الأمة وهويتها الحضارية: المقومات والتحديات

4.11.2022
المحمدية، المغرب
محاضرات مركز المقاصد
شارك:

من إلقاء ا.د عصام البشير

قام مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، بشراكة مع جمعية الأطر بالمحمدية، يوم الجمعة 4 نوفمبر 2022م، بتنظيم محاضرة علمية لفضيلة العلامة الدكتور عصام البشير تحت عنوان الأمة وهويتها الحضارية: المقومات والتحديات، بفندق أفنتي بالمحمدية، وترأس الجلسة الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا.

افتتح المحاضر كلمته بالشكر للجهتين المنظمتين، وشكر رئيس الجلسة الدكتور العلامة محمد سليم العوا. وبدأ ببيان معنى الأمة في لسان العرب، وهي الجماعة التي يجمعها حال أو وصف. وذكر أنها جاءت في كتاب الله على أربعة معان: فالأول بمعنى الإمام الذي يقتدى به. قال الله تعالى: ﴿إن إبراهيم كان أمة﴾، أي إماما مقتدى به في موضع الأسوة والقدوة. والمعنى الثاني: أن الأمة بمعنى جنس من الأجناس، قال تعالى: ﴿وما من دابة تدب فوق الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾، ومعلوم أن جماعة الجنس قد تكون بالتسخير، وقد تكون بالاختيار. والمعنى الثالث: الأمة بمعنى الحين والزمن، قال تعالى: ﴿وادكر بعد أمة﴾، أي بعد حين وزمان. والمعنى الرابع: أن الأمة بمعنى القوم الذين يجتمعون على ملة ودين، بصرف عن كون هذا الدين يعتبر حقا أو يعتبر باطلا. قال تعالى: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة﴾، وبعض هذا الميراث كان باطلا رده القرآن الكريم، وقد يكون الاجتماع على حق: ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق﴾، وذكر أن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام. فالإسلام له معنيان: الأول: الاستسلام والانقياد والخضوع لله تبارك وتعالى. والثاني: مجموع الشرائع التي خص بها النبي عليه السلام. وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾، وفي قوله تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾.

وأضاف المحاضر بأن دين الأنبياء والرسل واحد من حيث الأصول والكليات والمنطلقات، والتنوع في الشرائع. فأمتنا تلتقي على الثوابت والأصول والقطعيات، والمحكمات، وتتنوع في الفروع والجزئيات من حيث مدارك الفهم تأصيلا وتنزيلا. وذكر الدكتور عصام أن هذه الأمة خصها الله بالخصائص الثلاثة الكبرى: الأولى: أنها أمة كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون﴾. والخصيصة الثانية: أنها أمة الوسط والاعتدال، قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا." لتحقق بهذه الوسطية مقام الشهادة على الناس. والخصيصة الثالثة: أنها أمة الدعوة والهداية، قال تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾.

وفي هذا السياق وقف الدكتور عصام على معنى الوسط، وقال بأن له ثلاثة معان: الوسط الذي جعله الله صفة لازمة لهذه الأمة، بمقتضاها تحقق الشهادة على الناس، وشهودها الحضاري، تقوم على معنى العدل، ومن معانيه الخيرية، ويعني كذلك التوازن المحمود الذي يعصم الفرد من أن يقع فريسة بين طرفي الإفراط أو التفريط، الطغيان أو الإخسار... فالوسطية تننظمها هذه المعاني الثلاثة: الخيرية، والعدل، والتوازن المحمود.

بمقتضاها نعالج تيار التطرف الذي بدأ بالتكفير، وانتهى بالتفجير، ونعالج التطرف الذي يقابله الانبهاري الذي بدأ بالتخدير وانتهى بالتجميل، ونعالج تيار الاجترار الذي يعيش على الماضي، ويقبع فيه، و يكون أسيرا له، ونعالج التيار الاشتجاري الذي لا يعيش إلا في جو الخلاف.

والوسطية ليست وسطية ماجنة تتشكل بحسب الأهواء والأمزجة، وليست وسطية سادنة رهينة المحبسين، محبس القديم، أو الجحود له. وليست وسطية داجنة، مدجنة، فهي لا تستجيب لأنواع الضغط بكل صوره وأشكاله، ﴿فاحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾، وهي أيضا لا تسوغ ولا تعطي المشروعية لكل ما هو منحرف باسم الدين. فهي بهذه الخيرية والعدل والتوازن تطل على كل الأمم والحضارات. وناقلة الأمة من دائرة الإمكان الحضاري، إلى دائرة الفعل الحضاري.

والخصيصة الثالثة أو المقوم الثالث: أنها أمة الدعوة والهداية، والهداية في القرآن الكريم نوعان: هداية بيان وتبليغ، وهداية إلهام وتوفيق. الأولى وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم من الهداة والصالحين والحواريين. والثانية خاصة بالله تعالى. فالقرآن الكريم قيد دعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أولا: تكون في قاعدة أمرين: وجود إرادة التغيير، وإدارة التغيير. قال عليه الصلاة والسلام: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام،" همام إشارة إلى توافر الإرادة، إرادة التغيير، وهي تحتاج إلى إدارة تترجمها.

