تزويق الكتاب

شارك:

محمد عيسى ولي مع بعض الإسهامات من فرنسوا ديروش

محتويات المقال:
دراسة الزخارف: الأهداف والوسائل
زخرفة المخطوطات وأهميتها لعلم المخطوطات (الكوديولوجيا)
مجمل هذا الفصل
المصادر: أصول معلوماتنا وامتدادها
المخطوطات والفنون الزخرفية
دور الزخارف
المخطوطات غير الإسلامية السابقة والمماثلة
العلاقة بين التزيين والفنون الزخرفية الأخرى
تزايين المخطوط
العناصر المصاحبة لبداية النص
المصاحف*
النصوص غير القرآنية*
تحديد النص في وجه الورقة الأولى*
الإشارة إلى المستكتب أو المكتبة المكتوبة لها النسخة*
بداية النص في ظهر الورقة الأولى…*

دراسة الزخارف: الأهداف والوسائل

كان تزويق المخطوطات ممارسة راسخة منذ ما قبل ظهور الإسلام في هذه المنطقة من العالم التي شهدت بدايات هذا الدين الجديد. هكذا باشر المسلمون مبكرا جدا الاهتمام بتزويق الكتب التي قاموا بنسخها، الأمر الذي أوجد جدلا قويا في وسط الأمّة حول مدى مشروعية ذلك من عدمه. وتتعلق القضية المعروفة جيدا في هذا الجدل بتحريم تصوير الكائنات الحية، وإن لم يمنع ذلك من ظهور المخطوطات المزينة بالصور، واستمر الجدل حول هذا السؤال المهم موضوع أبحاث سنفيد من نتائجها[1]. ومن المهم أن نشير إلى أنه في حين ما تعني كلمة «التزيين» في المخطوطات الأوروبية (أو تتضمن) «التصوير»، فإن الدراسات الإسلامية تميز بوضوح بينهما.

ويسعى عرض التزايين، في منظور هذا الكتاب على الأخص، إلى تيسير فهمها ووصفها، ويتطلب تناولها دقة خاصة في استخدام المصطلحات التقنية. إلا أن استخدام الكلمات الأكثر شيوعا مثل Frontispice[2] أو سَرْلَوْح[3] على سبيل المثال، لم يُتَّفق عليه بعد بين المتخصصين، حتى إن المصطلح نفسه يمكن أن يحيل إلى حقائق مختلفة من مؤلف إلى آخر، وسيكون من المستحب أن يتم اتفاق في المستقبل يوحد هذه الاستخدامات، وفي انتظار ذلك لا يسعنا إلا أن نطلب إلى كل كاتب المحافظة على استخدام معجمه الشخصي بطريقة منسجمة.

زخرفة المخطوطات وأهميتها لعلم المخطوطات (الكوديولوجيا)

يمكن للقارئ أن يتساءل بحق عن فائدة دراسة زخرفة المخطوطات وهدفها بالنسبة لمن يهتم بدراسة المخطوطات نفسها لا تاريخ الفن. وكما سنرى فإن بعض/ المعرفة في هذا المجال لن تخلو من فائدة إن لم تكن أساسية في علم المخطوطات، وعلى الأخص عند محاولة تعيين الانتماء الجغرافي للمخطوط وتأريخه عندما لا يقدم الناسخ أو المالك الأول للمجلد هذه المعلومة، وهي الحالة أيضا عندما نبحث عن إشارات عن رحلة مخطوط أو ملّاكه اللاحقين خاصة عندما تكون الزخرفة قد أُضيفَت إليه في فترة أحدث من تلك التي تم فيها نسخه[4].

وعلاوة على ذلك، يمتاز تطور الكتاب بالحرف العربي، على الأقل فيما يخص النماذج المكتملة، بالنزوع إلى توحيد مجموع الزخرفة في الكتاب، فالتجاليد والألواح الواقية تكمل أو تعكس التزيين حتى وإن اختلفت التقنيات المستخدمة كالتذهيب والتصوير وخيوط الذهب المجدولة... إلخ. ويجب أن يؤخذ ذلك في الاعتبار عند متابعة فحص كل ما يسهم في تزويق الكتاب المخطوط.

