تاريخ المخطوط العربي

شارك:

عبد الستار الحلوجي

من المعلوم أن الكتب لا توجد في أمة من الأمم إلا إذا توافرت لها عناصر ثلاثة هي:

أ - وجود كتابة وكُتّاب.

ب- وجود مواد صالحة لتلقّي الكتابة وتكوين الكتب.

ج- وجود تراث يحرص الناس على تسجيله واقتنائه.

مخطوطة علم الصرف والنحو
Kantonalni arhiv Travnik-Inv-br 79_Arapski rukopis_Godina870-1465
فهرس المخطوطات العربية والتركية والفارسية في أرشيف إقليم ترافنيك، من منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، إعداد مصطفى يحيتش

وقد عرف العرب الكتابة قبل ظهور الإسلام، وكان منهم من يجيد القراءة والكتابة. والأدلة على ذلك كثيرة يأتي على رأسها أن القرآن الكريم عند نزوله وجد من يكتبه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على كتابته، واتخذ كُتّابًا للوحي، كما اتخذ كُتّابًا للرسائل وآخرين للكتابة في شؤون المسلمين، وأن بعض الصحابة كان يكتب القرآن لنفسه، ومنهم من كان يكتب الحديث أيض .[1] و القرآن الكريم يثبت للعرب معرفتهم بالكتابة في العصر الجاهلي في أكثر من آية من آياته، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾]الأنعام: 91 [.﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأولين  واكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِي ﴾ً]الفرقان: 5 [.﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرَضِ يَنبْوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ أوَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كسِفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّه وَالْمَلائكِةِ قَبيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لرِقيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كتِابًا نَّقْرأه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ ]الإسراء[ 90-93

و الذين يجحدون القرآن ولا يؤمنون به لا يستطيعون أن ينكروا الدليل المادي الذي يثبت معرفة العرب بالكتابة في هذا العصر، ونعني به النقوش التي عثر عليها في طرق القوافل شمال باد العرب مثل نقشي زبد وحرّان المؤرخين في القرن السادس ميلادي، واللذين لا يدلان على معرفة العرب بالكتابة منذ ذلك التاريخ فحسب، وإنما يدلان أيضًا على أن الكتابة العربية التي كتب بها عرب الجاهلية قد تطورت عن الكتابة النبطية.

وإلى جانب النقوش والنصوص القرآنية، هناك أخبار أوردتها كتب التاريخ عن أناس كانوا يعرفون الكتابة في العصر الجاهلي، منها ما ذكره البلاذري في كتابه فتوح البلدان من أن الإسلام جاء وفي قريش بمكة سبعة عشر نفراً يكتبون، وفي الأوس والخزرج بالمدينة أحد عشر كاتبا[2]. ومنها أيضا ما ذكرته المصادر التاريخية عن عهود وأحلاف كتبت في الجاهلية مثل حلف ذي المجاز الذي كان بين بكر وتغلب، والذي فال عنه الحارث بن حلّزة:

واذكروا حلف ذي المجاز وماقدّم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل بنقض ما في المهارق الأهواء[3]

وفي أول العهد بالإسلام كتبت قريش صحيفة المقاطعة التي التزمت فيها بمقاطعة بني هاشم وبني المطلب. يقول ابن هشام فيما يرويه عن ابن إسحاق إن القريشيين " أجمعوا أمرهم على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم"[4]

وهناك أشعار جاهلية تشبّه الأطلال بالكتابة، منها قول امرئ القيس:

لمن طللّ أبصرته فشجانيكخط زبور في عسيب يمان

وقول عديّ بن زيد:

ما تبين العين من آياتهاغير نُؤّْي مثل خط بالقلم[5]

هذا عن الكتابة والكُتّاب. أما مواد الكتابة وأدواتها، فمن المعلوم أن العرب في العصر الجاهلي كتبوا على العسب والكرانيف واللّخاف )وهي الحجارة البيضاء الرقيقة (وعظام أكتاف الإبل وأضلاعها، كما كتبوا في الرقوق والمهارق. والرقوق هي الجلود التي ترقّق ليُكتب فيها، والمهارق أقمشة حريرية فارسية بيضاء كانت تُسقى الصمغ وتصقل ويكتب فيها[6]، وربما كتبوا على الردي. وليس من بين تلك المواد ما يصلح لتكوين الكتب غير الردي والرّق والمهارق. وقد عرفت تلك المواد في العصر الجاهلي وورد ذكرها في شعر هذا العصر كقول حاتم الطائي:

أتعرف أطلالا ونؤيا مهدّ ماكخطكّ في رقّ كتابا منمنما[7]

وإذن فقد عرف العرب الكتابة في العصر الجاهلي، وعرفوا مواد صالحة لتلقى الكتابة وتكوين الكتب وإن كانت تلك المواد عزيزة المنال. وبقي العنصر الثالث وهو الراث الذي يحرص الناس على تسجيله واقتنائه. ولم يكن لدى العرب في هذا العصر تراث غير الشعر. والشعر بطبيعته لا يستعصي على الذاكرة، والعرب أمة حافظة بطبيعتها بدليل اننا نجد رجاً كأبي عمرو الشيباني يروي شعر شعراء ثمانين قبيلة.[8] والشعر الجاهلي يحمل في ثناياه ما يدل على أنه لم يكتب في هذا العصر، وأنه كان ينتقل عبر الزمان والمكان بطريق الرواية الشفهية. ويمكن تلخيص هذه الأدلة في ثلاثة أمور:

أولها: ما نجده في هذا الشعر من خاف في الروايات. وهو خاف لم تسلم منه المعلقات التي زعم البعض أنها كتبت وعلقت على أستار الكعبة[9]، مما يدعم الرأي القائل بأنها لم تكتب في هذا

العصر وأن القصة كلها مختلفة.[10]

أما الدليل الثاني فهو ظاهرة الرواة الذين رووا هذا الشعر شفاهة حتى عصر التدوين، فقد كان لكل شاعر راوية أو أكثر ينقل عنه شعره ويذيعه بين الناس، فكان للأعشى راوية اسمه عبيد يصحبه ويروى عنه أشعاره:[11]

ألكني يا عُيَيْن إليك قولاستهديه الرواة إليك عني

وقول عُمَيْرة بن جعيل نادمًا على شعر قاله في هجاء قومه بني تغلب فلم يلبث أن ذاع بين العرب ولم يعد يستطيع له رداً:

ندمت على شتم العشيرة بعدمامضت واستتبّت للرواة مذاهبه
فأصبحت لا أستطيع دفعًا لما مضىكما لا يردَ الدرُ في الضرع حالبه[12]

ويروي أيضًا عن أبي هريرة أنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نكتب الأحاديث فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث سمعناها منك. قال: أ كتابا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضلّ الأممَ من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله.

