الأحباس العامة بالقيروان في عهد الدولة الحفصية (625 هـ / 1228 م - 982 هــ / 1575 م )

شارك:

مراد الرّمّاح

محتويات المقال:
الأحباس العامة بالقيروان في العهد الإسلامي المبكّر
الأحباس العامة بالقيروان في العهد الحفصي
1- تنظيم هياكل الأحباس العامة بالقيروان
أ- القاضي
ب- ناظر الأحباس
ج- محاسبة ناظر الأحباس
د- الأئمة و المؤذنون
ه- تراتيب عملية التحبيس
و- مصادر التحابيس
ز- استغلال العقارات المحبسة
2- المؤسسات والمصالح المحبسة عليها
أ- المساجد والمواضي
ب- الزوايا ودور العلم والمصاحف والكتب
ج- حبس الفقراء و المساكين
د- الأسوار
ه- الجامع الأعظم
عملة للحفصيين مكتوب عليها بالخط الكوفي ومزخرفة. بجاية، الجزائر 1249-1276م.

تعتبر الأحباس من أجل التنظيمات والتشريعات التي كان لها بالغ الأثر في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العالم الإسلامي قاطبة. ولم تحظ هذه الظاهرة بالدراسة الكافية من طرف الباحثين1 حتى نتبيّن نشأتها والأسباب الكامنة وراء انصهارها وتفشيها في المجتمع الإسلامي، وحقيقة تأثيرها الإيجابي أو السلبي على الملكية العقاريّة ودورها في الحركية الاقتصادية. وهل يمكن اعتبارها إحدى العناصر التي ساهمت في جمود وتيّبس الشرايين الاقتصادية في العالم الإسلامية ؟ أو أنّها مثلت الملاذ الذي سمح بتوفير الحماية اللازمة للأراضي والعقارات نتيجة تدهور الظروف الأمنية وتسلّط الولاّة وتعدّى الغاصبين . ولم تشر الدراسات حول الأحباس بالمغرب وإفريقية عن هذه القاعدة بل انها تقتصر على بعض البحوث والمقالات المتفرّقة والنادرة التي لا تفي بالحاجة رغم وفرة الوثائق المتعلقة بالأحباس بالنسبة للعصر الحديث خاصّة2 .

وقد احتفظ جامع القيروان بمجموعة من العقود والوثائق التي تعود إلى عهد الدولة الحفصّية، وهي إلى جانب بقايا المكتبة العتيقة التي كانت محفوظة هناك3. مع أن عدد هذه الوثائق من الرسوم والكشوف لا يزيد على المائتين، إلا أنها تسمح بالإضافة إلى ما ورد في كتب الفتاوى للبرزلي والونشريسي4 وكتب الطبقات5، فإنعام النظر في تنظيم مؤسسة الأحباس في القيروان ذلك المعهد، والتعرف على أهم المعالم المحبّس عليها، وكثافة وخصائص العقارات الموقوفة ع لى هذه المعالم، وموقعها في النسيج العمراني للمدينة وتأثيرها في توزيعه، إلى جانب الوقوف على مدى تطوّر المفاهيم والتشريعات المتعلقة بالأحباس وقدرتها على مواكبة تغير المجتمع .

الأحباس العامة بالقيروان في العهد الإسلامي المبكّر

تتّسم المصادر بالغموض حول نشأة الأحباس العامة بالقيروان، ولئن اتّفقت جميعها على أن الخاصّة من المسلمين قد قاموا أول دخولهم لأفريقية ببناء المساجد والمحارس والمواجل والآبار من صحيح مالهم صدقة لله وتقربا لهوطلبا لمغفرته، فإنّها لم تشر إلى أن الأمر يتعلّق بإقامة أحباس أو بتحبيس رباع أو عقارات على المآثر التي تم تشييدها. وإن سمحت المسائل الفقهية التي تعود إلى نهاية القرن الثاني الهجري بترجيح ذلك، حيث إنها تطرح بعض شواغل المجتمع القيرواني في ذلك التاريخ6، فإنّها لا ترشدنا إلى مراحل نشأة الأحباس العامة وتطورها، ولا تسمح بالجزم بهذا الأمر. والثابت لدينا أنّ أوّل إشارة واضحة لتحبيس رباع بالقيروان تعود إلى أواسط القرن الثالث هجري، حيث يستفاد من المصادر7 أن سهل بن عبد الله القبرياني (ت 282هــ / 895 م (تولي بناء قصر للرباط على مقربة من سوسة وحبّس عليه حمّاما بالقيروان. ولا يستبعد أن تستأثر الرباطات بأغلب التحابيس في ذلك العصر للدور الذي كانت تقوم به في حماية المسلمين ومراقبة السواحل، ولم يجيء في المصادر ذكر لرباع محبسة على معالم ومؤسسات في القيروان. وأقدم الأمثلة الواصلة إلينا تتعلق بتحابيس مصاحف على جامع القيروان تعود إلى العهد الأغلبي قامت بها أميرة هي خديجة بنت الأغلب المتوفية في أواسط القرن الثالث الهجري، وفضل مولاة مولاة أبي أيوب سنة ( 295 هـ / 907 م)8. على أن صمت المصادر لا يمكن اعتماده للتنصيص على ندرة الأحباس العامة بالقيروان في ذلك العهد، حيث تذكر وجود متولي أحباس، كما أنها تشير عرضا إلى أن أحد القواد الأغالبة الذين حاولوا الوقوف أمام تقدم الجيش الشيعي وتدارك الإمارة الأغلبية قبل زوالها قد جمع الفقهاء ووجوه القيروان وطلب منهم نصرته بأموالهم فامتنعوا عن ذلك ((فقال لهم : فانظروا ما كان في أيديكم من أموال الأحباس والودائع وأعطوني ذلك سلفا لينادي بالعطاء ويجتمع الناس))9 . وهو ما يؤكد وجود أحباس، إلا أنها لم تكن منظمة في مؤسسة واحدة بل مفرقة بين القائمين عليها .

ويبدو أن الأمر أصبح أكثر تنظيما خلال العهد الفاطمي حيث يشير القاضي النعمان إلى وجود ناظر للأحباس بسوسة وقد بعث يستشير قاضي القضاة في إصلاح مواجل أزلية ظهرت بدار الصناعة بها10 . وفي ذلك أول إشارة إلى أن وضيعة ناظر الأحباس الذي أصبح يعود بالنظر إلى قاضي القضاة . ويتأكّد من ذلك خلال العهدين الفاطمي والزبيري ونرجع إلى أواسط القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، حيث أن جميع تحابيس المصاحف التي أوقفت على جامع القيروان قد تمت على يدي قاضي القضاة11 بالمدينة، وأجلّها التحابيس التي قام بها أمراء الدولة الصنهاجية ومنهم الأمير المعز بن باديس، وأم مَلال عمّته سنة (411 هـ/ 1020م) وأم العلوّ أخته وحاضنة والده باديس سنة (410 هـ /1019م )، وهو ما يؤكدّ انتشار ظاهرة التحبيس في المجتمع الإفريقي عامة والقيرواني خاصة في ذلك التاريخ .

ولا تسمح الوثائق بالتعرف على وضعية الأحباس بعد الزحفة الهلالية التي تلتها الجلوة الكبرى وخلاء المدينة واندراس رسم عمرانها. ولا ريب أن الظروف الصعبة التي عاشتها المدينة نتيجة انعدام الأمن وغياب سلطة سياسة حازمة، قد نتج عنه انحلال مؤسسة الأحباس وضياع رسومها واندثار أوقافها، وتستشف ذلك من خلال فتوى للإمام محمد بن علي بن عمر التميمي ( ت 536 هـ /1141م) مؤرخة في (523 هـ /1128م) تشير إلى أن جماعة من أهل القيروان بعثوا يستفتون الفقيه في ترميم سور القيروان وأبراجه وهو حُبس سائر إلى الهلاك، فأفتى المازري بالحضّ على إصلاحه إذ ثبت ذلك عند القاضي وأصحاب الخبرة12. والمفيد بالنسبة إلينا في هذه الشهادة المهمة أنه قد آل الأمر بأهل القيروان إلى عدم معرفة ما يجب فعله في تعهد المباني المحبسة والتراتيب التي يتعين إتباعها في مثل هذه الحالات، مما يؤكد اندراس تقاليد النظر فيها وغياب مؤسسة قائمة بالأحباس بالوجه الأكمل. ويدعم هذا الإستنتاج ما أشار إليه الدّباغ من أن جامع الزيتونة قد كانت له قبل أن أعاد بناءه أبو سعيد بن محمد التينمالي سنة (660 هـ / 1261م)، ((رباع محيطة به كانت حسبا عليه فبيعت بغير حق وهي الآن في أيدي الناس وهي حبس لا شك فيها ولا ريب))13.

الأحباس العامة بالقيروان في العهد الحفصي

يتّضح من خلال المصادر أن القيروان بدأت تتعافى بعد قيام الدولة الحفصية بإفريقية وتراجع شوكة الأعراب وآستتباب الأمن نسبيا داخل المدينة. ولا ريب أن هذا الوضع قد انعكس على حالة الأحباس العامة والمؤسسة القائمة بها . وليس من قبيل الصدفة أن تكون أول إشارة لتحبيس رباع بالقيروان بعد الزحفة الهلالية يعود إلى سنة 645 هـ /1247م، لما تولّى أبو عبد الله محمد بن عوانة تحبيس حانوت على الفقراء14 . وكذلك لمّا تولى الشيخ أبو سعيد التتمالي المعروف بالعود الرطب تحبيس حوانيت بمدينة تونس على مسجد الزيتونة بالقيروان سنة 660 هـ / 1261م . كما أنّ أول سجل للمصاحف والكتب التي حبست في حقبة تاريخية سابقة على جامع القيروان، يعود إلى سنة 693 هـ / 1264م15. ثمّ إنّ أقدم كشف للأحباس العامة بالقيروان يعود تاريخه إلى أواخر شوال من سنة 702 هـ / 1302م16 وهو يتعلق بطرس على الرق يشتمل على عدة رسوم لبعض الرباع المحبسة على الفقراء والمساكين، وعلى المساجد وعلى تعليم الكتاب العزيز، وغير ذلك من أنواع الأحباس. ويستفاد من ذلك وجود أحباس وإدارة منظمة لها خلال القرن السابع هجري على الأقل. إلا أننا لم نعثر على رسوم تحابيس تعود لهذه الحقبة التاريخية رغم وجود عدد كبير من الوثائق المتعلقة بالأصدقة وعقود المقاسمة ضمن المكتبة العتيقة بالقيروان. ويبدو أن القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي يمثل طور الصحوة بالنسبة إلى الأحباس العامة بالقيروان حيث تتعدد خلاله رسوم التحبيس .

كما حافظت خزانة جامع القيروان على كشف بعقارات وقف على الجامع الأعظم والسور بقي منه ورقة على الرق وهو يشتمل على مجموعة من الرسوم مؤرخة من سنوات (720 هـ / 1320م) و(728 هـ / 1326م) و( 778 هـ / 1376م) و(787 هـ /1385م). ومع ذلك فإنّنا نلاحظ أن أغلب الوثائق والكشوف التي حافظت عليها خزانة الجامع الأعظم بالقيروان تعود إلى القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وأهمّها كشف بأحباس متوضآت (مواضي ) مساجد القيروان في ورقتين على الرق مؤرخ من سنة ( 809 هـ / 1406م ). وتستشف من عنوان الوثيقة : ((بقية المواضي بالقيروان)) أن الأمر يتعلّق بعدد محدود منها وأنّ ذكر القسم الآخر قد ورد في غير الوثيقة التي وصلت إلينا؛ وفي آخر الورقة الأولى هناك إشارة واضحة إلى أن بعض العقارات ثم تحبيسها حديثا ذكر في أسفلها ما نصّه : ((الحمد لله وحده . يعرف شهوده الرّباع المحبسة على المواضع المعدّة لطهارة الصلاة بالمدينة المذكورة، وهي التي تَشمّل عليها عشرون سطرا، وبعض شطر المقيدة أعلاه، وهي مشهورة بالحبس المذكور أعلاه، وبعضها قريب التاريخ وبعضها مذكور في المستودع القديم )) .

وفي قفا الورقة يذكر عدد آخر من المواضي مع إشارة في آخر الثبت إلى أن شهوده (( يشهدون أن الرباع المذكورة هي حبس حسبما هي مشهورة بذلك وكلها عصرية قريبة العهد))17. وهذا يدعم افتراضنا أن بداية من أوائل القرن التاسع الهجري نشطت ظاهرة التحبيس بمدينة القيروان، كما حافظت المكتبة العتيقة منها على طرس آخر بقي منه أربعة أوراق مكتوبة على الرق، ببعضها تخريق ونقص، وهو يتعلق ببعض الرباع المحبسة على مختلف مساجد القيروان والفقراء ومؤرخ من أوائل شهر صفر سنة 855 هـ / آذار 1451م18 .

ولعل أكثر الكشوف شمولا، ذلك الذي بقي منه أربعة أوراق من الرق وهو يتعلق بالدور والرباع المحبسة على الجامع الأعظم والسور ومؤرخ من شهر جمادى من سنة 888 هـ / شباط 1483م 19 . كما حافظت خزانة جامع القيروان على كشوف وإحصاء لأوقاف الجامع الأعظم والسور وبعض المساجد والمواضي والرباع المحبسة عليها، يقع القسم المتبقي منها في ست أوراق مكتوبة على الرق، ويعود تاريخها إلى أواسط القرن العاشر الهجري، وهو يسمح من خلال مقارنته بالكشوف السابقة من التعرف على تطور الأحباس العامة بالقيروان خلال مدة محددة من الزمن20 .

