"تاريخ حلب" لابن العديم، في طبعة جديدة تأتي في وقتها بقلم محمد م. الارناؤوط
لا يُذكر تاريخ حلب إلا ويذكر معه مؤرخ حلب ابن العديم (توفي660 هـ/ 1262م) وكتابه الموسوعي "بغية الطلب في تاريخ حلب"، الذي اشتغل عليه عشرات الباحثين في المشرق وفي أوروبا وأنفق سنوات من عمرهم ثلاثة محققين لإخراجه في أحسن صورة (سامي الدهان وسهيل زكار والمهدي الرواضية). وعلى حين أن الرائد في ذلك كان الأكاديمي الحلبي سامي الدهان(1910-1971) الذي أصدر في دمشق 1951 كتابه "حياة ابن العديم وآثاره" الذي ذكر فيه أنه حقّق كتابه الموسوعي وأرسله للنشر في القاهرة، إلا أنه توفي في 1971 قبل أن يتبيّن لغز مصير عمله المذكور. وإلى ذلك التاريخ يبدأ اهتمام وعمل المؤرخ السوري سهيل زكار بابن العديم، الذي توّجه في 1989 بإصداره لأول طبعة محققة لكتاب ابن العديم الموسوعي التي اشتغل عليها عشرات الباحثين ممن كتبوا عن حلب وبلاد الشام حتى القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، ومن هؤلاء تلميذته مريم الدرع التي خصّصت عنه رسالتها للدكتوراة "موارد ابن العديم ومنهجه في كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب". ولأن التحقيق علم كغيره من العلوم يقوم على التراكم المعرفي، فقد صدرت مؤخرا في لندن (مركز الفرقان 2016) طبعة جديدة في 12 مجلدا بتحقيق المؤرخ الأردني المهدي الرواضية، التي جاءت مميزة واستحقت بذلك أن تنال جائزة معهد المخطوطات العربية / جامعة الدول العربية في مطلع 2017.
ولاشك أن قيمة هذا الكتاب الموسوعي أو هذا التحقيق الجديد تنبع من عدة أسباب أو ظروف تتعلق بالمؤلف والكتاب والمدينة التي أراد أن يخلدها كما فعل ابن عساكر مع دمشق.
أما المؤلف كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله العقيلي الحلبي المشهور أكثر بابن العديم، فقد كان من علماء ووزراء وسفراء الدولة الأيوبية في حلب، حيث نشأ في أسرة معروفة شهد لها صديقه ياقوت الحموي بما قدّمت من علماء، وحرص والده على أن يرسله إلى القدس ودمشق أيضا لطلب العلم على أشهر العلماء هنا وهناك. ومع أنه بدأ حياته في التدريس إلا أن شخصيته جذبت اهتمام الملوك الأيوبيين فربطته علاقة وثيقة بالملك الظاهر والملك الناصر، فأصبح من وزراء وسفراء الدولة الأيوبية إلى ملوك الدول المجاورة في بلاد الروم والعراق ومصر. ولكن هذه المكانة انتهت فجأة مع غزو المغول للمشرق واجتياحهم لحلب واستباحتها في نهاية 1259م، مما اضطر المؤلف أن يلجأ إلى القاهرة. وبعد معركة عين جالوت في أيلول/ سبتمبر 1260 واندحار المغول عاد المؤلف إلى حلب ليجدها خرابا فانكسرت نفسه وعاد مع أوراقه إلى القاهرة حيث لم يستطع أن يعيش أكثر من سنة ليتوفى هناك في 1262.