 يقول ابو هريرة: فقلت: أنتحدث عنك يا رسول الله؟ قال: نعم، تحدثوا ولا حرج، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.[13]

ويعلل الخطيب البغدادي هذا النهي عن كتابة الحديث بأمرين:

أولهما: أن القرآن الكريم لم يكن قد اكتمل نزوله بعد، فكأنما خشي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخلط المسلمون بين كلامه وكلام الله سبحانه وتعالى،خاصة في تلك الفترة المبكرة من تاريخ الدعوة، فأمر بكتابة القرآن ونهى عن كتابة الحديث حتى "لا يُضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يُشتغل عن القرآن بسواه "، "ونُهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدّته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت والمميز بين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا  فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن و يعتقدون أن ما اشتملت إليه كلام الرحمن .[14]

و الثاني: الخوف من الاتكال على الكتابة وترك الحفظ خاصة في  تلك الفترة الأولى التي كان الإسناد فيها قريبًا. يقول الخطيب " و نهى على الاتكال على الكتاب لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان [15]وحيثما يؤمَن هذان الأمران، أو تكون هناك ضرورة للاستثناء، نجد تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، فقد سمح لعبد الله بن عمرو بن العاص بكتابة الحديث عنه حين اطمأن إلى أنه لن يخلط بينه وبين القرآن، وصرح لأبي شاه الذي قدم من اليمن ليتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه من ضعف  ذاكرته فقال: صلى الله عليه وسلم" اكتبوا لأبي شاه "[16] وينبغي ألا يُفهم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الكتابة على إطلاقها، فقد كان النهي منصبًا على كتابة حديثه خاصة، بدليل تكرار كلمة )عني (في الحديث ثلاث مرات.

ومن الثابت أيضا أنه لم تكن هناك نسخة من المصحف تحوي نص القرآن الكريم كاملا حين انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. ويبدأ عصر الراشدين بخلافة الصديق أبي بكر، وهي خلافة رغم قصر مدتها إلا أنها أرست دعائم الإسلام وقضت على المرتدين في شتى أنحاء الجزيرة العربية.

وفي حروب الرِّدَّة يخوض المسلمون معركة ضارية في اليمامة في العام الثاني عشر للهجرة، يستشهد فيها سبعمائة من الصحابة، فيمضي عمر إلى خليفة رسول الله يقرح عليه أن يأمر بجمع القرآن خشية أن يضيع بمقتل حمَلته وحافظيه. ويتردد الصِّديق في أن يقدم على عمل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولكن عمر يراجعه ويقدمه بوجهة نظره، فيستدعي زيد بن ثابت الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلفه بجمع القرآن. ويستشعر زيد عِظَم المسؤولية فيقول :"فوا الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن "[17]

وهكذا كان أول تدوين كامل للمصحف في عهد الصِّديق وقد ظلت الصحف التي كتبها زيد عند خليفة رسول الله حتى لقي ربه فآلت إلى خليفته عمر، وبعد عمر انتقلت إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر. وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان يلتقي الحجازيون بالشآميين والعراقيين في فتح أرمينية وآذربيجان سنة 30 ه، ويشتد الخاف بينهم في قراءة القرآن، ويبلغ ذلك أمير المؤمنين فيرسل إلى حفصة يطلب منها ما عندها من الصحف لينسخها في المصاحف، ويرسل إلى كل أفق بمصحف، ويأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .[18]وهذا المصحف العثماني هو أول مخطوط عربي يكتب في ظل الإسلام، بل هو أول مخطوط عربي بالمعنى الدقيق لكلمة "مخطوط".

وليس بين أيدينا معلومات مؤكدة عن المادة التي كتب عليها هذا المصحف، ولا عن الخط الذي كتب به، ولكن الغالب على الظن أنه كتب على رق لمعرفة العرب به منذ العصر الجاهلي، ولأنه أقوى احتمالاً من البردي الذي استخدمه العرب في الكتابة بعد الفتح الإسلامي. لمصر في خلافة الفاروق عمر، ولأن الورق لم يكن قد عرف بعد. وهذا الظن يرجحه قول القلقشندي : "وأجمع رأي الصحابة رضي الله عنهم على كتابة القرآن في الرق لطول بقائه أو لأنه الموجود عندهم".[19]

وأكبر الظن أيضًا أن هذا المصحف كان مكتوبًا بالخط الذي أُطلق عليه فيما بعد اسم "الخط الكوفي" وهو الخط الذي يتميز عن غيره من الخطوط المستديرة بقدر كبير من الاستقامة والزوايا والأضاع، وكانت حروفه كلها بغير نقط ولا ضبط. وهذا الظن يرجحه أمران:

أولهما أن أقدم المصاحف في العالم مكتوبة على الرق، وبهذا الخط، وخالية من نقط الإعجام وعلامات الإعراب، وفي مقدمتها مصحف جامع عمرو بن العاص الموجود حاليًا بدار الكتب بالقاهرة، ومصحف سمرقند الذي انتهى به المطاف إلى طشقند، والذي توجد منه نسخة مصورة بدار الكتب بالقاهرة، ومصحف ثالث بمكتبة الجامع الكبير في صنعاء، ورابع في النجف الأشرف، وغيرها من المصاحف التي يدعي البعض أن كلاً منها هو المصحف الذي قتل الخليفة عثمان وهو يقرأ فيه وأنه وجدت عليه آثار دم الخليفة.

وإطلاق هذه الرواية على أكثر من مصحف يشكك فيها. ولا سبيل إلى التأكد من أن أيَّا من تلك المصاحف هو مصحف الخليفة عثمان، حتى لو استطاع العلم الحديث أن يثبت أن الرق الذي كُتب عليه، والمداد الذي كتب به، وآثار الدم التي عليه ترجع كلها إلى عصر عثمان لأن فصيلة الدم إما أن تتفق في تلك المصاحف أو تختلف، وإذا اتفقت فهل يعقل أن الخليفة كان يقرأ فيها جميعًا ؟ وإذا اختلفت فمن ذا الذي يستطيع أن يقول لنا من أي الفصائل كانت فصيلة دم ذي النورين عثمان بن عفان ؟

أما الأمر الثاني فهو أن الكتابة العربية كانت في أول أمرها خالية من النقط التي تميز بين الحروف المتشابهة في الرسم كالباء والتاء والثاء والنون والياء، بدليل أن النقوش الجاهلية والإسلامية التي عثر عليها مثل نقشي زبد وحرّان الجاهليين ونقش القاهرة الإسلامي المؤرخ سنة 31 ه ليس فيها حرف واحد منقوط[20]، كما أنها جميعًا خالية من علامات الإعراب.