ويلاحظ المتصفح لوثائق خزانة المكتبة العتيقة بالقيروان أن أغلب التحابيس الواصلة إلينا والتي صدرت عن بعض الأهالي تعود إلى القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، مما يدعم الافتراض الذي سبق أن أشرنا إليه حول استفحال ظاهرة التحبيس بالقيروان خلال هذا العصر الذي يوافق حقبة مزدهرة من تاريخ الدولة الحفصية اعتلى خلالها عرش السلطنة أعظم ملوكها، وهما أبو فارس عبد العزيز المتوكل (796 هـ / 1394م  837 هـ / 1434م) وأبو عمروعثمان ( 839 هـ / 1435م – 893 هـ / 1494م)21. إلا أن ما نلاحظه من وفرة التحابيس للمؤسسات العامة خلال هذا العهد لا يمكن أن يمثل حجة دامغة لإثبات ما ذهبنا إليه، نظرًا لعدم تأكد توّصلنا بسجل الوثائق التي تعود إلى العصور الأخرى، وإن صمت المصادر لا يعدّ برهانا كافيا على ذلك. وتبقى قائمة حجّة القائلين بأن انتشار عملية التحبيس انتشارا واسعًا في العصر الوسيط المتأخّر، مرتبط بانتشار الأوبئة والكوارث الطبيعة والآفات ونتيجة ((تدهور الظروف الأمنية العامة التي اقتضت وقف الأرض حماية لها من التعدي والغصب22)) . وتدعيما لهذا الرأي، فقد ثم العثور بخزانة جامع القيروان على رسم تحبيس امرأة لحانوت بسوق اللّبادين داخل القيروان، تكون غلّته نصفيين، النّصف الأول على من يقرأ على قبري ولديها الطالب أبي محمد عبد السلام وعبد الحق ولدي بعلها أحمد بن مالوش الحضرمي، جزئين من كتاب الله سبحانه في كل يوم، ونصف الغلة الثاني للفقراء والمساكين بالمدينة المذكورة. والرسم مؤرخ من أوائل رمضان 751 هـ / أوائل نوفمبر 1350م23 . وهذا التاريخ يوافق الوباء العظيم والطاعون الجارف الذي انتشر بإفريقية منذ سنة 749 هـ / 1348م فعمّها الموت وخلت الديار24 . ولا ريب أن المرأة المذكورة في الرسم قد فقدت ولديها على إثر ذلك، وهو ما دعاها إلى تحبيس عقارات تقربا لله سبحانه وتعالى عسى أن يكون لها في ذلك عزاء وسلوان في مصابها . كما أن كتب الفتاوى تشير في العديد من الحالات إلى لجوء العامة إلى التحبيس خوفا من سيطرة السلطان وتعدّي الأعراب وضرر الأجوار. ورغم ذلك، فإن مراجعة كشوف ورسوم الأوقاف العامة بالقيروان خلال القرن التاسع الهجري تشير إلى أن العدد الوافر من التحابيس قد تَمّ من جانب الصّدقة وبدون التنصيص على أن ذلك يُصبح ساري المفعول عند انقراض عقب المحبس، أي أن الأمر لا يتعلق بتأمين سلامة العقار بل إنه هبة، ولا يكون تعدد مثل هذه الحالات في أحباس القيروان بمنآى عن الإنتعاش المادي لبعض الفئات الاجتماعيّة بالمدينة. كما يستفاد من الوثائق المشار إليها، أن تنامي عقارات الأحباس بالقيروان ناتج في الكثير من الحالات عن اشترائها من فاضل غلة الحبس نفسه كما سنبيّنه، وهو ما يؤكد وجود حركية اقتصادية وازدهار سمحًا بتطوير موارد الأحباس في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، مما يدحض الرأي القائل بأنّ تطور ظاهرة الأحباس يُوافق أزمنة الانحطاط الاقتصادي وانخرام الأمن. ويدعونا ذلك إلى الاحتراز والتأني في إصدار حكم نهائي في المسألة .

تنظيم هياكل الأحباس العامة بالقيروان

تتّسم المصادر بالصمت حول تنظيمات الأحباس العامة وترتيباتها بإفريقية في العهد الحفصي. وتسمح الوثائق القيروانية إلى جانب بعض الفتاوى بالتعرف على بعض الهياكل المنظمة لها.

أ- القاضي:

يبدو ومن خلال المصادر أن المشرف على الأحباس بالقيروان في العهد الحفصي هو قاضي المدينة، الذي يعود له النظر في قبول الصداقات والتحابيس من الأفراد، وهو الذي يأذن بجميع المُعاوضات والشراءات المنجزة، من لدن ناظر الحبس . ففي وثيقة متعلقة بعقارات أوقاف الجامع مؤرخة من عام 728 هـ / 1327م تولى الفقيه أبو العباس أحمد بن هاشم التميمي الناظر في أحباس جامع عقبة ((اشتراء بتقديم بعض من تقدم من قضاة القيروان، الربع شائعا من فندق بالقيروان بعد أن أذن له في ذلك الشيخ الفقيه القاضي العدل المكرم المبجل الصالح المرحوم أبو الفضل أبو القاسم . . . قاضي مدينة القيروان كلأها الله وسائر عملها وفقه الله وسددّه ورحم الصالح سلفه إذنًا تامًا استنادًا في ذلك لمن لهم علم النظر في الأحكام الشرعية بالحضرة العلية))25. ونستشف من هذه الوثيقة التي تعود إلى القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي أن القاضي نفسه يتولى في الحالات الهامة مراجعة قاضي القضاة بتونس الذي تكون له الكلمة الفيصل في الأمر. إلا أن جميع الوثائق التي تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الهجريين / الخامس والسادس عشر الميلاديين لا تشير إلى هذه المراجعة، وربما استنتجنا من ذلك أنه قد ثم تدعيم صلاحيات قاضي البلد في البت مباشرةً في الأمر في الأعداد اللاحقة. كما يتولى القاضي عند القيام بعملية شراء المُحَبس التحبّيس دفع المال مما هو مؤمّن تحت يده من غلّة  الحبس المنتفع بذلك، ففي وثيقة مبتورة الأول مؤرخة من أواخر جمادى الأولى من سنة 882 هـ / 1477م الأسبوع الأول من أيلول يشير الرسم إلى أن ناظر سور القيروان تولى شراء العقار المذكور به ((مما هو مؤمن يد الشيخ القاضي بالقيروان))26. كما يتولى القاضي ختم جميع كشوف الأحباس والوثائق المتعلقة بها، وهو الذي يتولى سماع الشهود على صحة ما جاء في الثبت ويشهد على نفسه الشهود بشهادة ذلك. ففي وثيقة تشتمل على إحصاء لأحباس مواضي القيروان مؤرخ من سنة 809 هـ / 1406م  كتب بالطرة ما نصّه : ((الحمد لله وحده . أشهد القاضي على بن أبي العباس أحمد الفقيه قاضي مدينة القيروان وجميع أعمالها حين التاريخ وفقه الله وسدده وخلّصه خلاصا جميلا فيما قلّده، بثبوت الرسم المقيد أعلاه ثبوتا صحيحا تاما كما يجب بعد الأداء في ذلك من شهيديه . فممن أشهده القاضي المذكور ممّا ذكر فيه وعلم أنه القاضي حيث ذكر وهو بحال كمال الإشهاد عليه بمجلس حكمه ومحل فصل قضائه من المدينة المذكورة، قيد به شهادته بتاريخ أواخر رجب عام تسعة وثمانمائة ( العشر الأوائل / كانون الثاني 1407 م )))27 .

ومجمل هذه العبارة يتكرر في أغلب الوثائق التي بين أيدينا، وربما استغنى القاضي عن ذكر اسمه بوضع ختمه. كما يوكل للقاضي مهمة محاسبة ناظر الأحباس والتدقيق في المصاريف والدفوعات وقد ينصب لذلك في بعض الحالات مجلس يحضره عدول إشهاد للنظر في الأمر .

ولا نلاحظ من خلال الوثائق التي تعود على العهد الحفصي تغييرا وتطورا ملحوظا في صلاحيات القاضي، خلافا لما يقف عليه الدارس بداية من العهد العثماني في أوائل القرن الحادي عشر الهجري / السابع عشر الميلادي28 .

ب- ناظر الأحباس:

يعتبر ناظر الأحباس المتصرّف الفعلي في الحبس وهو الشخصية الثانية بعد القاضي من حيث الأهمية واتّساع السلطة . ويتولّى ناظر الأحباس تحت نظر القاضي تسيير مصالح الحبس والقيام بجميع المعاملات المتعلّقة به كالكراء والمعاوضة والبيع والشراء. ويتم تقديم ناظر الحبس واختياره للقيام بمهامه من جانب القاضي الذي يعيّن له مرتبا أو يتحصّل في المقابل على ريع عقاري من عائدات الحبس نفسه. ولم تصلنا وثائق من العهد الحفصي تحدّد قدر ذلك إلاّ أنه في وثيقة مؤرّخة في أواسط ربيع الثاني من عام 1000هـ / 30 / 1 / 1592م، أي أقلّ من عقدين بعد سقوط الدولة الحفصية، يشهد أحمد علي المهدي ناظر أحباس القيروان في ذلك التاريخ بتوصله بأربعة دنانير كلها نواصر حَيْدرية قروية ممّا له مرتّب على الأحباس المذكورة بناء على أوامر عَليّه بيده تقتضي ذلك29. ولا ندري عمّا كان العمل به في العهد الحفصي، وهل أن القاضي هو الذي يتولّى تحديد مرتب ناظر الأحباس أو أن ذلك يتمّ على يدي السلطة ((المخزنية )) العليا كما هو الشأن في العهد العثماني ؟

وتعتبر وظيفة ناظر الأحباس من أدق الوظائف وأعسرها لما تنطوي عليه من تصرّف في أموال المؤسسات العمومية والدينية التي يضفي عليها المجتمع الإسلامي اعتبارًا خاصًا. ولقد كان كبار القضاة والفقهاء يتهيبون القيام بها ويرفضون تولّي شؤون العقارات المحبسة، من ذلك، فإن القاضي ابن عبد السلام رفض إدارة العقار الذي حبسته الأميرة عطف زوجة السلطان الحفصي أبي يحي أبي بكر سنة 650 هـ / 1252م على المدرسة التي تعرف بالتوفيقية 30 .

وقد كان نظار الأحباس موضع ريبة وشك حتى أن الفقيه القيرواني البُرْزُلي ((أوصى قضاة الكُور بعدم وضع ثقتهم كاملة في ناظر الحبس، معتبرًا أن تصديقه في ما يدعيه حول المصاريف والمداخيل دون الاعتماد على الشّهود هو جَهْل بصياغة القضاء و إخلال بها))31.

ج- محاسبة ناظر الأحباس:

يتعرّض ناظر الأحباس بصفة دورية للمحاسبة، وصورة ذلك مبسوطة في عقود المحاسبات التي عثرنا عليها في مكتبة القيروان العتيقة ولقد لخّصها الفقيه المغربي العبدوسي بقوله : ((يجلس الناظر والقباض والشهود، وتنسخ الحوالة كلّها من أوّل رجوع الناظر إلى آخر المحاسبة، وتقابل وتحقق، ويرفع كل مشاهرة أو مساهمة أو كراء أو صيف أو خريف، ويجمع ثم يقسم على المواضع لكل حقه، ويعتبر المرتبات وما قبض ما تخلص))32.

ولقد احتفظت المكتبة العتيقة بالعديد من المحاسبات التي يعود أغلبها إلى ما بعد العهد الحفصي، وتتعلق ببداية الحكم العثماني33. إلا أنّه ليس هنالك ما يدعو إلى القول بأنها قد تغيرت من عهد إلى آخر من حيث صيغة التدقيق والمساءلة وتكوين المجلس الملتئم للغرض، لذلك فإنّه يمكن الاطمئنان إليها واعتمادها في التعرف على سير دواليبها في العهد الحفصي . وتبدو أغلب المحاسبات متزنة، ويتسم موقف القاضي فيها بالمرونة واللين كما هو الشأن بالنسبة لقابض غلات أوقاف الجامع الأعظم بالقيروان، الذي حوسب سنة 1050 هـ / 1640م، ((فرفع عليه ألف دينار وأحد ومائة دينار واحدة واثني عشر دينارًا وثلاثة وعشرون درهما وسدس درهم، بعضها شطت [زادت] قبل الأمين المذكور لجانب الجامع المذكور في محاسبة العام الفارط [المنصرم ] واعتراف الأمين المذكور بصحة المحاسبة فيما رفع عليه الاعتراف التام؛ وطلب بذلك فاستظهر بصوائر بعضها صارت عنه في الرّم والبناء في رباع الجامع المذكور، وبعضه عن سكّانه، كلّها بشهادة عدلين من عدول المدينة المذكورة إلا ما ندر منها شهادة عدل واحد، حلف المتمسك بذلك على صحته لدى الشيخ القاضي المذكور يمينا مستوفاة كما يجب وحيث يجب . أشهد الشيخ القاضي بذلك   وحوسب بما هو مصروف فكان جملة المصروف المذكور سبعمائة دينارًا وستة وثمانون وستة دراهم وربع درهم . أسقط المصروف مما رفع على الأمين فشطّ لجانب الجامع قبل الأمين ثلاثمائة دينار وستة وعشرون دينارًا وخمسة أثمان الدينار ودرهم إلا نصف سدس الدرهم)) . ثم ذكر الأمين بعد أن طلب بما شط قبله ((أن له بقية على بعض سكان بعض الربع المذكور تعذر عليه خلاصهم منهم ، بعضهم لسفره ، وبعضهم لغيبته ونقلته عن مدينة القيروان قبل خلوص ما عليه)).

وذكر الأمين مختلف الحالات حالة بحالة فأسقط هذا الباقي قبل من ذكر عن الأمين عمر المذكور مما بقي عليه لجانب الجامع المذكور، فصار لجانب الجامع قبله مائتا دينارا ثنتان وثمانية وسبعون دينارًا واثنان وعشرون درهما وثلث الدرهم، لا يبرأ منها إلاّ بما تبرأ به الذمم المبرأة شرعًا. وأعترف الأمين أنه لم يقبض شيئا مما بقي في عقد المحاسبة السابقة عن هذه قبل بعض سكان الرباع بل ذلك باق قبلهم لجانب الجامع . . . وبعد أن كان ذلك أشهد الآن الشيخ القاضي المذكور أنه ثبتت عنده المحاسبة المذكورة بعد و قوفه على صوائرها وأصولها، وعلم ما خرج وأصرف على تفصيله كيف ذكر فيه الثبوت التام ، وأبرأ الأمين عمر كذلك من جميع ما رفع عليه من أكرية العام المذكور، وما فضل قبله من العام الذي قبله وما ذكر مع ذلك، عدا ما ذكر بقاؤه قبله في هذه المحاسبة، واعترف ببقاء المائتين والثمانية وسبعين دينارًا والاثنين وعشرين درهما وثلثي درهم بذمة حال لجانب الجامع كيف ذكر .

