أهمية التراث العلمي العربي

شارك:

أحمد فؤاد باشا

محتويات المقال:
أ- مظاهر وأسباب الاهتمام الدولي بالتراث العلمي
ب- أهمية التراث العلمي العربي معرفيًا وتقنيّا وحضاريًّا
ج - التراث العلمي العربي زاد للحاضر والمستقبل
خاتمة

شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين اهتماما متزايدًا بعلوم الحضارة العربية الإسلامية، سواء من جانب الدارسين العرب والمسلمين أو من جانب المستشرقين والفلاسفة ومؤرخي العلم الغربيين على حد سواء. ولكن البعض يتساءل أحيانًا عن جدوى البحث في كتب قديمة تعود بنا إلى ألف عام أو يزيد.

ولماذا تبذل كل هذه الجهود المضنية في رصد المخطوطات أو جمعها وفهرستها وترميمها وحفظها، ثم في تحقيق نصوصها ومعالجة نماذجها نسخًا وقراءة وحلا لمشكلاتها واستجلاء لغوامضها، ثم في تناولها بالدراسة والتحليل بحثا عما يمكن أن تتضمنه من معلومات قد تفيد أو لا تفيد؟

مخطوطة عربية ، قديمة ، معنونة تحت اسم علم تشريح العين

وأنصار هذا الاتجاه في التعامل مع التراث العلمي – رغم قلتهم – ينكرون الماضي تمامًا ويزدرون أي محاولة لإحياء تراثه. ويوجد في ساحة الفكر العربي من يتبنى هذا الموقف الرافض لأي ربط بين التاريخ والحاضر بحجة أنه لا يصمد أمام أي تحليل عقلي دقيق، حتى وإن كان يفيد في استنهاض الهمم ورفع المعنويات، فليس في التاريخ البشري – فيما يزعمون – أمجاد معنوية تتحول إلى جزء من «الجينات» المكونة لشعب من الشعوب وتظل كامنة في أفراده على شكل استعداد للنهوض ينتظر اللحظة المناسبة لكي يصبح واقعا متحققًا. بل إن هناك، بكل أسف من أبناء بلدتنا – نحن معشر العرب والمسلمين – من يعلن صراحة أن إحياء التراث إنما يكون بقتله!!.

وإذا كان لأنصار ما يسمى «القطيعة المعرفية» حجمهم ومبرراتهم، فإن قضية الدفاع عن التراث العلمي وأهميته من القضايا التي تثار بين الحين والحين في مؤتمرات وندوات عالمية، وكان – ولا يزال – الحديث عنها مرتبطًا بمبحث تاريخ وفلسفة العلم. فقد تساءل «روبرت هول» في خطابه أمام الجمعية البريطانية لتاريخ العلوم سنة 1969م عما إذا كان من الممكن أن يصبح تاريخ العلم تاريخًا؟، أي يصبح مجرد شيء من الماضي:

وفي عام 1991م عقدت في فلورنسا ندوة لمناقشة المكانة التي يمكن أن يحتلها تاريخ العلم والتقنية في المجتمع الأوروبي المعاصر، وهي تماثل ندواتنا التراثية على المستوى القومي. وفي سبتمبر من عام 1997م ألقى «جون هيدلي بروك» كلمة في الاحتفال بالعيد الخمسين (الذهبي) للجمعية البريطانية لتاريخ العلوم الذي أقيم بمشاركة الاتحاد البريطاني لتقدم العلوم، وجعل عنوان كلمته السؤال التالي: هل هناك مستقبل لتاريخ العلوم؟

وكان دافعه لهذا التساؤل أننا نسمع أحيانًا شائعات تردد أن نهاية العلم قد اقتربت، ولن يبقى هناك شيء نحتاج إليه من العلم بعد ما نتمكن من استنساخ الإنسان ونتوصل إلى تفسير لحظة الخلق .. ألا تعني نهاية العلم نهاية لتاريخه؟!.. ثم يقول «بروك» معلقًا: «من الواضح لأول وهلة أن هذا غير ممكن، ومع ذلك فإن المؤرخين مشغولون بهذه القضية التي يزداد الحديث عنها من نهاية كل من القرون الأربعة الأخيرة».

ونحن من جانبنا نقول: إذا افترضنا جدلاً أنه بالإمكان قطع الصلة بالتراث، فهل ستفعل ذلك معاهد ومؤسسات الاستشراق المعنية بتراثنا؟! إننا نعرض في هذه المحاضرة بعض جوانب القضية المثارة قوميًا وعالميًا.

أ- مظاهر وأسباب الاهتمام الدولي بالتراث العلمي

يقول مؤرخ العلم المعاصر «جان دومبريه» «إن التراث العلمي لا يزال مجال عمل ضخم لم يتم». ويدعم صحة هذه المقولة ما تشهده حركة إحياء التراث العلمي منذ عدة عقود من نشاط منظم على مستوى العالم يهدف على إعادة نشر الأعمال الكاملة لكبار العلماء، على اعتبار أنه مسؤولية تستوجب الرعاية والتعاون من جميع الدول، بما في ذلك الدول الغنية من العالم الثالث. فقد حدث أن لجأت الهيئات المسؤولة عن نشر الأعمال الكاملة للعالم الشهير «برنوللي» إلى تدعيم جهدها عن طريق الاكتتاب العالم، ويجري حاليًا إعداد طبعة جديدة لهذه الأعمال.

Jazari built this water-raising

من خلال التعاون بين أكثر من سبع دول، وسوف تصدر أجزاء هذه الطبعة تباعا في نحو خمسة وأربعين مجلدًا. كذلك أمكن إصدار مجموعة الأعمال الكاملة لعالم الرياضيات المعروف «أويلر» عن طريق الاستعانة بإمكانيات ست دول، بالرغم من أن قاعدة العمل كانت تقع جغرافيا في سويسرا.