وقد يبدو منطقيًا أن توجد النقط التي تميز بين الحروف المتشابهة في الرسم والمختلفة في النطق مثل الجيم والحاء والخاء، أو الدال والذال، أو الراء والزاي قبل الحركات الإعرابية التي تميز بين المرفوع والمنصوب والمجرور، بدليل أننا لا نجد الآن نصًا في كناب أو صحيفة بغير نقط، في حين لا نكاد نجد علامات الإعراب إلا في الكتب التعليمية التي يقوِّم التلاميذ ألسنتهم بالقراءة فيها، ولكن الذي حدث بالنسبة للكتابة العربية هو عكس ذلك تمامًا، فقد ظهرت فيها العلامات الإعرابية قبل النقط التي تميز بين الحروف المتشابهة. والسبب في ذلك أن القرآن الكريم

كان يحفظ في الصدور، ولم يكن يُخشى من أن تُنطق كلمة مكان كلمة، ولكن دخول الأعاجم إلى الإسلام) وهم غرباء على اللغة (كان سببًا في ظهور اللحن في تلاوة القرآن، الأمر الذي استدعى ضبط أواخر الكلمات لتمييز الفاعل من المفعول في مثل قوله تعالى: ﴿إنَّما يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾ ]فاطر  28 [، وليستقيم فهمنا لمعانِي الآيات.ويقال إن السبب في ضبط المصحف هو أن قارئًا قرأ الآية الكريمة: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ ]التوبة: 3[ بكسر اللام في كلمة ففزع أمير المؤمنين عمر، أو زياد أمير العراق في عهد معاوية» رسوله «على- خلاف في الروايات- واستدعى أبا الأسود الدؤلي وطلب منه أن يضبط آية القرآن الكريم، فوضع أبو الأسود نقطة فوق الحرف المفتوح، ونقطة تحت الحرف المجرور، ونقطة على يمين الحرف المضموم، كل ذلك بلون مخالف للون مداد الكتابة. وهذه النقط الإعرابية هي أول صورة من صور ضبط الكتابة العربية. وقد اختيرت النقطة للدلالة على الحركات الإعرابية لسببين:

أولهما: أن عرب العراق كانوا يجاورون السريان، وكان السريان ينقطون كتابتهم على هذا العهد، فنقل عنهم العرب النقط إلى كتابتهم.

وثانيهما: أن النُقط لا معنى لها ولا تلتبس بحروف الكتابة كما تلتبس الضمة بالواو مثلا.وبمرور الزمن قلّ الحفظ وزاد الاعتماد على الكلمة المكتوبة. وهنا ظهرت الحاجة الماسة إلى التمييز بين الحروف المتشابهة رسمًا المختلفة نطقًا، فأمر الحجاج ابن يوسف الثقفي كُتَّابه بأن يضعوا للحروف المتشابهة في الرسم علامات تميّز بعضها عن بعض حتى يقضي على ما شاع في زمنه من تصحيف في القراءة[21]، فقام يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم بوضع نقط على الحروف بنفس المداد الذي تكتب به على أساس أن نقط الحرف جزء منه، فالباء لا تنطق باء إلا إذا كانت النقطة تحتها. ولكن وجود نقطتين أحدهما بلون المداد وهو نقط الإعجام، والآخر بلون مخالف وهو نقط الإعراب، كان أمرًا مجهدًا للكاتب والقارئ على السواء، وكان مدعاة للبس خاصة إذا تقاربت السطور، ومن ثم كان لابد للكتابة العربية أن تخضع لنوع من التيسير، وهو ما لم يحدث إلا في القرن الثاني الهجري على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي.

وإذن فقد خلت معظم مصاحف القرن الأول الهجري من النقط بنوعيه، وبدأ نقط الإعراب يظهر في مصاحف القرن الثاني بمداد أحمر غالبًا لتجنُب الخطأ في القراءة وما ينتج عنه من خطأ في الفهم. أما نقط الإعجام فقد دخلها على استحياء شديد لتحرُج المسلمين من إضافة أي شيء إلى المصحف بصورته التي ورثوها عن الخليفة عثمان ابن عفان.

ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة للمخطوطات العادية، فقد دخلها إعجام الحروف منذ وقت مبكر لتعذر قراءتها بدون هذا النقط، بخاف المصحف الذي كان الناس يتعبدون بتلاوته وحفظه ويسهل عليهم قراءته مجردًا من نقط الإعجام. ولم تكن نقط الإعجام تهمل في المخطوطات العادية إلا في الكلمات التي يُستبعد حدوث لبس في قراءتها مثل الباء في (بعد( والفاء في )في( والقاف في )قال( والنون في (من( والياء في )عليه) .أما نَقْط الإعراب فلا نكاد نجد له أثرًا في غير المصاحف.

ولم يكن تدوين المصحف ونقط الإعراب ومن بعده نقط الإعجام هو كل ما شهده القرن الأول الهجري، وإنما شهد هذا القرن أمرين آخرين أولهما معرفة العرب بالردي كمادة صالحة لتكوين الكتب بعد فتح مصر في سنة 20 ه ومع أن الردي أضعف من الرق بكثير، إلا أنه كان أرخص منه بكثير أيضًا، ولذا يمثل الفتح العربي لمصر نقلة مهمة في تاريخ المخطوط العربي.