وشهد على إشهاد الشيخ القاضي المذكور بما عنه فيه وهو بحال كمال وعلم أنه القاضي حيث ذكر وعلى إشهاد الأمين المذكور كذلك بما عنه فيه وهو بحال جائزة وعرّفه ذلك بتاريخ أواسط محرم الحرام فاتح عام 1051 هـ / أواخر نيسان 1641م ثم نجد في الوثيقة عقد العدل الأول وهو أبو الطيب صدام اليمني ثم عقد العدل الثاني وهو الشيخ محمد جمال الدين بن خلف المسراتي34.

وتثبت الوثيقة كما أسلفنا مرونة القاضي من حيث قبوله وثائق تحمل شهادة عدل واحد خلافا لما هو متعارف عليه، واكتفاءه بأداء اليمين عنها من لدن الناظر، إلى جانب إبرائه من الأكرية التي ذكر أنه لم يتوصل بها، وعدم التدقيق في ذلك مثلما يتم في بعض المحاسبات الأخرى35.

ولقد كانت وضيعة ناظر حبس سور القيروان سنة 744 هــ / 1343 ـــ 1344 مأكثر سوءًا، فقد أشار البرزلي في إحدى فتاواه إلى أن القاضي أبا القاسم الغبريني سئل ((عمّن قدّمه القاضي على حبس السور [ بالقيروان ]، وأشهد على الناظر أنّه لا يتولّى شيئًا من السور دخلاً ولا خرجًا إلاّ بالعدالة، وجعل له على ذلك مرتّبا من غلة ريع السور المذكو، وتمادى على ذلك مدة، ثم طلب من القاضي محاسبة على دخله وخرجه، فحوسب بحضرة العدول، فوجد دخله أكثره بغير شهادة، وخرجه بالشهادة، ووجد في خرجه رسومًا بمعاينة الشهود، دفع أجرة البناة والخدمة في السور، ولم يضمنوا الشهود معرفة الخدمة والوقوف عليها، فهل تحسب له هذه الرسوم أم لا، ووجد في خرجه أيضا رسوما أنفقت في سجن هذا البلد، في بنائه وإصلاحه، وهذا الإنفاق في السجن في مدة لم يكن في البلد قاضً، إنما أنفقه على يدي عمال المدينة ، المذكور على الأشغال المخزنيّة أجبر الناظر على السور على بناء السجن من مال السور. ووجد في مستودع جامع المدينة رسما فيه جماعة من الشهود، بأنّ العادة الجارية بها إذا احتاج السجن إلى الإصلاح إنما يكون من مال المخزن في عام 744 هـ / 1343 – 1344م . وتوفي عدوله على العدالة و ثبت الرسم عند القاضي، فهل يحسب له هذه الرسوم المنفقة في السجن، لكونه مجبورًا عليها أم لا، للرسم المذكور، ولم يستند لحكم شرعي، فيكون جائحة نزلت به، وهل يجب له جميع مرتّبه المسمى أم لا، لتفريطه في كون أكثر دخله بغير شهادته، ولم يقدّمه القاضي إلاّ على ذلك))36.

وتعتبر هذه الحالات من التجاوز قليلة وشاذة، خاصة وأن القضاة يتحرّون التحرّي التام في اختيار نظراء الأحباس من الأمناء وأعيان البلد ممن ثبت ورعهم ؛ فقد كان أبو العباس أحمد مالوش الحضرمي، ناظر أحباس السور في أواخر القرن الثامن37 صائغًا من خاصّة الفقيه أبي عبد الله محمد السبائي عرف الجديدي الذي كان يقيم بداره38 . كما أن ناظر أحباس الجامع الأعظم بالقيروان في أوائل القرن الثامن كان الفقيه أبو العباس أحمد بن الشيخ الفقيه أبي بكر يحي بن هاشم التميمي39، بنو هاشم أجداده كانت لهم الرئاسة وتداولوا خطة قاضي القضاة بالقيروان على امتداد أكثر من تسعين سنة من أواسط القرن الرابع الهجري إلى أواسط القرن الخامس الهجري في أيام بني زيري40 .

ونستشف من الوثائق أنه قد كان إلى حد أوائل القرن التاسع لكل وقف ناظر خاص به، فتشير المصادر إلى الناظر في أحباس الجامع وإلى الناظر في أحباس السور، إلاّ أنّه بداية من أواسط القرن التاسع نلاحظ أنه الناظر على الوقف، قد أصبح يطلق عليه اسم أمين الوقف41 أو وكيل الوقف42 . ولا يستبعد أن يرتبط ذلك بتنظيم  جديد في مؤسسة الأحباس قد غاب عنا تاريخه . ولعله يتمثل في بعث خطة ناظر لجميع أحباس المدينة يشرف على أمناء لكل حبس على حده . والثابت أن هذه الخطة كانت قائمة بالقيروان سنة 937 هـ / 1530 – 1531م ، كما نتبينه من خلال رسم صلح بين ناظر أحباس القيروان في تاريخه والفقيه إبراهيم الربعي .

ولا يستبعد أن تكون الخطة موجودة منذ أواسط القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي على الأقل حيث نلاحظ تغييرا في رسوم ناظر الحبس إلى أمين أو وكيل الحبس أو الوقف. وربما وافق ذلك التاريخ نشأة خطة قابض غلات الحبس، حيث يشار في وثيقة تؤرخ حسب خطها وبالمقارنة مع وثائق أخرى، من أواخر القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي، وهي تتضمن شراء قابض غلات حبس السور لدارين بالموضع المعروف بالعمود الأزرق داخل مدينة القيروان43. فهل أن هذه الخطة توافق خطة أمين الحبس المذكور، أو أنه قد تم الفصل بين وظيفة المكلف بالإشراف على الحبس ووظيفة قابض الأموال و صرفها ؟ ويعسر الفصل في الأمر لتداخل المهام حسبما يبدو ذلك من خلال الوثائق .

د- الأئمة و المؤذنون:

تؤكّد وثائق خزانة جامع القيروان ما كان معمولا به في سائر بلاد إفريقية في العهد الحفصي، من تولّى أئمة المساجد في أحباسها . ونستفيد من الوثائق أن التقديم ينهض به قاضي المدينة . ويقوم الإمام بأغلب المعاملات التي ثبت قيام وكلاء الأحباس الأخرى بها، من كراء ومعاوضة وشراء بعد مراجعة قاضي المدينة، من ذلك فإن إبراهيم بن مرغيش القرشي تولّى خلال أوائل شوال من سنة 809 هـ / 1407م تحبيس حانوت سوق الخياطين على مسجد القصر وميضاته ((تصرّف غلته في مصالح الميضأة المذكورة، في الاستصباح والأجل والدلو والأباريق، وغير ذلك مما تدعو الضرورة إليه، وما فضل عن ذلك يصرف في استصباح المسجد المذكور وتحصيره)) 44.

ولقد عارض ورثة مرغيش ذلك، فشهد شهود الرسم بمعرفة الحاج التاجر المقدس المرحوم اسحاق ابراهيم بن مرغيش القرشي المعرفة التامة وأنّه ((كان في صحته وقائم حياته حوّز الفقيه المكرم ابي عبد الله محمد الهواري عرف بابن علاّله أمام المسجد المعروف بمسجد القصر والناظر في وظائفه، والناظر أيضا في ميضاته الغربية منه جميع حانوته الذي كان حبسه على المسجد والميضأة المذكورين فكان الفقيه محمد الامام المذكور يحوز الحانوت المذكور ويعقد الأكرية ويقبض غلاته أعواما كثيرة في حياة الحاج إبراهيم االمذكور إلى أن توفي الحاج إبراهيم المذكور واستمر الفقيه محمد المذكور، على حوز الحانوت المذكور لجانب الحبس المذكور، إلى أن وقع من ورثة الحاج إبراهيم المحبس ما وقع من التغيير))45.

وتؤكد الوثيقة الصلاحيات الواسعة التي كان يتمتّع بها إمام المسجد في تسيير الحبس في حياة المحبس وبعد وفاته .

ولا ندري هل أن أئمة المساجد كانوا يتقاضون مرتبا على ذلك أو يقومون بشؤون الحبس من باب التطوع والاحتساب . كما أن ا لوثائق لم تكشف عن عقود محاسبة الأئمة كما هو الشأن بالنسبة لأمناء وقابض غلات الأحباس الأخرى، حتى نتبين مدى المراقبة التي كانوا يخضعون إليها عند التصرّف في الأحباس التي بين أيديهم . ولعلّها لم تكن بالقدر الكافي الذي يردع كل التجاوزات، حتى أن البرزلي أقر في احدى فتاواه بأن ((هذا الزمان كثر فيه أكل خراج حبس المساجد من الأئمة، و يدّعون الحبس منهدما، وربما يتعطل لما يتوالى عليه الخراب))46. ولم تكن صلاحيات المؤذّن في التصرّف في الأحباس أكثر وضوحا إلا أنها قد تصل إلى حد إتمام عمليات الشراء من مداخيل المسجد نفسه .

ولم نعثر في ذلك إلاّ على إشارة واحدة وردت في كشف لبعض مساجد القيروان والرباع المحبسة عليها حيث تذكر وثيقة أنه ((مما هو من أحباس مسجد السادة الأنصار، جميع الحانوت القبلي المفتح بسوق الشكازين وهو ما تولّى شراءه للمسجد المذكور من فاضل غلاّته، المؤذن مسعود بن عبيد الله وبعض جماعة لخدمة المسجد، بإذن من يجب أعزه الله ، حسبما هو مؤرخ بأوائل شعبان من عام واحد وسبعين وتسعمائة [أواسط شهر آذار 1564 م ]))47. ونفهم من هذه الوثيقة أن المؤذن المذكور قد راجع القاضي في وأنه المتصرّف الشراء، وأنه المتصرّف في غلة المسجد المتأتية من كراءات أحباسه 48. وقد كان لجانبه في القيام بذلك ((جماعة لخدمة المسجد))، إلا أنه يعسر التعرّف على الدور الذي أوكل لهم في إتمام الشراء وفي تسيير المسجد.

وربما تشير الوثائق إلى نائب عن المسجد بدون ذكر صفته، من ذلك ما ورد في الرسم المؤرخ في أواسط رمضان سنة 794 هـ / 5 / 8/ 1392م من تضمين اشتراء المعلم محمد بن أحمد الملباني نائبا عن المسجد المعروف بابن خيرون من الحاج حسن بن عيسى الصفاقُسي عرف القِدة ، جميع قاعة الحانوت اللطيف الذي بسوق الحجامين ، وقد أذن في ابتياع هذا الحانوت للحبس المذكور الشيخ الفقيه قاضي القيروان. وذكر المشتري أن المالَ المدفوع من مال المسجد، وهو ما يؤكد أن المعلم محمد الملباني كان المتصرف في حبس مسجد ابن خيرون في ذلك التاريخ .

وتؤكّد الوثيقتان الأخيرتان الإنطباع لدى الدارس بأن تسيير الأحباس لم يكن دائما بالقدر الكافي من الضبط والتنظيم أو أن القائمين على مصالحة يتمتّعون بحيز واسع من حرية التصرف في تنمية موارد الحبس الاقتصادية وفي القيام بشؤونه دون التقيد بأطر إدارية واضحة تسمح باعتبارهم موظفين في خدمة احدى مؤسسات الدولة .

ه- تراتيب عملية التحبيس:

حافظت عملية التحبيس على امتداد العهد الحفصي، على نفس التراتيب المتبعة منذ العهد الإسلامي المبكر، مع بعض الاختلاف في الصيغ المعتمدة . ويتم التحبيس بموجب وثيقة يذكر فيها اسم الشاري للحبس والبائع له، أو المحبس والمؤسسة المحبسة عليه، ثم تحدد نوعية الحبس وجميع حدوده ومرافقه وحقوقه ومنافعه وانجراراته . وفي بعض الحالات تضبط أوجه استغلال العقار المحبس لفائدة المؤسسة العامّة المحبس عليها. وإذا كان شراء يشار إليه حسب الصيغة التالية التي تتكرر مع بعض التعديلات من وثيقة إلى أخرى ((اشتراء جائزا صحيحًا ماضيًا منحكمًا منبرمًا لا شرط في عقده يفسده ولا استثناء يرده ولا دلسة ولا خَلابة ولا على سبيل رَهْن ولا تألْيج))49، ثم يذكر ثمنه وما دفع منه مقدمًا و ما سيدفع مؤجلا ومواعيد ذلك . وإذا كان القائم بالشراء ناظر الحبس أو أمينه أو وكيله ، فإنه يجب أن يكون تقديمه لذلك من قبل قاضي المدينة، وأن يتولى تكليف أرباب الصناعة بتقييم العقار ورفع شهادتهم في ذلك للقاضي، للتأكد من أن العملية فيها نماء ومصلحة للحبس. وقد جاء في إحدى الوثائق أن الفقيه أبا العباس أحمد بن هاشم التميمي، الناظر في حبس الجامع الأعظم، اشترى خلال سنة 728 هـ /1424م ربع فندق بسوق الخزازين للجامع الأعظم بستين دينارًا سكية، ((قال شهوده : وكان شراء الناظر المذكور بعد أن عيّر قيمته جماعة من التجار من العارفين بالمدينة المذكورة بقيمة الرباع المرجوع لأقوالهم، فذكروا أن قيمته الآن قيمة العدل والسداد خمسة وسبعون دينارا سكتة . وأذن له في ذلك القاضي أبو علي الحسن بن الخطيب . وسمع من التجار العارفين المذكورين ما ذكر عنهم فيه، وعرفهم وعرف أنهم من أرباب المعرفة))50. وفي أغلب الأحيان يذكر أن التحبيس دائم ومستمر ما تعاقب الجديدان واختلف الملوان51 لا يباع ولا يوهب ولا يورث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ﴿ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يَبَدِّلُونَهُ 52 ثم يذكر شهود الوثيقة أن العقار أصبح يحاز بحوزة الأحباس ويحترم بحرمتها وتصرف غّلته في مصالحه 53 .

