صلاح الدين المنجد في مصر

شارك:

وديع فلسطين

محتويات المقال:
توطئـة
اللقاء الأول
معهد المخطوطات العربية
مجلة معهد المخطوطات العربية
رسالة مجلة معهد المخطوطات
قواعد تحقيق النصوص
مخطوطات حققها الدكتور المنجد في مصر
البعثات العلمية التي قام بها المنجد
إسهامات المنجد في مجلة المعهد
نهاية المرحلة القاهرية

توطئـة

Salahuddin Al-Munjid صلاح الدين المنجد

إن اتجاه الرأي إلى تكريم العالم الكريم الدكتور صلاح الدين المنجد، وهو مازال بيننا يرفد الضاد بأغلى الكنوز، ويُحيي المطوي من المخطوطات، ويركب كل مركب صعب في سبيل الاهتداء إلى المخطوطات العربية المتناثرة في أنحاء العالم، سواء في المكتبات العامة أو في خزائن الكتب الشخصية، إن هذه البادرة الطيبة من مؤسسة «الفرقان» لتستدعي أعظم آيات التقدير والعرفان لأنها تدلّ بأنصع بيان على أن العاملين في صمت، والنّائين بأنفسهم عن جلبات الحياة وحلبات السباق، هم سدنة عظام لا تضن عليهم الحياة الفكرية بمشاعر التكريم والإعزاز، وأن هذا التقدير الأدبي، وقد جاء في حينه وأوانه، ليسمو كثيرًا عن التقدير الشكلي الذي تمثله الأوسمة والرصائع المذهبة والمفضّضة.

فصلاح الدين المنجد آثر أن يعيش في دنيا التراث العربي- وهي دنيا تراكم فيها الغبار والأتربة على مدى سنوات مديدة- واختار لنفسه عزلة كعزلة الناسك إدراكًا منه لأن ميدانه ليس ميدانًا شعبيًّا، وأن ما يجترحه من أعمال متخصصة في تحقيق كتب التراث إنما يمثل جهدًا عنيفًا، ترفده ثقافة عريضة، وإلمام واسع بمصادر الأدب، وحسبه أنه يطرق أبوابًا لا تطرقها العامة وإنما تغشاها خاصة الخاصة، وعلى تهيّب.

اللقاء الأول

التقيتُ بصلاح الدين المنجد- واسم العلم يُغني عن كل الألقاب- للمرة الأولى في 14 فبراير (شباط) 1952 في فندق الكُنتننتال بالقاهرة، غذ كنتُ يومها على موعد مع صديقي. العلامة الأمير مصطفى الشهابي- وكان غذ ذاك نائبًا لرئيس مجمع اللغة العربية بدمشق- فألفيت في صحبته الدكتور المنجد، وهو الذي قدمني إليه، ومع أن ميداني الأصيل هو الصحافة مع إطلالة عابرة على دنيا الأدب، فقد توهّمتُ أن عالم التراث الدكتور المنجد لا يعرفني، ولكنني ألفيته متابعًا لجهدي المتواضع، بل لقد عاملني منذ لحظة هذا اللقاء بإنسانيته البارة وكأننا صديقان قديمان، وعزّز هذه الصلة الشخصية البازغة بإهدائي في اليوم التالي مجموعة من مطبوعات معهد المخطوطات العربية.

معهد المخطوطات العربية

كان الدكتور صلاح الدين المنجد وقتها قد تسلم عمله مديرًا لمعهد المخطوطات العربية التابع للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، وهو معهد أنشئ بقرار من مجلس الجامعة صدر في 4 إبريل (نيسان) 1946 حددت فيه أغراض المعهد بتجميع المخطوطات، وتصويرها، وإيفاد البعثات إلى جميع دول العالم لاستنساخ صور من المخطوطات المودعة في المكتبات. وكان أول مدير للمعهد هو الدكتور يوسف العش، الذي كان قبل ذلك محافظًا لدار الكتب الظاهرية بدمشق، وقد عاد إلى سورية حيف توفي في عام 1967.