وقد شرعت الولايات المتحدة الأمريكية حديثًا في تبني هذا المبدأ لإصدار أعمال العديد من العلماء أمثال: «جاليليو» في إيطاليا، و«نيوتن» في إنجلترا، و«جاوس» في ألمانيا، و«ديكارت» و«لابلاس» و«لاجرانج» في فرنسا، وغيرهم. ولا ينبغي أن يدهش المرء لطول الوقت الذي يستغرقه إنجاز مثل هذه المشروعات، ناهيك عن ضخامة التكلفة، فقد استغرق إصدار أعمال عالم الرياضيات الشهير «كوشي» أكثر من خمسين سنة.

ويواكب هذا الاهتمام العالمي بعملية إحياء التراث العلمي نشاط مكثف لمعالجة قضايا تاريخ العلم، تتجلى مظاهره في إنشاء الأقسام والمؤسسات الأكاديمية المتخصصة في الكثير من جامعات العالم، وإصدار أكثر من مائة مجلة دورية متخصصة في تاريخ العلم ككل، أو في موضوع محدد من موضوعاته، أو في مرحلة زمنية معينة من مراحل تطوره عبر العصور. يضاف إلى ذلك ما يعقد من مؤتمرات دولية في تاريخ العلم بصورة دورية تقريبا كل ثلاث أو أربع سنوات، منذ عام 1929م، وقد بلغت حتى الآن واحدًا وعشرين مؤتمرًا، عقد أحدها في القدس عام 1953م، وكان آخرها في المكسيك عام 2001م وعنوانه «العلم والتنوع الثقافي»Science and Cultural Diversity 1.

ولا نجد في تعليقنا على هذا العرض الموجز لخريطة الاهتمام العالمي بقضايا التراث العلمي أفضل من كلمات «جان دومبريه» التي تقرر وجود فجوات واسعة في الأعمال التي تضمنتها هذه النشاطات، إذ «ليس للعلماء غير الغربيين أي وجود بها، كما أنهم لم يحظوا حتى بالإعلام بأي أسلوب شامل. وفضلا عن ذلك فإن علماء الرياضيات والفلك يظهرون بصورة أبرز من التي يظهر بها الجيولوجيون وعلماء التاريخ الطبيعي عمومًا. وهذا يؤدي إلى الانحياز بصورة منفردة، فنحن اليوم لا نزال نعرف شارحي إقليدس، بدءًا من ثابت بن قرة إلى أديلارد البائي، ومن جيرار الكريموني إلى عمر الخيام الذي لا يمكن إنكار أنه كان أيضًا مبدعًا وشاعرًا وعالما في الرياضيات».

ونضيف من جانبنا أن هذا التحيز الواضح في الاهتمام العالمي بتراث العلماء الغربيين دون غيرهم يجب أن يقابله جهد مكثف من جانب أصحاب الحضارات المختلفة التي أسهمت في صنع التقدم العلمي والتقني عبر الأجيال، وخاصة أبناء الحضارة العربية الإسلامية التي ظل علماؤها الرواد لأكثر من ثمانية قرون طوال يشعون على العالم علما وفنا وأدبا ومدنية، ولا نعرف اليوم شيئا عن أغلب مؤلفاتهم ومخطوطاتهم المفقودة، أو التي لا تزال بكرًا في مظانها المختلفة بأنحاء متفرقة من العالم، تنتظر من يتولى البحث عنها وإحيائها لتحظى من جموع الباحثين بدراسات تحليلية معاصرة.

وليس هناك من شك في أن مثل هذه الدراسات التراثية للعمل الإنساني من شأنها أن توضح أهمية التحليل المنطقي لتاريخ العلوم وتقنياتها، فلا يمكن لأي باحث منصف مدقق إلا أن يضع النشاط العلمي والتقني في سياقه التاريخي العام، على اعتبار أن هذا النشاط عملية ممتدة ومتصلة خلال الزمان، ولن يوجد فهم واقعي للعلم بدون نقد متواصل له، فليس ثمة معرفة إنسانية لا تفقد طابعها العلمي متى نسي الناس الظروف التي نشأت في أحضانها، وأغفلوا المسائل التي تولت الجواب عليها، وحادوا عن الهدف الذي وجدت أصلا من أجله، ومن هنا يستحيل الفصل بين التراث العلمي ومراحله التاريخية، نظرًا لأهمية تاريخ العلم في صياغة فلسفة العلم ونظريته العامة وإذا ما ران على العلم جهل بتاريخه، فإن لا محالة مخفق في مهمته.

وإذا كانت الخبرة الإنسانية تدعونا إلى الاعتبار بدروس التاريخ، فإن تاريخ العلوم لا يدلنا فقط على المراحل الزمنية للتغيرات التي شهدها، ولكننا نتعلم منه أيضًا أن المشكلات والقضايا العلمية التي تواجهنا الآن ليست جديدة تمامًا، فالأساليب التي عولجت بها هذه القضايا في ظروف مغايرة عبر العصور لن تخلو أبدًا مما يمكن أن نفيد منه اليوم وغدًا. ولذا فإن أية نظرية تطرح لنقد العلم قديمًا وحديثًا تكتسب أهميتها من المبررات المنطقية التي تقدمها كمسوغ لإعادة قراءة تاريخ العلوم في ضوء المرحلة التي يبلغها من تطوره على أساس ما يستجد دائمًا من أفكار تتعلق بالجوانب المختلفة لنظرية العلم والتقنية، بحيث تجعل من هذه القراءة المعاصرة أساسًا لتحليل الواقع واستشرافا لآفاق المستقبل.

ومن هنا نعثر على السبب الحقيقي وراء الاهتمام العالمي المتزايد بإعادة تحليل تاريخ العلم والتقنية برؤية موضوعية قدر الإمكان من خلال المؤسسات الأكاديمية والمجلات الدورية والترجمة والتأليف وإحياء تراث الإعلام في فروع العلم المختلفة.

