موقع دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، والدور التي كانت تحيط بها

شارك:

 أحمد زكي يماني

إن بداية إقطاع الرباع، في مكة المكرمة، تعود إلى عهد قصي بن كلاب. فحين تولى رئاسة مكة، بعد سقوط حكم خزاعة، جمع قريشاً إليه، فَقَطَّع مكة رباعاً، ووزعها على القبائل؛ فقامت كل قبيلة ببناء منازلها في الرباع المخصصة لها. ثم أخذت القبائل، من بعد قصي، تختط لنفسها ولحلفائها رباعاً (أي منازل) يحوزونها ويبنون فيها، أو يتاجرون بالبيع والشراء، ولو كانت في غير الرباع التي خصصها قصي لهم1.

في توزيع قصي للرباع، أخذ لنفسه وجه الكعبة، وبنى دار الندوة. ومنح بني مخزوم أجيادين، وبني جمح مسفلة مكة، وبني سهم الثنية (موضع الشبيكة اليوم)، ثم توالى التقسيم شاملاً للقبائل المكية الأخرى2.

قال الفاكهي: «حدثنا ابن أبي سلمة، قال: ثنا عبد الجبار بن سعيد، عن أبي بكر العائذي، قال: حدثني سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: منزلنا هذا بمكة، قطعه لنا قصي بن كلاب، وكذلك منازل قريش كلها بمكة.

وقال سفيان بن عيينة- فيما ذكر عنه: نزل الناس بمكة على أقدارهم، فلبني عبد مناف وجه الكعبة، والمسيل، والردم إلى المعلاة. قال: فلم تزل قريش تحوز رباعها وتبيعها حتى جاء الله بالإسلام وهم على سكنتهم ومنازلهم. فلما دخل رسول الله ﷺ، عام الفتح، خطب الناس يومئذ، فأقرهم على رباعهم ومنازلهم التي كانوا عليها، ولم يخرج أحداً من ربعه ولا من منزله، عفوا منه، وصفحاً عنهم. ثم لم يزد الإسلام ذلك إلا شدة وتوكيداً، وذلك حين يقول رسول الله ﷺ لصفوان بن أمية، وذلك من بعد عام الفتح، وقد قدم عليه المدينة يطلب الهجرة، فقال له رسول الله: ارجع، أبا وهب، إلى الأبطح، فقروا على سكنتكم»3.

كانت رباع بني أسد بن عبد العزى، التي أقطعها لهم قصي بن كلاب، في مواقع مميزة بمكة المكرمة. بعض دورهم كانت قريبة من الكعبة المشرفة، من غربيها، منها دار حُمَيد بن زهير، التي كانت في ظهر الكعبة، تفيء على الكعبة، والكعبة تفيء عليها، حتى تصدَّق بها لصالح الكعبة المشرفة. ومنها دار أسد بن عبد العزى، التي كانت مواجهة للكعبة من شقها الغربي، بينها وبين الكعبة تسعة أذرع، وسميت الدار، يومذاك، برضيعة الكعبة، حتى أدخلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد الحرام . ومنها أيضاً، في سكة الحزامية، إلى الجنوب الغربي من المسجد الحرام، دار حکيم بن حزام، ودار الزبير، ودور أخرى له، هي: دار الزنج، ودار البُخْت التي كانت بين دار الندوة ودار العجلة. ودور لمصعب بن الزبير، والمنذر بن الزبير. وكانت هنالك أيضاً، في سكة الحزامية، قريباً من دار حکيم بن حزام، دار للسيدة خديجة، رضي الله عنها، وهي من بني أسد بن عبد العزى، لها جدار مما يلي دار الزبير4. وتلك الدار، التي كانت في رباع بني أسد بن عبد العزى، التي أقطعها لهم قصي بن كلاب، غير الدار موضوع هذه الدراسة. فالدار التي نحن بصددها هي الدار التي كانت قد اشترتها السيدة خديجة، رضي الله عنها، في رباع بني عبد شمس، قريباً من رباع بني هاشم حيث ولد رسول الله ﷺ، وهي المنطقة التي تشمل المناطق الشرقية والشمالية الشرقية للمسجد الحرام.

وفقاً للمعطيات التاريخية التي قدمها مؤرخو مكة المكرمة الأوائل، فقد كان للسيدة خديجة، رضي الله عنها، دار في رباع بني عبد شمس. فالسيدة خديجة، رضي الله عنها، كغيرها من أهل مكة، الميسورين منهم خاصة، تعددت بيوتهم في مواضع مختلفة، فلم يلتزموا فقط بما أقطعهم إياه قصي في أول أمرهم، وإنما حاز بعضهم رباعاً (أي منازل) في غير ما خصصه قصي، يبنون فيها أو يتاجرون بها5. وهذا ما فعلته السيدة خديجة، رضي الله عنها، إذ اشترت في رباع بني عبد شمس، وابتنت الدار التي جمعت بينها وبين رسول الله ﷺ، وأنجبت فيها أولاد وبنات الرسول ﷺ، وكان فيها مولد السيدة فاطمة رضي الله عنها. وقد عرفت، ضمن ما عرفت به، ببيت النبي ﷺ. فقد ذكر الفاكهي عند حديثه عن دار آل عدي بن الحمراء الثقفيين: «ولآل عدي بن الحمراء دارهم التي في ظهر دار ابن علقمة، في زقاق أصحاب الشيرق، يقال لها دار العصاميّين، بين دار الفضل بن الربيع التي يقال لها دار القدر، إلى بيت النبي ﷺ، التي يقال لها بيت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها»6.