ولكن، ما أن تسلم الدكتور المنجد إدارة المعهد، حتى سعى إلى إقامة مجلس أعلى له، صدر قانونه في 23 يناير (كانون الثاني) 1956 وروعي في تشكيله أن يمثل المشتغلين بالتراث في البلدان العربية المختلفة. ففي حين رأس الدكتور طه حسين المجلس الأعلى بوصفه رئيس اللجنة الثقافية بالجامعة العربية، وفي حين اختير الدكتور رئيف أبي اللمع الأمين المساعد للجامعة العربية عضوًا في المجلس الأعلى، كان طبيعيًّا أن يتولى الدكتور المنجد، بوصفه مديرًا لمعهد المخطوطات الرياسة الفعلية للمجلس، الذي ضم في عضويته حسن حسني عبد الوهاب باشا من تونس، ومحمد رضا الشبيبي من العراق، ومصطفى السقا من مصر، ونبيه أمين فارس من لبنان، وعبد الهادي هاشم من سورية، وناصر المنقور من المملكة العربية السعودية. وعقد المجلس الأعلى أول اجتماع له في القاهرة في يومي 24 و31 مارس (آذار) حيث وضع النظام الداخلي والنظام المالي للمعهد.

مجلة معهد المخطوطات العربية

من أبرز إنجازات الدكتور صلاح الدين المنجد إقدامه على إصدار مجلة معهد المخطوطات العربية اعتبارًا من مايو (أيار) 1955 بحيث تصدر في جزأين سنويين، في شهر مايو (أيار) ونوفمبر (تشرين الثاني)، وقد انتظم صدور المجلة، بإشراف رئيس تحريرها الدكتور المنجد، على مدى ست سنين، صدر في أثنائها 12 جزءًا، شارك في تحريرها أعلام المشتغلين بالتراث من عرب ومستشرقين. فشارك في التحرير من مصر أبو الوفا المراغي، ورشاد عبد المطلب، وخليل محمود عساكر، وعبد العزيز الأهواني، وعبد الحمن بدوي، ولطفي عبد البديع، وعبد السلام هارون، وشوقي ضيف، والسيد أحمد صقر، ويحيى الخشاب، ومحمد عبد الله عنان، وبشر فارس، وفؤاد سيد، وجمال محرز، وعبد السلام النجار.

وشارك من البلاد العربية الأمير مصطفى الشهابي، وعمر رضا كحالة، ومحمد أسعد طلسى، وعبد الله كنون، وحسن حسني عبد الوهاب، وناصر الدين الأسد، وراتب النفاخ، ومازن مبارك، وإبراهيم شبوح، ومحمد إبراهيم الكتاني، ونبيه أمين فارس، ومحمد الفاسي، ونور الدين بيهم، كما شارك من المستشرقين ه. ريتر، وشارل بيلا، وسرجنت، وي.س. علوش، وغيرهم. وهكذا استطاع الدكتور صلاح الدين المنجد في فترة قصيرة أن يحشد كل هذه الأسماء اللامعة، ممّا أكّد أن هذه المجلة المتخصصة الرفيعة قد ولدت كاملة النضج.

ومع أن العرف الشائع هو أن يكتب رئيس التحرير مقالة الصدر الافتتاحية في كل عدد من أعداد المجلة، فإن الدكتور المنجد خالف هذا العرف ولم يكتب إلا فاتحة العدد الأول تاركًا المجال لغيره في تحرير مقالة الصدر، حيث كتبها كوركيس عوّاد، ودبور كوري، والدكتور محمد حميد الله، والدكتور حسين علي محفوظ، وفؤاد سيد، وأحمد آتش، والعابد الفاسي، والدكتور ه. ريتر، والدكتور بتراشك.

رسالة مجلة معهد المخطوطات

كان الدكتور المنجد يدرك أن رسالة المعهد لن تتحقق بتمامها إلّا إذا كانت للمعهد مجلة دورية، تحمل رسالته، وتنطق بلسانه، وتُعَرِّف بالمخطوطات وأماكنها وما نشر منها وما هو قيد التحقيق. فأصبح المعهد ومجلته يمثلان ما يطلق عليه اليوم «قاعدة بيانات» يرجع إليها الباحثون كلما أعوزهم مأرب يتصل بالمخطوطات.