ومن هنا أيضا تظهر بجلاء أهمية إحياء التراث العلمي للحضارة العربية الإسلامية، والعودة – من خلال الدراسات التأصيلية –بالعلوم التخصصية المعاصرة إلى جذورها في المجتمع الذي كان شاهدًا على ميلادها، والتعرف على طبيعة الظروف التي سمحت للمفاهيم والأفكار الوليدة أن تنمو وتزدهر، وتصبح بعد ذلك فروعًا في شجرة المعرفة، وروافد لا غنى عنها لتغذية الحضارة الإنسانية؛ ذلك بعد الحقائق العلمية ليست كلها على درجة متكافئة من الأهمية والدلالية عندما يتناولها المؤرخ بالتحليل والتفسير في أي عصر من العصور، كما أن قيمة العلماء ومكانتهم تتحدد بقيمة القوانين والنتائج العلمية التي يتوصلون إليها، وبمدى أثرها في دفع مسيرة التقدم العلمي والحضاري.

حتى عندما نتناول القضية من منظور قومي فيما يتعلق بالتراث العلمي العربي، فإننا نجد ما يناظرها بشكل خاص في أوروبا حيث يحظى تاريخ العلم الأوروبي اليوم باهتمام متعاظم من أجل تأصيل الثقافة العلمية الأوروبية. وطبقًا لما جاء في تقرير عن ندوة «تاريخ العلوم والثقافة العلمية في أوروبا» التي عقدت في فلورنسا عام 1991م للبحث عن جهود إحياء التراث العلمي في أوروبا المعاصرة والمكانة التي يمكن أن يحتلها تاريخ العلم والتقنية في المجتمع الأوروبي المعاصر، جاء في هذا التقرير أن العلم والتقنية ينظر إليهما كمكونات أساسية للعزّة القومية: لذلك فإن التأريخ لهما يميل عادة إلى اتخاذ شكل «الدفاع والمباهاة» فيما يتعلق بالمجتمعات العلمية للبلد المعني، ومن سماته المثيرة في معظم البلدان الأوروبية ميله إلى النمو في إطار قومي بالضرورة، على الرغم من العديد من اللقاءات والصلات الدولية القائمة بين الباحثين. ويتجلى الانحياز المقصود، أو غير المقصود، بوضوح عند مؤرخي بلد ما عند اختيارهم لموضوعات البحث، مثال ذلك: الثورة الصناعية (الصلب والبخار والمنسوجات) في إنجلترا خلال القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وصناعة الحديد والصلب في السويد في القرن الثامن، والميكانيكا والهيدروليكا في إيطاليا في عصر الاكتشافات، وهلم جرا. والنتيجة الواضحة لهذه الظاهرة هي صورة مشوهة لتطور العلم والتقنية في أوروبا، وهي تشبه منظرًا طبيعيًّا لا تظهر فيه سوى قمم الجبال.

كذلك أشار هذا التقرير الهام إلى وجود قدر كبير من الغموض يحيط بموضوع «الأسلوب القومي في تاريخ العلم» وتعدد الرؤى حول مشاهير العلماء في ضوء التعددية الثقافية الأوروبية، واعتبرت الندوة هذا الموضوع جديرا بالبحث المنهاجي.

وفي محاولة لإيضاح الأهمية البالغة لتاريخ العلم والتقنية في أوروبا المعاصرة وانتشار الفهم العميق للماضي العلمي والتقني يركز التقرير على النقاط التالية:

(1)- إن أول نقطة جديرة بالملاحظة حول تاريخ العلم والتقنية في أوروبا هي أن هذا التاريخ حي، وأنه تحت رعاية مجموعة كبيرة من الباحثين في مختلف الدول الأوروبية، ولكن مستوى العلم المؤسسي يكاد يكون غائبًا، حيث يتناثر الباحثون في جهات أكاديمية متعددة: كليات العلوم وكليات التاريخ وأقسام الفلسفة وما إليها. واقترح البعض مناقشة تأسيس اتحاد أوروبي وإصدار دورية أوروبية لتاريخ العلم والتقنية، بالإضافة إلى إجراء مشروعات مشتركة على أساس تعاوني، مثل طبع الأعمال الكاملة لكبار العلماء.

(2)- إذا كان العلم يوصف هذه الأيام بأنه «معرفة بدون ذاكرة»، وأنه يشق طريقه إلى الأمام دون التفاتة واحدة إلى الخلف، وذلك بسبب انغلاق الباحثين على أنفسهم في حاضر دائم واعتمادهم على مراجع لا يزيد عمرها على بضع سنوات .. فإن «فقدان الذاكرة المقنن» هذا قد أسهم في وقت من الأوقات في زيادة فاعلية المشروع العلمي، أي أنه أصبح الآن مضادًا للإنتاجية. والباحثون المحرومون من الثقافة التاريخية، والمنعزلة عن الأسس التي تقوم عليها علومهم يكونون أكثر عرضة لأن يضلوا طريقهم ويضاعفوا أخطاءهم. وكما اتضح جليًا من رواية «ذاكرة الماء»، فإن أولئك الباحثين قد يظلون دائرين في حلقات مفرغة، أي في مسارات سبق اكتشافها من قبل، واتضح أنها تفضي إلى نهايات مسدودة .. وبعض الاكتشافات التي تقدم اليوم على أنها إنجازات ثورية وإبداعية غير مسبوقة، قد لا تكون في الحقيقة سوى إعادة تشكيل لبعض الأفكار القديمة التي أهملت وغمرها النسيان لسنين عديدة.

(3)- توقع المشاركون في هذه الندوة المعنية بالتأصيل الأوروبي للعلم، والتي اقتصرت المناقشات فيها على معالجة الموضوع في سياق أوروبي محض، توقعوا لمبحث تاريخ العلم والتقنية أن يؤدي دورًا كبيرًا في المستقبل، وأن يحتل مكانة بارزة في مجال التعليم، مع دور جوهري في ميادين التدريب الأولي، وأثناء فترة الخدمة. ويعني هذا بوضوح تدريب الباحثين في المقام الأول، وهو ينطبق أيضًا على المهندسين وطلاب العلوم الإنسانية والآداب، مما يتيح لهم مقدمة مسيرة لفهم حركة العلم والتقنية، واستيعاب ما فيها من طرق ومشكلات.

