عبد الهادي التازي
هديتي إلى سائر الباحثين والمهتمين بالرحالة العالمي المعروف بابن بطوطة الطنجي، وذلك بمناسبة احتفال المنظمات العالمية والمؤسسات الجامعية، والهيئات الثقافية مشرقًا ومغربًا بمرور سبعة قرون شمسية على ميلاده الذي كان يصادف يوم 24 فبراير 1304م ( 17 رجب 703 هـ) اعترافًا بالجميل لرحلته التي تعتبر أهم رحلة في تاريخ البشرية جمعاء
كان أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن أحمد بن جُزي الكلبي رابع أربعة من الذين كانوا وراء ظهور رحلة ابن بطوطة على الساحة المغربية أولًا ثم الساحة الدولية ثانيا بعد تشجيع الوزير الأول ابن أُودرار، وبعد أمر العاهل المغربي السلطان أبي عنان وقد ولد بغرناطة سنة 721 هـ = 1321م وأدركه أجله بفاس يوم 29 شوال 757 هــ = 25 أكتوبر 1356م عن عمر لا يتجاوز ستا وثلاثين سنة وقد قدّر لهذا الرجل أن يجتمع بابن بطوطة في غرناطة وكان يصغره عمرًا بنحو ثمان عشرة سنة، عندما زار الرحّالة المغربي عاصمة بني نصر عام 752 هـ = 1351 م (ج 4 ، ص 371)1 .
وتمّ ذلك في بستان الفقيه أبي القاسم محمد ابن عاصم حيث انتظمت نزهة جمعت عددا من وجوه العاصمة الأندلسية، ووجدنا أن ابن جزي يعرب عن ارتياحه كشابٍ للاستمتاع بالأخبار التي كان يرويها الرحالة الشيخ، ولم يتردّد في الاعتراف بأنه قيَّد عن ابن بطوطة، في ذلك البستان، أسماء بعض الأعلام الذين لقبهم الرحالة أثناء سفره وأنه استفاد منه فوائد عجيبة.
وبهذه المناسبة سأل الشاب ابنُ جزي الرحّالةَ عن مولده فأخبره بأنه ولد بطنجة يوم الاثنين 2 17 رجب 703 هـ = 24 فبراير 1304م .
كان ابن جزي على هذا العهد في خدمة أبي الحجاج يوسف ابن الأحمر من بني نصر، ملك غرناطة الذي كان ألحق ابن جزي ببلاطه منذ عام 741 هـ = 1341م في أعقاب استشهاد والده في وقعة طريف في نفس العام حيث كان الملك يطرب لأدب الكاتب وفكاهته3 وإذا أراد الله أمرا هيّأ له أسبابه كما يقولون، فقد حدث أن تعرّض الكاتب ابن جزي لظلم لحلقه من ملكه أبي الحجاج في أعقاب وشايةٍ آثمة، ولم يتحمّل ابن جزي إهانة الضرب بالسوط. فالتجأ إلى فاس ((مستقر الغرباء ومأوى الخائفين)) على حد تعبيره (ج 2، ص 138) وذلك في آخر عام ثلاثة وخمسين 1353م، حيث وجد من أبي عنان ما كان يرجوه.ويذكر أنه شرع ـــ وهو بحضرة السلطان ـــ في تأليفٍ حول تاريخ غرناطة، وأن لسان الدين ابن الخطيب، تلميذ والده، وقف على بعض الكراريس منه عام 755 هـ = 1354م بمناسبة سفارته لدى السلطان أبي عنان عن ملك غرناطة4.
وعندما قرّر هذا السلطان استنساخَ رحلة ابن بطوطة وجعلها في متناول الناس ضاربا عرض الحائط برأي بعض الحسدة والمنافسين، لم يجد في مجلسه أفضل من الكاتب ابن جزي صاحب الخط الرفيع، خط ابن مقلة، كما نعته لسان الدين، لا سيما، و أنه أي ابن جزي سبق له، على ما قلنا، أنه اقترب من ابن بطوطة، وتعرّف على مذكراته عندما تمّ اللقاء في بستان غرناطة5.