وبسبب هذه الظروف التي ألمّت بالمؤلف وحلب فقد ضاعت معظم أجزاء هذا الكتاب الموسوعي، الذي اختلفت المصادر في عددها (من 30 إلى 40 جزءا)، ولكن حفظ منها على الأقل معظم الجزء الأول الذي يتمتع بقيمة خاصة. ومن حسن الحظ، بعد أن أصبحت مصر جزءا من الدولة العثمانية، أنه وُجدت في مكتبات تركيا عشرة أجزاء من هذا الكتاب الموسوعي بخط المؤلف، وهي التي نشرها د. سهيل زكار في 1989 مع دراسة ضافية عن ابن العديم وكتابه. أما الجديد في هذه الطبعة الجديدة التي صدرت في 12 مجلدا فيكمن في أمرين اثنين، فقد تضمّن المجلد الأول أوسع وأدق دراسة عن ابن العديم وحياته وآثاره جاءت في حوالي 160صفحة من أصل 750 صفحة، استفاد فيها د.الرواضية مما وجده في كبريات المكتبات بالعالم ومما نُشر عن ابن العديم من دراسات بعد صدور الطبعة السابقة في 1989. وأما الأمر الثاني، الذي يمثل إضافة علمية، فهو المجلد الحادي عشر الذي سمّاه "الملتقط من الضائع" الذي حاول فيه سد النقص بسبب ضياع الكثير من أجزاء هذا الكتاب الموسوعي. فبسبب شهرة المؤلف والكتاب، اعتمد الكثير من المؤرخين المعاصرين واللاحقين على عمل ابن العديم، ومع ضياع الأجزاء الأخرى عاد د. الرواضية إلى تلك المصادر التي اعتمدت على ابن العديم واستخلص منها ما أخذته أو اقتبسته من كتاب ابن العديم ليعيد نشره ضمن هذا المجلد الذي ضم حوالي 700 صفحة. وبالإضافة إلى هذا وذاك يمكن أن نضيف ما يسمى خدمة المخطوط في علم التحقيق، الذي يتقدم باستمرار في العقود الأخيرة، وصولا إلى "تهيئة العمل وإخراجه كما أمل له صاحبه أن يكون"، وهو الأمر الملحوظ في ثنايا المجلدات العشرة الأولى ثم في المجلد الثاني عشر الذي خصّصه للفهارس مما يسهل على الباحثين الوصول إلى ما يهمّهم في هذا الكتاب الموسوعي.
ولمعرفة قيمة هذا الكتاب يكفي أن نتوقف عند الجزء الأول منه الذي سبقت الإشارة إليه. صحيح أن العنوان يوحي أن الكتاب عن تاريخ حلب، إلا أن هذا الجزء يتوسع كثيرا في استعراض ما حول حلب من البلدات والمدن والأنهار والجبال والبحيرات والسكان، بالتحديد من نهر الفرات إلى البحر الشامي (المتوسط)، حيث يروى عنها مختلف الأخبار والأحوال والتغيرات التي طرأت عليها. وفيما يتعلق بحلب تحديدا، لابد من الإشارة هنا إلى الفصول الأخيرة لهذا الجزء التي تحمل قيمة خاصة، ومن ذلك فصل "ما ورد من الكتابة القديمة على الأحجار بحلب" وفصل "ذكر ما بحلب من وأعمالها من المزارات" إلخ.
أما في الأجزاء الأخرى للكتاب، فقد ذهب كما فعل ابن عساكر في كتابه الموسوعي عن دمشق إلى ذكر كل من ولد أو نشأ في حلب أو حتى مرّ فيها من الحكام والعلماء والأدباء والفلاسفة سواء بعد الفتح الإسلامي أو حتى قبل ذلك. فابن العديم يكثر من الإشارات إلى ماضي حلب العريق قبل الفتح الإسلامي، ومن هنا اهتمامه بـ"ما ورد من الكتابة القديمة على الأحجار بحلب"، و ذكره لكنائس حلب القديمة وما حلّ بها، وهو بذلك يقدّم النموذج الذي سار عليه من جاء بعده من المؤرخين مثل ابن شداد في كتابه المرجعي "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة".
وأخيرا، وهو الأهم، إن كتاب ابن العديم يأتي في وقته الآن ليعيد الاعتبار إلى حلب وما كانت عليه في الماضي من ازدهار عمراني وتجاري إلى وقت المؤلف حتى أنه قال عنها "وما بحلب موضع خراب أصلا"، ثم ما حلّ بها من خراب على يد المغول واضطرار المؤلف للجوء إلى مصر وانكساره لرؤية ما حلّ بها من خراب بعد عودته حتى أنه لم يعد يتحمل الحياة فيها.
ولكن سحر حلب وحبّ الحلبيين لمدينتهم عملا على استعادة حلب لماضيها وازدهارها. وفي هذا السياق يقدم لنا كتاب ابن العديم توثيقا لكثير من المنشآت التي بنيت في حلب، وهو بذلك يقدّم لنا خريطة طريق لإعادة إعمار حلب بعد الخراب الأخير الذي حلّ بها على يد المغول الجدد الذين لا تعنيهم قيمة أحجارها أو آثارها التي حرص ابن العديم على قراءة ما كُتب عليها حتى يحفظها للأجيال القادمة.
ملاحظة: نشر هذا المقال بإذن الدكتور محمد م. الأرناؤوط، وقد تم نشره أيضا في جريدة "العربي الجديد"، بتاريخ 13 يونيو 2017
Reviews
There are no reviews yet.