أما الأمر الثاني فهو ظهور بدايات حركة التأليف والترجمة منذ منتصف هذا القرن على وجه التقريب، بدليل ما يرويه النديم من أن معاوية حين ولي الخلافة، استقدم عبيد بن شريَّة الجرهمي من صنعاء باليمن وسأله عن أخبار الأمم السابقة، وأمر افراق الناس في البلاد، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية بأن يدوِّن ذلك وينسب إلى عبيد[22]، وأن صحارا العبدي )في عصر معاوية( ألّف كتابا في الأمثال، وأن زياد بن أبيه (53ه) ألف كتابا في المثالب[23]، وبدليل ما ذكره ابن خلكان من أن خالد بن يزيد بن معاوية (58 ه) له ثلاث رسائل في الكيمياء[24]، وما يذكره ياقوت الحموي من أن نصر بن عاصم الليثي (59ه) ألف كتابا في العربية[25]، وما يذكره حاجي خليفة من أن عروة بن الزبير (93ه) جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم[26].هذا عن التأليف، أما الترجمة فيذكر النديم أن خالد بن يزيد بن معاوية كان أول من ترجمت له الكتب في الطب والكيمياء[27]، ويذكر ابن جلجل )في القرن الرابع الهجري( أن ماسرجويه الطبيب البصري"تولى في الدولة المروانية تفسير كتاب أهرن بن أعين القس إلى العربية، ووجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب فأمر بإخراجه[28] وإلى جانب جمع الحديث النبوي، جمعت اللغة العربية من البادية حتى ليُرْوَى أن أبا عمرو بن العلاء (54ه) كتب عن العرب الفصحاء كتبا ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف .[29]

ثانيًا: نشاط حركة التأليف والترجمة: فبعد تدوين الحديث النبوي بدأ تدوين السيرة النبوية والمغازي باعتبارها مكملة للسُنَّة، وبعد جمع اللغة بدأت تُستنبط منها القواعد النحوية والصرفية، فأُلِّفت كتب النحو وأقدمها كتابان ينسبان إلى عيسى بن عمر أحد نحاة البصرة وهما الجامع والمكمل أو الإكمال[30]،كما بدأ تأليف المعاجم على يد الخليل بن أحمد صاحب معجم العين، وبدأت المؤلفات تظهر في مختلف فروع المعرفة.

ومن يرجع إلى فهرست النديم يجد فيه أسماء مؤلفات كثيرة ترجع إلى هذا القرن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مؤلفات جابر بن حيان (200ه) التي تجاوزت الثلاثمائة. وما شهده هذا القرن الثاني من نشاط في حركة التأليف كان يقابله نشاط آخر في حركة الترجمة، ففي منتصف القرن ترجم ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة من الفارسية، وخال النصف الثاني منه ترجم أبو يحيى بن البطريق وابنه يحيى كثيرًا من مؤلفات أطباء اليونان وفلاسفتهم إلى العربية مثل كتابي السماء والعالم والحيوان لأرسطو، وكتاب الترياق لجالينوس،كما ترجما كتاب السياسة لأرسطو عن السريانية، وترجم الفلكي إبراهيم بن حبيب الفزاري كتاب السد هانتا الهندي من اللغة السنسكريتية إلى العربية، وقد عرف فيها باسم كتاب السند هند، وترجم الحجاج بن يوسف بن مطر كتاب المجسطي في الفلك لبطليموس عن ترجمة سريانية.[31] وقبل أن ينقضي هذا القرن الثاني تطالعنا أكر حركة ترجمة في تاريخ  العرب ، و هي تلك التي بدأت في عصر الرشيد (170-193ه) وبلغت ذروتها في عهد المأمون (198-218ه) الذي يذكر ابن نباتة أنه لما هادن حاكم قرص "أرسل إليه يطلب خزانة كتب اليونان فأرسلها إليه واغتبط بها المأمون وأمر العلماء بتعريبها"[32] وهكذا نُقل تراث الحضارات القديمة في الفلسفة والمنطق والجغرافيا والطب والفلك إلى اللغة العربية، وقامت مكتبة بيت الحكمة أو خزانة الحكمة بدور رائد في مجال الترجمة، وارتبطت بها أسماء كثيرة من المترجمين أمثال يوحنا ابن ماسويه ويوحنا بن البطريق "الذي ترجم كثيرًا من كتب الأوائل " على حد تعبير ابن جلجل.[33]

ولم يكن العرب مجرد نقلة لراث اليونان، ولم يقتصر دورهم على ترجمته وتلخيصه وحفظه ونقله للأجيال التالية فحسب، وإنما تمثلوا هذا التراث واستوعبوه وعرضوه عرضًا نقديًا، ولم يلبثوا أن صنفوا كتبا تناقشه وتردّ عليه، بدليل الكتب التي تحمل في عناوينها كلمة» الشكوك «تناقشه مثل الشكوك على جالينوس لأبي بكر الرازي (311ه) وهو نقد لتراث جالينوس الطبي والفلسفي، والشكوك على بطليموس لابن الهيثم (428ه) وهو نقد للنظرية الفلكية التي عرضها بطليموس في كتابه المجسطي،وإصاح المجسطي لابن أفلح الإشبيلي )في النصف الأول من القرن السادس الهجري( .وفي فهرست النديم نجد ترجمات كتب أرسطو.[34]وقد يبدو مثيرًا للدهشة أن يجمع حنين قائمة ببليوجرافية بما ترجم من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية حتى عصره وهو منتصف القرن الثالث الهجري[35]. وقد نهض الموالي بدور كبير في حركة الترجمة، وهو دور كان طبيعيًا في ظل الدولة العباسية التي كانت الخلافة فيها لبني العباس أبناء عم النبي وكان النفوذ الفعلي فيها للعناصر الفارسية التي أدت دورًا بارزًا في الإنقاب على بني أمية، والتي كانت تمثل جزءًا كبيرًا من الجيش الذي قلب نظام الحكم، ولهذا نقلت عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد حيث يتركز الأعوان والمؤيدون للدولة الجديدة. صحيح أن هؤلاء الموالي كانوا موجودين أيام الأمويين، لكن صوتهم كان خافتًا وسلطانهم كان محدودًا للغاية، وقد أتيح لهذا الصوت أن يرتفع، ولهذا السلطان أن يتسع في ظل دولة بني العباس.