وامتثل ابن جزي أمر سيده وهكذا كُتب له، أي لابن جزي أن يستمر ذكره عبر الأرجاء رغم عمره القصير على ما أسلفنا كان ابن جزي على ما ذكره مترجموه أديبا رائعا، ولذلك فقد كان خير من يختار لمهمة مثل هذه على ما كان يحتف بها من مصاعب ومتاعب ونحن نعلم أن التأليف، أيَّ تأليف إذا اشترك فيه اثنان، وتوزّعت فيه المسؤولية بين حاكٍ و كاتبٍ أصبح تأليفا يحتاج إلى الحيطة لا سيما إذا كان التأليف مثل هذه الرحلة التي قام بها شيخ جال في أطراف المعمور، والتي سجل ((التقييدات)) حولها شابٌّ يعتمد على الحكاية والنقل ويصوغ ((التقاييد)) بأسلوبه، ولو أنه أسلوب جميل رفيع، لكنه تنقصه المشاهدة والمعايشة، علاوة على ما يثبت لنا مراجعة ابن بطوطة للتدقيق مع ابن جزي حول ما كتب، الأمر الذي لا أعتقد أنه حصل، فقد كان العمل أحاديًّا ولم يكن تعاقديًّا كما يقولون
ومن هنا توالت بعض الانتقادات على ما روى عن الرحّالة ابتدأت من عصره كما نعرف : ابن الخطيب الذي نقل عن شيخه أبي البركات البلفيقي ما لفّقه على ابن بطوطة وابن خلدون الذي سعى، على صغر سنه، إلى الوزير ابن أودرار لينقل إليه تناجي الناس بأكاذيب ابن بطوطة، آملًا في إتلاف الرحلة !!6
ابتدأ الانتقاد من ذلك العصر إلى أن ظهرت حركة المستشرقين الذين يرجع لهم الفضل أولا في اكتشاف مخطوطات الرحلة، قبل أن ينتبه إليها علماء المشرق والمغرب ثم إنهم ـــ أي المستشرقين ـــ أخذوا يبحثون في تمحيص تواريخ الرحلة ويومياتها : ما يمكن منها وما لا يمكن. وهل إن الرحّالة عند ما يتحدّث عن حالة القيظ أو حالة القر كان يصادف فعلا فصل الصيف وفصل الشتاء …! وهل أن الرحّالة عندما يذكر يوم الاثنين مثلا، كان يتحدّث عن يوم اثنين أم إنه كان يتحدّث عن يوم جمعة !؟ وعندما يذكر الرحّالة حاكما لبلد زاره ، هل إن ذلك الحاكم كان فعلا هو القائم بالأمر في ذلك البلد في ذلك التاريخ ؟ وهل أن ركوب ابن بطوطة البحر تم لأول مرة عندما أخذ المركب إلى بلاد فارس عام 727 هـ = 1327 م، كما تقول الرواية ، (ج 1 ، ص 18) ، أو إنّما تمّ عام 730 هـ = 1330 م على ما يؤكّده هو باللفظ الصريح الفصيح (ج 2، ص 158) . وهل إن الفترة التي ذكرها لزيارة بقعة معينة، بمشاهدها المذكورة، ورجالها المعدودين كانت بالفعل فترة كافية لقضاء كل تلك الأغراض التي يذكرها ؟ مما يعود فيه أولئك المستشرقون الباحثون إلى المؤلفات المعاصرة لتلك الحقبة لاستجلاء الحقيقة ؟ . إلى آخر ما اقتنعنا به ونحن نتوفّر اليوم على المصادر والمراجع ! .
من أجل كل هذا خصّصت في مقدمة تحقيقي للرحلة فصلا بعنوان الدراسات النقدية للرحلة، قصدت به أن أحمل جمهور الناس على قراءة جديدة للرحلة
وقد كان مما جاء في آخر هذا الفصل، تعليقا على ((تلخيص التقييد)) كما يسمي ذلك ابن جزي هذه الكلمات : ذلك التقييد الذي جمعه ابن بطوطة قرابة ثلاثين سنة وقام ابن جزي بتلخيصه في أقل من ثلاثة شهور7! و متى كانت هذه الفترة كافية لتغطية تلك الأعوام الطوال، واستيعاب ذلك العدد الكبير من الأسماء الجغرافية والأعلام الشخصية التي مرّت بذاكرة الرحالة واستطاع اختزانها عبر تلك الأحقاب ؟ !
يقوم أحدنا في العصر الحديث برحلته في أمد معروف البداية والنهاية، ثم لا نذكر بعد مرور بضعة أيام من رحلتنا، بعض الأسماء التي مرّت بنا فنأخذ في الاستنجاد برفاقنا في الرحلة، لأفرق بين صغير وكبير، ولا ينبئك مثل خبير !!
أعتقد كما أشرت أن ابن جزي كان مستعجلا أكثر مما ينبغي في أداء هذه المهمة الدقيقة، وربما كان كما أعتقد أيضا ـــ منشغلا بمشكل صحي قد يكون ((قرحة في المعدة)) وهو ما عبر عنه مترجموه بقولهم : ((مات مبطونا))، وقد يكون سرطانا أصابه في أعقاب الإهانة التي ظل يتذكّرها وهو يجلد بالسياط من لدن ملك كان إلى الأمس القريب يضحك في وجهه، ويعطف عليه ويستأنس به !!