وفي جميع الحالات فإنه يتعيّن موافقة قاضي المدينة وقبول ذلك . ويختم الرسم بالإشارة إلى تاريخ كتابته وختم العدول الذين يتولّون الشهادة على ذلك. ولا يقل عددهم عن عدلين وهي أكثر الحالات ويحفظ الرسم في موضع يعرف في المصادر بالمستودع، وهناك إشارة في الوثائق إلى المستودع القديم54 وهو بيت داخل الجامع، وكانت الرسوم تحفظ في صندوق عقود الأحباس، وتحفظ المحاسابات وعقود الأكرية في كراريس خاصة بكل وقف55. و قد كانت جميع الأحباس تنزّل في كشوف تختص كل منها بباب من الأبواب ، كأحباس السور، أو أحباس الجامع، وغيرهما. وإذ تعددت العقارات المحبسة على أحد الأبواب، فإنّه يتمّ ترتيب كل منها حسب صنف العقار، كأن تذكر الدور المحبسة على المعلم تحت عنوان خاص بها، ثم تحت عنوان آخر الحوانيت المحبسة عليه، وفي آخر الحمامات وهلمّ جرًا. ونلاحظ أن بعض كشوف الأحباس بقيت معتمدة أكثر من قرن ونصف، حيث يقتصر على الإشارة في الطرة إلى تطور وضعية العقار، فإن تّم بيعه أو معاوضته فإنه ينصّ على ذلك . وإن تم اقتناء عقارات جديدة للحبس المذكور فإنه يدرج أسفل القائمة؛ من ذلك كشف يتعلّق بأحباس سور مدينة القيروان مؤرخ في سنة 888 هـ / 1483م قد أضيف له بالطرة على اليمين بخطّ وحبر مخالفين ما نصّه : ((الحمد لله أشهد الشيخ الفقيه [ ختم القاضي ] قاضي مدينة القيروان في التاريخ سدّده الله تعالى، أنه ثبت عنده الرسم الممضين أمامه وما هو في محوّله وما هو بالورقة المتّصلة به وغير هذا أيضا ، ثبوتا تاما بعد الأداء في ذلك كما يجب وبتوجه المتوجهين عنده فيه. فممن أشهده القاضي المذكور على ما ذكر وعلم أنه القاضي حيث ذكر وهو بحال كمال الإثبات عليه بمجلس حكمه ومحلّ فصل قضائه بالمدينة المذكورة، وذلك بتاريخ أواسط ربيع الثاني عام 1026 هـ / 22 / 4/ 1617م))56. وهو ما يؤكّد أن هذا الكشف بقي معتمدا مائة وثمانية وثلاثين سنة على الأقل . إلا أن القاضي احتاج إلى التأكيد من صحة ذلك وتحيين الشهادات على صحة ما ورد فيه .

و- مصادر التحابيس:

تثبت الوثائق والمصادر أن التحابيس تنجرّ إلى الأحباس العامة بسبل عدّة ، تتمثّل أهمها في الشراء من غلة الحبس على يدي أمناء ووكلاء الحبس . وتؤكّد الكشوف التي بين أيدينا أن أغلب أحباس الجامع الأعظم من الدور هي من هذا الباب، كما سنبيّنه في مكانه، الأمر كذلك بالنسبة لأحباس الفقراء وقسم من أحباس السور57، في حين يتأتّي عدد قليل من العقارات المحبسة، مما تمّ اقتناؤه من أشخاص كان للحبس عليهم دين فأجبروا على خلاصة بتفريطهم في ممتلكاتهم إلى جانب الحبس، ففي وثيقة في تحبيس ديار على الجامع الأعظم مؤرخة في سنة 888 هـ / 1483م، ترد الإشارة إلى ((أن جميع الدار القبلية المفتح بوسط ممر باب تونس، وهي المشتراة لجانب حبس الجامع والسور من مالكها الحاج محمد البكري الزناد على يدي الحاج الأمين أبي عبد الله محمد بن أحمد العباسي الخشني وحاسبه بثمنها مما انكسر عليه لجانب الحبسين المذكورين من أكرية الحمام و غيره))58. كما أن قسما وافرا من الأوقاف العامّة بالقيروان هي من تحبيس الخواص .

وفي الكثير من الأحيان يعمد المحبس إلى التحبيس على عقبه من أولاده الذكور والإناث، وفي صورة انقراض هذا العقب، فإن الوقف يؤول إلى الحبس العام . ويوجد بخزانة مكتبة القيروان عدد من الرسوم التي يشار فيها في طرة إلى انقراض عقب المحبس وإحالة الحبس إلى الأحباس العامة 59 . وفي بعض الحالات يتولّى المحبس التحبيس على وقف معيّن على أن يكون النظر في ذلك لذريته وأعقابهم فإن انقرضوا رجع النظر في ذلك إلى الناظر في الأحباس60. ومن أصناف التحابيس الأخرى القيام بوصية61 أو تقديم صدقات وهبات عينية لأحد الأحباس العامة وربّما تولى الناظر على الحبس اشتراء عقار بالمال المتصدقبه لفائدة الحبس .

وأغلب هذه التحبيسات من أهل مدينة القيروان، وقد وقفنا على رسم حبسين من أهل قرى جبل وسلات على مقام الفقيه عبد الله بن أبي زيد المتوفي سنة 382 هـ / 992م . ويشير ابن ناجي في ((معالم الإيمان )) على حالة شاذة تتمثل في تحبيس شيوخ العرب حانوتًا على الجامع لما كانوا يحكمون القيروان62.

ويستوقف الدارس عدم وجود أية إشارة لتحبيس من جانب سلاطين الدولة الحفصيّة وأمرائها على المعالم الدينية بالقيروان. وسيستريبنا الأمر، خاصة وأنهم قد قاموا بتشييد معالم دينية بمدينة تونس وحبسوا عليها الأوقاف، وبني بها أبو زكريا يحيي المدرسة الشماعية وحبّس عليها حوانيت بسوق العطارين، وكذلك فعلت الأميرة عطف زوجة السلطان أبي زكريا يحيي ، فقد بنت جامع التوفيق والمدرسة التوفيقية ورتبت بها دروسا وجعلت لها أوقافا جارية .

والثابت أن التحبيس على المعالم الدينية لم يكن من تقاليد السلاطين والأمراء الحفصيين كما هو الشأن بالنسبة إلى الدايات وبايات تونس في العهد العثماني . ولم تحفظ كتب التاريخ والطبقات أمثلة عديدة عن صدقاتهم وتحابيسهم، ولعلّ مرد ذلك تغلب القبائل العربية عليهم حتى اضطروا على حد قول عبد الرحمن بن خلدون لإقطاعهم ((الأمصار وألقاب الجباية ومختص الملك، وانتفضت الأرض من أطرافها ووسطها، ومازالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية وقاسموهم في جبابات الأمصار بالإقطاع ريفًا وصحراءً وتلولاً وجريدًا63)) . حتى أن مدينة سوسة أضحت إقطاعا رسميا لبني مسكين، من حكيم64 . فمن البديهي والحالة تلك أن يعجز سلاطين الدولة الحفصية على تحبيس العقارات على المؤسسات الدينية وأن يتحاشوا أن يفتحوا على أنفسهم بابا في ذلك. ولا ينفي ذلك قيام بعض رجالات وأعيان الدولة الحفصية بتحابيس على مآثر دينية بالقيروان، كما هو الشأن بالنسبة للشيخ أبي سعيد التنمالي وزير المستنصر الذي تولّى إعادة بناء جامع الزيتونة بالقيروان وحاجب الدولة السعيدة أبي زكرياء يحيي بن أبي الحسن علي بن يعقوب الذي ساهم سنة 716 هـ / 1316م بمبلغ مالي قدره مائة وخمسون دينارا في اشتراء حانوت حبس على ميضأة باب نافع ومسجده65.

وخلاصة القول، إن ما يمكن استنتاجه من بَسط أصناف الأحباس التي كانت متداولة بالقيروان خلال العهد الحفصي، هو أن الصنف الذي يعرف بالأحباس الأهلية بالمشرق يمثل النموذج الذي كان سائدا بإفريقية آنذاك، ولم تظهر بها الأوقاف السلطانية أو أوقاف الدولة التي عرفتها مصر أيام الأيوبيين 66 . كما أن ما يستوقف الباحث في الأحباس العامة بالقيروان في العهد الحفصي، هو السيطرة المطلقة للأوقاف المتكوّنة من الرباع وندرة الأحباس المتعلقة بعقارات فلاحية. فالمصادر والرسوم والكشوف بوثائق القيروان لا تذكر إلا العقارات المبنية، وأهمها: الدور، والحوانيت،    والحمامات، والفنادق، والأفران، ودور الدبغ، باستثناء حالات نادرة، تتعلق الأولى والثانية بتحبيس أصول زيتون بجبل وسلات على مقام الفقيه عبد الله بن أبي زيد القيرواني67 على حين تنطبق الحالة الثانية على تحبيس جنان على مسجد ابن رزين68 كما يستفاد من كراريس أكرية الجامع الأعظم المؤرخة بأوائل محرم عام 906 هـ /1500م ، أنّ الجامع الأعظم كان له أحباس في ذلك التاريخ تتمثل في مغار سللزيتون بنواحي تونس وجبل و سلات، ومغارس للنّخيل بتوزر وقابس، وبعض منابت للسمار بوادي زرود ورأس الكلبية وأم إبراهيم ، من نواحي القيروان69. و هذه العقارات الفلاحية لم تقع الإشارة إليها في أي كشف من كشوف أحباس الجامع التي عثرنا عليها في وثائق المكتبة العتيقة .

ز- استغلال العقارات المحبسة:

لا تسمح الوثائق التي بين أيدينا على التعرّف على كافة الطرق المعتمدة في استغلال العقارات المحبسة ، خاصة منها العقارات الفلاحية التي تكاد تكون المعلومات عنها منعدمة . ويستبعد أن يكون قد استغلت هذه العقارات بصفة مباشرة من طرف مؤسسة الأحباس؛ لعدم توّفر الإطار المؤهل لذلك، ويقع اللجوء عادة إلى الكراء أو القَبالة . ولم تحفظ لنا الوثائق – إلا في حالات نادرة ـــ أكرية الأراضي الفلاحية، ويعسر من خلالها التعرّف على معدل معلوم الكراء المعمول به ، وهو ما يفيدنا في دراسة أوجه من الحياة الإقتصادية بإفريقية في ذلك العصر، وإنجاز مقارنات بين ما هو معمول به في الكراء من الحياة العامة، وما هو قائم بالنسبة إلى الأحباس يساعدنا على كشف جوانب هامة من أوضاع الأحباس في ذلك التاريخ .

والإشارة الوحيدة التي أمكن استخراجها من كراريس أكرية الأحباس في وثائق القيروان، تتعلّق بعقد كراء مؤرخ من سنة 906 هـ / 1500م يخص الزيتون الكائن بحضرة تونس، وهو من أحباس الجامع الذي ((وصل منه على يدي المعلم محمد بن ابراهيم الجبالي اثنان وثلاثون دينارًا كبيرة ستينية وتحصّلت في قبض الأمين الزحالي))70 ولا ندري شيئا عن مساحة الغرس المذكور وعدد أصول زيتونه لانتفاء ذكره في كشوف أحباس الجامع التي بين أيدينا. ولم يكن استغلال أراضي الأحباس الفلاحية يقتصر على الكراء، بل اعتمد في ذلك مبدأ المساقاة، كما نستشف ذلك من وثيقة مؤرخة من سنة 905 هـ / 1499م، وهي تشير أن ((تحت يد محمد بن بوحوال أصل زيتون بجبل وسلات يخدمه بالثلث مساقاة على العادة، وله خمسين من زيتونة برأس الحائط وجميعها من أحباس الجامع))71 وتعتبر المعلومات المتعلّقة بأكرية العقارات المبينة أكثر وفرة، فقد حافظت المكتبة على أوراق متفرّقة من كراريس أكرية الأحباس تمتدّ من أوائل القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي إلى القرن الثالث عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي. وهي بالنسبة للحقبة التي تهمّ دراستنا تتعلّق خاصة بأحباس الجامع والسور والفقراء. ويستفاد منها أن أغلب أكرية الأحباس كانت من الحوانيت التي يبلغ عددها العشرات وكان معلوم كرائها في أوائل القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي يتراوح بين ثلاثة دراهم وواحد وعشرين دينارا كبيرة ستينية بالنسبة إلى لحانوت الواحد72 وتحتل الدور المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وكان معين كرائه يتراوح بالنسبة إلى نفس التاريخ المذكور بين نصف دينار كراء دويرة من أحباس الفقراء، وأربعة دنانير كراء من أحباس الجامع73 .

كانت أبراج سور القيروان تكرى إلى الخواص، ومنها برج ابن عباد، وبرج أبي سطيلة الذي كان معين كراؤه سنة 906 هـ / 1500م دينارا كبيرًا ستيني وربع دينار74، ولقد كانت بعض الأحباس التي يؤمها كثير من الناس لإتمام مشاغلهم اليومية يقدّر كراؤها باليوم الواحد، مثل الحمامات، ومنها حمام الزغبار الذي كان معلوم كراء نصفه سنة 969 هـ / 1561م ثمانية دراهم ناصرية عثمانية كل يوم75، وكذلك الكوشة الكائنة برحبة الزرع المُعَدَّة لقلو الشّعير والتي التزم بكرائها في ذلك التاريخ أحمد بن محمد البّراق ومسعود بن محمد الدّريني بالسواء بينهما بنصف الدرهم الناصري العُثماني كل يوم . وكان كراء الفنادق بتأرجح بين الكراء السنوي واليومي، فكراء فندق النجّارين كان سنة 906 هـ / 1500م بأربعة دنانير كبيرة ستينية وربع دينار، وفندق العطارين في نفس التاريخ بأحد عشر دينارًا من نفس النَّعْت، في حين كان فندق البقل الكائن بسوق المَدَّاسين يُكْتَرى سنة 969 هـ / 1561م بسبعة دراهم ناصرية عثمانية في اليوم76.

