين في علم المخطوطات في العالم. إضافة إلى تنظيمها لأكثر من 30 محاضرة والعديد من الندوات التحسيسية في مجال تاريخ العلوم والفنون الجميلة والموسيقى والعمارة والخط وحقوق إنسان والمائدة وغيرها، من أجل التعريف بمساهمات العلماء وإنجازاتهم في التاريخ وفي بناء الحضارة الإسلامية. كما أقامت معارض عديدة، منها معارض في اللوحات الزيتية والخط.
ولما شعرت المؤسسة بأن الساحة التراثية بحاجة ماسّة إلى علماء شباب محقّقين، نظّمت دورتين في تحقيق المخطوطات بدار العلوم، أما الدورة القادمة فستكون بالأزهر الشريف في يونيو من هذا العام.
أما وقد قطع العملُ هذه المراحل، فقد ارْتُئِي أن تُرصدَ جائزةٌ لكبار العلماء الذين نشروا روائع التراث العربي وأشاعوا روح الوعي به، تقديراً لمسيرتهم المجهدة والطويلة. فقُدّمت الجائزة الأولى للأستاذ القدير الدكتور إحسان عباس، تكريماً له وتقديراً لما قدّم، والثانية للدكتور صلاح الدين المنجد، الذي كان رائداً وسبّاقاً ومن بناة نهضة الوعي الثقافي التراثي. كما رصدت جائزة للفهرسة، مُنِحت في الدورة الأولى للدكتور رمضان شيشن ومدير مكتبة الغازي خسرو بك والفريق الذي آزره في فهرسة مخطوطاتها.
خطوة أخرى خطتها المؤسسة هي إنشاء جائزة دولية في تحقيق المخطوطات، تشجيعا للعاملين في حقل المخطوطات على تحقيق موروثهم الحضاري والثقافي. واختتم الأستاذ شرف يماني بأن المؤسسة شرعت أخيرًا في نقل كل ما قامت به من فهرسة في شكلها الورقي إلى قاعدة بيانات رقمية في شكل مفتوح على الانترنت، يمكن الوصول إليها بسهولة ويسر.
ثم تناول الكلمة الدكتور بيتر فيل، نائب رئيس مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة (FSTC) للشؤون الاستراتيجية، وعضو مجلس أمنائها، الذي أثنى على هذا اللقاء العلمي المتميّز والترحيب الحارّ، ثمّ قدّم لمحة عامّة عن الجهود التي تقوم بها مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة، مسلّطا الضوء عما هو معروف على نطاق واسع بـ 1000 سنة منسية من تاريخ العلوم، وذلك من خلال مختلف الأدوات التعليميّة والعلميّة، مثل المعارض المعروفة بـ 1001 اختراع- التراث الإسلامي في عالمنا، كما رحّب بالتعاون بين المؤسستين اللتين تعملان في نفس المجال.
أمّا الأستاذ الدكتور فرانسوا ديروش، فقد استهل محاضرته ببداية اهتمامه بالمخطوطات الإسلاميّة في الربع الأخير من القرن الماضي مع نسخة من القرآن الكريم بالمكتبة الوطنية بباريس، حينما كان القليل من الجامعات يعتني بعلم دراسة المخطوط آنذاك، ليذكّر بعدها بأهميّة المخطوطات على أنّها إرثٌ ثقافيٌّ وحضاريٌّ، ومن الضروري الحفاظ على ما تزخر به الكثير من المكتبات ومراكز الأرشيف والمتاحف من رصيد معتبر من المخطوطات بكل الوسائل والتقنيات المتاحة. وحذّر في مجال المبالغة في تقدير عدد المخطوطات، الذي لا يزيد على 3 ملايين مخطوطة، بما فيها المخطوطات المكرّرة، كمخطوطة دلائل الخيرات وغيرها، رغم أنّ هناك عددا هائلا من المخطوطات الدفينة في المكتبات والخزائن، التي يكاد يطويها النسيان، وتمتد إليها عاديات الزمان، فالتقديرات المتداولة فيها اختلاف كبير، وعلى سبيل المثال: فباكستان تعتقد أنّ بها مليوني مخطوطة، وتقدّر تُمبكتو بأن عدد مخطوطاتها يقترب من المليون مخطوطة، إلا أنّ الأرقام القريبة من الصحّة تتراوح بين 75 الى 80 ألف مخطوطة بمالي.
ليخلص بأنّ علم دراسة المخطوط قد تطوّر، إذ أصبح محل اهتمام عدد كبير من الدارسين والباحثين، نظرًا لقيمة المخطوطات العلمية والفنية، فقد ظهرت خلال 25 سنة من القرن الماضي مراكز علميّة ومؤسسات تراثيّة كثيرة في الغرب، من بينها مؤسسة ملكوم، وما يقوم به العالم التركي المسلم فؤاد سزجين، صاحب كتاب تاريخ التراث العربي، وذلك بإصدار سلسلة من الطبعات طبق الأصل (الفاكسميلى) لأهم المخطوطات العربية في مكتبات العالم، بالإضافة إلى نشر أهم ما صدر في الجغرافيا الإسلامية منذ مطلع القرن 19 من نصوص ودراسات. وكذلك ظهور مشروع القرآن، ومشروع تمبكتو، وشاهنامة، وكومست، ومركز هامبورج، ومؤسسة الفرقان التي قامت بدور كبير وجهود جبارة، وذلك بإصدار العديد من الفهارس والمخطوطات المحقّقة، وتنظيم دورات تدريبية كثيرة في مجالي الفهرسة والتحقيق. ويُرجِعُ المحاضر الأسباب المساعدة على تطوّر دراسة علم المخطوطات والنهوض به، إلى عوامل كثيرة: كان العامل الأول هو قيام مؤسسة الفرقان بإصدار المسح الشامل للخطوطات الإسلامية، حيث حصر المكتبات التي تحتوي على المخطوطات الإسلامية في 106 دولة، وقد أعطى معلومات مفصّلة عن محتوياتها، وأفاد محصول هذا الحصاد عددا من الباحثين في التراث. ثم صدور كتابه المدخل إلى علم الكتاب المخطوط الذي نشر باللغة الفرنسية، ثم قامت مؤسسة الفرقان بترجمته إلى اللغة العربية والانجليزية، وكتاب آدم جاشيك تقاليد المخطوط العربي.