كذلك يوجد طوائف أخرى كثيرة من العاملين الذين يهمهم هذا الأمر، مثل صانعي القرار السياسيين ومستشاريهم، والمتخصصين في دراسة السياسات العلمية، ورجال الاقتصاد، ومحللي الابتكارات الذين يسعون إلى الحصول على معلومات وأدوات تمكنهم من مواجهة المشكلات المعاصرة، بل إن أعضاء هذه الندوة يرون أهمية قصوى لتاريخ العلوم وتقنياتها بالنسبة لجميع فئات المجتمع في الريف والحضر، باعتباره يمثل الحد الأدنى من المعرفة بعلم التاريخ وفلسفته العامة وبجوانبه الاجتماعية والسياسية والعلمية، من أجل ممارسة صحيحة لحق التصويت!

والآن، تُرَى هل يمكن أن نجد شيئا يخصنا فيما ذكرناه عن مظاهر وأسباب الاهتمام الدولي والأوروبي بقضايا التراث العلمي؟! ذلك الاهتمام الذي أخذ في الازدياد بصورة تلفت النظر خلال العقود القليلة الماضية، وخاصة بعد أن أظهرت الدراسات المتعلقة بتاريخ العلم وفلسفته أن الباحث الجيد هو الذي يكون على دراية تامة بأحدث ما توصل إليه زملاؤه في مجال تخصصه، وأن يكون في الوقت نفسه ملمًا إلمامًا كافيًا بأصول المفاهيم العلمية المتصلة بموضوع بحثه، وذلك من خلال متابعته الدقيقة لطبيعة نموها عبر مراحل تطورها. وهذا يعني أن الجمع بين الأصالة والمعاصرة في العلوم الطبيعية يعتبر من أهم سمات الباحث المتميز الذي يكون بلا شك أقدر من غيره على ممارسة البحث العلمي برؤية أعم ومنهج أصوب وذوق أرقى.

ب- أهمية التراث العلمي العربي معرفيًا وتقنيّا وحضاريًّا

التراث العلمي العربي يشمل جزءًا كبيرًا من التاريخ العلمي والحضاري فيما يخص الحضارة العربية الإسلامية ودورها الرائد في مسيرة الحضارة الإنسانية، بشهادة المنصفين من المؤرخين، لكن بعض المنظرين يغفلون هذا الدور العربي الإسلامي الرائد، في الوقت الذي يحاولون فيه أن يؤرخوا لنظرية العلم بإيجاد أساس لها عند أفلاطون وأرسطو في الحضارة الإغريقية، أو عند بيكون وديكارت ومل وغيرهم من رواد النهضة الأوروبية الحديثة، بل إننا نجد من يثني كثيرًا على ما يسمى «بالعلم العبري» «والعلم المسيحي»، كما تساق التبريرات الواهية لاعتبار إسرائيل ضمن الحضارات الكبرى القديمة في الشرق، وللإشادة بالعصر الذهبي للعبقرية السامية في حضارة بابل وآشور. ولم يستطع أكثر المؤرخين المعاصرين إنصافًا للحضارة العربية الإسلامية أن يخفي نزعته العرقية عندما تحدث عما أسماه «بالمعجزة اليونانية» وتفوقها على الحضارات المجاورة لها، قائلاً: «.. وحديثنا عن الماضي محدود من عدة وجوه، وأحد هذه الوجوه الضرورية أنه يجب علينا أن نقتصر على أسلافنا فحسب .. والواقع أن ثقافتنا النابعة من الأصل الإغريقي والعبري هي الثقافة التي تعنينا كثيرًا، إن لم تكن هي كل ما يعنينا .. والزعم بأنها بالضرورة أرقى الثقافات فيه خطأ وشر .. لأنني وإن كنت أرقى من جيراني فليس لي أن أقول ذلك، ولكن لهم فقط أن يقولوه، وإذا زعمت لنفسي شيئًا من العلو لا يستطيعون – أو لا يقبلون – أن يصادقوا عليه، فإن ذلك لا يثمر سوى العداوة بيننا».

وفي كتاب العلم في التاريخ لم يستطع المؤلف «جون ديزموند برنال» أن يخفي تحيزه الواضح إلى جانب الإغريق والفرس والرومان، في الوقت الذي يكيل فيه اتهامات متنوعة للإسلام دون أن يشرحها أو يدلل عليها. فالإسلام – فيما يزعم برنال – أقام ثقافة متلاحمة ظلت باقية إلى يومنا هذا بالرغم من أنها ليست ثقافة تقدمية، واللغة العربية – فيما يزعم برنال أيضًا – حجبت الدور الكبير للعنصر الفارسي في العلوم الإسلامية الشرقية، والمسلمون يتحملون مسؤولية كبيرة عن إقامة حواجز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية إلى يومنا هذا، بدعوى أنهم لم يترجموا إنسانيات الإغريق مثلما ترجموا معارفهم العلمية والفلسفية، فانتقلت الإنسانيات والعلوم إلى الثقافة الحديثة عن طريقين مختلفين. وينكر «برنال» مآثر علماء المسلمين ويقصرها فقط على مجرد حفظهم لمواريث القدماء، قائلاً: «رضي معظم علماء المسلمين بالنمط الكلاسيكي الأخير للعلوم، ووثقوا في هذا النمط ولم يكن لديهم أي طموح لأن يطوروه تطويرًا ثوريًّا».