ومن الطبيعي أن يمدنا كذلك وجود التزيين أو غيابه بمؤشرات حول وضع المخطوط ذاته أو الشخص الذي نُسِخ من أجله. ويجب أن نأخذ كذلك في الاعتبار مجموعة من الثّوابت الأخرى، مثل أسلوب الخط أو نوع الورق؛ ومع ذلك فتوجد حالات يكون فيها أسلوب التزيين - الذي يتضمن كذلك التجليد وكل أنواع الزخرفة – هو العنصر الوحيد الكاشف لمصدر النسخة. ولكن يجب مع ذلك أن نحتاط في هذه الأمور، فليس من النادر أن نجد تزايين قد أضيفت إلى مخطوط في الغالب بعد زمن طويل من نسخه[5]، كما نجد نماذج لزخارف (مثل المنمنمات) أُخِذت من مخطوط وأدمجت في مخطوط آخر[6].

وجميع التزايين جديرة بالالتفات من منظور علم المخطوطات: فالتزايين المتواضعة وحتى غير المتقنة لا تخلو من فائدة، فهي تشكل في الحقيقة أغلب الزخارف التي وصلت إلينا ويمكن أن تكون كبيرة الفائدة ليس فقط لتأريخ مخطوط ما أو تحديد مصدره، وإنما كذلك لتقدير نوعية إنتاج الكتب بالحرف العربي بطريقة أكثر دقة في كل صنوفها.

ويمكن أن تشكل المواد المستخدمة في زخرفة المخطوطات مصدرا غنيا بالمعلومات حول مكان الصنع وظروفه[7]. ورغم أن التحاليل الفيزيائية - الكيميائية ما زالت قليلة، إلا أنها تعطينا الأمل في أن تطويرها في الأعوام القادمة سيتيح لنا القيام بمقارنات على قاعدة أوسع نطاقا[8].

/ مجمل هذا الفصل

يمكن أن يدرس تزويق المخطوطات إما في إطار تاريخ الفنون الزخرفية، وإما مع تاريخ الكتاب، وسنركز في هذا العرض على المظهر الثاني. لقد فتحت مجالات جديدة للبحث فيما يتعلق بفن الكتاب في العالم الإسلامي، وأتاحت الاكتشافات تسليط أضواء جديدة ليس فقط على مهن صناعة الكتاب والتطورات الإبداعية المصاحبة لها، وإنما أيضا حول طبيعة وإيديولوجية رعاة الفنون، وكذلك البنى التي سمحت بظهور فن رفيع بالغ الأهمية للمتخصصين في هذا المجال. ولا تقل زخرفة المخطوطات المألوفة الصنع بالنسبة لعلماء المخطوطات عن تلك المتضمنة لنصوص عادية ذات استخدام يومي. إن هدفنا هنا هو تقديم لمحة موجزة للمقاصد وللتطور التاريخي لتصنيف وتقنية تزويق الكتاب المخطوط بالحرف العربي.

ونظرا للتاريخ الطويل الممتد على عدة قرون والذي يغطي مساحة جغرافية واسعة، فإنه من الصعب أن نتناول التزويق الإسلامي بطريقة متقصية حقا في عدد من الصفحات؛ كما أننا سنستعين بعدد محدود من الأمثلة الكفيلة بتوضيح الملاحظات التي سنبيّنها. وخلافا للفصول الأخرى لهذا الكتاب، فسيأخذ هذا الفصل بعين الاعتبار على الأخص المخطوطات المنتجة خارج العالم العربي؛ فقد طرأت العديد من التطورات المهمة على فن التزيين في الأقاليم الناطقة بالفارسية والتركية، وكذلك في الهند وأماكن أخرى، وقد حفظت لنا كمية كبيرة من النصوص العربية في نسخ كتبت وزخرفت في هذه الأقاليم وفي غيرها.

