في إطار أنشطتها الثقافية والعلمية، نظمت مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، بالتعاون مع مؤسسة دار الحديث الحسنية، دورة تدريبية في تحقيق المخطوطات تحت عنوان: "تحقيق مخطوطات الفقه وأصوله والفتاوى والنوازل". أشرف على تأطير هذه الدورة كوكبة من علماء التحقيق المتخصصّين، من بينهم الدكتور بشار عواد معروف، والدكتور محمد الروكي، والدكتور عبد الرحمن راشد الحقان وغيرهم. كما بلغ عدد المشاركين فيها 85 باحثا من ذوي الكفاءات والخبرات العلميّة العالية، والمشتغلين ببعض المراكز البحثية، وطلبة الماستر والدكتوراه، وعموم المهتمين، من داخل المغرب وخارجه. ودامت الدورة أسبوعًا كاملًا من 6 إلى 11 أبريل 2015م، بمقر مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط.
وتهدف هذه الدورة أساسا إلى استنهاض همم المتدرّبين، وتنمية الوعي لديهم بأهميّة التراث الإسلامي المخطوط عموما، والتراث الفقهي وما يتعلّق به خصوصا، وتكوين شباب مؤهّل لتحقيق هذا التراث، وتقديم خلاصة كافية لخطوات التحقيق في علوم الفقه وأصوله والفتاوى والنوازل نظريًّا وتطبيقيًّا، إضافة إلى الإحاطة بجميع الأعمال التي يحتاجها المحقق، سواء على الصعيد النظري: كالمفهوم العلمي للتحقيق وأصوله وتاريخه ومناهجه ومشكلاته، والمصادر التي يلزم الرجوع إليها؛ أو على الصعيد التطبيقي: كاختيار النص وتوثيقه، والبحث عن نسخه ودراستها، واستكشاف تقاليده، وعملية النسخ والمقابلة، والتحرير والمعالجة، والتعليق، والدراسة...الخ، في ورشات متخصصّة، يحتكّ فيها المتدرّب فعليّا بنماذج من نسخ خطيّة تتعلق بموضوع الدورة.
وقد تم افتتاح هذه الدورة المباركة بعرض فيلم وثائقي قصير عن مؤسسة الفرقان ومركزها المتعلق بدراسات المخطوطات الإسلامية، ثم كلمات ترحيبية بالمؤطرين والمشاركين، تناوب على إلقائها السادة الأفاضل: الدكتور عبد الحميد عشاق باسم دار الحديث ونيابة عن مديرها، والأستاذ صالح شهسواري باسم مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، والدكتور بشار عواد معروف باسم الفريق المؤطر لأعمال هذه الدورة.
بعد هذه الافتتاحية وحفل الشاي الذي أقيم على شرف الضيوف والمشاركين، كان موعد المتدربين مع أول محاضرة بعنوان: «مناهج تحقيق المخطوطات الفقهية: المحلى لابن حزم نموذجا» للدكتور بشار عواد معروف، إذ استهل فضيلته هذه المحاضرة بتعريف موجز بمصطلح التحقيق عند أهل التخصص، قائلا: «هو الوصول إلى نص صحيح مطابق لما كتبه مؤلفه وارتضاه في آخر حياته، وتوثيقه نسبة ومادة، والعناية بضبطه لتوضيح دلالاته التي قصدها مؤلفه». ثم انتقل للحديث عن قواعد التحقيق، ونبه على أن المحقق يجب أن يميز بين ما أسماه بالقواعد العامة المشتركة التي يُحتَّم على الجميع الالتزام بها ولا يجوز مخالفتها، وبين ما أسماه بعض القواعد الخاصة، التي ترجع إلى طبيعة بعض الكتب. ومما ورد في هذا الاستهلال ذكره بعض الشروط التي يجب أن تتوفر في المحقق، كأن يكون على علم تام بموضوع النص.
