صلاح الدين المنجد الباحث والمحقق

شارك:

عبد الكريم اليافي

محتويات المقال:
النشأة والبيت والتحصيل
تنقله في المناصب والنشاط العلمي
مخايل النبوغ وبدء التأليف والنشر
تتمة في أعمال الدكتور المنجد وتآليفه ومبادرته تحقيق «تاريخ دمشق»
تعليقات في إيضاح شخصية الدكتور المنجد ومكانته
الخلاصة
تحية الشعر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد، فإننا نريد في هذا البحث أن نبيين صفات عالم من علمائنا المعاصرين، ومزايا أديب من أدبائنا النابهين، ممن يستحقون كل تكريم وإشادة، ويستأهلون كل تنويه وشهادة، لأنهم وهبوا للعلم والأدب والثقافة أعمارهم، وبذلوا فيه جهودهم وطاقاتهم. ونعني بذلك الدكتور صلاح الدين المنجد، أمدّ الله في حياته، وأمتع الناس والباحثين والناشئين بآثاره النافعة وكتاباته الجيدة الناجعة. فنذكر أطرافًا من نشأته، ومراحل تحصيله العلمي، ومعالم من أعماله وآثاره. هذا ولا شك في أن البحوث الحديثة في حياة النابغين من علماء وأدباء ومفكرين ومؤلفين أبانت فضل البيوت الكريمة التي نشؤا فيها، والبيئات الفاضلة التي درجوا في أحضانها، والقدوات الصالحة التي تأسوا بها، وتقيلوها، وساروا على نهجها، وطبعوا على غرارها، من بعد الهمة، ومحبة العلم، ومزاولة للأدب، وتنقل في التحصيل وسمو إلى معالي الأمور.

النشأة والبيت والتحصيل

صلاح الدين المنجد
صورة تجمع بين د. صلاح المنجد ومعالي الشيخ أحمد زكي يماني

ولد صلاح الدين في حي القيمرية القديم، جنوب المسجد الأموي بدمشق، في أسرة عريقة في العلم، والتدين، والنهل من مناهل التراث العربي الإسلامي، والده، عبد الله، انصرف في تباشير شبابه إلى العلوم العربية الإسلامية، فحفظ القرآن على الشيخ محمد الشرقاوي المصري، ثم قرأ القراءات السبع على الشيخ أحمد دهمان، وحفظ الشاطبية، ثم حفظ الدرة، وهي ما يسمى بالقراءات العشر الصغرى، ثم عكف على دراسة العربية والتفسير والحديث والفقه الشافعي على الشيخ بكري العطّار، وأجازه فيها جميعًا. وقرأ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وبقية كتب الحديث الستة، الشيخ عطاء الله الكسم، وعلى محدث الشام، الشيخ بدر الدين الحسني. ثم أراد أن يجمع القراءات العشر الكبرى، فأخذ ذلك عن الشيخ شرف الدين المصري، فتم له بذلك رئاسة الإقراء في دمشق، وغدا شيخ القراء المقرئين فيها.

لقد شرحنا ذلك لتبرز الجو العلمي الإسلامي التراثي العميق الذي نشأ فيه صلاح الدين. هذا وقد كانت دراسته الابتدائية في مدرسة البحصة، وكانت مدرسة مشهورة، ثم انتقل إلى الدراسة الثانوية في مكتب عنبر، وهي مدرسة تخرج فيها غالبية المثقفين والعلماء ورجال الدولة في دمشق وسورية، وانتقل إلى الكلية العلمية الوطنية، وكان من أساتذتها المشهورين الشيخ محمد بهجة البيطار، والشاعر الدمشقي الكبير خليل مردم بك، الذي شغل بعد حين منصب رئيس المجمع العلمي (مجمع اللغة العربية اليوم).

ولما تخرج كانت المؤسسة الرسمية إذ ذاك بحاجة إلى شبان مثقفين ناشطين، فسمي أمينًا للتعليم العالي والفني في وزارة المعارف، ولكنه كان طموحًا، فانتسب إلى معهد الحقوق لدراسة القانون. قضى ثلاث سنوات فيه، وهي مدة دراسة الحقوق لنيل الإجازة فيها. وكان من أساتذته الشيخ أبو اليسر عابدين، والأستاذ سعيد المحاسني، والأستاذ عبد القادر العظم، عميد المعهد، والأستاذ فايز الخوري، والدكتور سامي الميداني. ولما تخرج تفتحت له في ذلك الوقت أبواب المناصب في مختلف المؤسسات والوزارات: سمي رئيسًا لديوان الإعاشة، ثم رئيسًا لديوان مدير الآثار، بعد مسابقة كان الأول فيها، ثم مديرًا للآثار بالوكالة، ثم مديرًا للعلاقات الثقافية والبعثات في وزارة المعارف. ولم يقف طموح هذا الشاب الناشئ عند هذا الحد، بل تشوّف إلى نيل الدكتوراه. فأُفد في بعثة إلى باريس، ونال الدكتوراه في القانون الدولي العام. وكان في أثناء دراسته يتابع دروسًا في علم المكتبات وعلم الخطوط، ويختلف في الحين تلو الحين إلى متحف اللوفر الشهير للاطلاع على أوابد الفن العالمي، ولاسيما ما فيه من آثار فنية إسلامية.