واستفتح المنجد بالعدد الأول من المجلة بالحديث عن رسالتها فقال إن هذه أول مجلة في البلاد العربية تخصصت للبحث في المخطوطات وتاريخها (صدرت بعد ذلك مجلات تراثية في بعض البلدان العربية لعل أبرزها «المورد» في بغداد). واستطرد المنجد فقال «لقد كان ما خلّفه العرب من تراث فكري وافرًا ضخمًا، ولم تخلّف أمة من الأمم ما خلفه العرب من تواليف ملأت في الأيام المواضي بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وحلب وقرطبة وغرناطة وإشبيلية والمغرب الأقصى وبلاد فارس وغيرها من البلدان. كانت هذه التواليف كنوزًا من الثقافة والمعرفة والحضارة، أحيت كل بلد بلغته، ولكن هذا التراث الوافر الضخم لم يسلم من عاديات الزمن، فأُتلف وأُحرق أو ضاع ونُهب، ولم يبق للعرب اليوم منه إلّا ما قلّ: بعضه مهمل في مكتبات الشرق وكثير منه في مكتبات الغرب».

ومضى يقول: «وسيجد العلماء في هذه المجلة، أبحاثًا عن المخطوطات العربية في كل مكتبة من مكتبات العالم، وأبحاثًا للتعريف بالمخطوطات وما اشتملت عليه من ثقافة نادرة استطاع العرب أن يحكموا بها، لأن الثقافة تفعل ما لا تفعله القوة. وكذلك سيجدون فيها انعكاسًا لنشاط المعهد وما يقوم به من أعمال مختلفة. ولن تخلو المجلة من رسائل نادرة تنشر أو نصوص ذات شأن تحقق».

قواعد تحقيق النصوص

حرص الدكتور المنجد على أن يرسم للباحثين في إحياء التراث العربي القواعد التي يستهدون بها في تحقيق النصوص تحقيقًا علميًا يتوخّى المزيد من الدقة والضبط. فقال إن عملية تحقيق المخطوطات تبدأ بتجميع النسخ المتوافرة في المكتبات المختلفة، فلا يجوز إغفال نسخة أمرها معروف، بل إنَّ على المحقق أن يسعى جاهدًا في سبيل استكمال جميع النسخ، ولديه في فهارس المخطوطات المتوافرة في المعهد وفي مكتبة المعهد من النسخ المصوّرة ما يعينه على هذا العمل. وعندما تجتمع للمحقق كل النسخ المطلوبة للنص، فعليه أن يقوم بفرزها وترتيبها من حيث أسبقية التعويل عليها. فالنسخة التي كتبها المؤلف بنفسه تأتي في المرتبة الأولى باعتبارها النسخة الأم، تلي ذلك النسخ التي يكون الناسخ قد قرأها على المؤلف أو التي نقلت عن نسخة المصنّف أو كتبت في عصر المصنّف وعليها سماعات للعلماء، أو نسخ أخرى كتبت في عصر المصنّف. وهذا الترتيب الأصولي هو الكفيل بتحقيق أكبر درجة من الدقة المطلوبة عند التحقيق. وإذا أوتي بعض المخطوطات حظًا كبيرًا من الانتشار فكثرت نسخه وتشابهت، فلا بد من مضاهاة كل نسخة على الأخرى للوقوف على ما قد يكون فيها من أخطاء أو نقص أو زيادة.

وعندما يشرع المحقق في تحقيق نص، فلا بد له أولًا من أن يتحقق من صحّة النّص وعنوانه ونسبته إلى مؤلفه، على أن يشير المحقق إلى وصف المخطوطة وهل هي أصلية بخط المؤلف أو مما قام بإعداده النّسّاخ. فإذا اشتملت المخطوطة على أسماء أعلام أو على استشهادات نثرية أو شعرية أو على تواريخ، وجب على المحقق أن يتحرّى دقّتها خشية أن يكون قد وقع فيها وهم أو خطأ، كما أبرز المنجد أهمية احتواء النصّ المحقق على فهارس للأعلام والأماكن والقوافي وما إليها ممّا يساعد القارئ على الاهتداء إلى ضالته دون عناء.

