شهدت قاعة المحاضرات بدار الحديث الحسنية في الرباط، يوم الاثنين 4 مارس 2019م، محاضرة عامة تحت عنوان "تحقيق كتاب العبر لابن خلدون: الخطة والرؤية والنتائج"، من إلقاء الأستاذ الدكتور إبراهيم شبوح، نظّمها مركز دراسات المخطوطات الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي؛ وقد تميّز الحضور بعدد من الأساتذة العلماء، وطلبة الدكتوراه، والباحثين، وممثلي الهيئات الثقافية.
وتولّى تسيير الجلسة الأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين، مدير الخزانة الملكية بالرباط، وعضو مجلس خبراء مركز دراسات المخطوطات الإسلامية بمؤسسة الفرقان، الذي قدّم في مستهل هذا اللقاء نبذة عن موضوع المحاضرة والحياة العلمية للمحاضر.
وتناول الأستاذ المحاضر، الدكتور إبراهيم شبوح، تجربته الطويلة - التي امتدت حوالى ثلاثة عقود - في تحقيق تاريخ ابن خلدون، الموسوم بـ "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"؛ وقد افتتح محاضرته بذكر أثر الأحداث التاريخية التي عاشها ابن خلدون، مركّزا على أثرها الوثيق بتأليف هذا الكتاب العظيم. أبرز ما ذكره الأستاذ المحاضر، هي الأحداث والآثار التالية:
تجمعت أكثر مواده الفكرية ووثائقه عن البربر خاصة، وامتزاجهم بالعرب، في مرحلة النشأة في تونس، وهو شاهد أثر بني هلال؛ ثم في المغرب خاصة، حيث دخل تجارب الاقتراب من الدول، والاشتراك في حياتها الظاهرة والخفية. بدأت مرحلة تسجيل مادة الكتاب عندما اعتزل سنة 776هـ في قلعة بني سلامة بتاغزوت، حيث بقي أربع سنوات (إلى سنة 780هـ).
ثم احتاج إلى مصادر العمل التي لا توجد إلا في الأمصار. لذا، عاد إلى تونس، حيث دعاه أبو العباس أحمد الحفصي، لإنجاز عمله. فكتب بعد نحو سنتين ما سماه "ترجمان العبر، وقدمه إليه، وأنشده قصيدته اللامية في مدحه.
هاجر إلى مصر بأسبابه، حيث كُرّم بالعمل في المدارس، والخانقاه، ثم بالقضاء المالكي لمرات، وأصبح قاضي القضاة، وكان يمارس تدريس الفقه، ويدرس المقدمة - كما يذكر السخاوي.
في سنة 791هـ، تعرض لمحنة سياسية كبيرة، دعته إلى الاعتزال في سبتة، وإعادة النظر في التاريخ. فأضاف إليه "العجم"، بعد أن كان مقتصرا على العرب والبربر (وتعني العجم كل الأمم الإسلامية الناطقة بغير العربية)، وأصبحت كل خريطة الأمم الإسلامية بين يديه، فتعمق في وصف أوضاعها، وخرج بنتائج جديدة ومهمة في تصنيف التاريخ الإسلامي، وهي: أن الدولة الإسلامية قامت بالخلفاء الأربعة، ومعاوية كان يحق له أن يصنَّف بينهم، ولكن خرج به عن ذلك أن أصبح من خلفاء المغالبة، وليس الاختيار، ثم أوقف الخلافة بعده لذويه، فأصبحت كالملك والقيصرية. وبهذا انطلق النزاع والتخاصم، ونشأ مفهوم جديد هو أن الخلافة يجب أن تكون في آل البيت.
واستمر الصراع إلى سنة 136 هـ، حيث انتصر أنصار بني العباس في انتزاع الخلافة، ومنذئذ انقسمت الأمة أقساما ثلاثة: بنو العباس، ومن إليهم من الدول التي انفردت واستأثرت بالحكم في إطارها والاعتراف بهم، ولو نسبا، سماها ابن خلدون "دول التبعة"؛ ومن يرى نفسه أقرب لآل البيت وأحق بالخلافة، أي العلويون، وهم الأدارسة والزيدية والفاطميون والقرامطة ... إلخ.، وسماهم "المزاحمين"؛ ثم أمويو الأندلس، والذين كانت الخلافة لهم، وسماهم "المنازعين". وقد رتب الكتاب في أبوابه مخالفا كل مؤرخي التواريخ العامة على هذه النظرة.
كما بسط الأستاذ في الجزئية الثانية من محاضرته تجربته الطويلة في جمع نسخ كتاب العبر ودراستها، حيث وقف على أكثر من 300 جزء من الكتاب على مدى 35 سنة في مكتبات الشرق والغرب العامة منها والخاصة، بعضها عليها خط المؤلف وتصحيحه وتعليقه، وقام بدراستها دراسة كوديكولوجية عميقة، استنبط منها ما لا يُحصى من النكت والفوائد، وصنف أصول نسبها تصنيفا بديعا، كما ذكر بجهده المشكور في نقل الكتاب من أصوله نقلا صحيحا، ودقة مقابلته، ومحافظته على طرق ابن خلدون المبدعة في حسن تشجير أنساب الدول والقبائل التي ذكرها، بالإضافة إلى ابتداعه حروفا تشمل أصواتا في غير العربية، وتحتاجها الكلمات الأعجمية والبربرية، وقد حافظ عليها المحقق في طبعته الأنيقة للكتاب، وقد وشح تحقيقه هذا بتعليقات مختصرة نافعة ماتعة.
وبعد انتهاء المحاضرة قد دار نقاش مستفيض، ومن ثم إثارة أسئلة مهمة حول ما تم طرحه من مواضيع.
متى سيصدر الكتاب؟