تنقله في المناصب والنشاط العلمي

ولما عاد بهذه الثقافة الواسعة إلى وطنه سورية، وبلده دمشق، رشح للعمل في جامعة الدول العربية. فسمي مديرًا لمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة، ثم مستشارًا. وكانت السنوات الست اتي لأمضاها في المعهد من أخصب السنين عملًا وإنجازًا واطلاعًا وإنتاجًا. لقد أتيحت له زيارة المكتبات العالمية الحافلة بالمخطوطات العربية. فقد قام هو وبعض موظفي المعهد برحلات في بلاد العالم للاطلاع على تلك المخطوطات. وتسنى له أن يتجول في ليننغراد وموسكو وطشقند وبخارى وسمرقند. وكذلك زار طهران ومشهد في إيران، ومكتبات الهند، وحظي بتأمل مخطوطات تونس والمغرب، ودخل مكتبات الفاتيكان في روما، والأمبروزيانا في ميلانو، واستفاد من مكتبات توبنغن وغيرها في ألمانيا. ويقول الدكتور المنجد، من دون مبالغة، إنه رأى بعينيه من المخطوطات ما لم يره غيره. وقد صور الكثير من تلك المخطوطات النادرة وذات الشأن حتى إنها بلغت ألوفًا مؤلّفة. ووجد حيثما سار، وأينما حل، أصدقاء قدموا له العون، ويسروا المصاعب، عربًا كانوا أو غرباء، أو مسلمين، أو مستشرقين. وهكذا اغتنى المعهد بصور المخطوطات العربية المختارة من شتى بقاع العالم، وغدا ركنًا ومرجعًا في هذا المجال، ومهلًا ثرًا للباحثين والمنقبين في مضمار التراث العربي الإسلامي الواسع.

وقد شعر مدير المعهد بالحاجة إلى وضع قواعد منهجية علمية لتحقيق المخطوطات العربية، فأقدم على وضعها، وقدم ما قرره وانتهى إليه إلى مؤتمر المجامع العلمية المنعقد عام 1956، وأقرّتها لجنة تحقيق المخطوطات، وطبعت في كتاب غدا مرجعًا مهمًا في هذا الشأن. ولهذه الصفات العلمية الممتازة، والجهود المبذولة، لم يكن بد لصاحبها من أن يُدعى إلى المشاركة في مؤتمرات علمية إقليمية وعالمية متعددة في شتى أنحاء العالم. وكانت لمشاركته فوائد متعددة للمعهد، ولثقافته هو نفسه. كذلك لم يكن بد من أن يدعى إلى إلقاء محاضرات في معاهد علمية وجامعات عربية وأجنبية. وقد انتخب عضوًا مراسلًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في 23 نيسان (إبريل) 1956، كما اختير عضوًا في المعهد الألماني للآثار ببرلين عام 1958. وطلبت جامعة برنستون في نيوجرسي بالولايات المتحدة الأمريكية إلى جامعة الدول العربية إعارته لها أستاذًا زائرًا خلال العام الدراسي 1959- 1960 فاطّلع أيضًا على ما في هذه الجامعة، وفي مكتبات الجامعة الأمريكية، ومتاحفها، والمكتبات الخاصة من مخطوطات.

وفي آخر تطوفاته ترك معهد المخطوطات آسفًا، وغادر القاهرة، واتخذ بيروت مقرًّا علميًّا أراد أن يكون له فيها مركز للتأليف والنشر سماه «دار الكتاب الجديد»لينشر مؤلفاته ومؤلفات أصدقائه وما يفيد الثقافة العربية. ويتحدث الدكتور المنجد عن مشكلات المخطوطات العربية، وكيف أنها ابتليت بتجار من أبناء البلاد، بهرهم بهرج الدولار وغيره من عملات النقد النادر، فعكفوا على البحث عن تلك المخطوطات في ربوع البلاد العربية، ليبيعوها، زهدًا فيها، وقلة دراية بقيمتها الحقيقية، وسعيًا للكسب المادي، ولو كان هذا المكسب لا يقره ضمير قومي. ولكن الدكتور المنجد يستدرك في الوقت نفسه، فيرى أن وراء هذه الآفة، آفة تجار الكتب وهجرة قسم كبير منها إلى مكتبات الغرب وجامعاته، فائدة لتلك المخطوطات نفسها، لأنها في غالبية الأحيان وجدت هنالك من يعني بها، ويحفظها، ويرد عنها غارات الحشرات الحيوانية والنباتية كالسوس والأرضة والفطور بله الحشرات الإنسانية الجاهلية الغارقة في مستنقع المادة السريع.

هل قرّ الدكتور المنجد نفسًا وحالًا في بيروت؟ وهل طفق يكب على نشر بحوثه وبعض المخطوطات النادرة في التراث العربي الحافل؟ لقد سار في هذا السبيل بعض الخطوات، ولكن هيهات له أن يقر وأن يستقر! ليس للباحث العربي مأوى آمن في أرجاء الوطن العربي الفسيح الواسعة المترامية. ذلك أن هذا الوطن تتوزعه النكبات الداخلية والخارجية. إن التراث العربي الإسلامي محاط بأعداء البلاد العربية، يتحيفون غناه، وثراءه، وسكانه. وقد انتحل أولئك الأعداء مكاسبه العلمية والروحية والإنسانية. وكذلك ابتلي التراث برهط من شذاذ الآفاق، لا يهدأ تزويرهم، وانتحالهم لماضي الحضارة العربية الإسلامية، وأمجادها، وتقويض وحدتها المستمرة الخالدة.

أراد الدكتور صلاح الدين في مقامه ببيروت أن يخوض غمار السياسة، وأن يعالج بقلمه المرهف المشكلات التي تعانيها البلاد العربية الإسلامية جمعاء. وقد علمنا أن أصابع خبيثة مجرمة أحرقت مكاتبه العامرة الغنية، ففقد أعز مكاسبه ومخطوطاته. وكاد يفقد حياته، ولكنه بحفظ الله- جل شأنه- نجا من الهلاك.