وتضمنت محاضرة الدكتور عبد الرحمن راشد الحقان "عُدّة محقق التراث المالكي" تمهيدا ومبحثين. أما التمهيد فخصصه فضيلته للحديث عن التراث الإسلامي وقيمته الروحية والعلمية بالنسبة لهذه الأمة، ثم انتقل لتفسير بعض المصطلحات التي استعملها في عنوان محاضرته، خصوصا مصطلح التحقيق، وأشهر ما ألف في هذا الفن. أما المبحث الأول: فتكلم فيه على ضرورة الإلمام بثقافة الفن الذي يشتغل فيه المحقق، فإذا كان في المذهب المالكي، فلا يقبل منه الجهل بشخصية الإمام، وأبرز تلاميذه، ثم أشهر شيوخ المذهب، وأُمَّهات كتبه وما تفرع عنها من مؤلفات، مع التفقه في جملة من مسائله الفقهية على يد أهل الشأن والتخصص. وأما المبحث الثاني: فخصصه للحديث عن الأدوات المساعدة للمحقق، وهي: معرفة مظان المعلومات، والتمرس بالخطوط، ومعرفة مراحل تطورها، والدراية بأصول المذهب ومدارسه ومصطلحاته، ورموزه وما إلى ذلك.
وتمحورت الدّراسات التي قدّمت في هذه الدورة حول أسس المفاضلة بين النسخ، والصعوبات والمشكلات في تحقيق كتب الفقه، والتعليل عند الترجيح، وخطوات منهجية لخدمة النص الفقهي المحقق، وضوابط التعليق على النص، وأهمية الكشافات للكتب المحققة، ومحاضرة عن نوادر مخطوطات الفقه والأصول في خزانة ابن يوسف بمراكش، وصناعة الفتوى انطلاقا من كتب النوازل المغربية والأخطاء وأصنافها في تحقيق مخطوطات أصول الفقه.
أما الورشات التطبيقية الثمانية فقد تناولت معايير اختيار النّصوص المزمع تحقيقها وجمع النسخ المخطوطة ومنهج دراستها، القراءة واستكشاف الخط والرموز، التحرير والضبط والمقابلة، وصنعة الهوامش والتعليقات، والتقديم والدراسة، وتوثيق نسبة الكتاب لمؤلفه وتوثيق عنوانه، وصناعة الفهارس والكشافات.
واختتمت الدورة بجلسة مفتوحة مع مجموعة من المحاضرين، فتح المجال فيها للمناقشة العامة وأجاب فيها المحاضرون عن بعض الأسئلة العالقة في موضوع التحقيق.
تناول الدكتور رشيد قباظ كلمة باسم المشاركين في الدورة، أشاد فيها بالدور الذي تقوم به كل من مؤسسة دار الحديث الحسنية ومؤسسة الفرقان في المحافظة على كنوز المخطوطات والكتب والنوادر، وإتاحتها للباحثين ونشرها، وإسعافها لهم بالمهارات والمعارف، وعلى برنامج الدورة الذي زاوج النظري بالتطبيقي، وعلى حسن اختيار المحاضرين المؤطّرين، وكيف أنّ هذه الدورة كان لها عظيم الأثر في بلورة وعي جديد بعالم المخطوط لدى البعض، وإعادة صقله لدى البعض الآخر، وهو أهم مكسب حقّقته الدورة على الإطلاق، كما أثنى على الجانب التنظيمي الجيّد، حيث وفّرت لهم المؤسسة كل المستلزمات.وهو الانطباع نفسه الذي أكدّه الأساتذة المحاضرين، إذ أثنوا على جودة التخطيط واختيار المحاور ووضع البرنامج الذي روعيت فيه الإحاطة العلمية، وانتقاء المؤطرين وحسن اختيار المشاركين.كما تناول بعض المشاركين الكلمة لشكر المؤسستين على تنظيم هذه الدورة.
وتناول الكلمة الختامية الأستاذ الدكتور أحمد الخمليشي الذي عبر عن سروره لنجاح الدورة، وأكّد فيها على تمتين العلاقة بين المؤسستين وتوطيدها، وأن نتيجة هذه العلاقة بدأت تثمر وتظهر نتيجتها بين الباحثين. وتناول من جانبه الأستاذ صالح شهسواري، المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقان، شكر فيها مؤسسة دار الحديث الحسنية، ممثلة في مديرها العام الأستاذ الدكتور أحمد الخمليشي ونائبة الدكتور عبد الحمدي عشاق وكل أساتذتها وموظفيها وطلبتها على كرم الضيافة، وحسن الوفادة وحرارة الاستقبال. كما أشاد بالتعاون مع هذه المؤسسة العامرة، كما شكر المشاركين في الدورة وأساتذتها ومنظميها.
ثم وزعت الشهادات على الطلبة والأساتذة المحاضرين والمنظمين.