وقال الفاكهي في موضع آخر، ضمن حديثه عن منازل ودور بني أسد بن عبد العزي في مكة: «ولهم بيت خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، الذي دُبُر آل عدي ابن الحمراء الثقفيين، الذي اتخذ مسجداً أيضاً فيه»7؛ إشارة إلى المسجد الذي أحدثه معاوية في الدار بعد شرائه لها.

ومن المعروف أن دور آل عدي بن الحمراء کانت شمال شرق المسجد الحرام، خلف دار ابن علقمة التي كانت شارعة على المسعى. وبقية المواضع التي ذكرها الفاكهي، مثل دار الفضل بن الربيع، وزقاق أصحاب الشيرق، معروفة ومشهورة بمواضعها شمال شرق المسجد الحرام.

يدعم ما سبق حديث الأزرقي والفاكهي عن الأبواب الشرقية للمسجد الحرام حين قالا: «... ومنها باب النبي ﷺ، وهو الباب الذي مقابل زقاق العطارين، وهو الزقاق الذي يسلك منه إلى بيت خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها» [صورة رقم 3]8. وتشير الروايات إلى أن معاوية بن أبي سفيان، لما اشترى الدار، فتح باباً منها إلى دار أبيه أبي سفيان9. ودار أبي سفيان في رباع بني عبد شمس، شمال شرق المسجد الحرام.

صورة رقم (3) باب النبي ﷺ في المسجد الحرام.
صورة رقم (3) باب النبي ﷺ في المسجد الحرام.

من الشواهد التاريخية التي تؤكد أن الدار كانت لبني عبد شمس، ثم آلت ملكيتها للسيدة خديجة، رضي الله عنها، ما ذكره البلاذري، عند حديثه عن الآبار الجاهلية في مكة، بقوله: حفر عبد شمس بئرین سماهما (خم) و (رم)، فأما (خم) فكانت عند الردم، وأما (رم) فكانت عند دار خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها10.

بناء على ما تقدم فإن دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، كان موقعها شمال شرق المسجد الحرام، ضمن رباع بني عبد شمس بن عبد مناف. وفي هذه الدار جاورت السيدة خديجة، رضي الله عنها، عدداً من سادة بني عبد شمس في دورهم بالرباع المذكورة، كان منها: دار أبي سفيان بن حرب، ودار آل سعيد بن العاص، ودار آل عدي بن الحمراء، ودار ابن علقمة الكناني، ودار الحكم بن أبي العاص، ودار الوليد بن عتبة، وغيرها من دور سادة بني عبد شمس. وكانت بالقرب منها بعض أسواق مكة القديمة، منها أسواق : البرّامين، والخرّازين، والقوّاسين، واللبّانين. وتقع قريباً منها رباع بني هاشم، التي فيها الدار التي ولد فيها سيدنا رسول الله ﷺ. وربما أرادت السيدة خديجة، رضي الله عنها، من شرائها للدار، في تلك المنطقة تحديدا، أن يكون الرسول ﷺ قريباً من رباع أهله بني هاشم، وقريباً من موضع مسقط رأسه، والله أعلم. [خارطة رقم 1].

مؤرخو مكة المتأخرون أقروا الأزرقي والفاكهي في ما أورداه بشأن الدار، الأمر الذي جعلها معروفة ومشهورة لهم؛ فاهتموا برصد كل ما يتعلق بالدار وبتاريخها، من أحداث، وعمارة، وإصلاح، وتوسعة، وتجديد، وما طرأ على الدار وما حولها من تغير في بعض الأسماء، مثل زقاق العطارين الذي أصبح يعرف، فيما بعد، بزقاق الحجر. وكان بعض المؤرخين يأتون على ذكر الاسمين: القديم (زقاق العطارين)، والمعاصر لهم (زقاق الحجر)، الذي احتفظ بهذا الاسم حتى عصرنا الحاضر11. يقول في ذلك ابن الضياء (ت 854هـ /1450م ): «دار أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها، بالزقاق المعروف بزقاق الحجر، ويقال له قديما: زقاق العطارين ...»12.

كما أطلق على هذه الدار، في وقت لاحق، (مولد السيدة فاطمة رضي الله عنها)، إلى جانب ما كانت قد اشتهرت به من نسبتها إلى السيدة خديجة، رضي الله عنها13.