المصادر: أصول معلوماتنا وامتدادها

إن تقدم البحث في مجال المخطوطات يجعلنا نأمل في اكتشافات مستقبلية توسع مجال معرفتنا: وفي الحقيقة فإن هناك أسبابا تجعلنا نأمل في ظهور مصادر جديدة إلى النور. وتأتي في المرتبة الأولى في مجال المصادر المكتوبة، المؤلفات التقنية أو المؤلفات التي كتبها الحرفيون أو كُتِبَت لهم. ولا يرجع أي من هذه المؤلفات المعروفة حتى الآن إلى ما قبل خمسة قرون، ولكنها تشتمل على معلومات غنية حول التقنيات والصناع المشهورين وآثارهم؛ وفي هذا المجال أُنجِز عمل مهم قام به إيڨ بورتيه Yves Porter وآخرون[9]؛ وسيجد القارئ في بعض الحالات، مثل الكتاب الفارسي الشهير لقاضي أحمد[10]، تراجم (أو ما يشبه التراجم) لبعض الفنانين المتميزين، وكذلك عن الأشكال والتقنيات المتصلة بهم.

/ وتعد وثائق الأرشيف والنقوش المتعلقة بتنظيم المهن وبالورش مجموعة ثانية من المصادر المهمة. وجمع باحثون من أمثال إيرج أفشار وآن ماري شيميل Annemarie Schimmel وویلر تاكستون Wheeler Thackston كذلك إشارات أدبية متفرقة شعرا ونثرا عن إنتاج المخطوطات وزخرفتها. ويبدو أن هذا النوع من الإحالة قد شاع أكثر في العالم الناطق بالفارسية، أحد المناطق التي بلغ فيها فن التزيين درجة عالية من الدقة. ولا يجب أن ننسى أن الطرق التي استخدمها الفنانون لنقل فنّهم إلى تلاميذهم كانت تتم غالبًا بطريقة شفهية أو ببرهان عملي، أما «أسرار الصنعة» فقد حرص الفنانون على الاحتفاظ بها لأنفسهم. وتستفيد معرفة هذه الطرق في وقتنا الحالي من حدة ذهن الفنانين المعاصرين، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، وكذلك من عمل وتجارب المحافظين المتخصصين الذين يعيدون اكتشاف التقنيات التقليدية.

ويبقى المصدر الأكثر أهمية في نهاية المطاف هو الشهادة الداخلية التي تقدمها المخطوطات المزينة نفسها والوثائق المرتبطة بها. وكما هو الحال بالنسبة لجميع أشكال الفن، فإن الفحص المتأني والأبحاث المقارنة التي يقوم بها المتخصصون تحمل لنا معلومات وفيرة. وتعطي حرود المتن والنصوص الإخبارية الأخرى تشكيلة واسعة من المعلومات حول الأنشطة المحددة للمزينين (وكذلك عن النساخ والفنانين الآخرين) تنتظر أن ترفع بطريقة منهجية ليتم تحليلها وتفسيرها من قبل الباحثين.

المخطوطات والفنون الزخرفية

سنتناول فيما يلي بالتفصيل استخدامات المخطوطات وأشكالها وإذا جاز لنا القول، أنواع تزيينها (التذهيب)[11] أكثر من تناولنا لتاريخها. ومع ذلك، فسيكون مناسبا أن ننظر في بعض مظاهر التزيين المتعلقة بالفنون الزخرفية، باعتبار الروابط الأصلية التي توجد في الواقع بين هذه الأشكال الفنية وبين الأوساط الفنية التي نشأت فيها.