كان مما ينسب إليه وهو في حالة مرضه ما رواه الوليد بن الأحمر: إن يأخذ السقم من جسمي مآخذه وأصبــح القـــوم مــن أمـــري على خطر فــإنّ قلـــبي بحــــمد الله مـــرتبــط بالصبــــر والشكر، وللتسلــــيم للقـدر فالمرء في قبضة الأقــدار، مصرفه للبــرء والسقــــم أو للنفــــع والضــرر !!
ربما كانت تلك الظروف و الصروف وراء تسرّعه و بعثرته للمعلومات التي ((أمليت)) عليه أو ((التقييدات)) التي قدمت إليه بل وراء الاستغناء كليةً عن بعض ((التقاييد))، ولا ندري كما أسلفنا ـــ هل كان ابن بطوطة يجلس إلى جانب ابن جزي ليراجع هذا ((التلخيص)) بعد تحريره ، ليعطي رأيه فيه على ما
أشرنا، مهما يكن، فإن الظرف القصير الذي حدد للقيام بالمهمة كان فيه إخلال بالمشروع على ما قلنا أيضا
ولنضف إلى ((انشغال)) ابن جزي بأمر صحته، عنصرا ثانيا قرأناه في أثناء الرحلة، وهو الحسرة البالغة التي ظلت تجرح ابن بطوطة وهو يتحدّث عن السطو الذي تعرّض له في جزيرة تقع في المحيط الهندي بين هُنَور (Honovar) وفاكنور (Baccanore) في ذي الحجة 745 هــ / أبريل 1345م ( ج . 4 ، ص 206) حيث سلبه القراصنة جميع ما كان يملك من جواهر ويواقيت حتى الثياب و((الزّوادات)) كما يقول ! .
ومن المهم أن نذكر هنا أنه بالرغم من القيمة المادية الهائلة لما افتقده رحالتنا في هذه الحادثة المروّعة التي استحقت من أحد الرسامين الأوربيين المهرة في القرن الماضي أن يقوم بوضع لوحة لها معبرة8 بالرغم من ذلك فإنه نسي كل تلك الثروات، وكل تلك التحف ولم يبق عالقا بذاكرته إلا ((التقييدات)) التي كان يودع فيها معلومات عن الشخصيات العلمية التي تعرف عليها و عن التصانيف التي ألفتها تلك الشخصيات
والطريف في هذا الحادث الكارثي بالنسبة لابن بطوطة أنه لم ينتظر التعبير عن شعوره بالمضاضة على ضياع تلك المذكرات حتى وصوله للحديث عن تلك الجزر التي وقع فيها الحادث، ولكن، والمذكرات أمر ذو بال بالنسبة إليه، تعجل بذكر هذه المأساة للناسخ ابن جزي عندما كان يتحدّث عن علماء بخارى وهو ما يزال في طريقه إلى الهند (ج 3 ، ص 28 ـــ 99 ــ 448؛ ج 7 ، ص 206).
وقد كان المزعج لي في دراستي هذه، أنه لم يبق لدينا بعد ما كتبه ابن بطوطة في صفر عام سبعة وخمسين وسبع مائة (فبراير 1356)9، أقول لم يبق لنا بعد هذا، وبعد رحيل كل من يهمه أمر الرحلة، لم يبق بين ظهرانينا من نسأله !! . فابن جزي قتلته ((الإهانة)) التي كان يشعر بها، ولم تتجاوز به شوال عام 757 هـ / أكتوبر 1356م، مات وهو يذكر السياط التي كانت تصب عليه ظلمًا وعدوانًا كما قالوا10 .
والوزير العاقل الحكيم ابن أُودرار الذي أسكت ((الفتى)) ابن خلدون وشجع ابن بطوطة على عمله، هو بدوره لقي مصرعه عندما هاجمته زبانية السلطان أبي عنان فصفوه في أعقاب مؤامرةٍ يعلم الله وحده مدى صحتها !!
والسلطان أبو عنان نفسُه امتدّت إليه أيادي وزيره حسن بن عمر الذي خنق سيده في ذي الحجة 759 هـ = ديسمبر 1358م !! .