وحسب الونشريسي فإن المتعارف في ا لأحباس أن ((يتم الكراء مشاهرة والمزايدة ويلزم الكاري بأداء معين الكراء، ويكتب العقد الموثق من شاهدين معينين للشهادة في الأحباس))77 ونجد الصدى لهذه العملية في كراريس أكرية أحباس القيروان، من ذلك ما نصّه ((الحمد لله، الحانوت الجوفي المفتح تجاه سوق الحدادين المذكور التزمه مدة عام تاريخه الفقيه عبد الرحمان بن مالوش المذكور بستة دنانير كبيرة ستينية والدفع مشاهرة، وقبل مكتراه ورضِيَه، والساكن به الفقيه محمد بن المرابط علي . . . المسراتي . شهد بذلك من سمع الإلتزام من مكتريه وعلم سكنى من ذكر به في أوائل محرم فاتح عام ستة وتسعمائة (28/7/1500م) منعقد بعقدين))78. وهذه الصّيغة تتكرر في أغلب أكرية العقارات المبينة. ويتم كراء الحبس عادةً حسب الوثائق لمدة عام، ويبتدئ أول محرم من السنة ؛ وقد يقع التمديد في ذلك إلى عامين، إذا ما تعلق الأمر بأشغال أو أعمال ترميم وتهيئة يتطلبها العقار المكترى 79. إلاّ أنّنا نجد إشارة إلى أن الكراء قد تواصل على امتداد خمسة سنوات أو أكثر على أن ذلك لا ينفي تحديد العقد سنويًا. وليس يوجد ـــ من خلال الوثائق ـــ ما يفيد إبرام الأكرية لمدّة طويلة كما كان الشأن بالنسبة إلى أحباس قرطاجنّة التي تُكْرى على امتداد أربعين سنة، كما جاء في احدى فتاوي البُرْزلي80. و يبدو أن القائمين على أحباس القيروان كانوا حازمين في احترام ذلك، بل أنّ بعض الأكرية قد تُحدَّد على الشهور. وقد تتعقّد وضعية البعض منها ويتم كراؤها مراكنةً وبالمساومة حفظًا لحقوق الحُبُس، كما بدا عند كراء حَمّام الزُّغْبار سنة 907 هـ / 1501م 81 . ولقد كانت الغاية من اقتصار مدّة كراء الأحباس عدم إهمال الوقف بطول مدّة مكوثة عند متقبلّه، فيستقّر معيّن الكراء ويَعْسر الزيادة فيه . على أنه ليس من المتيسّر دائما تجديد الكارى، خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بالدُّور والحوانيت، حيث أن المُلْتزم يبحث دائما على الاستقرار والْتعريف بصناعته أو تِجارته، وهو ما يَحْتاج التَّواصل لاكتساب الشهرة والصّيت، لذا فإنّ الحرص على تجديد عقد الكراء بصفة دوريّة كلّ عام، يفسّر بعض أسباب انْخفاض أكْرية الأحباس بالمقارنة مع الأَكْرية العادية . ورغم ذلك، فإن الأكرية تعتبر أهم موارد الأحباس .

ولقد حافظت وثائق القيروان على بعض محاسبات قباض الأحباس، وتلاخيص الأَكْرية، تسمح بالوقوف على أهميتّها، من ذلك تلخيص ((يشتمل على المرتفع على الأصل من دَخْل الرَّبْع المحبس على الجامع الأعظم بالقيروان، على يدي الأمين أبي الحسن علي ابن أبي فَرّوج، قابض الحبس المذكور وَقْت التاريخ، لمدة اثنى عشر شهرًا متوالية آخرها ذي الحجة من عام 911 هـ / 25 / 4/ 1506م ، وما قبض من ثمن حب الزيتون الكائن خارج الحضرة العليّة مما تحصَّل في العام المذكور، وما أبقَتْه عليه المحاسبة المنعقدة بالشّهادة بالحضرة العلية ممّا حصل في العام، فكان المتحصّل من دَخْل العام المذكور وما أضيف إليه من الفقيه سّتمائة وستّون دينارًا كبيرة الضَّرب ستّينيّة، وأربعة عشر درهمًا، وثلاثة أثمان دِرْهم من الدّراهم السِكيّة . شهد بذلك من جمّل82 دخل العام المذكور))83. وهذه الموارد هي المعتمدة بالأساس في سير شؤون الأحباس وقضاء مصالحها. ويكون صرفها عادة بالوجه الذي اشترطه المحبّس، وقد كان فقهاء المالكية يشددون في التقيّد بذلك، ويتراءى من خلال المصادر والوثائق أنّ الباب الأول لصَرْف غلّة الأَوْقاف يتمثِّل في تعهد المؤسّسات المحبّسة عليها وترميمها وتحسين مَظْهرها والحيلولة دون خرابها واندثار رَسْمها ثم تُصْرف في مرّتبات القائمين عليها وحاجيّاتها من التجهيزات وفي المواد اللازمة لها 84.

2- المؤسسات والمصالح المحبسة عليها

يبدو من المفيد التعرف على المؤسسات والمصالح المحبس عليها، والإطلاع على مضمون ومحتوى أوقافها ومكاسبها، والمقارنة بينها في ذلك حتى يتيسّر تقييم دورها ومكانتها الإجتماعية والإقتصادية في المدينة. و يتضّح من الوثائق والمصادر أن جلّ التحبيسات تهمّ المساجد ومواضيها، والكتاتيب، والأسوار، والجامع الأعظم، والفقراء، والمارستان، والحَبْس، والزّوايا، والمقامات، ودور العلم، والمدارس، والمصاحف، والكتب الفقهية والدينية.

ولم تحفظ لنا المصادر صدى مؤسسات مائيّة تَمّ التحبيس عليها في العهد الحفصي، رغم أهميتها بالنسبة إلى المدينة . وأوّل الوثائق التي بين أيدينا والمتعلّقة بها تعود إلى أواخر القرن العاشر / وأول القرن الحادي عشر، وتختّص ببئر روطة . ولا يعني ذلك أن التحابيس الرّاجعة لها لم تكن قائمة قبل عن هذا التاريخ، بل أن ذلك هو الأرجح، وإن لم نستطيعْ الجزمَ بذلك ((كما أن الوثائق تبقى على إشارات قليلة لن يشملها البحث لأوقاف الحبس والمارستان الذي يبدو أنه تعطل في أواخر القرن العاشر / وأوائل القرن الحادي عشر.

أ- المساجد والمواضي:

تتعدّد المساجد والمواضي التابعة لها داخل مدينة القيروان العتيقة، وكان عددها خلال العهد الحفصي يفوق الستّين حسب تقديرنا من خلال دراسة النّسيج العمراني للمدينة ووثائقها. ومن أجلّ هذه المساجد لدى أهل القيروان مسجد السادة الأَنْصار الكائن بمحرس الأنصار، نسبة للأنصار من أهل المدينة الذين أقاموا فيه عند تأسيس القيروان. واعتبارًا لذلك، فإن الأحباس التي أوفقت على هذا المسجد هي الأكثر من حَيْث العدد والأهمّية بالمقارنة مع المساجد الأخرى. وقد ورد ذلك في كشف لبعض مساجد القيروان ومواضيها والرّباع المحبسة عليها مؤرخ سنة 957 هـ / 1550م85 . كما أمكن كذلك العثور على وثيقة مخرّقة قد قطع من أعلاها نحو أربعة سطور، وهي سجلّ مؤرخ من سنة 855 هـ / 1451م به أحباس بعض المساجد ومواضيها، لعلّه يكمل الكشف لاحباس مواضي مدينة القيروان المؤرخ من قبل ذلك في سنة 809 هـ / 1406 م86.

كما أن المكتبة العتيقة لجامع القيروان حافظت على بعض رسوم تحبيس عقارات على بعض مساجد القيروان ومواضيها . وتسمح مختلف البيانات المتوفرة من هذه الوثائق بتقديم جرد لأحباس مساجد ومواضي القيروان ومواضيها من أواخر القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي إلى أواسط القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي :

المعلمالعقارات والرباع المحبسة عليهاملاحظات
مسجد الأنصار  - حانوت سوق التماقين - نصف فرن - نصف دار ربة ببطحاء الشقارنة - مصف حانوت فرخة بسوق العطارين - حانوت بسوق الحلفاوين . - حانوت بسوق الشكارين - حانوت ممر باب تونس- في كشف مؤرخ سنة 957هـ /1550 م . اشتراه من فاضل غلّه المسجد المؤذن مسعود بن عبد الله سنة 971هـ/1563م.  
ميضأة مسجد الأنصار- حانوت بممر باب تونس - دار - رواق العلوي المعتلى عليه- في الكشف المذكور بعضه بالمعاوضة وبعضه بالشراء من فاضل غلّة المسجد. - في الكشف المذكور وفي رسم معاوضة مؤرخ سنة 899 هـ / 1493م [ وثيقة رتبي 899 .] . - في الكشف المذكور .
مسجد ابن خيرون (الجوفي الوضع)- ثلث كوشة لقلو الشعير - حانوت بسوق الحاكة- في السجل المذكور ومن تحبيس إمام المسجد - في السجل المذكور .
مسجد ابن خيرون (القبلي الوضع)- قاعة حانوت بسوق الحجامين - حانوت بسوق الحجامين- وثيقة مؤرخة سنة 794 هـ/ 1391 م [وثيقة رتبي 293 .] المشتري المعلم محمد الملباني من غلة المسجد . - قبل سنة 794 هـ / 1391 م الوثيقة نفسها .
مسجد ابن علي مختار.- 5/2 من حانوت بحبة الحطب - 15 / 2 من نفس الحانوت- تحبيس أحمد بن غلام الله المراكشي سنة 841 هـ / 1437 م[وثيقة رتبي 794 .] . - في كشف مؤرخ من سنة 809 هـ /1406 م ، شراء من بعض العوانيين .
مسجد الدباغ- نصف حانوت بالحجامين-  في سجل مؤرخ من سنة 855 هـ / 1451 م ، بالشراء من وصية .
مسجد بطحاء الشقارنة- النصف الآخر من نفس الحانوت المذكور- نفس الملاحظة
ميضأة مسجد الشقارنة-حانوت بسوق الخزازين- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406 م .
مسجد ابن قضيب- نصف دار- في الكشف المذكور و هي مشتراة .
مسجد الرقاقين- خمسة حوانيت بسوق الرقاقين- في كشف مؤرخ سنة 702 هـ /1302 م [ وثيقة رتبي 18001 .]
مسجد ابن عوانة- حانوت بسوق اللبادين- في كشف مؤرخ سنة 702 هـ /1302 م .  
مسجد الزيتونة- حوانيت بمدينة تونس- في ((معالم الإيمان )) في تحبيس أبي سعيد محمد التينمالي المعروف بالعود الرطب سنة 660 هـ / 1261 م [ابن ناجي : معالم الإيمان ، 1 / 28 .    ]
المسجد المعلق- اربعة حوانيت تحت المسجد - علوى و دهليز- في كشف مؤرخ سنة 702 هـ /1302 م - في كشف أبي زيد عبد الرحمان و أبي محمد عبد العزيز سنة 692 هـ / 1283 م .
ميضأة مسجد المعلق- حانوت - ثلث حانوت بسوق اللبادين- في السجل المذكور و هو مشترى . - في السجل المذكور و هو مشترى من تركة الحاج عبد الله بن مزغيش سنة 826 هـ / 1422 م .
ميضأة الحريريين- نصف حانوت بممر باب تونس - حانوت بسوق التمّاقين - نصف دويرة- في سجل مؤرخ سنة 855 هـ / 1451م - في سجل مؤرخ سنة 855 هـ / 1451 م و هو مشترى - في السجل المذكور و هي مشتراة من بعض ورثة علي بن أبي زينة .
ميضأة مسجد الداروني.- ثلث حانوت بسوق اللبادين - نصف دويرة لطيفة - نصف حانوت برحبة الحطب- في السجل المذكور و هو مشترى - السجل المذكور . - محبّس قبل سنة 841 هـ / 1437 م .
ميضأة مسجد ابن جواد- نصف الحانوت المذكور  - محبّس قبل سنة 841 هـ / 1437م [وثيقة رتبي 794 .]
ميضأة مسجد ابن صالح- دويرة- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة مسجد الرباوي- ثلث حانوت بسوق الخزازين- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406م
ميضأة مسجد باب الرقة- دهليز- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406 م
ميضأة مسجد أبي الربيع- دويرة- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406م
ميضأة ومسجد الخروبي- حانوت بسوق الغرابليين- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406م
ميضأة مسجد عموص-ثلث حانوت بممر باب تونس- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406م ( استخراج منها حانوت في تاريخ لاحق قبل سنة 1008 هـ / 1599 م . )
ميضأة باب تونس [حول بناء هذه الميضأة ، انظر : ابن ناجي ، معالم الإيمان ، 4 / 48 .]- حانوت مقتطع منها- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406م ( استخراج منها حانوتان قبل سنة 828 هـ / 1424 م )
ميضأة فصيل باب نافع[حول بناء هذه الميضأة والمسجد علي إمام جامع القيروان أبي محمد عبد الله الهسكوري انظر : معالم الإيمان 4 / 97 ، وكذلك وثيقة رتبي 237 شخصي 1874 .] -حانوتان بسوق الدخان- كشف مؤرخ سنة 809 هـ / 1406م وفي الأصل حانوت واحد حبسه أبو عبد الله الهسكوري من ماله الخاص ومال الحاجب أبي زكريا يحي سنة 716 هـ
ميضأة مسجد سعيد الحدّاد-دويرة بحارة الجزازين- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م تحبيس الأمين أبي العباس أحمد مالوش .
ميضأة الجامع الأعظم- حانوت بسوق الشواشين - حانوت بسوق الحصايرين- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة مسجد الحوض- نصف حانوت بسوق الخزازين- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة قرب الجامع الأعظم- حانوت بسوق النجارين- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة مسجد إبن عبد الجليل- دويرة- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة بسوق النجارين ( شرقية المفتح)- نصف حانوت بممر باب تونس- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة بسوق النجارين ( قبلية المفتح )- حانوت مجاور لها- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة إبن  طرخانة- دويرة غريبة - سدس دار ملاصقة للأخرى - دار القبة- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م - حبسها سالم ابن ناجي من ثلث مال أخيه بوصية أوصاها[ ابن ناجي : معالم الإيمان ، 4 / 200 .]
ميضأة مسجد أبي بكر- نصف دويرة- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة مسجد القرامطة- ثلث حانوت بسوق الرهادرة القديم  - في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
ميضأة مسجد القلال- علو معتلى عليها- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م
مسجد القصر وميضاته- حانوت بسوق الشواشين- في كشف مؤرخ سنة 809 هـ /1406م تحبيس إبراهيم بن مزغيش سنة 809 هـ/ 1406 م [وثيقة رتبي 796 .]
مسجد  يحي بن  عمر - تم معاوضتها بحانوت سنة 1002هـ / 1593م [وثيقة عدد 9 ، 50 ، 90 .].