دور الزخارف

يطرح سؤال ابتدائي ولكن رئيسي نفسه هنا وهو: لماذا أضيفت وتضاف أيضا الزخارف إلى المخطوطات؟ يجب أن نأخذ أولا في الاعتبار مكانة الكتاب وأهميته قبل ظهور المطبعة، ثم أيضا قبل الإنتاج الإجمالي للكتب. فكل مخطوط يعتبر فريدا في حد ذاته، طالما هو مصنوع باليد. وفوق ذلك، فقد كانت النسخ المجودة [أو المعتنى بها] تمثل/ في العصور الوسطی قطعا فاخرة، حتى إذا كان نصيب التزيين فيها محدودا، بسبب ندرة المواد المستخدمة فيها وكذلك بسبب المهارة والوقت اللازمين لإنجازها، وفي الوقت الحاضر، الذي غلب فيه الإنتاج الكثيف والتوزيع العالمي للكتب، لا بد من بذل جهد تصوري لفهم الهالة التي كانت تحيط بالكتب، ليس فقط في عيون العارفين بها وإنما أيضا لدى جانب عريض من الأمّيين، وكذلك أولئك الذين تعمّدوا إحراق الكتب. إن الحظوة التي أحاطت بالكتب ذات القيمة باعتبارها قطعا فنية وأوعية لنص معين، تعكسها الرعاية التي منحها لها الأفراد أو المؤسسات على السواء، وسواء أكان الشخص هو مالك هذه النسخة أم الآمر بكتابتها (مستكتبها)، فإن ذلك كان يضفي عليه هيبة بين العلماء والجهّال على حد سواء. وتشتمل العديد من المخطوطات الفاخرة على أطر مزينة تحفظ اسم الآمر بكتابتها، رجلا كان أم امرأة، أو ذكر وقفها على مؤسسة معينة.

واقترحنا في مقال سابق[12] تصنيفا لتزايين المخطوطات الإسلامية تبعا لوظيفتها: وحددنا أربع فئات تبعا لنوع النص أو الوثيقة المعنية. ولن نعود هنا إلى هذا التصنيف، قبل معالجة أشكال التزايين المختلفة، إلا بشكل موجز. فتصنيف متكلف من هذا النوع لا يصلح أن يكون أساسا لتحليل أكثر دقة، كما أن العديد من المخطوطات يمكن أن تدخل في أكثر من فئة ممكنة. ويجب كذلك أن نتذكر أن الجمال والفائدة من التزيين لیسا دائما اهتمامين مستقلين أحدهما عن الآخر. ففي الواقع يستدعي أحدها الآخر، كما هو الحال في كل أشكال الإبداع (شكل 39 و40).

وتظهر الفائدة العملية في التقليد الغربي لصناعة المخطوط كأحد الأهداف الأولى للتزيين: فالعناوين والاختصارات، الملونة أو المذهبة، المصحوبة بزخرفة أو لا، تعين القارئ على الاهتداء إلى النص. وتنطبق الملاحظة نفسها على الكتاب الإسلامي. فقارئ المصحف أو النصوص الدينية أو الدنيوية الأخرى يشعر دائما بالحاجة إلى مؤشرات تحدد له بدايات الفصول والوحدات النصية الأخرى. ونظرا لأن الكتابة العربية لا تعرف حروف البداية الكبيرة (Les Majuscules)، والتي تعد أحد العناصر الزخرفية المهمة للكتب المسيحية، فإن القارئ المسلم يحتاج أن يبحث عن مؤشرات أخرى (دون أن يجدها دائما) لتعينه على «السفر» عبر النص. وثمة عنصر آخر هو ضبط كتابة الكلمات: فلتجنب غموض القراءة وصعوبتها، ابتُكِرَت علامات للإشارة إلى حروف العلة التي لا يوجد لها تمثيل تصويري بمعنى الكلمة في حروف الهجاء المعروفة، وقد ميزت هذه العلامات أحيانا بكتابتها بالألوان وحتی بتحويلها إلى عنصر زخرفي. وسنتناول مظاهر استخدام التزيين الأخرى لأغراض نفعية عند مناقشة الأنواع المختلفة للنصوص المزينة.