ماتوا جميعا هكذا تباعًا، الواحد بعد الآخر في فترة واحدة تقريبا كما ترى، ولم يبق معنا إلا ابن بطوطة الذي كان في حكم الأموات أيضا ! لا نعرف عنه وعن أسرته أي شيء ! هل تزوّج ؟ وهل أنجب ذرية جديدة ؟ لقد كان المغرب يعيش فترة الفتن بعد تصفية الحسابات، وكل الناس أصبحوا يلوذون ببيوتهم
ولم يبق ممن نعرفه غير ابن خلدون الذي اعترف في مقدمة تاريخه بأنه كان مخطئا عندما أبلغ الوزير ابن أُودرار، إنها نزوة شباب !! كما لم يبق ممن نعرفه غير الخطيب ابن مرزوق الذي تمكن من الفرار بنفسه إلى مصر وعن طريقه وصلتنا من مصر آخر أخبار ابن بطوطة الطنجي فهو الذي بقي مصدرًا لنا حول الموضوع وهو الذي وقف الحافظ ابن حجر ( ت 852 هـ = 1448م) على تقييد بخط ابن مرزوق يقول فيه بالحرف على ما يرويه ابن حجر في الدرر الكامنة :
وقرأت بخط ابن مرزوق أن أبا عبد الله بن جزي نمقها أي الرحلة وحررها بأمر السلطان أبي عنان، وكان البلفيقي رماه بالكذب فبرّأه ابن مرزوق، وقال : إنه أي ابن بطوطة بقي إلى سنة سبعين، ومات وهو متولٍ للقضاء في بعض البلاد، قال ابن مرزوق : ولا أعلم أحدا جال البلاد كرحلته وكان مع ذلك جوادا محسنا11.
وبالعودة إلى ( نفاضة الجراب) للسان الدين ابن الخطيب، نجد أن القصد ببعض البلاد التي مات فيها ابن بطوطة، هو تامسنا وكانت عاصمتها هي (آنفا)، الدار البيضاء الحالية 12 قلنا إنّ الأربعة: ابن جزي وابن أودرار وأبا عنان ومعهم ابن بطوطة قضوا جميعهم من غير أن يترك أحد لنا أثرًا ولا صدى حول ظروف كتب الرحلة سوى ما قرأنا
مات المداوِي، والمداوَى، والذي صنع الدواء، وباعه ومن اشترى !! وأمام المصير الذي ينتظرنا، نحن الباقين ! رأيت من واجبي أن أعلن عن هذا الاكتشاف الغير المسبوق على ما أعتقد إضافة على ما سبق أن نبهت إليه في تعليقاتي على تحقيق الرحلة وخاصة في ((المستدركات))13.
هذا ((الاكتشاف)) الذي رأيت أنه لا يجوز السكوت عنه بحالٍ من الأحوال، لا سيما بعد أن فرضت علينا تساؤلات ملحة حول مدى صدق ما جرى وكيف جرى، ولا سيما أيضا بعد أن وقفنا وقوف عين على ما يدعم الحق ويعززه من وثائق مخطوطة
كل الذين تتبّعوا زيارة ابن بطوطة الأولى لسوريا لاحظوا أنه حسب حكايته أنه زار عددا من المدن والجهات والمعالم والمشاهد، سواء خارج دمشق، أو داخلها، حيث جالس فيها عددًا من العلماء والعالمات كذلك، ونال إجازات مكتوبة منهم ومنهن وقرأنا فيها أصداء عن ((طاعون العصر)) أكثر من هذا سنعرف أنه تزوّج بدمشق من سيدة تركها هناك حاملا، وهي التي علم، وهو بالهند، أنها ولدت ولدا ذكرا فبعث إلى جده للأم وكان مكناسة المغرب، بعث له أربعين دينارا ذهبيا هنديا ( ج 4، ص 315 ـــ 316 )14.
كلنا نعلم عن تلك الحركات ونعلم، إلى جانب هذا، من خلال ((تلخيص)) ابن جزي ((لتقييد)) ابن بطوطة، أنه أي ابن بطوطة إنما قضى بدمشق عام 726 هــ = 1326م نحوا من عشرين يوما من شهر الصوم : فهل كاتب هذه الأيام المعدودة كافية للقيام بكل تلك الحركات ؟ لقد دخل دمشق في تاسع رمضان وخرج منها في فاتح شوال على ما أشرنا . .
إلى جانب هذا الإشكال، فإنّ الذين كانوا يناقشون ابن بطوطة الحساب، لم يقبلوا إطلاقا أن يزور كل تلك المواقع التي تصل إلى نحو العشرين موقعا إنهم يقولون إن زيارة ابن بطوطة لحلب لم تتم إطلاقا عام 726 هـ، لأن الأمير أرْغُون 15 الذي ذكره ابن بطوطة لم يتول الحكم بحلب إلا عام 727 هـ !!
