موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة: مقدمة

شارك:

تتميز الحضارة الإسلامية عن غيرها من الحضارات التي سبقتها بأمور كثيرة مختلفة، أهمها أمران

الأول: إنها حضارة تشمل حقولاً متنوعة منها شريعة مرنة متطورة، قوامها العدل ومصالح العباد، ترسي قواعد الحرية والمساواة والشورى، وتمتد لتشمل العلوم المختلفة كالطب، والصيدلة، والزراعة، والكيمياء والفلك، والرياضيات، والعمارة وغير ذلك كثير. بينما نجد الحضارة الرومانية مثلاً معروفة بقانون دخل التاريخ، مع عمارة فقدت وجودها. والحضارة اليونانية عرفت بالفلسفة والطب، ومثل ذلك بقية الحضارات.

مسجد بني الحارث بن الخزرج
مسجد بني الحارث بن الخزرج، المصدر: الإصابة في معرقة مساجد طابة، تأليف خالد بن على صباغ

الآخر: إنها الحضارة الوحيدة التي يُعرف تاريخ مولدها، أما الحضارات الأخرى فلا يَعْرِفُ أحدٌ بدايتها، فهي بدايات تمتد قروناً حتى يتم ظهورها. أما الحضارة الإسلامية فقد ولدت في مكة المكرمة يوم بعث الله نبيه سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، ثم ترعرعت في المدينة المنورة، حيث أرس الله قواعدها ومبادئها، ومنها انطلقت شمالاً وشرقاً وغرباً، واشتد عودها، فأصبحت باسقة أصلها ثابت في مكة والمدينة، وفروعها شملت معظم أرجاء المعمورة بمختلف أنواع العلوم والمعارف.

ولقد أكرمني الله بشرف الانتماء إلى مكة المكرمة، التي قال تعالى فيها: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾، ففيها ولدت، وبشعابها تجولت، وفي مسجدها الحرام درست، حين كان جامعة فريدة، كما وصفها المؤرخون، ومنهم بعض المستشرقين؛ وبذلك أصبح حبي لمكة نابعاً من القلب ومن العقل.

ولي شرف الانتماء إلى المدينة المنورة التي قال تعالى فيها: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾ ومن جانب الأم. وكلما توغلت في دراسة العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، كلما زاد إحساسي بفضل هذه المدينة على الحضارة الإسلامية، بل وعلى العالم أجمع وعلى البشرية جمعاء.

كل ذلك غرس عندي حلماً أن يكون لهاتين المدينتين موسوعة تبرز أدوارهما العلمية والثقافية عبر القرون، فهما أصل حضارة الإسلام، ومنبع نورها الذي أضاء المعمورة. فقد كان للمسجد الحرام، والمسجد النبوي دور مهم وحيوي في دعم المسيرة العلمية الإسلامية، حتى بعد أن انتقلت حواضر الدولة الإسلامية إلى دمشق، فبغداد، فالقاهرة والأستانة، وغيرها.

لم يكن تحقيق ذلك الحلم الجميل ممكناً، حينما كنت عضواً في مجلس الوزراء السعودي، ولكني كنت أبوح به كلما سنحت فرصة للحديث عنه.

وابني وصديقي الأستاذ الدكتور عباس صالح طاشكندي، حين زرت مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة في ۲۸ صفر ۱۳۹۸هـ الموافق 6 فبرایر 1978م – وكان آنذاك عميداً لشؤون المكتبات والمعلومات، وكنت أحمل عباءة وزارة البترول والثروة المعدنية - انفردت به في قسم المخطوطات، وقلت له: إن من الواجب أن يكون لمكة والمدينة موسوعة، ويشاء الله تعالى أن يمنحه بعد ذلك شرف القيام بقيادة هذه الموسوعة.

خريطة توضح طريقة هجرة الرسول صل الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، المصدر أطلس تاريخ الإسلام، حسين مؤنس
خريطة توضح طريقة هجرة الرسول صل الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، المصدر أطلس تاريخ الإسلام، حسين مؤنس

ولما شاء الله أن أتخلى عن عباءة البترول الرسمية، بدأتُ أسلك الطريق الذي يحقق أحلامي المختلفة، ومنها المخطوطات الإسلامية التي تحمل قصة الحضارة الإسلامية في عصورها المختلفة. وكنت، وأنا أضع عباءة البترول المذكورة، أزور المكتبات التي توجد فيها تلك المخطوطات، في إسطنبول، والقاهرة، وسراييفو، والفاتيكان، وبقية المكتبات التي تتناثر رفوفها تلك المخطوطات، فأنشأتُ (مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي) وأنا أعلم أنها بأهدافها لن تحقق لي حلمي في موسوعة مكة والمدينة.