/ مظاهر تزويقية

تظهر هذه الفئة مثلا في المؤلفات الأدبية. فيمكن أن يرتبط تزیین نص ما بطبيعته وإن تعلق الأمر بأثر خيالي. فشكل الإطارات الزخرفية على صفحة عنوان دیوان شعر وصفي، على سبيل المثال، تشبه دهليزا يفضي إلى عالم آخر، ويمكن كذلك أن تكون السرلوحة قريبة من بساط طائر ينقلنا إلى أصقاع بعيدة ومتخيّلة. وقد نجد مصادفة داخل هذه الأطر المزينة الموجودة في بداية النص عبارة مدح قصيرة للمؤلف أو لعمله.

مظاهر دينية

كانت المخطوطات غالبا ما تزخرف، مثلما هو الحال في الغرب، بحيث تملأ القارئ (أو على الأعم من ينظر إليها) هيبة وإحساسا بالجمال الفائق للعالم الروحي. وكانت النصوص الأولى التي زينها المسلمون هي نسخ المصحف: وقد سبق لنا أن ذكرنا الأسباب العملية لهذا الاختيار. ولم تكن الكتابة بماء الذهب نادرة، ووصل إلينا العديد من المصاحف التي كُتِب نصها جميعه بماء الذهب وشُعِّرَت حدود حروفها بالمداد الأسود. واستخدم الذهب كذلك في مجلدات متواضعة نسبيا لتمييز كلمات أو عبارات مهمة - على سبيل المثال لفظ الجلالة أو الأسماء الحسنی - واستخدام التزيين لتزويق فاتحة النص القرآني وهوامش كل صفحة في المصحف معروف جيدا وذو دلالة واضحة. وقد خصصت بالفعل دراسات لدراسة هذه الأشكال الفنية الإسلامية الخالصة وتقييمها[13].

مظاهر طبقية

ويمكن أن تشكل زخرفة الكتاب، في المقام الثالث، إعلانا عن وضع سياسي و/ أو اجتماعي. فإلى جانب مخطوطات استوحيت زخرفتها من بواعث خيرية و/ أو بحثا عن التمجيد الشخصي للمستكتب، يجب أن نأخذ في الاعتبار تزيين الوثائق الرسمية والسجلات والرسائل الرسمية، الذي كان من شأنه إعلاء قيمتها وتحسين مظهرها. وعلاوة على ذلك، فإن ما ينطبق على المخطوطات يمكن تطبيقه كذلك على الوثائق الصادرة عن السلطة العليا. وبما أن كل رسالة (أو تصرف على شاكلتها) كانت مرتبطة بالتأكيد بالشخص الصادرة عنه/ أو المستفيد منها، فإنه توجد صلة وثيقة بين الإقليم الجغرافي وأسلوب الزخرفة، الذي يمكن أن يبدو بالغ القمة لتحديد التوزيع المكاني والتطور التاريخي للزخارف.

/ مظاهر إجرائية

لقد صيغت العديد من النصوص من طرف مهنيين أو لأجلهم في هذا المجال المعرفي أو ذاك. وكانت هذه النصوص تزين أحيانا بطريقة تجعل محتواها ميسورا على الفهم. وتظهر من بين نماذج هذه المقاربة المؤلفات ذات الطابع العلمي أو الفني التي يمكن للعناصر الزخرفية فيها أن تعين على تحسين فهم النص و/ أو الرسوم التوضيحية المصاحبة له. وتنضوي تحت هذه الفئة الرسوم البيانية، والخرائط السماوية أو الأرضية، والرسوم التقنية، وجداول الأرقام، ومعطيات أخرى.