فهل لم يقم ابن بطوطة بزيارةٍ ثانيةٍ لدمشق أتاحت له القيام بكل تلك النشاطات علاوة على ما كانت تقتضيه حالة الزواج ؟ صحيح أنه زارها عام 748 هـ = 1348م وهو في طريق العودة للمغرب بعد غياب عشرين سنة، حيث بحث عن ابنه من زوجته التي أشرنا إليها قبل قليل … حيث وجد أن جميع المشايخ الذين تعرّف عليهم من ذي قبل، صاروا إلى عفو الله جميعا باستثناء الشيخ السخّاوي الذي لم يعرف شخص ابن بطوطة إلا بعد أن قدّم له نفسه وأمعن فيه النظر !! (ج 4 ، ص 316 ) .
لقد صاحبنا جميعا ابن بطوطة بعد قضائه الحجة الأولى وانفصاله عن مكة يوم عشرين لذي الحجة 726 هـ = (17 نوفمبر 1326م) صاحبناه محطةً محطةً، يومًا عن يوم وهو يسير صحبة أمير ركب عراق العرب الملقب : البهلوان ( كلمة تعني البطل المغوار) .
صاحبناه إلى أن وصل مدينة النجف الأشرف حيث تحدّث عن روضتها وقبورها ونقيب الأشراف بها : نظام الدين حسين بن تاج الدين
وهنا في النجف ـــ افترق ابن بطوطة مع الركب العراقي حيث أخذ هذا الركب طريق بغداد بينما أخذ ابن بطوطة طريق البصرة (ج 2 ، ص 16) .
وهو في البصرة قريب من المدينة التاريخية (الأُبُلَّة )، على عشرة أميال منها، نراه يغتنم الفرصة ويزور هذه الأبلة (ج 1 ، ص 404) على متن قارب صغير في بساتين متّصلة ونخيل مظلّلة عن اليمين واليسار، والباعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك واللبن والفواكه على ما تحكيه الرحلة ( ج 1، ص 404 )
هنا يفاجئنا ناسخ الرحلة ومنمِّقها و محرِّرها ابن جزي، بأن ابن بطوطة كان يعتزم أن يلتحق بمدينة بغداد التي راح إليها الركب العراقي لكن بعض أهل البصرة، أشاروا عليه بالسفر إلى (عراق العجم )، قبل أن يزور عراق العرب (بغداد )، فعمل بمقتضى إشارتهم ، تقول رواية ابن جزي .
وهكذا، نقرأ أن ابن بطوطة ركب البحر16، هذا العام 727 هـ = 1327م (ج 2 ، ص 18) وعبر إلى تستر في زمان الحر حيث أصابته حمى على نحو ما يعرض لزائر دمشق إذا زارها الإنسان زمن الحر (ج 2 ، ص 28 )، ثم إلى إيذج
التي يؤكّد أنه وصلها أيام القيظ، الأمر الذي ينكره بشدة المعلّقون، وخاصة عميد الاستشراق التشيكي إيفان هربك (I.Hrbek)17.
وبعد هذا، يدعي الناسخ إن ملك إيذج كان في عهد دخول ابن بطوطة إليها كان هو (السلطان) أتابك أفراسياب، الأمر الذي دعا المترجمان الناشران الفرنسيان الأولان (D.S.) إلى اختراق الخط على الناسخ ، أثناء ترجمتهما، ليطلبا إلى القراء : أن يقرأوا نُصرت الدين شاه أحمد، عوض أفراسياب الذي لم يصعد كرسي الحكم إلا عام 133918.
ثم سار إلى مدينة أصفهان . وهنا يقول الناسخ : إن قطب الدين حسين شيخ زاوية ابن سهل تلميذ الجنيد، خلع على ابن بطوطة جبةً وقلنسوةً ظلتا محل اعتزاز ابن بطوطة (ج 2 ، ص 49)، وكان اليوم يصادف الرابع عشر لجمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة (7 مايو 1327م) . الأمر الذي سنراه يصطدم مع المعلومة الهامة التي سنقف عليها بخط يد ابن بطوطة وهو في دمشق في هذا التاريخ بالضبط على ما سنرى، وما كان حديثا يفترى19 !!
ومن أصفهان يقصد ابن بطوطة شيراز التي يقارنها بدمشق وبعد أن يحكي عن بعض مشاهدها ينتقل إلى كازرون والزيدين والحويزاء ( ج 2، ص 93) ثم حينئذ مدينة الحِلَّة 20 ثم إلى كربلاء حيث مشهد الحسين بن علي ثم إلى بغداد التي يأخذ في وصفها (ج 2 ، ص 100) مقتبسا من ابن جبير الذي كان زارها قبل اجتياح المغول لها (656 هـ = 1258م) على ما أشار إليه ابن بطوطة، الذي أخبرنا بخراب المدارس (ج 2 ، ص 105 )، وأخبرنا كذلك بأنه لقي ببغداد مسند العراق سراج الدين القزويني الذي أخذ عن الشيخة فاطمة بنت الملوك، وتمّ هذا اللقاء في شهر رجب عام سبعة وعشرين وسبعمائة (يونيو 1327 هـ )، وذلك في جامع الخلفاء21.