ونحن نريد هنا أن نواسيه بعض المواساة، بأبيات كان واسى بها قديمًا أبو الفضل بهاء الدين زهير صديقًا له، غرقت سفينته في البحر، وذهب كل ما كان فيها من رزق ومتاع، ونجا هو بروحه:

لا تعتب الهرَ في حالٍ رماكَ به إن استردَّ فقدما طالما وَهبا
حاسبْ زمانك في حالي تَصرّفِه تَجدْه أعطاك أضعاف الذي سلبا
واللهُ قد جعل الأيامَ دائرةً فلا ترى راحةً تبقَى ولا تَعَبا
ورأسُ مالِكَ وهْيَ الروحُ قد سلمتْ لا تأسفنَّ لشيءٍ بعدَها ذَهبا

مخايل النبوغ وبدء التأليف والنشر

لنتأمل بعض التأمل حب صلاح الدين للتراث العربي، وظهور مخايل النبوغ عليه في ميعة صباه وريعان شبابه، حين طالع كتب ذلك التراث الفني، وتمحّن في سرد الأخبار فيها، واستطاع أن يتجاوز مجرد السرد، وجملة الأخبار، إلى استخلاص ألواح مسرحية بديعة، فألف ونشر وهو في العشرينيات من عمره كتيبًا لطيفًا سماه «إبليس يغني» وذلك عام 1943. وهو يقول في مقدمة الكتيب، يناشد الناشئة من أبناء العرب، ويتصور واحدًا منهم، يخاطبه حاثًا على التجديد والابتكار:

«خذ من الأدب العربي القديم ما شئت، واعرضه عرضًا حديثًا، يقره الذهن، ويرضاه الذوق، ويجاري العواطف، ويلائم الأفهام، ولا يخرجه عن جوهره، تلقَحْ القديم بالجديد، وتَفُزْ بقطع من البيان يقطرن الأناقة والجمال، وتصطفِ منه الذهب والجوهر، وتنبذ الخزف والنوى».

ويدافع المؤلف عن الأدب العربي، ويرى في عمله ضربًا من التجديد، فيقول بشيء من الفخار: «هذا هو التجديد، كما أعتقد، في لون من ألوانه، وليس التجديد تعصبًا للأدب الغربي، وجهلًا للأدب العربي، وإهمالًا لتراث عبقري عظيم». ومع ذلك كانت المشروعات العلمية والأدبية تتلامح جمة غزيرة في أفكاره. فهوفي عام 1947 ينشر، مع عضو المعهد الفرنسي للآثار ببيروت، دليلًا بعنوان «تدمر عروس الصحراء» أصدرته مديرية الآثار العامة بدمشق. وكان صلاح الدين إذ ذاك رئيس ديوان المديرية، وقدم للكتاب الأمير جعفر الحسني، عضو المجمع العلمي بدمشق.

كان الشاب صلاح الدين تستهويه أخبار النساء الأديبات في الشرق والغرب. نشر عام 1945 بدمشق كتيبًا بعنوان «نساء عاشقات» ضمن منشورات «أصدقاء الكتاب» انتزع أخبارهن من الأدب الفرنسي الذي كان مطلعًا عليه، صدّره بمقدمة يحلو لنا أن نورد استهلالها:

«هؤلاء نساء عاشقات بَلَوْنَ الحب فعرفنه. وقديمًا قالوا: لا يعرف الحب كالنساء. فمن أراد أن يجلو سره، ويذوق حلوه ومره، ويدرك نفعه وضره، ويعلم خيره وشره، ثم ينهج فيه نهجًا يبلغه الأمن والسلامة، والراحة والهناءة، فليقرأ أقاصيص النساء العاشقات، وليأخذ منها ما يحلو له ويطيب. فهو لا بد واجد ما ينير له الطريق، لأنهن يدركن من الحب برهف إحساسهن، ورقة عاطفتهن، وفرط حنانهن، وغلبة ضعفهن، ما لا يدركه الرجال».

تجد أيها القارئ الكريم حسن تأتي المؤلف لموضوعه وتقدر هذا الأسلوب البسيط المترسل السليم، الذي يذكرنا بأسلوب عميد الأدب الدكتور طه حسين، ونراه حين استقر في بيروت يعيد طبعه عام 1967 في دار النشر التي أسسها «دار الكتاب الجديد».

وكذلك نجده يطالعنا بكتاب آخر ممتع ومفيد وأوسع من سابقيه وهو «أمثال المرأة عند العرب. ما قالته المرأة العربية وما قيل فيها» نشره في «دار الكتاب الجديد» عام 1401ه- 1981م.

هذا وقد نشر أيضًا في هذا المجال كتبًا مسلية وجذابة مثل «جمال المرأة عند العرب» و«الحياة الجنسية عند العرب» و«مؤلفات الحب عند العرب، تحليل لمؤلفات الحب من الجاحظ المتوفى سنة 255 حتى داود الأنطاكي المتوفى سنة 1008».