المخطوطات غير الإسلامية السابقة والمماثلة

تحتوي مخطوطات يونانية ولاتينية ترجع إلى الأزمان القديمة المتأخرة أو إلى العصر البيزنطي على عناصر زخرفية مختلفة، يتفق بشأنها ريتشادر إيتيجهاوزن Richard Ettinghausen مع وجهة نظر أدولف جروهمان Adolf Grohmann في أن شكل الإطار الذي يظهر في أقدم أمثلة التزايين الإسلامية مشتق من أنموذج كلاسيكي، هو «الأنسا ansa» أو الـ «تبولا أنساتا tabula ansata»، الذي يستدعي شكله صينية ذات مقابض على شكل وتد[14]، ومن ناحية أخرى تعرّف مؤرخو الفن في الرسوم والتزايين الفارسية القديمة على تأثيرات للرسم الجداري وموضوعات فنية أخرى لآسيا الوسطی وإيران. ويوجد شبه كبير بين مخطوط صُغدي من آسيا الوسطى محفوظ في المكتبة البريطانية BL والزخرفة الرمزية للنصوص في المخطوطات الإسلامية: يتعلق الأمر بلفافة تنبسط وتكشف في بدايتها عن زخرف رمزي لعنوان يصوّر بطّا. وتميل الدراسات المخصصة للكتاب المانوي وزخرفته إلى تأكيد فكرة وجود جانب من الحقيقة في الأساطير التي تتحدث عن جداول الذهب والفضة التي كانت تتدفق من المحارق التي ألقى فيها الفاتح المسلم مخطوطات مزينة ومزخرفة ببذخ. وأرجع مؤرخو الفن بطريقة مقنعة عناصر زخرفية مثل السحب التي على شكل شريط إلى الطرز الصينية، وأزهار اللوتس إلى الأساليب الهندية. ويبدو أن أصل عناصر سعف النخل الموجودة في هوامش العديد من المصاحف المبكرة يرجع إلى إيران السّاسانية. وأخيرا، فإنه توجد صلات وثيقة بين بعض الوحدات الزخرفية المستخدمة في النسيج القبطي وفي المصاحف المبكرة، يدل عليها أنموذج النجمة ذات الثمانية شعب.

وإلى الغرب وبعد عدة قرون واصل تاریخ زخرفة الكتاب والمخطوط تطوره في أوروبا، ولكن تبعا لمسار مختلف تماما عن مسار التزيين الإسلامي. ويبدو بالمقابل أن تصوير الكتاب المسيحي في الشرق الأوسط قد أثر/ على تصاوير الكتب في العراق وإيران إبان فترة تشكلها، ونلاحظ كذلك خلال القرون الأخيرة أنه قد وجدت تقاطعات أخرى في بعض الأماكن وفي بعض الأوقات، وعلى الأخص عندما تسربت بعض عناصر الرّكوكو Rococo الأوروبية إلى قائمة زخارف الفنانين والمزينين المسلمين. ومن جانب آخر، فقد أثرت وحدات زخرفية إسلامية إلى جانب وحدات أخرى قادمة من أوروبا بوضوح على إنتاج الحرفيين اليهود أو الأرمن أو المسيحيين الشرقيين. وخير مثال على ذلك المخطوطات العبرية البالغة القيمة والقادمة من اليمن[15].

العلاقة بين التزيين والفنون الزخرفية الأخرى

 Illumination of an Ottoman alphabet primer, first half of the 19th century. Istanbul, Topkapı Sarayı Müzesi, EH 435, f. 1vo.
73. تزيين عثماني لمبادئ أولية، النصف الأول للقرن التاسع عشر إستانبول، متحف طوبقبوسراي رقم EH 435، ورقة 1ظ.