ثالثًا: تطور الكتابة العربية ، فقد كانت الكتابة في القرن الأول تستخدم نوعين من النقط أحدهما للإعجام والآخر للإعراب، وكان ذلك يمثل صعوبة للكاتب والقارئ على السواء، وكان في الوقت نفسه سببًا لحدوث الالتباس بين السطور المتقاربة، فجاء الخليل بن أحمد (175ه) ووضع علامات الإعراب التي نستخدمها حتى اليوم لتحلّ محل نقط الإعراب. ولم يكتفي الخليل بوضع العلامات الأصلية )الفتحة والضمة والكسرة( وإنما أضاف إليها خمس علامات أخرى هي السكون والشدّة والمدة وعلامة الصلة والهمزة. فالفتحة ألف مضطجعة فوق الحرف، والكسرة ياء[36] تكتب تحت الحرف، والضمة واو صغيرة تكتب فوقه، وعلامة السكون دائرة صغيرة (0) هي رمز الصفر عند الهنود للدلالة على خلوّ الحرف من الحركة. وقيل بل هي الجيم أول حروف كلمة )جزم( ، وقيل بل هي الميم أخر حروف كلمة) الجزم (تكتب بغير عراقة )أي اكتمال) [37]والشّدة هي شين صغيرة أول حروف كلمة )شدة( تكتب بغير نقط ولا عراقة، وعلامة الصلة صاد صغيرة )ص( تكتب فوق الحرف إشارة إلى الوصل، والهمزة رأس عين )ع( لقرب مخرجها من مخرج حرف العين.[38]

وبوجود العلامات الإعرابية بلغت الكتابة العربية مرحلة النضج،واستوت في صورتها النهائية، ولم يطرأ عليها أي تغير عر القرون،وكل ما حدث لها من تطور بعد الخليل لم يخرج عن إطار تحسين الخطوط وتجميلها.

رابعًا: صناعة الورق: فمع بداية العصر العباسي، وفي سنة 133 ه على وجه التحديد، حققت الجيوش الإسلامية بقيادة زيد بن صالح الحارثي حاكم سمرقند انتصارًا على إخشيد فرغانة الذي كان يناصره ملك الصين، وعاد المسلمون إلى سمرقند بأسرى بينهم صينيون ممن يعرفون صناعة الورق. وعلى أيدي هؤلاء الأسرى الصينيين قامت أول صناعة للورق في سمنرقند ، فالثعالبي يروي لنا أنه "وقع في من الصين إلى سمنرقد في سبي سباهم زياد بن صالح في وقعة أطلح من اتخذ الكواغيد[39]، ثم كثرت السنعة و استمرت العادة حتى صارت متجرا لأهل سمنرقد ، فعم خبرها و الإرتفاق بها جميع البلدان في الآفاق[40] وفي عصر الرشيد (170-193ه) تنتقل صناعة الورق إلى بغداد، و يقيم فيها وزيره الفضل بن يحيى البرمكي مصنعًا للورق، و في ذلك يقول ابن خلدون : "وكانت السجلات أولاً لانتساخ العلوم "وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد لكثرة الرفه وقلة التأليف صدر الملَّة كما نذكره، وقلة الرسائل السلطانية والصكوك مع ذلك، فاقتصروا على الكتابة في الرق تشريفًا للمكتوبات ومياً بها إلى الصحة والإتقان. ثم طما بحر التأليف والتدوين، وكثر ترسيل السلطان وصكوكه، وضاق الرق عن ذلك، فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد وصنعه وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت[41]" و يؤكد القلقشندي أنه في عصر الرشيد "كثر الورق و فشا عمله بين الناس،فأمر ألاّ يكتب الناس إلا في الكاغد وانتشرت الكتابة في الورق إلى سائر الأقطار، وتعاطاها من قرب وبَعُد، واستمر الناس على ذلك إلى الآن."[42]

ولا شك أن صناعة الورق كانت تمثل نقلة مهمة في تاريخ المخطوط العربي، فهو أرخص من الرق بكثير، وأقوى من الردي بكثير أيضًا. وقد أتاحت صناعته في حاضرة الخلافة العباسية أن يتوافر بكميات كبيرة وبأسعار معقولة تجعله في متناول أوساط الناس من العلماء وطاب العلم. ونتيجة لذلك كثرت أعداد المخطوطات وتضخمت أحجامها، فقد كانت كميات الرق محدودة، وكانت أسعاره باهظة، وكان البردي من الهشاشة بحيث لم يكن يتحمل الثَنْي ولا كثرة الاستخدام، ولذا لم يكن يمكن أن تُعمل منه كتب على شكل دفاتر وكراريس وإنما كان الشكل الأمثل له هو اللفائف.

وهذه اللفائف كانت محدودة الحجم حتى يسهل استخدامها، ولذا كانت النصوص الطويلة تقسم بالضرورة على أكثر من لفافة. أما الورق فقد كان صالحًا لأن تُعمل منه الكتب في شكلها العادي الذي نألفه اليوم، والذي يسمح بزيادة حجم الكتاب من ناحية، ويسمح من ناحية أخرى بالإشارة إلى نصّ سابق أو لاحق. ولذا أعطت صناعة الورق في العرب دفعة قوية للمخطوط العربي.