و تشتمل القائمة على ست وعشرين ميضأة وثلاثة عشر مسجدًا، ولا شك أن العدد الحقيقي أكثر من ذلك خاصة بالنسبة للمساجد . وفي تصوّرنا، فإن حوالي نصف مساجد القيروان على الأقل كانت لها مواضي . وينم هذا العدد على أهمية دور الطهارة في مدينة كانت تشكو نقصا شديدًا في الماء، لذلك كانت جميع المواضي مجهزة بآبار جوفية توفر ماء لم يكن صالحا للشراب إلا أنّه يستجيب لمتطلبات طهارة المسلم . ويصرف ريع أحباس المساجد حسب الوثائق لتسديد مرتب الأيمة والمؤذنين والإستصباح والتحصير والبناء والإصلاح كلما دعت الضرورة لذلك87. وتؤكد رسوم التحبيس المواضي على صرف دخلها فيما تحتاجه من دَلْو وحبل وأباريق واستصلاح88. وفي رسم مؤرخ من شهر جمادى من عام 888 هـ / حزيران تموز 1483م ، يتضمّن تقديما من الشيخ القاضي بالقيروان ((لقاسم بن المؤذن عبد الله، على القيام بميضأة الحريرية داخل القيروان في غلقها وحلّها و تنويرها وإجراء دلوها وحبلها، وسوغ له على ذلك خمسة دراهم ناصرية في كل شهر))89. ولا ندري هل أن مرتبا لقائم يتم بوصية المحبس أو أن ذلك اجتهاد من القاضي لما يراه صالحا للحبس. ونتبينّ من خلال القائمة التي أوردناها أن أوقاف المواضي والمساجد متأتّية أغلبها من تحبيس الأهالي، إلا أن عدد الا يستهان به آل إليها بالشراء من فاضل غلّتها. وقد يتم ذلك بفضل حسن تصرّف القائمين عليها وسعيهم لتنمية مواردها . ويتميّز الرسم المتعلّق باشتراء المعلّم محمد الملباني حانوت لمسجد ابن خيرون بإبراز جانب الاقتصاد والورع والضبط لدى بعض الأيمة، حيث يذكر ((أن الثمن المدفوع من مال المسجد المذكور، من ذلك دينار صغير الضرب ثمن دلوبيعت عن المسجد المذكور قبل ذلك من قبل الحاج علي شياح من ثمن ماء ماجن المسجد المذكور في متقدم التاريخ، ودينار واحد كبير الضرب ثمن ماء ماجنه في عام التاريخ وبقية الثمن المذكور من كراء رباعه)) .

ب- الزوايا ودور العلم والمصاحف والكتب:

استقطبت القيروان منذ بداية القرن السابع هجري عددا من الفقهاء والأولياء والنساك والزهاد الذين أقاموا بها زوايا ومقامات. ولم تكن أغلبها تعد من المؤسسات العامّة بل كانت في تصرّف الأولياء أو القائمين بها من بعدهم ولم تحفظ تبعا لذلك رسوم تحابيسها في مستودع الجامع . كما أن كتب الطبقات كثيرا ما تفيدنا حول ظروف بناء الزاوية أو المقام إلا أنّها تعّرج نادرا على الأوقاف المحبسة عليها .

ولقد عثرنا في وثائق الجامع الأعظم بالقيروان على رسمين وحيدين يختصّان بزاوية الشيخ عبد الله بن أبي زيد القّيْرواني ( ت 386 هـ / 996 م )، شيخ المالكية في القيروان في عهده، ويتضمّن الرسم الأول المؤرخ من سنة 866 هـ / 1461م تحبيس عامر السليماني من بني موسى شجرتّيْ زيتون بالموقع المعروف بمشرقة بني يعقوب على دار أبي محمد عبد الله بن أبي زيد تصرف غلتها في تنوير الجامع وغير ذلك90 . ويشير الرسم الثاني المؤرخ سنة 907 هـ / 1501م إلى تحبيس أصول زيتون ببلد نحالة أحد بلاد جبل وِسْلات على مقام الشيخ المذكور. وبأسفله تحبيس آخر مؤرخ من أوائل صفر عام 930 هـ / كانون أول 1523م 91. ويبسط هذان الرسمان عديدًا من التساؤلات التي لا يسمح البحث بالبتّ فيها، وهي تتعلق خاصة بوضعية دور كبار فقهاء القيروان الذين دفنوا فيها وتحولت فيما بعد إلى مقامات للزيارة والتبرك. ويتساءل الدارس عن نصيبها من الأوقاف وإلى أي حدّ يمثّل العثور على رسوم تحبيس تختصّ بالفقيه عبد الله بن أبي زيد مؤشرا من مدى شهرة العالم القيرواني وإشعاعه الذي وصل على بلاد ماوراء الصحراء ؟

أما فيما يتعلّق بالزوايا الحديثة العهد في ذلك التاريخ ، فإن أغلبها كان حكمه حكم الأحباس الخاصة، ولها أوقاف محبسة عليها وردت في العديد من الرسوم التي أمكننا الاطلاع عليها في غير مكتبة القيروان العتيقة. ومن أقدم الزوايا المحبس عليها والتي بلغنا ذكرها عن طريق المصادر، الزاوية التي بناها الفقيه أبو الربيع سليمان النّفوسي المتوفي سنة 766 هـ / 1364م حيث يذكر ابن ناجي أنه ((بني زاوية بالقيروان من ماله وحبسها على من سكنها من قراء القرآن وطلبة العلم وهي متسعة منشرحة لا مثل لها بالقيروان ((وهو يضيف أنه وصل إليها في حال بنائها قائد القيروان أبو عبد الله محمد البالغي، والبناؤون فيها، فوجد أجرتهم دينارًا ذهبا فدفعه لهم. فلما كان بالعشيّ أعطاهم الشيخ أجرتهم دينارًا، فقالوا له : أخذنا من عند القائد، فقال لهم : لا أبني زاوية إلاّ من مالي، وما أعطاكم رزق ساقه الله لكم))92.

وتعتبر زاوية الشيخ سليمان النفوسي من الزوايا القليلة التي اتخذت للتدريس وإقامة الطلبة، ولم تسهم الزوايا إسهامًا كبيرًا في انتشار العلوم والمعرفة في مدينة القيروان، وكان إشعاعها روحيا ودينيّا بالأساس، حيث خَفَتَ نفس العلم في المدينة ولم يبق فيها إلا بقيّة رمق على حد قول محمد العبدري الحيحي في رحلته المشهورة في أواخر القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي93 . وتنعكس هذه الحالة على الأوقاف المحبسة على دور العلم والمصاحف والكتب حيث يتراجع ذلك بالمقارنة مع ما كان سائدا في القيروان أيام ازدهارها خلال القرنين الرابع وأوائل الخامس الهجري / العاشر الميلادي94 ولم يتسنّ من خلال المصادر إلا تقصي بعض الحالات النادرة، من ذلك ما ذكره ابن ناجي من أن الفقيه أبي الحسن علي العواني الشريف المتوفي سنة 758 هـ / 1356م، حبس ((دارًا معتبرة تساوي في زماننا اليوم مائتي دينار ذهبًا لسكنى الفقراء والطلبة بها ممّن يقرأ القرآن والعلم))95.

ولم تحافظ وثائق جامع القيروان إلا على عدد قليل من تحبيسات المصاحف والكتب من أجلّها تحبيس السلطان الحفصي أبي فارس عبد العزيز سفرين من صحيح البخاري على جامع القيروان96 وكذلك تحبيس السلطان محمد الحسن مصحفا أنيقا مكتوبا على الورق بخط مغربي على جامع القيروان في شهر شعبان من سنة 903 هـ / نيسان 149897 . كما حافظت المكتبة على رسم يتضمّن إشهاد أبي القاسم ابن ناجي التنوخي صاحب كتاب المعالم الكتب الآ تية على طلبة العلم بمدينة القيروان يقرؤون فيها و ينسخون منها إن احتاجوا إلى ذلك؛ وجعل النظر فيها لمن يقرأ فيها على يديه مدّة حياته، فإذا توفي كانت موقوفة بالجامع الأعظم بالمدينة المذكورة وحيث الكتب الموقوفة به ولم يبق له فيها سوى ما شارطه من النظر فيها مدّة حياته. وهو مؤرخ سنة رجب عام 838 هـ / شباط 1435م وأسفله رسم في حوز بعض الكتب عنه للجامع الأعظم، تاريخه أوائل شعبان من العام المذكور والكتب هي : ((أحد عشر سفر في الربعي من شرحه الكبير على المدونة، وسفرين في الربعي من شرحه المختصر على المدونة وشرحه الموضوع على ابن الجلاّب كامل في سفرين في الربعي وشرحه على رسالة ابن أبي زيد كامل في ثلاثة أسفار في الربعي، وسفرين اثنين من تأليف القاضي ابن عبد السلام على ابن الحاجب، وسفرين من تأليف المحبّس الموضوع للتعريف بالقرويين، و سفر واحد من تأليفه والموضوع على الرسالة، وسفر فيه جّل موطأ الإمام مالك ، ودفتر فيه توابع الأنكحة من تأليف ابن عرفة الورغمي، وسفر لطيف فيه بعض خليل، وبعض مدارك عياض، وسفر من تأليف أبي الحسن المغربي الصغير، وسفر واحد فيه . . .98 . كما حيّس ابن ناجي في رسم آخر جزءًا من ماله لاستنساخ كتبه والإرسال بها إلى خزانة جامع الزيتونة بتونس وكذلك لإصلاح ما اختل من المحبّس منها بالقيروان99 . وتبدو التّحابييس أكثر كثافةً بالنسبة إلى الكتاتيب وتعليم الكتاب العزيز، وهي تعود إلى القرن السابع على الأقل كما نتبيّن ذلك في كشف مؤرخ سنة 702 هـ / 1302م . وقد كان تحفيظ القرآن يتم في ذلك التاريخ في حوانيت محبّسة حيث يشير الكشف المذكور إلى أربعة منها منبثّة داخل المدينة المسوّرة100. كما أن رسوم المكتبة العتيقة بالقيروان تشير إلى بعض الكتاتيب، ككُتّاب القِدّة وكُتاب أبي عامر101 .

وتؤكد ظاهرة انحصار التحابيس في الكتاتيب الخاصة، تَراجُع سوق المعرفة ودور العلم في المدينة، والاقتصار في التعليم على المبادئ الأساسيّة دون التعمّق في مختلف مجالات المعرفة .

ج-  حبس الفقراء و المساكين:

تبدو سنّة التحبيس على الفقراء والمساكين من السنن العريقة والمتجذّرة في مجتمع القيروان في العهد الحفصي، وليس من باب الصدقة أن يكون أقدم التحابييس المؤرخة الواصلة إلينا تختص بهم وهي تعود إلى أواسط ربيع الأول سنة 645 هـ / 1247م . ويتضمّن الرسم تحبيس الشيخ أبي عبد الله محمد بن عوانة حانوتًا ((تحبيسا دائما على الفقراء والمساكين من أول عام خمسة وأربعين وستمائة / أيار (1247م ) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. على أنّه متى كان له ولد واحتاج و صار فقيرًا فله غلّته كلها يختصّ بها مادام بتلك الحالة، فإذا اكتفى وخرج عن كونه فقيرا .فكانت غلّته للفقراء والمساكين))102 . ونجد في وثائق جامع القيروان تحابييس على الفقراء والمساكين من الخواص تعود إلى القرنين الثامن والتاسع الهجري103. وقد توسّعت هذه الأحباس مما يفسّر وجود خطة وكيل أو أمين لها يتولى النظر فيها والقيام بعمليات الشراء والمعاوضة ويتعرض للمحاسبة . وتذكر المصادر خطة قابض لغلّته أحباس الفقراء كما هو في تلخيص لدخل أكرية الحبس مؤرّخ من سنة 824 هـ / 1421م 104 . ويبدو من خلال كشف سنة 702 هـ / 1302م أن أحباس الفقراء والمساكين كانت هامّة منذ أواسط القرن التاسع الهجري، وهي تتكون خاصة من الحوانيت والدور، وقد بلغت مجموع الرباع التي أمكن ضبطها في هذا البيان إضافة إلى ما انمحى منها ستة عشر حانوتًا وأربعة أنصاف حوانيت، كلّلها بأسواق القيروان، كسوق العطارين، والزّياتين العليا، والخزازين، والنجارين ، والحُصُرّيين، وثلاث من الدور، ونصف دويرة ورواء وعلوي، وأغلبها من تحبيس بعض أعيان القيروان وخاصتها، منهم عائشة بنت الفقيه أبي الفضل عباس، وزكريا بن يحيي المراكشي وولده يحيي، والحاج أحمد بن عبد الله الَيْفرنّي، وقاسم بن سحنون الزّيات، وأبي محمد ابن علي التنوخي، وأبي الحجاج يوسف ابن الفقيه عوانة الشريف105 .

ولا شك أن هذا العدد قد نما وازداد بما يحبسه الأهالي وما يشترى من غلة الوقف. ومن حسن الصدف أن حافظت خزانة الجامع الأعظم بالقيروان على كراس مخيط مكتمل الأوراق ليس هنالك ما يدل على أنه قد تم تغييره أو التنقيص منه، وهو يشتمل على ((عقد أكرية الرّباع حبس الفقراء سنة 899 هـ / 1493م، وقد قمنا بإحصائها فكانت تسعة وخمسين حانوتًا وستة أنصاف حوانيت وثلثي حانوت، وهي موزعة على جميع أسواق مدينة القيروان تقريبًا، كسوق القصابين، وسوق الصاغة، وسوق الخياطين، وسوق الشواشين، وسوق الحلفاء، وسوق السراجين، وسوق الخزازين، وسوق الحدادين، وسوق اللبادين، وسوق الدخان، وسوق المداسين، وسوق الرّهادرة . ومن جملة الحبس كذلك ثلاثة أعلية ودهليز وتُسع ديار وربع دار وسدس دار وتِسْع دار وتسع دويرات ونصف دويرة، ويؤكّد هذا الإحصاء تطور أحباس الفقراء في

ظرف قرنين تقريبا تطورًا كبيرًا ينّم عن تكافل المجتمع في ذلك التاريخ رغم المحن والشدائد والأوبئة وتواضع موارد المدينة 106 . وتبعًا لهذا التطور فقد بلغت مداخيل أكرية رباع الفقراء سنة 905 هـ / 1499م مائة دينار وستة وخمسين دينارًا كبيرة سكّيّة، خَرْج كلّ دينار منها ستة عشر درهما منتصريًا وسبعة وثلاثين درهما سكيا وستة أثمان الدرهم و نصف ثمنه107. وحبس الفقراء هو الحبس الثالث من أحباس القيروان من حيث أهمية دخل أكريته بعد الجامع الأعظم والأسوار كما سنبينه في مقامه .