كيف نفسّر التشابه الذي يبدو أحيانا بين عناصر زخرفة المخطوطات وتلك التي تظهر في أعمال فنية إسلامية أخرى؟ هل هذا مجرد اتفاق أم اقتباس موجود؟ وإذا تعلق الأمر باقتباس، فهل كان المزين غالبا هو المصدر أم المقتبس؟ كيف يجب أن «تُقرأ» الوحدات الزخرفية المختلفة أو تُفسَّر كمصطلحات رمزية أو إيديولوجية ثقافية؟ تظل هذه الأسئلة المشوّقة خارج إطار هذا الكتاب، ولكن يمكن للقارئ الفضولي أن يراجع بخصوصها بفائدة كبيرة الدراسات التي خصصها لهذه الأسئلة العديد من مؤرخي الفن، وعلى الأخص دراسات إيڨا بایر Eva Baer[16]عن تصنيف الزخارف وتنظيمها في الفنون الفرعية والعمارة والصلات بين أشكال الفن، أو أيضا دراسات أوليج جرابار Oleg Grabar[17] عن دور العناصر التزويقية في الفن الإسلامي وتفسيرها.

ولنوجز فنقول: إنه توجد العديد من أوجه التشابه الحادة غالبا - ولكنها ليست دائما علاقات سببية - بين زخرفة المخطوطات وزخرفة الخزف والنسيج والأدوات المعدنية والحفر على الخشب أو الحجر وحتى الملصقات الحديثة أو ملصقات الشاحنات. واقترح إتينجهَوزِن Ettinghausen أن تزيين المخطوطات كان نوعا من «الفن الأم»، والذي يعد غالبا مصدر الوحي الأصلي فيما يتعلق بالوحدة الزخرفية نفسها، للحرفيين الذين يعملون في المجالات التي تفرض الأبعاد الثلاثة[18]. وإضافة إلى المقارنات التي ساقها لدعم أطروحته، فمن اليسير أن نرى أنه كان من السهل التجديد في أثناء العمل في بعدين أولى من العمل في ثلاثة أبعاد.

/ تزايين المخطوط

تقدم المخطوطات المزينة بالخط العربي تنوعا هائلا للعناصر الزخرفية، وهو أمر لا يثير الدهشة بالنظر إلى الامتداد التاريخي والجغرافي الذي تشغله، وكان التصنيف الأسلوبي القائم على تاريخ الأسرات الحاكمة مفيدا في الفترات الأولى لدراسة الفن الإسلامي؛ ولكنه لم يعد كذلك الآن، حيث انكب العلماء على فحص التفاصيل عن قرب واقتحموا آفاقا أوسع للبحث عن الاتجاهات والتأثيرات الممكنة. وتدخل هذه العناصر الزخرفية ضمن كم من الأشكال والتكوينات من أصغر الفواصل بين الوحدات النصية حتى الزخارف الضخمة التي تملأ صفحة كاملة: لكل ذلك يتطلب عرضها تخصيص مكان أكبر من ذلك الذي يتطلبه فحص المظاهر الأخرى.

ولعل أحد الوظائف الكبرى للتزيين هو مصاحبته للوصلات المهمة للنص، فمن الطبيعي أن تظهر هذه التزايين لتوضّح نقاط الاتصال الأساسية بين ما هو نص وما ليس بنص، أي بداية مخطوط ونهايته. ويمكن أن نجد كذلك في هذه المواضع مهام أكثر تخصّصا تضاف إلى ما سبق أن أشرنا إليه. ولتيسير العرض فإننا سنحيل إلى الترقيم المثالي لمخطوط «أنموذجي»، مع العلم بأنه من الناحية العملية يمكن أن تختلف أرقام الأوراق ليس فقط بسبب ما يضاف قبل ما نعتبره يمثل «الورقة الأولى»، وإنما أيضا بسبب فقد هذه الورقة، وأحيانا، على سبيل المثال، قد تنزع الورقة المشتملة على اسم المالك أو التي تحدد أن المخطوط كان موقوفا، في حين لا تبقى سوى الصفحتين المتقابلتين الأولتين للمخطوط. وللأسف، فإن الأضرار من هذا النوع ليست نادرة.