نستنتج من كل تلك النصوص التاريخية التي تناولت دار السيدة خديجة رضي الله عنها، أنها هي الدار التي كانت تقع في الجهة الشمالية الشرقية من المسجد الحرام، وهو ما يتطابق مع ما ذكره أبو سليمان في تحديده للموضع، حين قال: «موقع هذا المنزل المبارك في الوقت الحاضر في الساحة الشرقية، لدى المصباح الكبير مقابل باب السلام، على بعد اثني عشر متراً، في اتجاه الشمال نحو المدعي، حيث شاهدت مخطط هذا الموقع، شخصيا، بحضور أحد المسؤولين في مؤسسة ابن لادن مع كل من الدكتور عويد المطرفي، رحمه الله تعالى، والدكتور عبد الله شاووش، في رمضان 1425هـ/2004م، فتبين الأمر على خلاف ما يعتقد بعض أن هذا المنزل يقع في إطار الميضآت»14.

خريطة رقم (1) توضح موقع دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، والدور والأسواق المجاورة لها. وقد تم إسقاط الدور على خارطة هيئة المساحة المصرية.
خريطة رقم (1) توضح موقع دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، والدور والأسواق المجاورة لها. وقد تم إسقاط الدور على خارطة هيئة المساحة المصرية.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
دار السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في مكة المكرمة: دراسة تاريخية للدار وموقعها وعمارتها_ النسخة العربية،2013  مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 29 – 38.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

فضل بيت المقدس والعمارة فيه وجلب الخير له ولأهله

الشيخ محمد الخليلي قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

العوائد المالية لمقاطعات دمشق الشام على ضوء دفتر طابو (T.D.474) سنة 977 هـ / 1569 م

محمد عدنان البخيت يسرّني أن أتوجّه بالشكر هنا إلى الزميلين الأستاذين: الدكتور خليل ساحلي أوغلو من كلية الاقتصاد بجامعة إستانبول، والدكتور فاضل بيات من لجنة تاريخ بلاد الشام بالجامعة الأردنية، لما قدّماه من عون علمي كبير ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تملك الأجانب للعقارات في الدولة العثمانية: أنموذج بلاد الشام

عبد الكريم رافق محتويات المقال:مــقدمـــةالإرادة السلطانية بتملّك الأجانبصورة الخط الهمايوني ليعمل بموجبهتطبيق المحاكم الشرعية في بلاد الشام لقانون تملك الأجانبهوية الأجانب المشترين للعقاراتالمحليون الأجانب وشراؤهم العقا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تاريخ دمشق في مرحلة انتقال منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى

خيرية قاسمية محتويات المقال:أولاً : الوضع العمراني والمدنيثانيا : الحياة الاقتصاديةثالثا : الحياة الاجتماعيةرابعا : الحياة الثقافية واكبت دمشق الزمن كأقدم مدن العالم وواحدة من عواصمه العريقة، وراحت تتوالى عليها الدول وال...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

التنظيم المديني والإداري للعاصمة المصرية بين العصرين الفاطمي والمملوكي

أمين فؤاد سيّد محتويات المقال:تَنْظِيمُ العاصِمَة>> في العَصْر الفاطميالنِّظَامُ العامُالتَّنْظيمُالخَدماتُ العَامَّةإدَارَةُ العاصِمَةالوَالي وصاحبُ الشُّرْطةالمُحْتَسِب والقاضي>>في العَصْر المملوكينائِبُ ال...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأحباس العامة بالقيروان في عهد الدولة الحفصية (625 هـ / 1228 م - 982 هــ / 1575 م )

مراد الرّمّاح محتويات المقال:الأحباس العامة بالقيروان في العهد الإسلامي المبكّرالأحباس العامة بالقيروان في العهد الحفصي1- تنظيم هياكل الأحباس العامة بالقيروانأ- القاضيب- ناظر الأحباسج- محاسبة ناظر الأحباسد- الأئمة و المؤ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اكتشاف غير مسبوق حول رحلة ابن بطوطة

عبد الهادي التازي هديتي إلى سائر الباحثين والمهتمين بالرحالة العالمي المعروف بابن بطوطة الطنجي، وذلك بمناسبة احتفال المنظمات العالمية والمؤسسات الجامعية، والهيئات الثقافية مشرقًا ومغربًا بمرور سبعة قرون شمسية على ميلاده ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

بيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور النصارى وجوارها

محمد عدنان البخيت *** إلى العالمِ المُعلِّمِ سادن التُّراثِ العربيِّ الأستاذ الدكتور صلاح الدّينِ المنجِّد- حفظه الله *** تشير المصادر الجغرافية وكتب الأنساب إلى استيطان مبكر قبل الإسلام لعشائر لخم وجذام منذ مطلع القرن ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

رسالة غير معروفة في الجغرافية

رمضان ششن محتويات المقال:نص الرسالةالقول الأول على كرة الأرضالقول الثاني على كرة الماءالقول الثالث في بحر طنجة وسبتة ومرطانية وإفريقية ومصر والشام والرومالقول الرابع في بحر طرابزندة ويسمى الأسود[القول الخامس غير مدرج في ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصدُ الفنونِ العُمرانِية في المدينةِ الإسلامية: قراءةٌ في نصوصٍ تراثيةٍ ورؤيةٌ في الواقعِ المعاصر

إبراهيم البيومي غانم: أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (مصر)، وعضو مؤسس وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية مؤسسة الفرقان لندن. محتويات المقال:استهلالأولاً: المدينة ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top