د- الأسوار:

لقد أعيد تجديد بناء أسوار القيروان بعد اقتصارها في أواسط القرن الخامس هجري، ويستفاد من محتوى فتوى الإمام المازري المتقدّمة الذكر، أن السور القديم كانت له فيما يبدو أحباس خلال القرن السادس هجري، إلا أن النص غير واضح ولا يسمح بالجزم بذلك، ولا يستبعد أن أغلبها قد ضاع بخلاء المدينة بعد الزحفة الهلالية . ويبدو أن التحبيس على الأسوار المستحدثة قد انطلاق في عهد مبكر نظرا لأهمية تعهده وصيانته لحماية المدينة من الغزاة وتسلط الأعراب في ظرف انخرم فيه النظام وانعدم الأمن . وتشير الوثائق التي بين أيدينا من مكتبة القيروان العتيقة إلى تواصل التحابيس على سور القيروان خلال النصف الثاني من القرن الثامن هجري وتتعلق جميعها برباع مبنية تتمثّل خاصة في حوانيت حبّسها أبي العباس أحمد مالوش وثلاثة أرباع فندق سوق العطارين وقفها الحاج عيسى بن محمد اللمطي . إلا أننا نلاحظ من خلال الوثيقة الأساسية التي بين أيدينا والتي تشمل على كشف لرباع السور لا ندري مدى اكتماله، أن عدد الرباع المحبسة على السور كان ينمو بالشراء من فاضل غلة السور 108مما يؤكد وجود أحباس سابقة متقدمة على تاريخ الوثيقة وهو أواخر القرن الثامن، أي أن هذه الأحباس كانت قائمة منذ القرن السابع على الأقل؛ خاصة وأننا نعلم من خلال فتوى أبي القاسم الغبريني المتقدمة الذكر أن ناظر أوقاف السور سنة 744هـ كان ينفق من مال حبس السور على إصلاح السجن. ويسترعى انتباهنا أنه منذ نهاية القرن الثامن لم نقف في وثائق القيروان علي أي رسم تحبيس109على السور أو أي إشارة لذلك في أي إحصاء رغم أن أغلب الكشوف الواصلة إلينا ترتبط بأحباس السور. وتتأكّد الظاهرة التي أشرنا إليها خلال القرن التاسع، ففي سجل المذكور المؤرّخ من سنة 888 هـ يرد ذكر أعتاب أحباس السور من الحوانيت والدور والفنادق وقد بلغت مجموعها 7 حوانيت وعلوي ودار ونصف دار وفندق بسوق الفرائين .

وإن المتمعّن في الوثيقة، يتبيّن عند تحليل انجرار هذه الرّباع أن الحانوتين الكائنين بسوق النجارين والعلوّ المعتلّى عليها قد تم شراؤهما للسور على يدي أبي العباس أحمد الأنداري من فاضل غلة السورعام اثنين وثلاثين وثمانمائة 110 كما أن الحانوتين المتلاصقتين بطرف سوق الحاكة هما مشتريان من أمة العزيز بنت الفقيه على الطائي على يدي الأمين أحمد بن الحاج مخلوف الأنداري سنة 879 هـ. كما تذكر الوثيقة أن نصف الدار القبلية المفتح قد آلت لحساب حبس السور على يدي الأمين أبي عبد الله محمد الخشيني المحاسب بثمنه مما انكسر على بائعه من غلة حبس السور من أكرية الحمام وغيره حسبما هو في رسم الشراء مؤرخ من عام واحد وستين وثمانمائة . كما أن الدار الأخرى المذكورة في الكشف هي المشتراة للسور من فاضل غلاته على يدي الحاج الأمين أبي علي عمرو بن الفقيه الكاتب أبي الحسن علي الصنهاجي حسبما هو في رسم الشراء مؤرخ بأواخر شهر ربيع الثاني عام اثنين وستين وثمانمائة . وتؤكد مختلف هذه الأمثلة مواصلة وتطوير سياسة إثراء رصيد حبس السور العقاري خلال القرن التاسع عن طريق الشراء من مداخيل الأحباس نفسها، بل أن الكشف المذكور يبين لنا سعي القائمين على الحبس لتطوير موارده من خلال إعادة تهيئته وتجديد أبنيته بما يستجيب للحاجة على خلاف ما هو متعارف في الأحباس من عدم تبديل وتغيير شكلها . فأغلب الرباع التي لم تشتر حديثا ووردت في الكشف المذكور قد شملتها أعمال تهيئة وتجديد، فحانوتان اثنان على الأقل من الثلاثة حوانيت الكائنة بسوق النجارين قد استجد بناؤها111. وتشير الوثيقة صراحة إلى أنّ ((سوق الفرائين القديم من أحباس السور هدم وخرب جميعه فاستجد منه الفندق الشرقي المفتح بوسط سوق العطارين استجدّ بناؤه من فاضل ريع السور لانتقال أهل صناعة السوق وخرابه وزوال الانتفاع به للصناعة المذكورة بتحول الأسواق، فظهر من السداد عمله على الصفة المذكورة ليكون أعود بالمنفعة على الحبس المذكور 112. ونستشف من نفس الوثيقة، أن حبس السور كانت له تسعة حوانيت بفصيل باب تونس قد ((أسقط جميعها وصار موضعها موقفا للحيوان وعوض منها الصفّة الجوفية لما ظهر في ذلك من السداد وحسن النظر وأنه أعود بالمنفعة)) . وتثبت هذه الوثيقة الفريدة والهامة أنّ الأمر أصبح يتعلق بعملية تهيئة جذرية وشاملة سيكون لها بلا شك انعكاس على نسيج أسواق المدينة وزيادة في حيويتها . وتدعم مختلف هذه البراهين ما ذهبنا إليه من أن فترة الرخاء والازدهار النسبي في الحياة الاقتصادية بإفريقية في عهدي أبي فارس عبد العزيز وأبي عمرو عثمان قد انعكست بصفة إيجابيّة على أحباس القيروان التي عرفت خلالها تطورا ملحوظا وبيّنا .

إلاّ أن جلاء هذه الظاهرة بالنسبة لأحباس السور والتي واكبتها أشغال الأعمال المذكورة، يؤكد وفرة مداخيل السور وقلة ما يصرف في مصالحه، فهل أن حالة الأسوار لم تكن تستدعي التعهد والإصلاح والصيانة والتدعيم ؟ أو هل أن شعور المدينة بالأمن والاطمئنان وعدم وجود عدو يتربص بها قد سمح بالتغافل عن ذلك ؟ أو ربما خف الأمر على القائمين على أحباس السور بما يتولاّه ذو البر والإحسان من الخاصة من بناء السور وتعهده ؟ من ذلك ما ذكره ابن ناجي من أنّه سمع من ((القرويين نقلاً متواترًا أن سور مدينة القيروان كان غير طويل، فوقف الشيخ (محمد الرباوي المتوفى سنة 699 هـ) فيه وزاد حتى تحصّن البلد كما اليوم. والزيادة التي زادها ظاهرة من داخل البلد بصخر في وجه الحائط بقي بعض ذلك))113. ومهما يكن من أمر فإن وفرة مداخيل حبس السور جعلت عامل مدينة القيروان خلال سنة 744هـ يتجاسر على الأخذ منه لإصلاح السجن .

وإن أهمية أحباس السور تبرّر وجود ناظر عليها منذ أوائل القرن الثامن هجري، أصبح يعرف في القرن التاسع بأمين أو وكيل الحبس كما سبق أن بيّنا 114. ويبدو أن تطور رباع أحباس السور قد تواصل منذ أواخر القرن التاسع إلى أواسط القرن العاشر حيث عثرنا على كشف مؤرخ من سنة 957 هـ يؤكّد هذه الظاهرة . فقد أحصينا ما ذكر فيه من رباع السور فكانت تشتمل على نصف الحمام القديم ونصف حمام الزغبار وفندق بسوق العطارين وفندق بسوق النجارين وثلاثة أرباع غسالة للدبغ والشطر من داري دبغ ودويرة وستّة أنصاف من الدور وربعي دارين وخمسة أسداس دار وجزء من جميع دار لم يتيسر ضبطه 115. وتثبت هذه القائمة تطور رباع حبس السور خاصة من الحوانيت والفنادق والدور التي سبق أن عثرنا على كشف سابق يتعلق بها من سنة 888 هـ. ويمكن أن نحتزر على بقية الرباع مثل الحمامين (وإن تم الإشارة إلى القديم منهما في إحصاء)، وداري الدبغ وفندق العطارين حيث أنّها لم تذكر في وثيقة سابقة، إذ أن الكشوف التي وصلتنا تختص بالحوانيت والدور، والعادة هي الفصل بين مختلف أنواع العقارات عند جردها كلّما كانت أهمية عددها تسمح بذلك وإلاّ فإنّها تذكر مع بعضها جميعا .

ومع الأسف، فإنّني لم أعثر على كرّاس كامل من أكرية أحباس السور مثلما كان الأمر بالنسبة لأحباس الفقراء وهو ما من شأنه أن يفيدنا في التأكد من مدى مطابقة ما جاء في الكشف مع الواقع المحسوس .

ومع ذلك فقد عثرنا على كراس مبتور الأول يتعلق بأكرية حوانيت حبس السور والفندق مؤرخ من سنة 906هـ116 . ورغم النقص الموجود في أوّله ولعلّه يهمّ الدور، فإن مجموع الحوانيت التي تمّ إحصاؤها فيه تبلغ واحدا وعشرين حانوتا إلى جانب فندق سوق النجارين وفندق سوق العطارين. كما وجدنا في أوراق غير منظمة أخرى إشارة إلى كراء الحماميين وثلاثة أرباع الغسالة الكبرى117. وفي إنتظار إتمام البحث في الوثائق، فإنه يمكن إعتبار كشف سنة 957هـ غير بعيد عن ضبط شامل لرباع أحباس السور في ذلك العهد. وقد بلغت مداخيل أحباس السور سنة 910هـ كما ورد في تلخيصه، مائتان وثلاثين دينارًا ذهبًا ستينية وأربعة عشر وخمسة أثمان ونصف ثمن درهم ناصري118 . وتعتبر موارد أكرية رباع السور في المرتبة الثانية بعد أكرية أحباس الجامع بالنسبة لبقية أحباس مدينة القيروان .

ه- الجامع الأعظم:

الجامع الأعظم بالقيروان الذي أسّسه عقبة بن نافع سنة 50 هـ هو أول قبلة للإسلام في المغرب العربي وإحدى منارات المعرفة التي أشعّت على كامل الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط وبلاد ما وراء الصحراء . وهو يعتبر من روائع الفن الإسلامي والمثال الذي نسجت على منواله الجوامع المغربية . ولقد تراجعت منزلة جامع القيروان الثقافية بعد الزحفة الهلالية وتداعت جدرانه قبل أن يتداركه سلاطين الدولة الحفصية بالصيانة والتدعيم خاصة في عهد المستنصر . وإن حافظت وثائق مكتبة الجامع العتيقة على العديد من تحابيس المصاحف والكتب الفقهية التي أوقفت على الجامع في العهد الإسلامي المبكر،

فإنها تتسم بالصمت فيما يتعلق بالأوقاف التي حبست على الجامع بعد الزحفة الهلالية في أواسط القرن الخامس هجري .

وتؤرّخ أقدم وثيقة وصلتنا عن ذلك من سنة 728هـ119 . وهي تتعلّق باشتراء الفقيه أبي العباس أحمد بن هاشم التميمي الناظر على أحباس الجامع ربع فندق مما تحت يده من مال أحباس الجامع . ويشير الرسم إلى أنه ((بسبب ذلك صار للجامع الأعظم المذكور في الفندق المذكور النصف شائعا من الفندق المذكور بحق هذا الشراء وتقديم التحبيس في الربع الآخر))120. ويستفاد من ذلك أن الجامع كانت له في أوائل القرن الثامن موارد متأتية من أحباسه السابقة وهو ما يجعلنا نرجح وجود أوقاف له منذ القرن السابع على الأقل . ويسترعى انتباه الباحث ندرة رسوم الأوقاف المحبسة من طرف الأهالي على الجامع القيروان رغم أهميته الدينيّة والروحيّة . ولم نعثر في وثائق الجامع إلاّ على رسم وحيد متقدّم الذكر، مؤرخ من سنة 784 هـ، وهو يتعلق بتحبيس النصف من دار الدبغ ومن الفرينة المعدّة لطحن الدّباغ على الجامع الأعظم والسور بالسواء بعد انقراض عقب المحبّس . وخلافا لما توحي به الرسوم فإن الكشوف وكراريس أكرية أحباس الجامع تؤكدّ عكس ذلك . إلا أن أوّل إحصاء يتعلقّ ببعض أحباس الجامع لا يتجاوز أواخر القرن التاسع هجري، وهو يتمثّل في سجل مؤرّخ من سنة 888 هـ بقيت منه أربع أوراق مكتوبة على الرق، وهو يشتمل على عدد من الرباع والدور المحبسة على الجامع الأعظم في ذلك العهد121 . ولقد قمنا بإحصاء رباع حبس الجامع الواردة في السجل فوجدناها 13 دينارًا و 4 دويرات و20 حانوتا، وكوشة ودار دبغ ونصف دار دبغ وعلويين . وإن كنّا على يقين من أن هذه الرباع لا تمثل جميع أوقاف الجامع سنة 888 هـ وذلك بالمقارنة مع ما ورد في كراريس عقود أكرية الجامع سنة 889 هـ 122، فإنّنا لا نستطيع الجزم بأن جميعها من مكتسبات أحباس الجامع حديثا بل نستشف من خلال الإشارات الواردة في الكشف المذكور أن سجلات الأحباس تمثل أغلبها تحيينا لأوقاف الحبس ومواصلة للكشوف السابقة تذكر فيها جميع المستجدات التي تتعلّق بالشراءات والصدقات الجديدة وكذلك العقارات المحبسة قديما والتي استجدت أو تغيرت حدودها.