ولكن علّامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، وكان عضوا في مجلس مؤسسة الفرقان، ألقى خطاباً في افتتاح المؤتمر الأول للمؤسسة سنة 1411هجرية 1990 ميلادية، قدَّم فيه عرضاً موجزاً لأهم المخطوطات القيمة عن مكة والمدينة، والجهود الكبيرة التي بذلت لتحقيق بعضها، وأكد ضرورة الاهتمام بهاتين المدينتين، وأهاب بمؤسسة الفرقان أن تعنى بذلك الجانب.

أثار خطابه، رحمه الله، في نفسي الشجون، وتساءلت: كيف لي أن أحقق حلم الموسوعة الذي راودني عشرات السنين؟ فتجولت أزور بعض مراكز الموسوعات، أو ألتقي برؤسائها، وتأكدت أن مؤسسة الفرقان ليست الجهة التي يمكن لها أن تحقق حلمي، بالرغم من أنني سجلت ذلك الحلم في محاضر جلساتها في سنتها الأولى.

القيام بالعمل الموسوعي فن خاص، له منهجيته وطرقه، ويتطلب بنية أساسية، ومنهجية في إعداد المداخل وتقنينها، وأدوات كثيرة تشكل الأساس النجاح العمل واستمراره. فإذا كانت الموسوعة لمدينة، خضعت المنهجية لأساليب خاصة تختلف عن المناهج الخاصة بالموسوعات العامة، أو الموضوعية. ولا نعرف موسوعات شملت مدناً إلا موسوعة باريس، وهي مدينة حديثة نسبياً، ولا ترقى في تاريخ العلوم والمعرفة إلى مرتبة مكة والمدينة، من حيث الأبعاد التاريخية والحضارية.

وكنت كلما زاد بحثي عن وسيلة لتحقيق حلمي لموسوعة مكة والمدينة، أحسست بالإحباط، حتى ذكر لي الأستاذ السيد محسن باروم (سنة 1415هـ/ 1994م) أن مجموعة من العلماء والباحثين من أبناء مكة المكرمة، تحت قيادة أخي الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبي سليمان يبحثون إمكانية إصدار موسوعة لمكة المكرمة فسارعت بالاتصال بقائد المجموعة، واجتمعت به وببعضهم، لمناقشة الفكرة وإمكانية تنفيذها.

وبدأت الخطوة الأولى بإنشاء فرع لمؤسسة الفرقان، يختص بإصدار الموسوعة يقوم أول ما يقوم بتوثيق التراث العلمي والحضاري الشامل لمكة والمدينة، وحفظه للأجيال القادمة في صورة يسهل للباحثين والدارسين الرجوع إليه، مستعينين بالأساليب التقنية والتجهيزات الحديثة. وقمنا بتشكيل اللجان في المدن الإسلامية التي تحتفظ بوثائق عن المدينتين المقدستين، مثل: إسطنبول، والقاهرة، وجامعة ليدين بهولندا. وجمعنا كماً هائلاً من المؤلفات، والوثائق التاريخية، والصور الفوتوغرافية، والخرائط، والتسجيلات الصوتية. وشجعنا الباحثين من مختلف الجنسيات على إجراء الدراسات العلمية التي تتناول جميع الجوانب المتعلقة بالمدينتين المقدستين عبر التاريخ.

وفي إطار الإعداد والتجهيز لأعمال الموسوعة، عقدنا عدة اجتماعات تمهيدية ناقشنا فيها رسم الخطوط العامة للعمل، وإعداد مخطط مبدئي للمداخل التي ستدرج في الموسوعة. واستقر الرأي، بعد التشاور مع المختصين في دراسات مكة المكرمة و المدينة المنورة، أن تكون أربعة محاور رئيسة:

الأول: يختص بإعداد الموسوعة ومداخلها، والمادة العلمية الخاصة بكل مدخل والوسائل الإيضاحية المناسبة، ووضع برنامج عمل يتضمن الخطة الزمنية للتنفيذ.

الثاني: دعوة الباحثين المهتمين بالدراسة المتعلقة بالمدينتين لتقديم مؤلفاتهم وبحوثهم التي لم تنشر بعد، ليتم تحكيمها ونشرها، إذا تم قبولها، ضمن إصدارات الموسوعة.

الثالث: تحديد عدد من الموضوعات المهمة المتعلقة بمكة والمدينة، والاتصال بالباحثين المتخصصين في تلك المجالات لتنفيذ الدراسات المطلوبة، وإعدادها للنشر.