وتجدر الإشارة أيضًا إلى بعض صور التحيز الواضح من جانب بعض المؤرخين عندما يتوجهون إلى التأليف في تاريخ العلوم وتقنياتها لإذكاء نزعة قومية، حيث نجد بينهم من يكتب عن علم غير غربي، لا ليؤكد حق حضارة أخرى أسقط دورها من حركة التاريخ الإنساني، ولكن لكي يثبت أسطورة الجنس الآري وتفوقه، ويؤكد مقولة أن العلم لا يمكن إلا أن يكون غريبًا. فعندما صنف «جوزيف نيدهام» وزملاؤه سبعة مجلدات ضخمة (بدأ إصدارها عام 1954م) عن العلم والحضارة في الصين، إنما كانوا يحاولون أن يفسروا السبب الذي حال دون أن تتبع التنمية في الصين نفس المسار الذي اتبعته الثورة العلمية الحديثة في أوروبا، ثم يسعون من خلال ذلك إلى تأكيد فرض ضمني مفاده أن العلم والتقنية اللذين أينعا بالفعل في أوروبا النهضة عالميان، وأن كل ما هو أوروبي لا بد أن يكون عالميًا. وغالبًا ما يطرح أمثال هؤلاء المؤرخين المتحيزين مسألة «العلم القومي»في صورة منافسة يحاول فيها كل فريق التصدي بحماس لا يخلو من المبالغة في كثير من الأحيان للرد على كل ما يقلل من شأنهم في ساحة الفكر العالمي.

وعلى غرار ما فعل «نيدهام» بالنسبة للعلم الصيني، أو شيء قريب منه، حاول «توبي هاف» مؤخرًا أن يجيب على سؤال: «لماذا ظهر العلم الحديث في أوروبا، على حين أن العالم العربي الإسلامي كان متقدمًا عن الغرب الأوروبي بكثير طوال الفترة التي مهدت لظهور هذا العلم؟»، وروَّج بالطبع لبعض المغالطات التاريخية في نقده للثقافة الإسلامية، لكنه لم يستطع أن يخفي جوانب التقدم التي يسميها «فجر العلم الحديث».

أما أولئك الذين حاولوا اختراق الثقافة الإسلامية من خلال دراستهم لتراثها العلمي، فقد تطرقوا لأمور من صميم العقيدة الإسلامية ذاتها وروَّجوا لأفكار خاطئة عن الإسلام والمسلمين. ومن أمثلتهم «أميلي سيفيج - سميث» الذي أورد في دراسة حديثة حول «الاتجاهات الجارية في دراسة العلوم والطب عند المسلمين في العصر الوسيط» كلاما مبتسرًا عن الطب النبوي والرسائل المؤلفة من قبل علماء الدين وليس من قبل الأطباء، على أساس اعتقادهم بأن المعرفة يمكن الحصول عليها فقط عن طريق الوحي والنبي محمد ﷺ وأعراف الصحابة المقربين وآرائهم. ويزعم «سميث» في دراسته أن رسائل الطب النبوي قد شاعت في مقابل الطب القائم على أساس إغريقي على أيدي فريق من الأطباء النطاسيين أمثال ابن جميع.

وفي مقال آخر بعنوان «العلم في خدمة الدين» يتخذ «ديفيد كنج» في خلال دراسته للتراث العربي الإسلامي مدخلاً لترويج أفكار خاطئة عن الإسلام، ويتخذ من هذا الستار العلمي رداء خادعًا، بحيث تبدو هذه الأفكار وكأنها تعبير صادق عن واقع الإسلام والمسلمين. ففي غمرة انشغاله بقضايا التراث الإسلامي المتعلقة بمسائل تحديد اتجاه القبلة واستطلاع أهلة الشهور القمرية، نجده يثير أسئلة لا تؤهله ثقافته للرد عليها، فهو مثلاً يتساءل عن سبب اعتماد المسلمين لخمس صلوات رئيسية فقط، زعمًا أن هذا التحديد لم يرد بشأنه نص صريح في آيات القرآن الكريم، أو في أحاديث الرسول ﷺ، ويظهر من خلال مناقشته لهذه القضية التي أقحمها على موضوع بحثه إقحامًا أنه يخلط بين الصلوات المفروضة وصلوات التطوع، ويسوق روايات من عنده تنسب إلى الرسول ﷺ قوله بأن صلاة الضحى بدعة موروثة، وأن هذا كان سببًا واضحًا – فيما يزعم – لحيرة المتأخرين وترددهم في ضم صلاة الضحى إلى الصلوات الخمس الرئيسية.

وفي كتاب تاريخ الطب يسير «جان – شارل سورنيا» على درب أسلافه ليوهم القارئ الغربي بأن المؤمنين في بلاد الإسلام اليوم يؤسسون علمهم الطبي على «الطب النبوي»، وأن كتاب القانون في الطب لابن سينا ركام غامض لا يتضمن أي فائدة عملية للمرضى، في الوقت الذي يقرر فيه – مناقضًا نفسه – أن هذا الكتاب ظل خلال ثمانية قرون من عمر الطب الغربي أحد المصادر الأساسية للحقيقة، ومادة تعليمية إجبارية في الجامعات الأوروبية.

إن مثل هذه المواقف المتحيزة بدرجات متفاوتة للعلم الغربي، بل لكل ما هو غربي، على حساب الإنجازات الحضارية للأمم الأخرى بصورة عامة، والأمة العربية الإسلامية بوجه خاص، ومثل هذه الدعاوى والافتراءات الموجهة ضد الإسلام، والمشككة في قدرات العقلية العربية الإسلامية وأصالة الفكر العلمي الإسلامي، والمشوهة لحقائق التاريخ والعلم على حد سواء، هو الذي يدعونا دائمًا إلى البحث في كنوز التراث لتأصيل الثقافة العربية الإسلامية وإعادة صياغتها بما يلائم إيقاعات العصر، وتوقعات المستقبل، وذلك في إطار الإلمام الواعي بكل الخصائص والقسمات الحضارية التي تخصنا وتميزنا عن الآخرين.

من ناحية أخرى، يجب أن نثني في جميع الأحوال على ما يبديه الباحثون الغربيون من اهتمام متزايد بالتراث العلمي عند العرب والمسلمين، وعلى تفوقهم بالنسبة لما لديهم من معاهدة وأقسام علمية ودوريات متخصصة في هذا المجال، مقارنة بما هو موجود في العالم العربي الإسلامي، الأمر الذي يفرض علينا مضاعفة الجهود للحاق بركبهم ومشاركتهم في كتابة ما يخصنا من تاريخ العلم والحضارة.