العناصر المصاحبة لبداية النص

إن الحلول التي استقر عليها المزينون عبر الزمن متنوعة جدا، وتكيفت مع تنوع الأوضاع والوسائل المستهدفة. فتوجد مخطوطات تشتمل فقط على أحد التزايين التي سنصفها فيما يلي، بينما تحدد بداية النص في مخطوطات أخرى العديد من الصفحات المزوقة[19]. فالأنواع المعروضة هنا إذا لا يحل بعضها محل بعض، وإنما يمكن لها أن تجتمع معا. وفضلا عن ذلك، فالمخطوط لا يعادل منهجيا وحدة نصية واحدة، وليس نادرا أن نجد نصا ثانيا أو ثالثا لا يبدأ بصفحة جديدة، ولكي يعيّنه المزين للقارئ فإنه يضع عند هذا الموضع زخرفة مماثلة لأحد الزخارف التي سنأتي على وصفها.

/ المصاحف...

*الجزء المتبقي من هذا المقال متاح حصريًا في النسخة المطبوعة من هذا الكتاب. الكتاب متاح بالصيغتين الإلكترونية والمطبوع، وذلك ضمن إصداراتنا على الرابط التالي:

http://doi.org/10.56656/100098


[1] انظر لمقاربة مبدئية، Wensink (T. Fahd), El2 art. Sûra, IX, p. 925 – 928.

[2] احتفظ بهذا المصطلح للعنوان الذي تصحبه زخارف، غير أن المعاني التي ينسبها إليه الباحثون مختلفة جدا.

[3] A. Gacek, AMT p.67، ويرى البعض أن السرلوح هو إطار مزخرف ذو حجم كبير يوجد في بداية النص أو في بداية مقطع من نص؛ وهي مقابل «العنوان» الذي لا ينطبق إلا على إطارات صغيرة تشغل أقل من ربع مساحة الصفحة. وتنطبق كلمة «سرلوح» هنا على مأطروة العنوان.

[4] M.I. Waley, «Problems and possibilities in dating Persian manuscripts», Mss du MO. P. 7-15.

[5] يمكن أن نذكر من ضمن الأمثلة الممكنة نسخة تيمورية ليوسف وزليخا للجامي (لندن رقم (BL Or. 10903.

[6] تشتمل نسخة «رسالة في مدح الكتب»، للجاحظ (مخطوط لندن رقم BL Or. 10903) على بسملة «مستعارة».

[7] انظر فصل «أدوات وتحضيرات صناع الكتاب».

[8] انظر الفصل نفسه.

[9] Y. Porter, Peinture et arts du livre, 1992.

[10] Calligraphers and painters, trad. V. Minorsky, 1959.

[11] A. Gacek, AMT, p. 51.

[12] M. I. aley, «illumination and its functions in Islamic manuscripts», Scribes, p. 87 – 112.

[13] انظر بشكل خاص،M. Lings, The Quranic art of calligraphy and illumination, 1976.

[14] R. Ettinghausen «Manuscript illumination», SPA, p. 1943 – 1944، وانظر أيضا T. W. Arnold et A. Grohmann, The Islamic book, p. 25.

[15] انظر على سبيل المثال ورقتين من أسفار موسى الخمسة المنحدرة من اليمن تعودان إلى سنة 874هـ/ 1469م، والمنشورة في: J. Gutmann, Hebrew manuscript: painting, New York, 1978, pl. 1 et 2.

[16] E. Baer, Islamic ornament, Edinburgh, 1998.

[17] O. Grabar, L’ornement. Formes et fonctions dans l’art islamique, Paris, 1996.

[18] R. Ettinghausen, op. cit., p. 1938.

[19] راجع مخطوط باريس رقم (BnF suppl. persan 1525)،(F. Richard, PARIS 1997, p. 106, no62).

ملاحظة:
نشر النص في الكتاب التالي:
المدخل إلى علم الكتاب المخطوط بالحرف العربي، 2010 - النسخة العربية، مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، لندن، ص 378-343، نقله إلى العربية وقدم له أيمن فؤاد سيد.
Back to Top