على أن صلاح الدين انتبه في أول عهده، كباحث في علم الاجتماع، لأحوال الطبقات الاجتماعية، ولا سيما الطبقتين، العليا المترفة، والسفلى الفقيرة البائسة، وعمد إلى عرض صفاتهما، وخصائصهما، وطراز حياتهما، في حاضرتين مشهورتين، إحداهما قديمة، وهي بغداد، وثانيتهما حديثة، وهي باريس. وذلك في كتابه «الظرفاء والشحاذون في بغداد وباريس» وكان عرضه لحياة الترف وحياة البؤس في كلتيهما شائقًا، يجعلنا نعمم تلك الصفات تقريبًا، مع اختلاف الزمان، وتباين الملابسات والصروف، على جميع الحواضر الكبرى في العالم، وفي شتى العهود. وقد قدم للكتاب الأديب المصري الشهير، أحمد حسن الزيات، فقال فيما قاله:

«إن في الجمع بين طبقتين متضادتين من أهل بغداد، وفي الموازنة بين أحوالهما وأحوال أشباههما من أهل باريس، لدليلًا على طرافة في طبع الأستاذ المنجد وطرافة في ذوقه وإن في عرضه لهاتين الصورتين هذا العرض المشوق الجذاب إغراء للقارئ بطلب المزيد، وإيحاء للمستزيد بتقديم الشكر».

إن التراث العربي الإسلامي واسع سعة المحيط الخضم، بل هو أوسع من المحيطات. ومن الجدير بأبنائه الاهتمام بكل جزء من هذا التراث الغني الواسع. ومن المعلوم أن الركن الجغرافي فيه ذو أهمية كبيرة، إذ يعرفنا العادات التي كانت جارية في البلاد والأقطار، وكذلك الأعراف، والسلع، ومرافق المعيشة. وقد عمد مستشرق كبير إلى هذا الركن الجغرافي، فاستخرجه من مخابئ المكتبات القديمة، ونشره نشرًا مناسبًا، وهو المستشرق «دي خوي» الهولندي، وأسس بذلك المكتبة الجغرافية العربية الحافلة. وثمة مستشرقون آخرون ساروا في هذا النهج، واهتموا ذلك الاهتمام. فرأى الدكتور المنجد أن يتحف القراء، محبي التراث العربي، بنصوص منظمة، يختارها من كتب المؤلفين القدامى. نشر كتاب«مالي عند الجغرافيين المسلمين» في «دار الكتاب الجديد» عام 1963 ثم أعاد نشره فيها عام 1982. وكذلك نشر «دمشق عند الرحالين والجغرافيين المسلمين». والكتب الجغرافية العربية القديمة زاخرة بالمباحث المفيدة الفاخرة.

عرضنا بعض تآليف الدكتور المنجد المبكرة، وبعضها المتأخرة، وبيّنا نصيبًا منفوائدها وابتكاراتها. ولو عدنا إلى تصفح تلك الآثار، وإبراز ما فيها من متاع وفائدة، ومن جهد نافع، وجنى يانع وسائغ، لطال بنا الأمد، وألّفنا أكثر من كتاب في هذا الشأن. وهذا يخرج عن مقصدنا في هذا البحث الموجز العام. ولكن يهمنا أن نعرض لاقتحامه تحقيق مخطوطة من أكبر المخطوطات المعروفة في التراث، وأكثرها أهمية وفائدة، وهو كتاب «تاريخ دمشق» لابن عساكر، وافتتاحه هذا السبيل، وتعبيده وتيسيره لمن يقوم بإكماله بعده من الباحثين والمدققين والمحققين والناشرين.

تتمة في أعمال الدكتور المنجد وتآليفه ومبادرته تحقيق «تاريخ دمشق»

إن أعمال الدكتور صلاح الدين في مجال التراث والثقافة واسعة جدًا تكاد تنيف على مئة وخمسين عملًا سواء كان مطبوعًا أو مخطوطًا، متوافرًا أو نافدًا مفقودًا. وما أظن إلا أنها ستعرض في كتاب تكريمه ولكنا هنا نشير إشارات عامة إليها لبيان تعدد موضوعاتها وتوزع أقسامها وذلك دون حصر ولا استقصاء.

1- منها معاجم، كمعجم ما ألف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكمعجم النساء، الذي جمع فيه كل ما ورد في المعاجم العربية عنهن، ومعجم المؤرخين الدمشقيين وآثارهم المخطوطة والمطبوعة والمفصل في الألفاظ الفارسية المعربة في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث النبوي، ومعجم الخطاطين والنسّاخين والمصورين والمزوّقين في الإسلام، ومعجم أسماء المماليك، والمعجم الطبوغرافي لمدينة دمشق وغيرها.

2- دراسات تاريخية: كالحوادث الكبرى في عصر بني أمية، وأعلام التاريخ والجغرافيا عند العرب، ومأساة سقوط دمشق ونهاية الأمويين، والسير الذاتية في التراث العربي وما إلى ذلك.

3- دراسات جغرافية تاريخية: كالخليج الفارسي أو العربي عند الجغرافيين العرب، ودمشق عند الرحالين والجغرافيين العرب، ومملكة مالي عند الرحالين والجغرافيين المسلمين.

4- دراسات اجتماعية: الظرفاء والشحاذون في بغداد وباريس، بين الخلفاء والخلعاء في العصر العباسي، الحركات التقدمية في العراق حتى غزو التتار.

5- دراسات عن الخط: دراسات عن الخط العربي منذ نشأته إلى آخر العصر الأموي، أشهر الخطاطين في الإسلام: ياقوت المستعصمي، الشيخ حمد الله الأماسي، ابن مقلة، الخط العربي من الناحية الحضارية.

6- المؤلفات الأدبية: إبليس يغني، نساء عاشقات، جمال المرأة عند العرب، مؤلفات الحب عند العرب (من الجاحظ حتى داود الأنطاكي)ن أمثال المرأة عند العرب، من أظرف ما قرأت...