الرابع: تقديم الخدمات والمواد العلمية والمعلومات للباحثين والدارسين وتشجيعاً للبحث العلمي، وحفاظاً على التراث العلمي والحضاري للمدينتين المقدستين.

وتم تكوين (مجلس المستشارين) للموسوعة، لوضع السياسة العامة والخطوط الرئيسة لعمل الموسوعة، وإقرار ميزانيتها السنوية، واعتماد برنامج العمل، وتوصيات اللجان العلمية، وسياسات النشر والتأليف.

كما أسسنا المجلس العلمي الذي يضم خبراء أكفاء ومتخصصين لهم باع طويل في المجالات العلمية الرئيسة المختلفة، ويكون مسؤولاً عن تنفيذ قرارات مجلس المستشارين، ووضع الأهداف والمعايير، وإصدار الأدلة والأدوات، ووضع الضوابط والأسس الكفيلة بتوحيد المصطلحات والمدلولات، والمنهجية البحثية المتبعة في أعمال الموسوعة كافة، والمواصفات الموحّدة الخاصة بالنشر، وأسلوب الصياغة والتحرير والتدقيق اللغوي والإملائي. كما يقوم أعضاء المجلس العلمي بالإشراف على اللجان العلمية، والمجموعات البحثية المتخصصة لتنفيذ الأعمال العلمية كل في مجال اختصاصه.

تتولى الإدارة التنفيذية للموسوعة تنفيذ قرارات مجلس المستشارين، والتنسيق والتعاون مع المجلس العلمي، وتقديم جميع الخدمات العلمية، والفنية، والتقنية، والتسهيلات، والمعلومات اللازمة للباحثين. ومتابعة تنفيذ خطة العمل وفق البرنامج الزمني المحدد. ورفع تقارير دورية مرحلية لمجلس المستشارين عما تم إنجازه من أعمال.

تضم الإدارة التنفيذية فريقاً من الإداريين والفنيين المتخصصين، وجهازاً للخدمات المساعدة، مع فريق مسؤول عن مركز المعلومات، ووحدة النشر، وتجهيز المطبوعات. وقد ساهم الأستاذ الدكتور عباس طاشكندي في جميع الأعمال التحضيرية، ثم تولى رسمياً قيادة الإدارة التنفيذية، ابتداء من ربيع الأول 1421هـ. ولم نصل إلى وضع تلك الأسس والمجلسين إلّا بعد اجتماعات مكثفة، من أهمها اجتماع إسطنبول، الذي قررنا فيه أن تضم الموسوعة المدينة المنورة إلى جانب مكة المكرمة (سنة 1417هـ)، وحضر الاجتماع رؤساء الموسوعات المعروفة عالمياً، مع كبار الخبراء والمختصين، الذين أصبحوا فيما بعد أعضاء في مجلس المستشارين كما عقدت اجتماعات عديدة، منها اجتماع المختصين في المدينة المنورة (سنة 418هـ) وتوالت اجتماعات مجلس المستشارين بعد ذلك في المملكة وخارجها وتوالت اجتماعات المجلس العلمي.

استغرقت الأعمال التحضيرية زمناً طويلاً، ذكرت جزءاً منها، وأغفلت جزءاً كبيراً آخر، خشية الإطالة، وساهم فيها الكثير من داخل المملكة، أذكر منهم: الأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ومن خارج المملكة الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو. وهناك جنود من كبار العلماء والمختصين ندين لهم بالفضل وجزاؤهم من المولى القدير.

لن يقف طموحنا عند إصدار الموسوعة بمجلداتها العديدة، أو فتح نافذة لها في جهاز الإنترنت، فمشروعنا يمتد إلى الأجيال القادمة. وسوف ينشأ، بإذن الله، معهد الأبحاث مكة المكرمة والمدينة المنورة، يزود الباحثين والمختصين بالكم الهائل من المعلومات التي جمعناها، لتكون عوناً لهم في إجراء أبحاث إضافية، مستعينين بالمكتبة الفريدة التي تكونت عن المدينتين المقدستين، ومركز المعلومات الآلي، مع قاعة محاضرات يرتادها المهتمون بمكة والمدينة، ويحاضر فيها من شاء من العلماء والباحثين.

والله نسأل أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم، ومثمراً في خدمة بلده الأمين، ومدينة حبيبه رسول رب العالمين، عليه وعلى آل بيته وصحبه أتم الصلاة وأزكى التسليم.

أحمد زكي يماني
الرئيس والمشرف العام على
موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة،2011 مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص أ-ب.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top