وهذه الأمة قائمة على وحدة المرجعية القائمة على الكتاب والسنة، ووحدة القيادة المتمثلة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى وحدة الدار. ومن خصائص هذه الأمة أنها لم يقم فيها مركز حضاري واحد، بل تعددت مراكزها الحضارية في مدنها وعوصمها، مكة، والمدينة ودمشق....ومن خصائصها أنه تناوب على قيادتها أجناس شتى، العرب الحبش والبربر والترك والماغول. والأمة الإسلامية استطاعت أن تستوعب نسيجا واسعا من الشعوب والأجناس، فكانت هناك أجناس وشعوب انتموا إلى الحضارة الإسلامية لسانا وثقافة، ولم تنتم إليه دينا كأقباط مصر، وهنالك أقوام انتموا إلى الحضارة الإسلامية دينا، ولم ينتموا إليها لسانا كالحبش والترك والبربر...وهناك من عاش في كنف هذه الحضارة الإسلامية التي وسعت بتنوعها وعطائها غير المسلمين من باب المشترك الإنساني والديني والحضاري، ولم ينتم إليها دينا ولا لسانا كالأشوريين والكلدانيين، بيد اليوم تواجه جملة من التحديات، نجعلها ختاما حديثنا، وهي:

قضية التفكيك والتركيب في مفهوم هذه الأمة، وهويتها التي تعبر عن حقيقة الذات في محكماتها وكلياتها وأصولها، بين الانتماء الخاص، والانتماء العام. ولا تعارض بين الانتماء القطري، والجوار، والعقيدة، والإنساني وغير ذلك.

تحدي تفتيت هذه الأمة في وحدتها على قاعدة تفتيت المفتت، أو تجزئة المجزأ، أو تقسيم المقسم، إما على أساس مذهبي أو على أساس طائفي، أو على أساس عرقي. فالمذاهب قامت على أساس خدمة الدين، فتنوعت، لكن تحولت هذه المذهبية العقدية والفقهية أو الفكرية والحركية إلى حالة من التعصب والتشظي، وأصبحت معقدا للولاء والبراء. فهي عامل ثراء وخصوبة، وليس المقصود الجمود عليها. فلا نتعامل معها بمنطق التبخيس أو التقديس، أو الجمود أو الجحود.

تحدي علاقة الأمة مع الآخر، فالآخر لا تعني المعادي، أو حالة ثابتة من العداء التي لا تتغير ولا تتبدل. فالأصل في علاقتنا، في علاقة أمتنا بغيرها من الأمم، أولا: الإيمان بوحدة الأصل الإنساني، فالبشرية تلتقي في العبودية لله والبنوة لآدم. ثانيا: الإيمان بمطلق التكريم لمطلق البشر، ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ بصفته الآدمية. ثالثا: الأخوة الإنسانية، إعمالها أولى من إهمالها، فالعباد كلهم إخوة. قال الإمام علي رضي الله عنه: "الناس صنفان: إما أخ لك في الإسلام، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتغلب عليهم العلل، ويؤتى على أيديهم من العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك، مثلما تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر فوقك، والله فوق من ولاه". رابعا: الإيمان بأن الاختلاف بين بني البشر في العقائد واقع بمشيئة الله، فلا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه. وثمرة هذا الاختلاف لتعارفوا، لا لتناكروا. وكلمة لتعارفوا فيها ثلاثة معان: المعرفة، والتعارف، والمعروف. خامسا: القاعدة الكبرى، وهي قوله تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين﴾. فالعالم اليوم في حاجة إلى حلف الفضول في ظل وجود هذه المنظمات الدولية التي اضطربت معاييرها، واختلت موازينها، يشارك فيه كل صاحب ضمير حر، في ظل وحدة معيار، واستقامة ميزان. وأخير هناك تحديات للأمة في بعدها الحضاري، فالأمة موجودة وليست حاضرة. والحضور غير الوجود، فالحضور يعني الفاعلية، ويعني المبادرة، فالأمة مفعول بها، وليست فاعلة. والحضور حضوران: حضور في الزمان، وحضور في المكان. كما وقف على تحدي الإلحاد، وإفساد الفطرة بالتحلل منها، بالشذوذ وهو تحدي الشهوات، وتحدي التشكيك في ثوابت الدين كله بدء من القرآن الكريم والسنة...وتحدي تفكيك الأسرة، وتحدي اليأس للشباب.

وختم الدكتور عصام كلمته ببيان معنى وحدة الأمة فلها أشكال وأنواع من حيث المضمون. وهذه الأمة أمة مرحومة، لا تجري عليها السنن التي أصابت الحضارات، لأن الله تعالى لن يخلي عصرا من قائم لله بالحجة.

صوت وصورة

Back to Top