7- المخطوطات العربية: قواعد تحقيق المخطوطات العربية، فهرس المخطوطات في مكتبة الأمبروزيانا، فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الكونغرس، قواعد فهرسة المخطوطات العربية، قواعد ضبط النصوص عند الأقدمين، المخطوطات العربية في فلسطين.

8- دراسات في الفكر السياسي المعاصر: أعمدة النكبة: أسباب هزيمة حزيران، بلشفة الإسلام، فيصل بن عبد العزيز والتضامن الإسلامي.

9- دراسات استشراقية:المنتقى من دراسات المستشرقين، المستشرقين الألمان.

10- الوثائق السياسية: سورية ومصر بين الوحدة والانفصال، اليمن والجمهورية العربية المتحدة بين الوحدة والانفصال، مجموعة التصريحات الصحافية والرسمية للملك فهد بن عبد العزيز، وثائق سياسية من العهد الفيصلي بدمشق والمعهد الوطني.

11- مخطوطات محققة ودراسات في شتى المجالات.

تعليقات في إيضاح شخصية الدكتور المنجد ومكانته

رأينا نشأة صلاح الدين، ومراحل تحصيله، ونهله من مناهل العلم والثقافة العربي، وسفره إلى فرنسا لاستكمال علومه في الحقوق وفي التاريخ. ورأينا كيف كان يختلف إلى متحف اللوفر مهتمًّا بالآثار والفنون، وعلمنا كيف تدرج في المناصب الإدارية والعلمية منصبًا فمنصبًا، وأن إدارته لمعهد المخطوطات العربية، وأسفاره في زمن تلك الإدارة لزيارة مكتبات العالم بحثًا عن المخطوطات العربيَّة وتصويرًا لها، قد جعله يضم إلى ثقافته حِنكة وتجربة ودِراية كبيرة وعميقة في مجال المخطوطات، وكذلك علمًا بأمكنتها، واطِّلاعًا على أنواعها، وعلى أحوالها. ويبرز من خلال تلك الثقافة الواسعة كونه أديبًا قبل كل شيء، وكاتبًا مُجيدًا إلى جانب أخذه بطرفٍ من كل علم من العلوم في مراحل تفتحه على الثقافة العربية ثم على الثقافة الغربية. لقد قرا صلاح الدين في صباه كثيرًا من كتب الأدب، وطالع الصحف والمجلات التي كانت تصدر إذ ذاك، وكان لأستاذه الشاعر الأديب خليل مردم أثر بارز في حبه للأدب العربي، واطلاعه على كنوز الأدباء والشعراء في تاريخ الأدب العربي الطويل العريض الواسع، وإعجابه بتلك الكنوز الباهرة من مطبوعات ومحفوظات، ومن بحوث جادة ورفيعة في تلك الميادين والمجالات.

وقد وهب الله للشاب ذاكرة قوية، وحافظة جامعة، وأدى ذلك به إلى تجويده فن الكتابة، وحسن الترسل فيها، وإلى أن تنشر له الصحف والمجلات المشهورة ما كان يبعث به إليها أحيانًا من مقالات تلفت أنظار القراء وتنير أفكارهم.

ويقص علينا الفتى الأديب الناشئ كيف أنه استمع إلى محاضرة لرئيس المجمعالعلمي العربي ومؤسسه، الأستاذ محمد كرد علي، عام 1940، فلمح فيها هفوات تستحق المراجعة والنقد. فنشر ملاحظاته عليها في مجلة الأديب المصري المشهور أحمد الزيات. ولكن رئيس المجمع بصفته عالمًا، بدلًا من أن يغضب، ارسل إليه يطلب لقاءه، ثم رأى فيه بوادر النبوغ، فطلب إليه أن يمضي في الكتابة، وشجعه بعد أن أعجبه أسلوبه أي تشجيع، وفتح له باب مكتبته العامرة، ووجهه نحو الاهتمام بتاريخ دمشق التليد، وعلمائها الكرام، وثراء تراثها الحافل. ورأى فيه طليعة الشباب الذين يجدر بهم الانكباب على ذلك التراث، ليمسحوا عنه غبار السنين الخوالي، ويبرزوا جوانبه المتألقة.

كان لهذا اللقاء آثار طيبة رائقة وراقية. فقد طفق صلاح الدين يلازم المكتبة الظاهرية، ويعيش، على حد تعبيره، مع مخطوطاتها، ويجد من إدارتها كل عون. ثم قيّض الله صحبة العلامة الشيخ محمد دهمان، وهو ما هو في الاطلاع على آثار دمشق وتراثها، فتيسرت له دراية بكل معالم دمشق من أسوار وأبواب وأبراج وغيرها، وكذلك بيمارستان نور الدين الشهيد، وقصر أسعد باشا العظم بدمشق، واستطاع أن ينشر ما يتعلق بذلك في مجلة المشرق ببيروت. وقد حقق في إبّان ذلك قطعة من كتاب «تنبيه الطالب وإرشاد الدارس لما في دمشق من المدارس» للنعيمي تتعلق بدور القرآن، ثم حقق «مختصر الطالب» للعلموي. وأدرك ببصيرته النافذة أنه من المناسب وضع مخطط لمدارس دمشق ومساجدها وطرقها ودروبها وأحيائها، فراح، على حد تعبيره، يطوف في كل حي، ويزور كل مدرسة وجامع، ويدخل كل بيت قديم، ويثبت الأماكن ومواقعها مدة سنة كاملة، حتى استطاع وضع مخطط لدمشق القديمة، بيّن فيه أسوارها وأحياءها ودروبها وكل مدرسة أو مسجد زال من الوجود أو ما يزال قائمًا. وجعل هذا المخطط ملحقًا لكتاب «مختصر الطالب» للعلموي الذي ذكرناه آنفًا.