مخطوطات حققها الدكتور المنجد في مصر

على أن الأعمال الإدارية المسندة إلى الدكتور المنجد، بوصفه مدير معهد المخطوطات العربية، لم تصرفه عن رسالته الأصلية، وهي نشر كتب التراث بتحقيقه. وفي أثناء وجوده في مصر، حقق الجزء الأول من كتال «شرح كتاب السير الكبير» لمحمد بن حسن الشيباني، إملاء محمد بن أحمد السرخسي، والجزء الأول من «المحكم والمحيط الأعظم» لابن سِيدَه، وواصل تحقيق أجزاء من كتاب «تاريخ دمشق» للحافظ ابن عساكر. يضاف إلى هذا أنه أصدر «فهرس مخطوطات الأمبروزيانا بميلانو» كما صدرت في عهده ثلاثة أجزاء من «فهرس المخطوطات المصوّرة».

البعثات العلمية التي قام بها المنجد

استكمالًا لرسالة معهد المخطوطات في استكشاف الخريطة الجغرافية لتوزيع المخطوطات في مكتبات العالم، قام الدكتور المنجد أثناء وجوده في مصر بأربع بعثات زار فيها تونس والمغرب والاتحاد السوفيتي وإيران، حيث حاول رصد المخطوطات المودعة في مكتباتها. كما مثل المعهد في مؤتمر المسترقين الرابع والعشرين في ميونيخ عام 1957، هذا إلى قيامه بإيفاد بعثات من موظفي المعهد إلى المملكة العربية السعودية وفي داخل مصر إلى طنطا والمنصورة ودمياط لتصوير المخطوطات المودعة في مكتباتها.

إسهامات المنجد في مجلة المعهد

تمثل إسهامات الدكتور المنجد في مجلة المعهد إما في بحوث علمية كمقاله عن «إجازات السماع في المخطوطات القديمة» ومقاله عن المؤرخين الدمشقيين أو مقاله «وصف دمشق في مسالك الأبصار» أو مقاله عن «المسالك والممالك للمهلبي» أو مقاله عن «أسماء الذين راموا الخلافة للذهبي» وإما في تعريف بالمخطوطات المنشورة وتبيان ما فيها من أوجه القصور وتصحيح ما فيها من أغاليط. ولا يكاد يخلو عدد من أعداد المجلة من مجموعة من مقالات الدكتور المنجد الذي كان حريصًا على متابعة حركة نشر المخطوطات في العالم العربي تعريفًا بها وتعليقًا عليها واستدراكًا على أي فوات نشدانًا منه للكمال.

نهاية المرحلة القاهرية

المؤكد أن الدكتور المنجد، وهو أصلًا عالم وليس رجل إدارة، لم يستطع أن يوفق بين عمله التخصصي وشئون الإدارة، بما تقتضيه من التعامل مع الموظفين واللوائح والمسؤولين في الجامعة، فآثر أن ينسحب في هدوء، ولكن بعدما كان قد نجح نجاحًا عظيمًا في رسم السياسة الدائمة للمعهد وتوجيه أنشطته توجيهًا سديدًا، والأهم من ذلك أنه أنشأ للمعهد علاقات شبه دولية مع جميع الهيئات العربية والأجنبية المعنية بالتراث، وكان هذا في حدّ ذاته فتحًا مبينًا. ثم إنه جعل من المعهد قاعدة بيانات عريضة خاصة بالتراث العربي يُستهدى بها في كل ما يتعلق بتحقيق المخطوطات.

والدكتور المنجد هو بحق المؤسّس الأول لمعهد المخطوطات، كما قال لي المرحوم رشاد عبد المطلب الذي صاحب المعهد منذ إنشائه. وهو قد أكد لي أن المنجد هو الحجة الأولى في شؤون المخطوطات وهو العمدة الراسخ القدم في كل ما يتعلق بها.

أما المرحوم الدكتور محمود محمد الطناحي فقد سجّل في كتابه «مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي»- على صفحة 137- أنه «لم يعرف هذا الرجل- يعني الدكتور المنجد- ولم يلتق به إلى الآن، فقد التحقت بمعهد المخطوطات بعد تركه له، لكني في خلال عملي بالمعهد الذي استمر خمسة عشر عامًا، كنت أحسّ بصماته ولمساته في جميع أرجاء المعهد، فهذه شهادة أؤدّيها على وجهها».

هذا هو الدكتور صلاح الدين المنجد في مصر، وهي فترة قصيرة وغزيرة من عمر هذا البنّاء العظيم.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد،2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن. ص 37-44.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top