ويبدو ذلك جليا بالنسبة لإحصاء سنة 888 هـ ، فقد ورد فيه قائمة بخمسة عشر حانوت من أوقاف الجامع منها خمسة بسوق الجلادين ذكر أنها خربة الآن، وثمانية بسوق القصابين وحانوتين بسوق الصاغة أشير في آخرها إلى أن ((جميع الحوانيت العشرة المذكورة أعلاه المبدأ منها بذكر الجوفي المفتح بسوق الصاغة، ذكرت في كراس قديم بالجامع ذكر أنها بسوق الخياطين وبه كان يعرف في القديم، فأعيد ذكرها هنا لانتقال السوق المذكورة للصاغة والقصابين ))123. وأغلب الظن أن سجل سنة 888هـ يمثل مواصلة لسجل سنة 855 هـ الذي لم تبلغنا منه إلاّ بعض الأوراق والكشوف المتعلقّة بأحباس المساجد ومواضيها وأحباس الفقراء والمساكين124. ويدعم افتراضنا أن جميع الشراءات المحبسة على الجامع بسجل سنة 888 هـ تعود إلى ما بعد سنة 855 هـ . ونلاحظ من خلال دراسة البيانات الواردة في السجل المذكور أن من بين جميع العقارات المحبسة على الجامع في ذلك التاريخ والتي سبق ذكرها توجد خمسة حوانيت وسبع دور ونصف كوشة قد تم اشتراؤها أو تجديد بنائها من فاضل غلّة أحباس الجامع كما هو مبين في الجرد المصاحب :

الملاحظاتنوع العملية وتاريخهاالريّع
اشتراها الأمين الخشيني من محمد البكري الزناد مما انكسر عليه لجانب الحبس من أكرية الحمام وغيره .شراء سنة 861 هـنصف دار
كانت خرابا و جددت من فاضل غلة الحبسإستحداثدار
فيما لزم ذمة مالكه لجانب حبس الجامعشراء سنة 881 هـحانوت
من فاضل غلة الحبس على يدي الأمين أبي الطيببن بديعة .شراء سنة 884 هـ واستحداثحانوتان
من فاضل غلّة الحبس من إبراهيم الهواري على يدي الأمين محمد الخشني .شراء سنة 859 هـنصف كوشة
نفس الملاحظةنفس العمليةحانوت
نفس الملاحظةنفس العمليةحانوت
من فاضل غلة الحبس من ورثة ابن سويلمة على يدي الأمين أبي بكر الخشني .شراء سنة 856 هـدار
من فاضل غلة الحبس على يدي الأمين عمرو  الصنهاجي .شراء 870 هـدار
من فاضل غلة الحبس من محمد المؤذن و والده منصور على يدي الأمين عمرو الصنهاجي .شراء سنة 863 هـدار
من فاضل غلة الحبس من المعلم عبد الله بن محمد على يدي الأمين محمد الخشنيشراء سنة 857 هـدويرتان

وتؤكّد هذه القائمة حيوية أحباس جامع القيروان وسرعة نموها خلال أقل من ثلاثين سنة، وهي تدعم ما سبق أن وقفنا عليه من خلال دراسة أحباس الأسوار من أن القرن التاسع يمثل مرحلة تطور ونمو وتدعيم لرصيد وممتلكات الأحباس بالقيروان .

ويبدو جليا من خلال الوثائق التي بين أيدينا أن رباع أحباس الجامع الأعظم كانت الأهم والأكثر عددا . وقد تواصل نموها إلى أوائل القرن العاشر على الأقل حيث تمّ العثور على كراس متماسك ومخيط مؤرّخ من سنة 968 هـ ذكرت فيه عقود أكرية جميع أحباس الجامع الأعظم في ذلك التاريخ من دون الحوانيت125. فتبيّن بعد الإحصاء، أن عددها يبلغ 61 دارا و 14 نصف دار وثلثي دار وثلث دار وأربع دويرات وثلاثة أعلية وأربع أكواش وفرنين ونصف فرن ونصف فرن آخر وداري دبغ وثلاثة أنصاف من دور الدبغ وثلاثة أرباع دار دبغ وثلاثة أرباع أخرى من دار دبغ أخرى ونصف حمام الزغبار ونصف حمام ممر باب تونس. ويضاف إلى ذلك من العقارات الفلاحية الزيتون الكائن بتونس المحروسة والغرس الكائن بغابة قابس والغابة الكائنة تقيوس من عمل توزر والزيتون الكائن بجبل وسلات والسّمار الكائن برأس الكلبية والسمار الكائن بأم إبراهيم والسمار الكائن بالفرانيق . ولا تسمح المعلومات الواردة في كراس الأكرية المذكور من التعرف على مساحات هذه الأراضي الفلاحية المحبسة على الجامع وعدد أصول زيتونها ونخلها حتى تستطيع تقييم أهميتها في موارد أحباس الجامع 126. كما أن الكراس المذكور ولا يشتمل على عقود أكرية حوانيت أحباس الجامع . ومن حسن الصدف أن عثرنا على كراس إلا أنّه مبتور الأول يتعلق بأكريتها خلال سنة 889 هـ . وقد أحصينا جملة ما جاء فيه فكانت خمسة وستين حانوتا مرتبة حسب الأسواق التي توجد فيها ومنها سوق الحاكة وسوق التماقين وسوق السراجين وسوق الجلادين وسوق القصابين وسوق الخياطين وسوق الصاغة وسوق الدخان127. كما وجدنا عقود أكرية من أحباس الجامع مبعثرة أوراقها تتعلق بأسواق أخرى كسوق الحدادين وهي تعود إلى أعوام مختلفة في أوائل القرن العاشر ولم يتيسر ضبط جميعها، إلا أنه يمكن التخمين من خلالها بأن مجموع حوانيت أحباس الجامع تقارب الثمانين على الأقل في ذلك التاريخ 128. وهو ما يؤكد أن كشف سنة 888 هـ لم تسجل فيه إلا بعض الحوانيت المحبسة على الجامع حيث أن عددها فيه لم يتجاوز العشرين كما سبق أن ذكرنا.

وهذا العدد الضخم من العقارات والرباع المحبسة على الجامع الأعظم بالقيروان يثبت أهمية هذا المعلم في الحياة الدينية والروحية بالمدينة وهو ما يفسر كذلك إرتفاع مداخيل أكرية الجامع حيث بلغت سنة 911 هـ ستمائة وستون دينارا كبيرة ستينية وأربعة عشر درهما سكيا وثلاثة أثمان درهم129. وقد تراجع هذا الدخل عام 913 هـ إلى خمسمائة وثمانين دينارا كبيرة ستينية وواحد وثلاثين درهما سكيا وسبعة أثمان الدرهم130. ويبدو أن أوقاف الجامع كانت هامّة منذ القرن الثامن على الأقل مما يفسّر وجود ناظر لأحباس الجامع منذ ذلك التاريخ أصبح يعرف فيما بعد بأمين أو وكيل حبس الجامع . ويبدو من خلال الوثائق العديدة التي نملكها عن أحباس الجامع الأعظم بداية من القرن الحادي عشر خاصة 131، أنّ مصاريف الجامع كانت هامّة كذلك . وهي تتعلق خاصة بخلاص الأمين وقابض غلاة أحباس الجامع والإمام وصاحب العكازّ وراوي البخاري والمؤذّين الذين وصل عددهم في أواسط القرن الحادي عشر إلى عشرة إلى جانب مؤذني الجمعة ومؤذن الزوال والمغرب وكذلك القراء والوقّاد وكنّاس الصحن وصاحب الوقت إلى جانب العدول لعقد الأكرية والمحاسبين وغير ذلك132.

ومن جملة المصاريف نذكر أعمال الاستصباح والتحصير والصيانة والترميم والتبييض التي كانت متواصلة على الدوام . ورغم أن هذه المصاريف قد تبلغ ثلاثة أرباع مداخيل أحباس الجامع133، فإنّ ما يفضّل منها كانت فيه كفاية لتنمية أحباس الجامع وصيانته وتعهّد هذا الصرح الشامخ من صروح الحضارة العربية الإسلامية .

يبدو جليا من هذا البحث أن مؤسسة الأحباس قد استأثرت في العهد الحفصي بمنزلة متميّزة ضمن الهياكل المساهمة في صياغة المجتمع القيرواني وتوجيه حياته العامّة . ولقد استطاعت هذه المؤسسة أن تتجاوز المرحلة الصعبة التي تلت الزحفة الهلالية وأن تتعافي وتنظم دواليبها خلال القرن الثامن لتبلغ أوج تطوّرها في عهد أبي فارس عبد العزيز وأبي عمرو عثمان . ولقد أضحت منذ ذلك التاريخ مؤسسة عتيدة تملك رصيدا عقاريا محترما ومؤثرا في الدورة الاقتصادية للمدينة . فقد ناهز مجموع أوقاف عدد من المساجد والمواضي والجامع الأعظم والفقراء والسور فحسب، في أوائل القرن العاشر المئتي حانوت وأزيد من مائة دار وهو رصيد هام في مدينة لا يتجاوزعدد سكانها في ذلك التاريخ حوالي العشرة آلاف نسمة ومجموع دورها الألف وخمسمائة دار . وهذا التراث المنبث داخل النسيج العمراني يسهم في عمارة المدينة وفي توفير الخدمات التجارية والاقتصادية اللازمة بها .

وتوفّر مؤسسة الأوقاف بالقيروان موارد رزق لا يستهان بها للعديد من أهالي المدينة من المكلفين بشؤون الأحباس والقائمين بشعائر المعالم الدينية من أئمة ومؤذنين وقراء وسدنة وقد كان عدد مساجد المدينة ومواضيها يفوق المائة تتطلب الخدمات المتعلّقة بها أكثر من ثلاثمائة نفر.  ويعود الفضل لمؤسسة الأحباس في صيانة وتعهّد أغلب المعالم الدينية بالمدينة فأبقت بذلك على تواصل مهمتها الروحية وحافظت على رصيدها المعماري والعمراني .

ويتراءى من خلال الدراسة أن مؤسسة الأحباس بالقيروان لم تكن تفتقد للحيوية اللازمة لإنماء مواردها ولم يكن رصيدها العقاري متجمدا تجمدا كاملا بل نلاحظ من خلال الوثائق أنها تقوم ببعض الإحداث والتغييرات في عقاراتها بما يتماشى ومصالح الوقف . ورغم هذه المكاسب، فإن مؤسّسة الأحباس كظ بالقيروان لم تتولّ القيام بأشغال عمرانية كبرى كان لها تأثير يذكر على نسيج المدينة العمراني، فجميع شراءاتها تتمثّل في عقارات متفرقّة داخل المدينة وغير مجمّعة وقد بقي أغلبها قائما بنفس المهمة عبر العصور رغم الأزمان وتبدّل الأحوال . ولم تستطع مؤسسة الأحباس تبعا لذلك التحوّل من طور الاستغلال العقاري إلى طور الاستثمار في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية كالتجارة والصناعة والفلاحة ، فساهمت بقسطها في ركود المجتمع الإسلامي .

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
صفحات من تاريخ دمشق، و دراسات أخرى، 2006، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 199-258.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

موقع دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، والدور التي كانت تحيط بها

 أحمد زكي يماني إن بداية إقطاع الرباع، في مكة المكرمة، تعود إلى عهد قصي بن كلاب. فحين تولى رئاسة مكة، بعد سقوط حكم خزاعة، جمع قريشاً إليه، فَقَطَّع مكة رباعاً، ووزعها على القبائل؛ فقامت كل قبيلة ببناء منازلها في الرباع ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

فضل بيت المقدس والعمارة فيه وجلب الخير له ولأهله

الشيخ محمد الخليلي قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

العوائد المالية لمقاطعات دمشق الشام على ضوء دفتر طابو (T.D.474) سنة 977 هـ / 1569 م

محمد عدنان البخيت يسرّني أن أتوجّه بالشكر هنا إلى الزميلين الأستاذين: الدكتور خليل ساحلي أوغلو من كلية الاقتصاد بجامعة إستانبول، والدكتور فاضل بيات من لجنة تاريخ بلاد الشام بالجامعة الأردنية، لما قدّماه من عون علمي كبير ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تملك الأجانب للعقارات في الدولة العثمانية: أنموذج بلاد الشام

عبد الكريم رافق محتويات المقال:مــقدمـــةالإرادة السلطانية بتملّك الأجانبصورة الخط الهمايوني ليعمل بموجبهتطبيق المحاكم الشرعية في بلاد الشام لقانون تملك الأجانبهوية الأجانب المشترين للعقاراتالمحليون الأجانب وشراؤهم العقا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تاريخ دمشق في مرحلة انتقال منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى

خيرية قاسمية محتويات المقال:أولاً : الوضع العمراني والمدنيثانيا : الحياة الاقتصاديةثالثا : الحياة الاجتماعيةرابعا : الحياة الثقافية واكبت دمشق الزمن كأقدم مدن العالم وواحدة من عواصمه العريقة، وراحت تتوالى عليها الدول وال...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

التنظيم المديني والإداري للعاصمة المصرية بين العصرين الفاطمي والمملوكي

أمين فؤاد سيّد محتويات المقال:تَنْظِيمُ العاصِمَة>> في العَصْر الفاطميالنِّظَامُ العامُالتَّنْظيمُالخَدماتُ العَامَّةإدَارَةُ العاصِمَةالوَالي وصاحبُ الشُّرْطةالمُحْتَسِب والقاضي>>في العَصْر المملوكينائِبُ ال...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اكتشاف غير مسبوق حول رحلة ابن بطوطة

عبد الهادي التازي هديتي إلى سائر الباحثين والمهتمين بالرحالة العالمي المعروف بابن بطوطة الطنجي، وذلك بمناسبة احتفال المنظمات العالمية والمؤسسات الجامعية، والهيئات الثقافية مشرقًا ومغربًا بمرور سبعة قرون شمسية على ميلاده ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

بيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور النصارى وجوارها

محمد عدنان البخيت *** إلى العالمِ المُعلِّمِ سادن التُّراثِ العربيِّ الأستاذ الدكتور صلاح الدّينِ المنجِّد- حفظه الله *** تشير المصادر الجغرافية وكتب الأنساب إلى استيطان مبكر قبل الإسلام لعشائر لخم وجذام منذ مطلع القرن ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

رسالة غير معروفة في الجغرافية

رمضان ششن محتويات المقال:نص الرسالةالقول الأول على كرة الأرضالقول الثاني على كرة الماءالقول الثالث في بحر طنجة وسبتة ومرطانية وإفريقية ومصر والشام والرومالقول الرابع في بحر طرابزندة ويسمى الأسود[القول الخامس غير مدرج في ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصدُ الفنونِ العُمرانِية في المدينةِ الإسلامية: قراءةٌ في نصوصٍ تراثيةٍ ورؤيةٌ في الواقعِ المعاصر

إبراهيم البيومي غانم: أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (مصر)، وعضو مؤسس وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية مؤسسة الفرقان لندن. محتويات المقال:استهلالأولاً: المدينة ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top