ولا بأس هنا من الإشارة إلى نموذج جدير بأن يُحْتَذَى بالنسبة لفروع العلم المختلفة، فقد استطاع كل من الدكتور محمد ظافر الوفائي، والدكتور محمد رواس قلعجي أن ينجزا تحقيق ونشر كل ما كتب عن طب العيون (علم الكحالة) في الحقبة الإسلامية، استكمالاً لما بدأه «ماكس مايرهوف» محقق كتاب عشر مقالات في العين لمؤلفه حنين ابن إسحاق (طبع في القاهرة عام 1928م)، «وهير شبيرج» الذي نشر عام 1925م مقتطفات من بعض المخطوطات العربية؛ نور العيون وجامع الفنون، الكافي في الكحل، المنتخب في علم العين، والدكتوران مصطفى شريف العاني وحازم البكري اللذان حققا كتاب نهاية الأفكار ونزوة الأبصار لمؤلفه: عبد الله بن قاسم الحريري الأشبيلي البغدادي (نشر في بغداد عام 1979م).

ومهما يكن من أمر، فإن التأصيل لنظرية العلم عمومًا يكون مقبولاً في إطار المعالجة الموضوعية لطبيعة المعرفة العلمية في كل مرحلة تاريخية من مراحل تطورها، ولم يعد مقبولاً في عصرنا – أكثر من أي وقت مضى – أن يصر بعض الذين يؤرخون للعلم من منطلقات مذهبية أو تعصبية على طمس حقائق التاريخ العلمي لاحتكار شرف الإنسانية في نشأة العلم ومناهجه لجنس بعينه دون بقية الأجناس.

ج - التراث العلمي العربي زاد للحاضر والمستقبل

إن الفوائد التي نجنيها من تحقيق تراثنا العلمي ودراسته عديدة ومتنوعة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

(1)- إثراء المدخل التاريخي في تدريس العلوم، وتنمية الحس النقدي والثقة بالنفس لدى الناشئة، والوقوف على طبيعة التطور العلمي ومنهجية البحث والتفكير في العلوم المختلفة.

(2)- كشف حالات الغش الفكري والقرصنة العلمية من قبل بعض المؤرخين والنَقَلَة والمستشرقين في حق تراثنا العربي والإسلامي.

(3)- التأصيل الجيد لمختلف فروع العلم المعاصر (البصريات – الصوتيات – الوراثة – البيئة – الشفرة – الجيولوجيا – الفلك ... إلى آخره).

(4)- الكشف عن المزيد من النظريات والاختراعات المتقدمة في التراث الإسلامي. ونسوق مثالاً على ذلك: قوانين الحركة والجاذبية التي اكتشفها ابن البغدادي والحسن الهمداني قبل نيوتن بعدة قرون.

يقول ابن ملكا البغدادي في كتاب المعتبر في الحكمة معَبِّرًا عن تناسب القوة مع تسارع الحركة: «.. القوة الأشد تحرك أسرع وفي زمن أقصر»، ويقول معًبِّرًا عن قانون الفعل ورد الفعل: «إن الحركة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين في جذبهما قوة مقاومة لقوة الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل جانب».

ويقول الهمداني عن الجاذبية الأرضية في كتاب الجوهرتين:«.. فهي – أي الأرض – بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قواه الحديد من كل جانب». وهنا لا ينبغي التعامل مع هذه النصوص التراثية دون اعتبار لفارق الزمن، فليس من قبيل المبالغة – كما يقول سبايسر ودي جراف – القول بأن نحو (دستة) من الطلاب  فقط هم الذين قرؤوا واستوعبوا كتاب برنسيبا الذي وضعه إسحاق نيوتن عام 1678م خلال الخمسين عامًا التالية بنشره، وأن عددًا قليلاً قد درسوه خلال قرنين ونصف بعد ذلك .. ويرجع ذلك إلى الصعوبة البالغة للموضوع وغموض اللغة التي كتب بها، بل إن المعادلات الشهيرة المنسوبة إلى نيوتن داخل الكتاب لا توجد بالصورة التي تعرف بها اليوم، وإنما وضعت في صورتها المألوفة لدينا عام 1750م فقط على يد العالم «أويلر»، فالكتاب لا يحتوي إلا على عدد قليل جدًا من الصياغة الدقيقة، ويقصر نيوتن دراسته فيها على منظومات ذات كتل نقطية ويتناول الأجسام الجامدة تناولاً طفيفًا ولا يتطرق مطلقًا للأجسام المرنة.

وإن شئنا مثالاً آخر أبرز «ديفيد كينج» أن رسالة السلطان الأشرف اليمني (ت1296م) تحتوي على أول إشارة مبكرة في المصادر الفلكية البسيطة إلى بوصلة مغناطيسية، وذلك على الرغم من أن السلطان لم ينسب هذا الابتكار لنفسه.

وقد ألحقت هذه الرسالة جائزتين من أستاذه السلطان تشهدان له بصحة ستة إسطرلابات صنعها الأشرف بنفسه. ويوجد أحد هذه الإسطرلابات حاليًا في متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك، بالرغم من أن مدى أصالته كان مدار تساؤل قبل نشر فهارس «ديفيد كينج». وتجدر الإشارة هنا إلى أن «ديفيد كينج» نشر في عام 1983 مجلدًا عن علم الفلك الرياضي في اليمن الوسيط، استعرض فيه أكثر من مائة مخطوطة فلكية يمنية محفوظة في مكتبات أوروبا والشرق الأوسط، وقدم قائمة بأكثر من خمسين فلكيا يمنيا مع مؤلفاتهم بعد أن عرض تاريخ علم الفلك في اليمن من القرن العاشر إلى أوائل القرن العشرين، كما تضمن الكتاب مؤلفين في الحساب، المساحة، والمعضلات المتعلقة بتحديد أنصبة الميراث.