وهنا نأتي إلى عمل مهم جدًا، وفائق جدًان يخط سطرًا بديعًا في تاريخ التحقيق، وهو بداية الاهتمام بكتاب «تاريخ دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأمثال أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها» وهو مخطوط تبلغ نسخه ثمانين مجلدة للإمام الحافظ والمؤرخ الكبير والمحدث الشهير أبي القاسم علي بن الحسن الدمشقي المعروف بابن عساكر (499/ 571ه= 1105/ 1176م). ذلك أن الشاب الأديب الدكتور صلاح الدين كان يتردد على رئيس المجمع، الأستاذ محمد كرد علي، بعد ذلك اللقاء، فكان يزوره في مقر المجمع، وفي داره، وفي قريته جسرين بالغوطة، ويفيد من حماسته للعلم وتحقيق التراث، ويساعده في بعض أعماله. وقد تكلم رئيس المجمع مرة على تقاعس أعضاء المجمع بدمشق عن تحقيق ذلك الكتاب الواسع كالعباب، والنافع في مختلف المقاصد والآداب، علمية وتاريخية وترجمات لسير الرجالات أولي الفضل والآداب. وكانت كل مجلدة من الثمانين تضم ما يقارب ألف ورقة. فانبرى الدكتور صلاح الدين وعرض على الرئيس عزمه على مبادرة التحقيق. فلاحت ابتسامة ابتهاج وإعجاب على محيّا الرئيس. ومضى الدكتور يبحث عن مخطوطات الكتاب الموسوعي، ويجمعها ما استطاع. ثم أمضى عامين مكبًّا، يعمل على تحقيق المجلدة الأولى، حتى صدرت في الأول من المحرم 1371 الثالث من تشرين الأول 1951، وكان ذلك فتحًا في بدء تحقيق تلك الموسوعة الكبيرة. إنها موسوعة كبيرة حير اتساعها وضخامتها العلماء والكتّاب. «قال ابن خلكان: قال لي شيخنا الحافظ زكي الدين عبد العظيم، وقد جرى ذكر هذا التاريخ وطال الحديث في أمره: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت. وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان مثل هذا الكتاب».

لقد رفعت الحضارة الإسلامية علم التاريخ إلى مكانة عالية، وجعلت له فروعًا متعددة، كما رفعت سائر العلوم، وأوصلتها إلى درجة الكمال في عصورها. وكتب التاريخ العربية كثيرة. نقرأ في موسوعة «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لمؤلفه مصطفى بن عبد الله، الشهير بين أهل الديوان بحاجي خليفة، وبين علماء البلد بكاتب جلبي (1017- 1067/ 1609- 1657)، قول المؤلف: «وأما الكتب المصنفة في التاريخ فقد استقصيناها إلى وثلاثمائة». وهذا الزمان في القرن الحادي عشر الهجري. ويدخل في علم التاريخ كتب الطبقات، وكتب الوفيات، وكتب الجرح والتعديل، وأخبار الرحلات، كما يدخل فيها تواريخ المدن. نجد طائفة من هذه التواريخ الأخيرة في موسوعة «كشف الظنون» نفسها، فقد ألّف المؤرخون أكثر من تاريخ في مدن شهيرة كبغداد ودمشق وحلب. وراجت تلك التواريخ، وذيلت، واختصرت، واختير بعض فصولها. وأهم تلك التواريخ «تاريخ دمشق» الذي نحن في صدد الكلام عليه وعلى أهمية تحقيقه للإفادة من مضامينه الثرة الثرية المتفرعة الشهية.