وبعد هذا الحديث عن تاريخ بغداد وسلطان بغداد يعود الرحّالة إلى ما كان بسبيله فيذكر حسب الناسخ ابن جزي ـــ أن نفسه تعلّقت بالسفر مع محلة السلطان أبي سعيد بهادور إلى عراق العجم ليقف على ((الترتيبات )) التي تجري بمناسبة حركة السلطان22 ولكن من غير أن يذكر تاريخا للقيام بهذه الحركة ومن غير أن يذكر محطة من المراحل التي عودنا على ذكرها وكأنه أخذ طائرة على ما قلته في تعليقاتي !!!
وكل ما عرفناه عن هذه الرحلة مع السلطان أبي سعيد أن ابن بطوطة اغتنم هذه الفرصة فتقدّم، بمساعدة الأمير علاء الدين، إلى السلطان الذي سأله عن بلاده المغرب حيث أعلم الأمير علاء الدين السلطان أبا سعيد بعزم ابن بطوطة على الحج مرّةً أخرى فأمر له السلطان بالزاد والمركوب، وكتب إلى أمير بغداد، حيث نرى أن ابن بطوطة يعود على التو إلى بغداد ليستوفى ما أمر به السلطان . وقعد ينتظر موعد، تحرّك الركب العراقي إلى الحجاز
وهنا يقول الرحالة : ((وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر لأشاهد تلك البلاد وأعود إلى بغداد عند سفر الركب ))
ويذكر أنه خرج من بغداد حيث نراه وهو مُولع بتقليد ابن جبير واتباع خطواته، نراه يحذو حذوه مارا بسامراء، وتكريت، إلى الموصل ومن الموصل إلى مدينة نصيبين، ثم مدينة سنجار ثم دارا ثم ماردين23 قبل أن يفاجئنا بوجوده في بغداد حيث كان ركب الحاج العراقي على أهبة الرحيل.
وهنا نلاحظ، أيضا على نحو ما لاحظناه في رحلته إلى تبريز مع السلطان، أنه أي ابن بطوطة لم يكن حريصا على ذكر تاريخ للوصول إلى هذا الموقع أو ذاك مما كان مدعاة أيضا لتساؤل الذين يتتبّعون سير الرحلة زمانا ومكانا.
ولنعد بعد هذا إلى تساؤلاتنا حول زعم الناسخ أن ابن بطوطة قام برحلة إلى بلاد العجم. ماذا عن حالة القيظ التي تحدّث عنها ناسخ الرحلة وهي أيام قر ؟! وماذا عن أتابك أفراسياب الذي تحدّث عنه ناسخ الرحلة مع أنه لم يحكم البلاد إلا بعد عشرين سنة ؟! وماذا عن الحديث عن الجبة والقلنسوة اللتين خلعتا على ابن بطوطة في أصفهان في تاريخ مزعوم يصطدم مع تاريخ موثوق مكتوب بخط يد ابن بطوطة يثبت أنه كان في دمشق عام 727 هـ.
طوال بضع سنوات ظللت أعيش مع المتابعات ومع التقصّيات إلى أن بلغ إلى علمي وجود خط الرحّالة ابن بطوطة على ورقة من تأليف يتعلّق بالحديث النبوي موجود بمكتبة الأزهر24 وكنت فعلا أبحث عن خط ابن بطوطة لأقارن بينه وبين خط ابن جزي الذي وقع عليه الاختيار لنسخ الرحلة لأنه يشبه خط ابن مقلة !!