خامسًا: الوراقة وهي مهنة اشتقت اسمها من الورق وارتبطت به،ويقصد بها عملية صناعة الكتاب من نسخ وتصحيح وتجليد. وقد كان الوراقون يقومون بما تقوم به المطابع ودور النشر في عصرنا، فيحصلون من المؤلف على ما يمكن أن نسميه "حقوق التأليف" بمصطلح العصر الحديث، ويقومون بنسخ الكتاب أو تسويقه أو بيعه لطلاب العلم. وقد أسهم هؤلاء الوراقون بدور كبير في إنتاج المخطوطات وتداولها، وفي نشر الثقافة، وكانت حوانيتهم مركزًا للنشاط العقلي وملتقى للمثقفين في زمانهم. وعلى الرغم من أنهم اتهموا بأنهم زادوا في معجم العين وأفسدوه[43]، وأخطؤوا في تبييض الصحاح "فغلطوا فيه في عدة مواضع غلطا فاحشا"[44]، و على الرغم من أن بعضهم اتُّهم بنسبة الكتب إلى غير أصحابها، إلا أن دورهم في إثراء الفكر ونشر الثقافة العربية لا يُنكر، فقد كانت حوانيتهم مستودعا لكل ثمار العقل العربي في مختلف مجالات المعرفة، وكانت كثرة تلك الحوانيت ورواج سوقها دليا واضحًا على خصوبة الفكر العربي واهتمام الناس في ذلك الزمان بكل ما يدوَّن في بطون الكتب من علوم الدنيا والدين.[45] ومعنى هذا أنه في أواخر القرن الثاني الهجري كان المخطوط العربي قد تغلب على كل المعوقات التي كانت تحدّ من انطلاقه، وأصبح كل شيء مهيأ لدخول مرحلة الفتوة والازدهار، ولذا كان القرنان الثالث والرابع فترة انطلاق واسع المدى في تاريخ المخطوط العربي سواء في حركة التأليف والترجمة، أو في صناعة الوراقة. ففي هذين القرنيين ظهر المؤلفون العظام من أمثال الجاحظ والكندي والطري والرازي والأصفهاني والمسعودي والفرابي والخوارزمي والبيروني وابن سينا، وفيهما ظهر أشهر المترجمين مثل حنين ابن اسحق وابنه اسحق وثابت بن قرَّة ويحيى بن عديّ، وفيهما غصَّت أسواق الوراقين بحوانيت الوراقة التي بلغت أكثر من مائة في بغداد وحدها في أواخر القرن الثالث الهجري،[46] وفيهما ظهرت مجالس الإماء وانتشرت في الحواضر الإسلامية وفي مقدمتها بغداد عاصمة الخلافة ومركز النشاط العلمي. وهي مجالس علم أو محاضرات عامة في الموضوعات التي تهم الناس، يتحدث فيها كبار العلماء ويكتب عنهم جمهور الحاضرين. فالمجلس الذي يحضره ألف شخص ينتهي بألف نسخة مما قاله الشيخ، أوبعدد من النُّسَخ يقرب من الألف. وهذه النسخ تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا في الشكل والمضمون. فكل نسخة تتميز عن غيرها من النسخ بنوع الورق وحجمه وطول السطور وعددها في كل صفحة، كما تختلف في نوع الخط وحجمه ولون المداد المكتوب به. فإذا أضفنا إلى ذلك أن السامعين يتفاوتون في دقة السماع وفي سرعة الكتابة وفي المستوى اللغوي والإملائي،أدركنا سببًا آخر لاختلاف النُسخ. فنسخة كتبت كل ما قاله الشيخ أو معظمه، ونسخة أخرى فاتها كثير مما قيل في المجلس. ناهيك عن أخطاء السماع وعن الأخطاء النحوية والإملائية التي تختلف من نسخة إلى أخرى بسبب اختلاف السامعين في مبلغ علمهم بالنحو والإماء. يضاف إلى ذلك أن المؤلف قد يملي الموضوع الواحد أو الكتاب الواحد في أكثر من مكان، فيختلف النص هنا عن هناك، وينتج عن ذلك عائلتان من نُسَخ الكتاب الواحد. ومن الأمثلة على  ذلك كتاب الجمهرة في اللغة لابن دريد (321ه) فقد أملاه الفارس و وأملاه ببغداد من حفظه، فلما اختلف الإماء زاد ونقص"[47] نتيجة لهذه العوامل مجتمعة، نشطت أسواق الكتب، وبدأت تظهر المكتبات بمختلف أنواعها. ولم تكن كثرة المكتبات وتنوعها هو وحده الذي يلفت الانتباه، وإنما الذي كان يستلفت الانتباه أكثر هو تضخم تلك المكتبات وكثرة أعداد المخطوطات التي كانت تقتنيها، حتى لقد بلغ فهرست مكتبة الصاحب بن عباد (385ه) بالري عشرة مجلدات[48] ، وذهب آرثر بوب إلى أن مجموعة كتبها كانت تعادل ما كان موجودًا في مكتبات أوروبا مجتمعة.[49]

ولم تكن عاصمة العباسيين وحدها التي تزخر بالمكتبات العامرة بألوف المخطوطات، وإنما كانت تنافسها عاصمة الأمويين في الأندلس، فقد كانت قرطبة  أكثر بلاد الأندلس كتبا ، حتى قيل إنه و إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى اشبيلية"[50] و معنى هذا أن قرطبة كانت سوقا رائجة لتجارة الكتب، بدليل أن المزادات التي تبيعها جديدة ومستعملة كانت تنتشر في مختلف أحيائها، حتى ليخيَّل إلى المرء أنه لم يكن يخلو بيت من بيوت الأندلسيين من المخطوطات.

ولعل أبرز دليل على أن المخطوطات العربية كثرت في هذين القرنيين كثرة هائلة هو كتاب الفهرست الذي ألفه النديم ليكون سجلاً يحصي المؤلفات العربية والمعربة في شتى فروع المعرفة حتى سنة 377ه كما نص على ذلك في مستهل الكتاب. وهو أول عمل ببليوجرافي عربي يصلنا كاماً، وقد سبقته أعمال أخرى أصغر حجما وأضيق مجالا، نقل النديم عن كثير منها في كتابه[51]. ويعد كتاب الفهرست أشمل وثيقة تبين ما وصلت إليه الحياة العقلية والعلمية للمسلمين في هذا العصر، وكأنما أراد مؤلفه أن يجعل منه نُصُبًا تذكاريًا لحركة التأليف والترجمة في تلك الفترة الزاهرة من تاريخ العرب والمسلمين. ويقبل القرن الخامس الهجري حاملاً معه نُذر شؤم للمخطوط العربي، فقد بدأ الوهن يدبّ في جسد الأمة الإسلامية، وأخذت أوصالها تتفكك، وبدأ بنيانها يتصدع، وشَبَّت الثورات وظهرت الفتن في مناطق مختلفة، "وسقطت قواعد الأندلس الشهيرة في سلسلة من المعارك والمحن مختلفة، و الطاحنة التي تقلبت فيها الأمة الأندلسية منذ انهار صرح الخلافة الأموية في الأندلس في أواخر القرن الرابع الهجري، وقامت دول الطوائف الصغيرة المفككة على أنقاض دولة عظيمة شامخة. وكان سقوط كل قاعدة من هذه القواعد الشهيرة التي كانت تسطع بمجتمعاتها وحضارتها الزاخرة خلال حلك العصور الوسطى يمثل ضربة مميتة للدولة الإسلامية في الأندلس، ويحدث أعمق صدى في جنبات الدول الإسلامية في الشرق والغرب[52] ولم يكن مستغربًا أن تأتي تلك الصراعات الدامية. على أعداد هائلة من المخطوطات العربية التي كانت تزخر بها المكتبات الأندلسية. وفي عام 461 ه تصاب مصر بالقحط فيما يعرف بالشِّدة المستنصرية،وتعجز الدولة عن دفع رواتب الجند المغاربة، فيطبقون على خزائن كتب القصر و يحرقونها و يتخذون من جلود كتبها نعالا لهم" وبقي منها ما لم يحرق وسفت عليه الرياح الراب فصار تالاً باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب" على حد تعبير المقريزي .[53]

وقبل أن ينقضي هذا القرن يواجه العالم العربي موجات الغزو الصليبي التي بدأت تتدفق عليه عام 492 ه/ 1096 م، والتي دمرت خزائن الكتب في الشام وعلى رأسها مكتبة بني عمار في طرابلس، و كانت كتبها في ذلك الوقت تقدر في بعض الروايات بثلاثة ملايين مخطوط[54]، وهو رقم قد لا يخلو من مبالغة، ولكنه يشير - بما لا يدع مجالا للشك- إلى ضخامة تلك المكتبة وثرائها المنقطع النظير. ويقدر حجم ما أحرقه الصليبيون من هذه المكتبة عند احتلالهم المدينة في عام 502 ه/ 1109 م بما لا يقل عن مائة ألف مخطوط، فضا عما عادوا به إلى بلادهم من مخطوطات استولوا عليها وأخذوها أسلابا و غنائم.