لقد استهل رئيس المجمع العربي بدمشق، فكتب توطئة للمجلدة الأولى، ولمحة عن ترجمة ابن عساكر. ثم عمد الدكتور المنجد بعد هذا الاستهلال إلى كتابة مقدمة ضافية وافية جيدة مفيدة جعلها ثلاثة أقسام. ففي القسم الأول يبحث عن مصادر ترجمة المؤلف القديمة، فيجد لها فرعين: المصادر الأصول، جاءت في القرن السادس الهجري مؤلفوها أقرباء الحافظ ورفاقه ومعاصروه ومن لقيهم واجتمع بهم. والمصادر الفروع، جاءت في القرون التالية حتى القرن الحادي عشر. ثم يقفي ذلك بالدراسات الحديثة، وينتقل بعدئذ إلى بيئة الحافظ، وأهل بيته، ومن قرأ تاريخ دمشق عليه، ثم ها هو ذا يتتبع مراحل تحصيله العلمي، فيروي له أول سماعه، واستكتابه الشيوخ، ويورد مراكز العلم التي تردد إليها بدمشق، ورحلته الأولى غلى العراق، وترسله بين علماء دمشق، والعالم البلخي الحنفي الذي قدم دمشق ولكنه ضاق ذرعًا بخلافات علمائها، فهجر دمشق إلى مكة، ولكنهم أدركوا سوء ما صنعوا، فيحمّلون الشاب الحافظ، وهو في سن الحادية والعشرين، رسالة يسترضونه بها، فيمضي الحافظ ويحج ويؤدي الرسالة. ثم يعود الحافظ إلى العراق، ويختلف إلى المدرسة النظامية، ويطوف في العراق، ويذيع ذكره، ثم يؤوب إلى دمشق. ولكنه يستعد مرة جديدة للرحلة إلى خراسان طلبًا للحديث والعلم. ويعمد الدكتور صلاح الدين إلى كتابة ثبت بأسماء البلاد التي زارها في بلاد فارس وخراسان، وإلى رسم خريطة للعالم الإسلامي في القرن السادس. ويعود الحافظ أبو القاسم إلى دمشق، للجلوس والرواية واستمرار التأليف والإنتاج. ويشير مؤلف «تاريخ دمشق» في مقدمة كتابه اللطيفة إلى علاقته بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، وتشجيع الملك له في استكمال كتابه التاريخي، وإكرام الملك للعلماء، واحترامه لهم «منعمًا عليهم بإدرار الإحسان إليهم» وهو الذي بنى في دمشق «المدرسة العادلية» و«دار الحديث» وعهد إلى ابن عساكر بشؤونها. ونذكر نحن بأنه هو الذي أبلى بلاءً حسنًا في مكافحة الصليبيين، وعمل على تحرير مدينة القدس، وأمر بتهيئة منبر للخطابة فائق الصنعة للمسجد الأقصى، حمله صلاح الدين الأيوبي غبَّ تحريره من الفرنجة، ثم أجرم الصهيونيون في الوقت الحاضر بالتآمر على إحراق هذا الأثر الفني الرائع كما هو شأنهم في الكيد والتخريب. هذا وقد اشتهر التاريخ الإسلامي بالتواصل الدائم بين العلماء والحكام. ثم يذكر الدكتور المنجد ألقاب الحافظ العلمية، وتآليفه، ثم يعقب على ذلك بالكلام على «تاريخ مدينة دمشق» ومكانة التآليف الإسلامية، ومتى ألف الحافظ كتابه، ومدة تأليفه، والنهج الذي اتبعه فيه، وما إلى ذلك من مقارنات بينه وبين أمثاله من تواريخ المدن، ثم الذيول التي كتبت للتاريخ نفسه، ومختصراته، والمختارات منه.

وأما القسم الثاني من المقدمة فيتعلق بنسخ الكتاب المعروفة في خزائن الكتب العالمية ووصفها. والقسم الثالث يتعلق بموضوعات المجلدة الأولى ومصادرها الشفهية والمكتوبة.

حقق الدكتور المنجد المجلدة الأولى على أفضل وجه، فانهال عليه الثناء من أعضاء المجمع، ومن أعلام العلماء، والمؤرخين، والمحققين، أمثال حمد الجاسر، والشيخ محمد دهمان، والدكتور مصطفى زيادة، والمستشرق الألماني ريتر، وأفاد من بعض ملاحظاتهم. وهذا النجاح جعل المجمع العلمي العربي بدمشق يكلفه تحقيق المجلدة الثانية. وهي تشمل قسمين متفاوتين في الموضوع: الأول خطط دمشق، والثاني السيرة النبوية.

عمد الدكتور إلى تحقيق الجزء الأول، وقد رأينا آنفًا مدى حبه لمدينته دمشق، واهتمامه بتحقيق بعض الكتب التراثية التي تتناول تاريخ دمشق لمؤلفيها، كالنعيمي، والعلموي، ووضعه مخططًا لخطط دمشق، وطوافه في أحيائها للاطلاع على أحوال مدارسها، ومساجدها، وأسوارها، وأبوابها، ومختلف مواقعها التراثية، واتصاله بالشيخ محمد دهمان، المختص بآثارها وتراثها المعماري، فكان مؤهلًا أفضل تأهيل لمثل هذا المقصد العلمي، وحقًا قام به أجدر قيام وأكمله.

ذكر في مفتتح التحقيق العلماء القدامى الذين كتبوا في تاريخ دمشق قبل ابن عساكر وصفات كتبهم. ثم أشار إلى النهج الذي اتبعه في التحقيق على غرار ما سبق في المجلدة الأولى. وآثر أن يضع مخططين لمواقع الأماكن والمحال: الأول لما كان منها داخل السور، والثاني لما كان خارج السور. وصدر القسم الأول من المجلدة الثانية عام 1954، أي بعد ثلاث سنوات من صدور المجلدة الأولى. أما القسم الثاني وهو السيرة النبوية- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- فقد حققته السيدة نشاط غزاوي في جزأين بعد حين من الزمان. ظهر الجزء الأول سنة 1984 والثاني سنة 1992.

وقد أكب في غضون ذلك شبان وشيوخ على توزيع بعض المجلدات، ثم منعت صروف وأحوال مختلفة مثابرتهم على هذا العمل المجيد، فآل التحقيق إلى الآنسة سكينة الشهابي، التي أخرجت ستة عشرة مجلدة محققة، وتحلت بالصبر والمثابرة وتحمل المشاق المختلفة بعد أن أسهمت بالمشاركة في تحقيق المجلدة الثالثة والثلاثين. لقد ظهرت المجلدة الأولى محققة بقلم الدكتور المنجد عام 1951. ونحن اليوم في أواخر العام 2001 ولم ينشر حتى الآن إلا خمس وعشرون مجلدة من الثمانين التي تؤلف «تاريخ دمشق». وقد تساءل كثير من الباحثين والمؤرخين عن أسباب البطء والتواني. وربما كان من أهم الأسباب قضية تمويل التحقيق وضآلته، خاصة في هذا الكتاب، وعامة في سائر كتب التراث.