واغتنمت فرصة وجودي بالقاهرة لحضور أعمال مجمع اللغة العربية يوم 30 / 03 /2002، حيث حصلت على المخطوطة المتعلقّة بالحديث النبوي، وكانت لأبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي دفين الإسكندرية عام 656 هـ = 1358م ، وهي بعنوان ( الكتاب المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم ). وهي تحتوي على وثيقتين اثنتين كتبتا بذات يد الرحالة ابن بطوطة، أولاهما بآخر المجلد الثاني وثانيتهما بآخر المجلد الثالث والأخير وهما معا تثبتان كما أشرنا أنه ـــ أي ابن بطوطة ـــ كان مقيما بدمشق على الأقل في شهر ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الثانية من عام سبعة وعشرين وسبعمائة
هذه المخطوطة كتبها كما قلنا ـــ الرحالة المغربي ابن بطوطة الطنجي بخطه. ويتأكّد لي أنه كانت هناك وثيقة ثالثة في آخر المجلد الأول لكنها ضاعت مع ضياعه ! وهكذا وقفت على أواخر المجلد الثاني من المخطوطة، وعلى معظم المجلد الثالث وخاصة على آخر المجلد وهما مما نسخه ابن بطوطة تحت سماء دمشق وفي إحدى مدارسها العلمية، (المدرسة العزيزية) ولفائدة الشيخ السخاوي25 الذي كانت تربطه بابن بطوطة علاقات متميّزة على ما ذكره هو في الرحلة (ج 1، ص 241) .
يحمل آخر المجلد الثاني من المخطوطة المذكورة تاريخ أول شهر جمادى الأولى (26 مارس 1327) ويحمل المجلد الثالث تاريخ 18 جمادى الأخيرة من عام سبعة وعشرين وسبعمائة (727 ) هـ = 11 مايو 1327م .
وقبل أن أورد نص الوثيقتين أذكر بأن هذا الرحّالة أخبرنا في رحلته ( ج 1، ص 222 ) بأنّه وقف في كتاب : (المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم) للإمام القرطبي على معلومة تتعلّق بأويس القرني، الأمر الذي يؤكّد الصلة بين ابن بطوطة وبين المخطوطة موضوع الحديث . وهذا هو نص المعلومة الموجودة في الرحلة
ووجدت في كتاب المفهم في شرح صحيح مسلم للقرطبي أن جماعة من الصحابة صحبهم أويس القرني من المدينة إلى الشام فتوفي في أثناء الطريق في برية لا عمارة ولا ماء، فتحيّروا في أمره، فنزلوا فوجدوا حنوطًا وكفنًا وماءً فعجبوا من ذلك وغسلوه وكفنوه وصلّوا عليه ودفنوه، ثم ركبوا، فقال بعضهم : كيف نترك قبره بغير علامة ؟ فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أثر (ج 2 ، ص 222 ــ 223 )26.
فلنعد بعد هذه المعلومة إلى الوثيقتين الهامتين المكتوبتين بخط ابن بطوطة.
لقد وردت الوثيقة الأولى في آخر المجلدة الثانية، ووردت الثانية بتفصيل أكثر في آخر المجلدة التالية
وهذا نص الوثيقة الأولى :
أنجزت المجلدة الثانية من الكتاب المفهم لشرح تلخيص كتاب مسلم بحمد الله وحسن عونه وتأييده ونصره، يتلوه في أول المجلدة إن شاء الله كتاب اللباس، وكان الفراغ منه في يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى من عام سبعة وعشرين وسبعمائة 27 على يد الفقير إلى رحمة مولاه، الراجي عفوه وغفرانه محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطنجي، وفقه الله ولطف به بمنه وكرمه، وجبر حاله، وأوصله أهله و جمع شمله على أفضل حال عن قريب، إنه سميع مجيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمد وآله وأزواجه وذريته وسلّم تسليما .
وهذا نص الوثيقة الثانية :
نجزت المجلدة الثالثة من الكتاب: ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم))، وبتمامها تمّ جميع الديوان، والله المستعان، وذلك يوم الاثنين الثامن عشر من جمادى الأخرى من عام سبعة وعشرين وسبعمائة28، وذلك بمدرسة العزيزية من مدينة دمشق المحروسة، والحمد لله الذي هدانا للإسلام، ووفقنا لكتابة سنة نبيه وحبيبه وخليله سيد الأنام، والله المسؤول أن يخلص أعمالنا ونياتنا وضمائرنا لوجهه الكريم، وأن يبقى علينا أسماعنا وأبصارنا وقوتنا في سبيله، وأن يعطف علينا وعلى والدينا ومشايخنا وأحيائنا وأمواتنا، وجميع المسلمين برحمته ورضوانه ورأفته، وأن يجعلنا ممن ينظر إلى وجهه الكريم في جنته، آمين يا رب العالمين، كتبه العبد الفقيد إلى عفو ربه، المستغفر من زلته وذنبه، الراجي رحمة ربه، محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن بطوطة الجراوي الطنجي29 وهو بحال غربة عن بلاده، جمع الله أموره وأحواله، حامدا لله تعالى ومصليًا على رسوله ﷺ تسليما .