وفي القرن السادس الهجري تسقط الخلافة الفاطمية في مصر سنة567 ه/ 1171 م وتباع مقتنيات خزانة كتب الفاطميين بالقاهرة في مزاد أقيم بالقصر و استمر "مدة عشرين سنين" ، كما يروي أبو شامة ،و"يقال إنها كانت تحتوي على ألفي ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة شيء كثير،وحصل للقاضي الفاضل قدر منها كبير حيث شغف بحبّها، وذلك أنه دخل إليها واعتبرها، فكل كتاب صلح له قطع جلده ورماه في بركة كانت هناك، فلما فرغ الناس من شراء الكتب اشرى تلك الكتب التي ألقاها في البركة على أنها مخرومات.[55]

وفي القرن السابع تتعرض الأمة العربية والدولة الإسلامية لهول عظيم، فقد دمتها جحافل المغول والتتار في فارس والعراق، وسقطت بغداد على يد هولاكو سنة 656 ه/ 1258 م بعد أن قتل من أهلها ثمانمائة ألف. وعلى أيدي هؤلاء الغزاة لقيت مكتبة بيت الحكمة مصيرها الفاجع، فأحرق من مقتنياتها ما أحرق، وطُرح في نهر دجلة منها أعداد كبيرة حتى قيل إن مياه النهر اسودَّت لكثرة ما ألقي فيها من مداد العلماء، وإن "الكتب سدَّت مجرى دجلة وجاز الناس عليها ما بين شطُيه كأنها جسر معقود".[56]

في هذه الأجواء الكئيبة التي بدأت فيها شمس الحضارة العربية تتجه نحو الغروب، لم تجد المخطوطات العربية مكانًا آمنًا تأوي إليه غير المساجد والبيوت التي احتفظت بها وديعة غالية حتى بدأت بشائر فجر النهضة الحديثة تلوح في الأفق. وهكذا نرى أن التراث العربي المخطوط الذي أثرى البشرية كلها قد عدت عليه عوادي الزمن، وعصفت به رياح الغزو الخارجي التي اجتاحت الأمة العربية من الشرق والغرب، ودمرت أهم المراكز العصبية للحضارة الإسلامية في ذلك الزمان، كما عصفت به الفتن الداخلية التي كانت تحركها عوامل سياسية حينًا، ودينية حينًا آخر، واقتصادية في أحيان ثالثة.

وتتتابع فصول المأساة، ففي مطلع القرن العاشر الهجري، في سنة بجمع كل ما يستطاع  905 ه/ 1499 م أمر الكردينال الأسباني خمنيس "بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، ونظمت أكداسًا هائلة في ميدان باب الرملة أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرفة، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، وأضرمت النيران فيها جميعًا، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم حملت إلى الجامعة التي أنشأها في مدينة ألكالادي هنارس، وذهبت ضحية هذا الإجراء الهمجي عشرات ألوف من الكتب العربية هي خلاصة ما بقي من تراث التفكير الإسلامي في الأندلس".[57]ولم تبق معاول التعصب والجهالة إلا على بقية صغيرة من الكتب العربية، جمعت فيما بعد من مختلف الأنحاء، وأودعت أيام فيليب الثاني في قصر الإسكوريال على مقربة من مدريد، وحجبت عن كل باحث ومطَّلع"[58] ومازال بهذه المكتبة إلى اليوم ما يقرب من 1820 مخطوطا عربيا.[59]

وهكذا نرى أن الفتن الداخلية على اختلاف أسبابها من سياسية واقتصادية ودينية، قد تظافرت مع الغزو الخارجي في تدمير ذخائر التراث العربي المخطوط. وأضيف إليه عوامل أخرى بعضها يتصل بالبشر،وبعضها الآخر يتصل بالظروف البيئية، وأعني بذلك الإهمال وعدم الوعي بقيمة المخطوطات من ناحية، والظروف الجوية التي لا تساعد على احتفاظ المخطوطات بحالتها المادية من ناحية أخرى.

ويدور الزمن دورته، ويقبل العصر الحديث حاماً معه حربين عالميتين وننظر فنرى المنطقة العربية وقد أصبحت غنيمة تقاسمتها الدول الغربية، فخضع بعض بلدانها كمصر والعراق للاحتلال البريطاني، وبعضها الآخر كلبنان والمغرب للحكم الفرنسي، وخضعت ليبيا لسلطان الإيطاليين.

وكان طبيعيًا أن تستقر أعداد كبيرة من تراثنا المخطوط في مكتبات الدول التي أغارت على المنطقة العربية في العصور الوسطى، والتي احتلتها في العصر الحديث، فقد عاد الغزاة إلى ديارهم بالكثير من نفائس هذا التراث .والحق أن المكتبات الغربية قد حفظت ما عاد به هؤلاء الغزاة والمستعمرون من المخطوطات العربية، وأوْلَتْها عناية شديدة تمثلت في صيانتها وترميمها من ناحية، وفي فهرستها فهرسة علمية مفصلة، ونشر الفهارس التي تعرِّف بها [60] من ناحية أخرى.

وهكذا استقرت أعداد كبيرة من المخطوطات العربية في المكتبات الكبرى للدول الغربية التي كانت لها علاقات حوار أو شجار مع الأمة العربية، كما استقرت أعداد كبيرة منها في مكتبات الأفراد الذين شغفوا بالشرق وتراثه، ويكفي أن نذكر مكتبة جون رايلاندز بمانشستر )بإنجلترا( ، فقد كان الرجل بمن افتتنوا بالتراث العربي وجمعوا بعض نفائسه، فلما توفي أرادت أرملته أن تخلِّد ذكراه، فأنشأت مكتبة ضخمة تحمل اسمه وتضم بين جنباتها عددًا كبيرًا من المخطوطات العربية والمصاحف التي يرجع بعضها إلى القرن الثامن الميلادي.[61]

أما في الوطن العربي فقد توزعت معظم مخطوطات التراث العربي بين مكتبات المساجد والمكتبات الوطنية والجامعية. والسبب في ذلك أن المساجد ارتبطت بالكتب والمكتبات منذ عصور الإسلام

الأولى، لأنها كانت أماكن التعليم قبل أن تنشأ المدارس، وطبيعي أن توجد الكتب حيث تتم العملية التعليمية، ولأن كثيرًا من العلماء كانوا يوقفون كتبهم على المساجد ابتغاءْ لثواب الله من ناحية، وضمانًا لسامتها واستفادة الناس بها من ناحية أخرى، فقد كانت المساجد أكثر الأماكن أمنا في أيام الفتن والحروب والثورات، وكانت في الوقت نفسه الأماكن العامة الوحيدة التي لا يمنع أحد من دخولها. ومازالت بعض المساجد الكرى تحتفظ بآلاف مؤلفه من المخطوطات مثل مكتبة الجامع الأزهر بالقاهرة، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس بالمغرب.