الخلاصة

الخلاصة أن بحوث الدكتور المنجد وأعماله في تحقيق ذخائر التراث ونشرها ومضات نور في ليل مظلم. هذا على الرغم من التقدم الكبير الذي تقدمته البلاد العربية في الاستقلال والنهوض والأخذ بأسباب الازدهار والعمران. لقد ابتلي الوطن العربي بنكبات وكوارث ما تزال تخامره، وتضعف نهوضه السوي، وتحول دون تعاون أقطاره في السراء والضراء. ومع ذلك فعزائم الأجيال مشحوذة، وهممهم متوثبة طامحة، وأبصارهم شاخصة، ترنو نحو حضارة مقبلة متألقة في مختلف الميادين. ومن أبرز طلائع البحث والتحقيق في التراث العربي الدكتور صلاح الدين المنجد. تعرض الدكتور لسهام من النقد، ولكنه لم يحفل بها ولم يبال بها، وقديمًا قيل: «من ألّف فقد استُهدِف» أي صار هدفًا للنقد. وقالوا أيضًا: «المكثار لا يخلو من العثار»، وهذا في زمن آمن وحضارة وطيدة، فكيف الحال في هذا الوقت الغاشم، والحيف الظالم، والخلاف القائم، والخطر الداهم؟!

ثم إن أحوال الطباعة والنشر في البلاد العربية ضعيفة، ومصاعب تبادل الكتب والمطبوعات بينها كالحجب الكثيفة. وكم نحتاج نحن العرب والمسلمين إلى ضم الجهود وتذليل العقبات، في استمرار تحقيق التراث، تحصينًا للذات، ودعمًا لقوميتنا تجاه غوائل العولمات، وبثًّا للثقة في النفوس، وحفزًا لتعاون القلوب والرؤوس، ورغبةً في سلام شامل، دون حيف، يمليه شعب على شعب، ودون تهاون في الحفاظ على حقوق الشعوب والأفراد. هذا وإن المعرفة تكامل وتواصل بين العلوم في الماضي والحاضر والمستقبل، يدعم بعضها بعضًا، ويزيد كل منها في انتشارها جميعًا، وتقدمها، وجني مكاسبها، وثمراتها المفيدة. وإن البلاد العربية، إلى جانب بذلها نصيبًا كبيرًا من ثرواتها، ومواردها المادية، تلقاء دفاعها عن أنفسها، وحفظ حوزتها وحماها، جديرة أن تخصص جزءًا آخر لإحياء التراث، والنهل من مناهل العلوم الحديثة جميعًا. فإن العلم الحقيقي كالسلاح في القوة والدعم، بل إن السلاح مادة تتغير وتصدأ وتهرأ وتتبدل، والعلم قوة أقدر وأكبر، وهو روح تخلد، وعقل يتدبر ويتصبّر، وينظر ويتبصّر.

        والله يهدي إلى سواء السبيل.

تحية الشعر

صلاح الدين بين محققينا
محبٌ للتراثِ ومُجتناه
قضى في حبه عمرًا مديدا
وكم مخطوطةٍ كانت غميسًا[1]
عنيتَ بها وصحَّحتَ الحواشي
فاضتْ منهلًا عذبًا فراتًا
وكم من ليلةٍ ساهرتَ فيها
تنقّب في المعاجم والأمالي
ورُبَّةَ نُقطةٍ ألقتْ ضياءً
إذا ما الحبُّ كان له مدادا
إذا ما رمتَ في الدنيا نجاحا
وأشعل نور قلبك من هداهم
ودع عنك التخاذل والتواني
وكم ببلادنا نجمًا مضيئًا[2]
وكم بدرٍ وكم قمر منيرٍ
وكنا سادة الأقوام طرا
وعَولمةٍ يضلُّ الناسُ فيها
وإنَّ لنا تراثًا عبقريًّا
وحاضرُنا كفاحٌ مستميتٌ
كأنَّ الجيلَ يأتي تلو جيل
وسلْ عنا الحجارة في الرزايا
فلا تجزعْ لحادثة الليالي
نقاوم ما استطعنا تُرَّهاتٍ
حياةُ المرء علم أو كفاح
وأعلى ما نؤمله علوم
أمانينا التنافس في المعاني

 كنبراس يتنير الباحثينا
لبيبُ يدرك الأثر الثمينا
وزان ذكاؤه تلك السنينا
وضلَّت بَين أيدي الجاهلينا
وحقَّقتْ المعاني والمتونا
وأروتْ غلةً للظامئينا
نجوم الليل بين الساهرينا
وتنظر في تراث الغابرينا
وَرُبَّةَ نكتةٍ أوحتْ شجونا
تَضوَّع في خمائه فنونا
وفي الأخرى فَقُصَّ النابغينا
ونور القلب يهدي السالكينا
فإنَّ المجد يدعو العاملينا
توزَّع في صفوف النابهينا
وشمسٍ ضوؤها بهر العيونا
وأصبحنا ذنابي الآخرينا
وينساقون فيها تابعينا
إزاء هجومها يبقى حصينا
ليغدو حقنا أبدًا مصونا
لحفظ حقوقنا يغشى المنونا
حجارتُنا تُخَبِّرك اليقينا
أرى من خلفها صُبحًا مبينا
ونبني من مكارمنا حصونا
ولا عيشًا أرى للمستضعفينا
تَزين حياتنا دنيا ودينا
وسِلمٌ شاملٌ للعالمينا


[1]الغميس: الشيء الذي لم يظهر للناس ولم يُعرف بعد.
[2]إذا فصل بين كم الخبرية ومميزها وجب نصبه لامتناع الإضافة مع الفصل.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد،2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 1-20.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top