نسخه لمالكه الشيخ الفقيه الأجل، المدرس الأوحد، الأسنى الأسعد، الأتقى الأصعد، الأشهر الأمجد، الأظهر الأوحد، المحقق الورع المتقن الصالح القاضي العدل الرضي الأرضى نور الإسلام . سيد القضاة والحكام أبي الحسن علي السخاوي المالكي، أبقى الله عزته، ومكن رفعته، وأطال إسعاده، وبلغه في الدنيا والآخرة مراده، آمين يا رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا رب سواه، ولا خير إلا خيره .
فكيف يفسر لنا الناسخ ابن جُزي إهماله لذكر وجود ابن بطوطة في دمشق هذه السنة 727 هـ = 1327م، ويفسر صنيعه في أن ينقلنا إلى رحلة مزعومة لجنوب بلاد فارس . . ؟ !
هاتان وثيقتان خطتْهما يد الرحالة نفسه، شهادتان معروفتان بالمكان، محدودتان بالزمان كما رأينا . علاوةً على وثيقة ثالثة كانت بآخر المجلدة الأولى على ما قلنا .
لقد خلق صنيعُ الناسخ ابن جزي طائفة من المشاكل للباحثين والمتعقبين الذين وجدوا، على ما أسلفنا، أن الأشخاص المذكورين من لدن ابن بطوطة عام 727 هــ = 1327م لم يكونوا على أرض الواقع آنئذ ! وإنما أتوا فيما بعد !!
وجدوا أن شكوى ابن بطوطة من حالة القيظ لم يكن لها ما يبررها لأن الفصل كان فصلَ قر وبرد !! .
لقد اقتنعت، ولا سيما بعد وقوفي على المخطوطة التي كتبها بيده بدمشق عام 727 هـ 1327م، بأن الوقائع التي جرى ذكرها إنما عرفتها سنة لاحقة أتت بعد عشرين عاما30. !
لقد كنت من الذين نشروا منذ عشرين عاما (1984)، أن ابن بطوطة زار (عراق العجم ) خمس مرات وعدّدْتُ منها هذه الزيارة عام 727 هــ موضوع الحديث31 . لكني بعد أن وقفت على مخطوطة ( المفهم ) بخط يده في دمشق، اقتنعت بأن صنيع الناسخ ابن جزي كانت تطبعه العجلة وعدم التثبت !.
ولقد حاولت أن أتصوّر مع نفسي ظروف نسخ الرحلة على الشكل التالي :
بعد أن صدر أمر السلطان أبي عنان وبعد أن أملى الشيخ ابن بطوطة ما أملى من مذكراته، قام بتسليم ((تقاييده)) إلى الكاتب ابن جزي وكان في ((التقاييد)) ما يتعلق ببلاد الحجاز، وفيها ما يتعلّق ببلاد الشام ومنها ما يتعلّق وبالهند، إلخ فأخذ ابن جزي يجمع معلومات الحجاز على حدة من غير بحث في ترتيب تواريخ الحجات السبع، ومن ثمة وجدنا أنه يذكر في الحجة الأولى ما رآه أو سمعه في الحجات اللاحقة !! .
وكذا كان في بلاد الشام، جمع الناسخ ابن جزي كل ما يتعلّق بالشام دفعة واحدة، ولو أن بعض ذلك وقع فيما بعد وهكذا اختلطت بعض الملفات على الناسخ ابن جزي، وأخذ بآخرها عوض أولها لقد كانت مآخذنا على الناسخ ابن جزي كثيرة، لكن المأخذ الكبير والخطير تجلى لي عندما وجدنا أن رحلة بكاملها لجهة معروفة هامة بالنسبة للرحالة، تُحذف لتعوّضها رحلة أخرى إلى جهة لم يصدقها الواقع ومع كل ذلك، فإن عمل الناسخ ابن جزي سيظل شاخصا أمامنا، وسيظلّ جهد الرجل، بالرغم من ظروفه الشخصية جهدا شامخا يذكر على الدوام ولعل ما أشرنا إليه في بداية الحديث من الإزدواجية في التأليف: مؤلفين اثنين يختلفان عمرا وتكوينا وتجربة وممارسة هي التي كانت وراء بعض الخلل الذي ظهر في بعض الرحلة ومع كل ذلك، فقد حفظ ابن جزي عمل ابن بطوطة تراثا إنسانيا محميا من كل زيف منذ الأيام التي سجل فيما بمدينة فاس إلى يومنا هذا، وتلك مزية كبيرة لرحلة واسعة الأرجاء، فسيحة الفضاء، متنوّعة العطاء لا يوجد لها على وجه الأرض نظير ولا مثيل .
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: صفحات من تاريخ دمشق، و دراسات أخرى، 2006، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 447-470. |