أما المكتبات الوطنية فهي المنوطة بحفظ تراث الأمم مخطوطًا ومطبوعًا في كل دول العالم. ولهذا تجمَّع أكر عدد من المخطوطات مصر في دار الكتب المصرية، أقدم مكتبة وطنية في العالم العربي. وكثير من تلك المخطوطات آل إليها إهداء ووقفًا من أصحابها أمثال أحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا وأحمد طلعت باشا. وفي الدول التي تأخرت فيها نشأة المكتبات الوطنية، نهضت المكتبات الجامعية بتجميع الراث المخطوط كما هو الحال في المملكة العربية السعودية التي زخرت مكتبات بعض جامعاتها مثل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بأعداد كبيرة من المخطوطات الأصلية والمصورة.

تلك لمحة سريعة وعرض موجز لتاريخ المخطوط العربي منذ النشأة الأولى حتى الآن. وهذا الجانب التاريخي لا يمثل أحد أضاع علم المخطوطات العربي فحسب، وإنما يمثل الخلفية التي لا غنى عنها لدارسي المخطوط العربي لأي جانب من جوانبه.


[1] -مثل عبد الله  عمرو بن العاص،فقد كانت عنده صحيفة دون فيها الحديث النبوي،وكانت تسمى"الصادقة"

[2] -فتوح البلدان ، ص 580-583

[3] -شرح القصائد العئر ، ص255

[4] - سيرة ابن هشام ، جزء 1 ، ص 372

[5] - الأغاني ،ج 2، ص 119. و النؤي هو الحفير حول الخيمة تتجمع فيه المياه

[6] -لسان العرب،ج10 ، ص368

[7] -ديوانه ، ص23

[8] - مصادر التراث العربي في اللغة و المعاجم و الأدب و التراجم ، ص20

[9] -العقد الفريد، ج5،ص269

[10] -لمزيد من التفاصيل حول الموضوع، راجع : المخطوط العربي ، ص56-62

[11] -الشعر و الشعراء ، ص 260

[12] - المرجع السابق ، ص650

[13] -تقييد العلم ، ص33

[14] - تقييد العلم ، ص 57. أنظر أيضا : تدريب الراوي ، ص150 -151

[15] -المرجع السابق ، ص58

[16] -صحيح البخاري،ص24-45،وانظر أيضا :صحيح مسلم،ج18،ص130

[17] -الجامع لأحكام القرآن،ج1،ص49-50

[18] -الإتقان في علوم القرآن ،ج1، ص63

[19] -صبح الأعشى ،ج2، ص486

[20] - هذا النقش موجود حاليا بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة، وقد درسه يحي نامي في كتابه: أصل الخط العربي ،ص107، و أنظر أيضا : مصادر الشعر الجاهلي و قيمتها التاريخية ، ص34

[21] -أنظر : وفيات الأعبان ،ج1، ص344

[22] -الفهرست ، ص102

[23] المرجع السابق، ص101

[24] وفيات الأعيان، ج2، ص4

[25] معجم الأدباء ،ج19،ص224

[26] -كشف الظنون،ج2،ص1747

[27] -الفهرست، ص419

[28] -طبقات الأطباء و الحكماء، ص61

[29] -البيان و التبيين ،ج1، ص321

[30] -طبقات النحويين و اللغويين، ص15-37

[31] -دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، ج1،ص53-55

[32] -سرح العيون، ص242

[33] -طبقات الأطباء و الحكماء، ص65

[34] -الفهرست، 308-312

[35] -المرجع السابق ، ص353

[36] -الياء حينما تأتي في وسط الكلمة تكون هكذا (ي) ، فإذا جردناها من النقط صارت هكذا (-)

[37] -أي : (ح) و ليس (ج)

[38] -صبح الأعشى ،ج3، ص164-170

[39] جمع كاغد، و هو لفظ صيني الأصل، أطلقه العرب على الورق

[40] -ثمار القلوب، ص543 و لطائف المعارف ص218، نقلا عن كتاب المسالك و الممالك

[41] -المقدمة ، ص962

[42] -صبح الأعشى، ج2، ص486

[43] -أنظر: المزهر ،ج1، ص82-83

[44] -معجم الأدباء ،ج6،ص152

[45] -لمعرفة المزيد عن الوراقة ، و للتعرف على كيفية ممارستها ، يمكن الرجوع إلى المقال حبيب زيات الوراقة  و الوراقون في الأسلالم ،مجلة المشرق، مج 41، ع3(تموز 1947)، ص 305-350، و إلى كتاب المخطوط العربي ،ص119-134

[46] -البلدان ، ص13

[47] -الفهرست ، ص67

[48] -معجم الأدباء،ج6، ص259

[49] -pope , aurthur ,Masterpieces of persian, Art 151

[50]-نفح الطيب، ج1، ص302

[51] -أنظر:المخطوطات و التراث العربي، ص131-142

[52] -دولة الإسلام في الأندلس، ج7، ص12

[53] -المواعظ و الإعتبار ،ج1، ص409

[54] -مختصر الثقافةالإسلامية ، ص134، و قد أكد جيبون هذا الرقم

[55] -الروضتين في أخبار الدولتين ،ج1، ص200

[56] -تراثنا بين ماض و حاضر، ص36

[57] -دولة الإسلام في الأندلس,ج7، ص316

[58] المرجع السابق، ج7، ص504

[59] -المخطوطات الإسلامية في العالم ،ج1، ص40

[60] -انظر على سبيل المثال فهارس من المخطوطات العربية التي نشرتها مكتبة المتحف البريطاني

[61] -The John Library, Manchester ,p12

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مدخل إلى تحقيق المخطوط العربي،2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 23-48.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.
Back to Top