(5)- يمكن توظيف نصوص جيدة من التراث العلمي العربي في أغراض التأصيل لمناهج البحث العلمي ونظريات فلسفة العلم المعاصرة، ويكفي أن نشير هنا على سبيل المثال إلى ما ذكره ابن الهيثم في مقدمة كتابه المناظرة عن المنهج العلمي ومقارنة بآراء «فرنسيس بيكون» وغيره في مقدمة كتابه في الشكوك على بطليموس ومقارنته بمبدأ التكذيب المنسوب إلى «كارل بوبر»، كما نشير إلى الثورة العلمية التي بدأت بجبر الخوارزمي وبصريات ابن الهيثم وجاذبية الهمداني وغيرهم في ضوء آراء «توماس كون». وهنا يجد الباحث في تراثنا العلمي مددًا متدفقًا لدراسات مستقبلية مقارنة في مجالات الفكر العلمي.

(6)- تتضمن مخطوطات العلوم إفادات مباشرة وغير مباشرة تعني مؤرخي الحضارة. مثال ذلك أن كتاب أبي الوفاء البوزجاني في المنازل السبع تضمن أدق البيانات عن الضرائب ونظام الخراج وأعطيات العساكر، مما يعد إضافة فريدة لا توجد في غيره، وأن كتاب التيسير في صناعة التدبير لابن زهر الإشبيلي اشتمل على تفاصيل مهمة عن الصراعات الداخلية والدسائس في أسرة الدولة المرابطية بالمغرب، وهو كتاب طب لا يقصده الباحث عادة لمثل هذه الإفادات وكتاب أنباط المياه الخفية للكرجي به تفاصيل لغوية وشرعية، والعكس صحيح فكتب التاريخ تفيد في بعض قضايا العلم الحديث (مثل الفلك).

(7)- يمكن الإفادة من التراث العلمي العربي في ميادين تطبيقية عديدة، نذكر منها:

  • بفضل المعلومات الجيولوجية والتعدينية التي تضمنها كتاب الجوهرتين للهمداني، اهتدت بعثة المسح الجيوفيزيائي لمعرفة موارد اليمن المعدنية والبترولية إلى اكتشاف العديد من المناجم المهمة التي تحتوي على خدمات الزنك والحديد والرصاص، إلى جانب الفضة، بكميات تجارية.
  • كتب باحث غربي عن الفولاذ الدمشقي بأنه أكثر أنواع الفولاذ صلابة، وسرد تاريخ دراسته من جانب الأوروبيين، وأشار إلى أهميته في الصناعات الحديثة.
  • جاء في عدد من الكتب التراثية وصف للهزات الزلزالية التي تعرضت لها البلدان العربية والإسلامية خلال القرون الماضية، منها: كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني، كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس، وكتاب كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة لجلال الدين السيوطي، وغيرها. ولا شك أن مثل هذه المؤلفات التراثية تعتبر بمثابة سجلات زلزالية موثقة على أساس من الملاحظة والتجريب، والاسترشاد بما جاء فيها عن كل ما يتعلق بظاهرة الزلازل وتواريخ حدوثها ودرجات تأثيرها في المنطقة العربية والإسلامية خلال القرون الماضية يعتبر ضرورة منهجية ومعرفية لأي دراسات معاصرة أو مستقبلية تتعلق بخرائط التوزيع الزلزالي وتوقعات حدوث الزلزال في منطقة ما، وخاصة بعد ما ظهر حديثًا ما يشير إلى أن أجزاء كثيرة من الأرض العربية والإسلامية لم تعد بعيدة تمامًا عن «الأحزمة» النشطة زلزاليًا في أماكن محددة من العالم.
  • يزخر التراث الإسلامي بالعديد من المؤلفات في مجالات علوم النبات والحيوان والعلوم الزراعية وعلم الرعي والمراعي، فنذكر منها كتاب: النبات للذينوري، وكتاب جامع فرائد الملاحة في جوامع فوائد الفلاحة لرضي الدين بن محمد الغزي، وكتاب الفلاحة النبطية لأبي بكر أحمد بن وحشية، وكتاب الفلاحة الأندلسية لأبي زكريا محمد بن العوام الإشبيلي. وقد ترجم هذا الكتاب الأخير في القرن التاسع عشر الميلادي إلى الإسبانية والفرنسية، وقال عنه «أنطوان باسي» في تقرير قدمه سنة 1859م إلى الجمعية الوطنية الزراعية الفرنسية: إنه موسوعة زراعية تامة تفرد بها القرن الثاني عشر الميلادي، وقال عنه مؤرخ الحضارة «ول ديورانت» أنه أكمل بحث في علم الزراعة ألف في القرون الوسطى برمتها. ويمكن الإفادة من هذه المؤلفات التراثية حاضرًا ومستقبلاً في تحديد العوامل الأكثر أثرًا في زحف الملوحة والجفاف على مناطق عديدة من الأرض العربية والإسلامية التي تعجز الآن عن تلبية احتياجات أهلها بعد أن كانت تجذب في عصور الازدهار الإسلامي كل الأوروبيين بجمالها وخيراتها. ويبقى على المهتمين والمختصين أن يدرسوا أنواع النبات بهذه المناطق، وكيفية نموها والعناية بها وبيئاتها. والأسماء العربية للنباتات كثيرة في التراث العلمي الزراعي وتحتاج من المحققين العرب الهمة والدأب للكشف عن كنوز علمية وتعريبية في غاية الأهمية للأجيال العربية القادمة.
  • توجد مؤلفات تراثية عديدة يمكن الإفادة منها في مجال طب الأعشاب الذي برع فيه علماء السلف ولا يزال معتمدًا في أكثر الدول، فقد أنشأت الهند والصين وباكستان معاهد وكليات لتدريسه، وتجري فيه بحوث تطبيقية في أكثر من مؤسسة بمصر والمملكة العربية السعودية، ويدعو بعض الباحثين الغربيين إلى إحياء تدريس «الطب العربي» وإنشاء اللوائح والأنظمة الضابطة للأطباء والصيادلة الممارسين له. ومن الملاحظ أن علماء أوروبا وأمريكا بدؤوا يعيدون قراءة هذه المؤلفات التراثية بعد أن قل الاهتمام بها لفترة أمام التطور العلمي والتقني، وشرعوا في إجراء التجارب على الوصفات الشعبية التي وردت فيها في محاولة للكشف عن أدوية جديدة للأمراض، وفي السنوات الأخيرة زاد اهتمام شركات الأدوية في ألمانيا والدنمارك وهولندا وإيطاليا وأمريكا بها الموضوع وطلبوا من مصر وبعض دول المشرق شراء بعض النباتات مثل ورق السكر لتصنيع البنج الموضعي، وبذور الرجلة لعلاج الأرق، وغيرها. وإذا علمنا أن هناك كثيرًا من الأمراض لا تزال تنتظر تطوير العلاج اللازم لها، وأن العلماء يبحثون في كل مكان، في أعماق الغابات وقيعان المحيطات، عن أعشاب تخلص البشرية من الأمراض الصعبة وأن كتب التراث لا تزال كنزا لم تصل إليه أيدي الباحثين، أدركنا أهمية التراث في عصرنا هذا، وتزايد حاجاتنا إليه في المستقبل.
  • يهتم الباحثون المعاصرون بدراسة الأساس العلمي للتصميمات الهندسية التي قامت عليها تقنية العقود والقباب بأشكالها المختلفة وزخارفها المتنوعة، وذلك لإظهار قيمتها الجمالية الفائقة من جهة، ولإرشاد المعنيين برعاية الآثار قبل الشروع في أعمال الترميم والصيانة وإعادة البناء والتركيب والزخرفة، من جهة أخرى. ونشير هنا إلى أهمية الأبحاث التي تجري حاليًا حول هندسة العمارة الإسلامية في معهد أمير ويلز للآثار بلندن. أيضًا، يقوم العديد من الباحثين بتطبيق ما ورد في كتب التراث العلمي باستخدام الحاسب الآلي، وخرجوا بنتائج بالغة الطرافة والدقة والنفاسة من ذلك أن أكثر من باحث استعمل الصيغ الرياضية التي وردت في كتاب مفتاح الحساب لجمشيد الكاشي حول تصميم القبة والمقرنص والأزج أو الطاق، وأدخل تلك الصيغ في الحاسب الآلي لاستخدام تصاميم حديثة في العمارة الإسلامية.
  • كتب التراث العلمي والتقني تفيد كثيرًا في مجال التربية والتعليم لتدريب الطلاب على إعادة تركيب بعض الأجهزة والآلات البسيطة. فقد كان المهندسون والتقنيون في عصر الحضارة العربية الإسلامية يتبعون منهجًا علميًا رائدًا في كل أعمالهم، ويبدؤون في الحالات الصعبة برسم مخططات ثم يصنعون نموذجًا مصغرًا لما ينوون تنفيذه. وقد أعاد الفنيون المحدثون بناء العديد من التركيبات والآلات تبعًا للشروح التي قدمها التقنيون الإسلاميون في مؤلفاتهم، مثل كتاب الحيل لبني موسى شاكر، وكتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل لبديع الزمان الجزري، وكتاب الطرق السنية في الآلات الروحانية لتقي الدين بن معروف الدمشقي، وكتاب الأسرار في نتائج الأفكار لأحمد بن خلف المرادي. نفس الشيء ينسحب على الآلات والأجهزة والأدوات العلمية والفلكية التي طورها علماء الحضارة العربية الإسلامية. ومثل هذه الأعمال تفيد كثيرًا في الأغراض التعليمية، كما تفيد بالنسبة لمعارض ومتاحف العلوم. وقد قام أكثر من باحث بتحديث التعامل مع المعلومات التراثية لاستخراج أوقات الصلوات وتحديد المناسبات الإسلامية المهمة من الصيغ الرياضية المقتبسة من كتب التراث، وأمكن الاستعانة بالحاسب الآلي لوضع جداول حديثة لكل المدن في العالم في كل أيام السنة الشمسية. ونجد في عصرنا جهازا شبيها بالأسطرلاب الخطي، هو المسطرة الحاسبة الزلاقة Slide Rule التي كانت الآلة الحاسبة الأحدث المعتمدة في الأبحاث العلمية قبل ثلاثة عقود عندما انتشرت الآلات الحاسبة الإلكترونية (أجهزة الكمبيوتر).

خاتمة:

حاولنا فيما سبق أن نجيب بإيجاز شديد على السؤال المطروح بشأن جدوى العمل التراثي وما يقدمه التراث العلمي من فوائد للأمة في الحاضر والمستقبل .. ومن هنا نجد أنفسنا مطالبين باتخاذ موقف المدافع عن التراث والبحث عن أدلة مقنعة تؤكد أهميته ومكانته في حياتنا المعاصرة والآتية، في الوقت الذي نجد فيه أناسا زالت حضارتهم واندثرت على مر العصور، وغدت لغتهم أغرب من أن يتكلمها حتى المنتمون إليها، ومع ذلك فلا يزالون يعتزون ويفخرون بما يسمونه «حضارتهم»، مع أنهم لم يقدموا للإنسانية إلا المآسي تعقبها المآسي.

إن قضية التراث العلمي العربي الإسلامي في جوهرها «قضية وجود ومصير ربما تكشف عنها حقيقة ذاتها وطاقاتنا، تضيء لنا معالم وآفاق الطموح»، وهي قضية «تتسع أبعادها زمانا، وتستوعب الماضي والحاضر والمستقبل، كما ترحب مكانا وتتجاوز حدود وطننا العربي». وإذا كنا بهذه الكلمات مدركين لأهمية تراثنا ولا نعمل على رعايته والإفادة منه في حاضرنا ومستقبلنا، فتلك مصيبة، وإن كنا غير مدركين لذلك فالمصيبة أعظم...!


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مدخل إلى تحقيق المخطوط العربي،2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 1-22.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني

يمكنكم الاستماع إلى هذه المحاضرة على قناتنا على اليوتيوب

Back to Top