ويكمن العامل الثاني في النشرات، وأهمّها مجلة المخطوطات الإسلامية التي تصدرها مؤسسةبريل، التي هي على شاكلة نشرة معهد المخطوطات بالقاهرة، ونشرة إيران. لينتقل إلى العامل الثالث المتمثّل في فهرسة المخطوطات التي تقوم بها مؤسسات عدّة، وأعطى مثالاً بما تقوم به مؤسسة الفرقان، وذلك، بفهرسة المخطوطات التي لم يسبق لها أن فُهرست، بدءً من المخطوطات المعرضة لخطر التلف والضياع، وخاصة في إفريقيا وأوربا الشرقيّة وآسيا، ليشدّد في هذا الصدد على أنّ المعلومات التي توجد بالفهارس تعتبر في غاية الأهمية، خاصة إذا كانت الفهرسة تحليلية شاملة، وذلك بتوصيف المخطوطات توصيفًا كافيًا ومفصلا، فكلما حفلت النسخةُ بتوثيق دقيق وشامل، قرّبتنا إلى حقيقتها، وساعدتنا على معرفتها جيدًا، وبالتالي اكتسبَتْ قيمةً أكبر، وخاصّة فيما يتعلّق بتوصيف الشكل المادي للمخطوط، وذلك بدراسة الورق والأمِدَّة والأحبار، ونوع الخط ونظام الترقيم والتذهيب والتجليد والتزيين وحجم الكراسات والترقيم والتعقيبات، وكلّ ما دوّن على صفحة الغلاف من سماعات وقراءات وإجازات ومناولات ومقابلات ومعارضات ومطالعات وتقييدات ووقفيات، وما يسمي حرد المتن، وذكر النسخ الخزائنية؛ يُضاف إلى ذلك كلّه أنَّ دراسة التمَلُّكات تكتسب أهمية كبيرة، ويُمكن أن تفيدَ في تتبُّع تأثير الكتاب في كتابات من تَمَلَّكُوه، وبتتبُّع تواريخ التمَلُّك نستطيع أن نعرفَ رحلة الكتاب، وأن نُحَدِّد تاريخًا تقريبيًّا للنسْخة، إذا كانت غير مُؤَرَّخَة؛ وعلى المفهرس أن يذكر اكتمال النسخة، واسم الناسخ، وبأن يُحاول تحديد الفتْرة الزمانية التي يرجع إليها، والمكان الذي صُنع فيه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فمِثْل هذا التحديد يُساعد أيضا على تأريخ المخطوط،كما يعين العلماء والباحثين والمحقّقين على زيادة معلوماتهم.
وأضاف أنّ العامل الرابع يتمثّل في الدورات التدريبية التي رفعت مستوى الوعي لدى المهتمين بعلم المخطوط وقامت بإسعاف المفهرسين بالمهارات والمعارف، إذ تقوم مؤسسة الفرقان بدور مهمّ في هذا المجال. وضرب مثلا على تنوع هذا النشاط، بأنه قام بنفسه بثلاث دورات تدريبية في كل من كمبريدج ومدريد وهمبورج في مدة قصيرة. أما العامل الخامس فيتمثّل في معارض المخطوطات، وأخيرا العامل السادس، وهو فتح صفحات كثيرة في علم المخطوط على الشبكة العنكبوتية. وختم الأستاذ الدكتور ديروش محاضرته مؤكّدا على ضرورة الأخذ بعلم دراسة المخطوطات بنوع من الدّقة؛ فإذا كانت الدّراسات في الماضي تركّز على جانب النص فقط، أي المحتوى العلميّ للمخطوط، فإن اهتمامنا في المستقبل ينبغي أن يتّجه إلى التركيز على دراسته وتحليله، بوصفه وعاء ماديا أيضا، وهذا في حدّ ذاته تحدّ كبير لنا، لأننا في بداية الطريق، على اعتبار أن عدد المخطوطات ضخم، لذاينبغي أن نعرف من أين نبدأ.
تلت المحاضرة نقاشات موسّعة وأسئلة هامّة من قبل الحضور تناولت موضوعات المحاضرة، إضافة إلى موضوع انتقال العلوم والمخطوطات إلى أوروبا. قام بعدها الأستاذ شرف يماني بإهداء مجموعة من مطبوعات المؤسسة للأستاذ الدكتور سليم الحسني، رئيس مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة، الذي أهداه بدوره كتاب 1001 اختراع.