أمين فؤاد سيّد
كانت ((الفُسْطاطُ)) في العَصْر الفاطمي، وظلَّت لفترةٍ غير قصيرة بعد سُقُوطِ الفاطِميين، هي مَدينَة مصر الرئيسة ومركز نَشَاطِها الاقْتصادي والصِّناعي والعِلْمي. بينما كانت ((القاهِرة)) المَدينة المُحَصَّنَة التي أنشأها جَوْهَرُ الصَّقْلَبي ( ت 381 هـ / 992م ) قائد جُيُوش الخليفة المُعِزّ لدين الله الفاطمي سنة 358 هـ / 969م، هي مَقَرّ الحكومة الفاطمية ومركز الدولة الإداري والسِّياسي والمَعْقل الرئيس لنَشْر الدَّعْوَة الإسماعيلية مَذْهَب الدَّوْلَة الفاطمية، ويُكَوِّن مجموعُ المدينتين – اللتين كان يفصلهما عن بعضهما نحو الميلين – العاصِمَة المصرية في العَصْر الفاطِمي1 .
وكانت عاصِمَةُ مصر أو ((المدينة الكُبْرى)) ، كما أَطْلَق عليها علي بن رضْوان الطَّبيب ( ت 453 هـ / 1061م ) في النصف الأوَّل للقرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، تتكوَّن من أربعة أجزاء : الفُسْطاط والقاهِرَة والجَزِيرَة والجِيزَة، وكان أعظم هذه الأجزاء الفُسْطاط ويليها في العِظَم وكثرة النّاس القاهِرَة2 .
وكانت شُهْرَةُ الفُسْطاط وسُمْعَتُها كمَعْقل لأهْل السُّنَّة بفَضْلِ جامِعها العضتيق، وكمركزٍ تُجاري بسبب قُرْبها من شاطئ النِّيل وبسبب الْتقاء طُرُقِ التجارة القادمة من البَحْر الأحمر والبَحْر المتوسط وداخِل إفريقيا عندها، تُغَطِّي على القاهِرَة المركز الإداري والمَدينَة المُحَصِّنة التي كان يُحْظَر دُخُولُها على غير قاطنيها، الذين كانوا من رِجالِ البَلاط ورجال الحُكْم وطَوائِف الجُنْد، إلاَّ بإذنٍ خاصّ .
ورغم الاضْطراباتِ السياسية والأزَماتِ الاقْتصادية المتتالية التي مَرَّت بها العاصِمَةُ المصرية طَوالَ العَصْرِ الفاطِمي، والتي ظَهَرَ تأثيرُها بوضُوح على الأخَصِّ في الفُسءطاط حيث أصابَت بقَسْوَةٍ الأحْيَاءَ العبَّاسية والطُّولونية القَديمة الواقعة شمال شَرْق الفُسْطاط ، فلم تَفْقِد هذه المَدينَة على الإطْلاق مركزها التُّجاري والاقْتِصادي حتى بعد حَريقِها المُتَعَمَّد الذي تَمَّ في سنة 564 هـ / 1068م، فقط تراجَعَ دورُها تدريجيًّا وأخذت القاهِرَةُ تحلّ محلَّها خاصَّةً بعد أن نَقَلَ الأيُّوبيون – خُلَفَاء الفاطِميين – مركز حُكْمِهم من القاهِرَة إلى قَلْعَة الجَبَل، وبذلك فتَحَت المَدينَةُ المُحَصَّنَة أبوابَها على مِصْراعيها لتستقبل لأوَّلِ مَرَّة جَميع طَبقاتِ الشَّعْب المصري .
وكان مِمَّا يميِّزُ العاصِمَة المصرية في هذا الوقت، والفُسْطاط على وَجْهٍ خاصّ، امتزاجُ سُكَّانها من مسلمين وأقْباط ويهود . فلم تَعْرف الفُسْطاط الـ Ghetto الدِّيني أو الحِرَفي، بل إنَّ الدَّارَ الواحدة كان يقيمُ بها جَنْبًا إلى جنب، كما نَعْرِف من وثائق الجنيزة Cairo Geniza Documents، المسلمون والأقْباط واليَهود، كما كان كثيرٌ من المسلمين يَعْمَلون لدى اليَهُود وكثيرٌ مِن اليَهُود يعملون لدى الأقباط3 .
أمَّا تَوْزيعاتُ الأحْياء في كلِّ من المدينتين فقد أَخَذَت تَسْميات مختلفة وكان تَوْزيعُها يتمُّ في أغْلَبِ الأحوال على أساسٍ عِرْقي وقد أطْلِقَ عليها في الفُسْطاط لفظ ((خِطَّه)) بينما أطْلِقَ عليها في القاهِرَة لفظ ((حَارَة))4.
كان العَصْرُ الأيُّوبي ــــ الذي يفْصِل بين العَصْرِ الفاطمي والعَصْر المملوكي ـــ يُمَثِّلث مَرْحَلةَ تَحَوُّل مصر عن المَذْهَبِ الإسماعيلي وعَوْدَتها مَرَّةً أخرى إلى دائرة الأقاليم التي يحكمها أهْلُ السُّنَّة والتي تخضَعُ للإشْراف الاسمي للخَليفَة العبَّاسي في بَغْداد. وانْشَغَل صَلاحُ الدِّين يوسُف بن أيُّوب ـــ الذي قادَ الانْقِلابَ السُّنِّي على الدَّوْلَة الفاطمية ووَضَعض نهايةً لها سنة 567 هـ / 1171 م ـــ بقَضِية الجهاد ضد الفِرنج ( الصَّلِيبيين ) الذين اسْتَوْلَوا على أغْلَبِ مُدُنِ الشَّام السَّاحلية وعلى بَيْتِ المَقْدِس فأمضى أغْلَبَ الفترة التي حَكَم فيها حتى وفاته سنة 589 هـ / 1193م في بلاد الشَّام . وتقاسم إخْوَتُه وأبناؤُه حكم الدَّوْلَة الكبيرة التي خَلَّفَها والتي امْتَدَّت حتى دِيار بَكْر شمالاً وبلاد اليمن جَنوبًا .
كان أهَمُّ ما مَيَّز العَصْر الأيُّوبي في مصر ( 567 ــ 648 هـ / 1171 ــــ 1250م) هو انتقالُ مركز الحكم من القاهِرَة الفاطمية إلى قَلْعة الجَبَل التي شَيَّدَها صَلاحُ الدِّين على الهَضَبَة المتقدِّمة لجَبَل المُقَطَّم شرق القاهرة، كمدينة مُحَصَّنَة تُشْرِفُ في آنٍ واحِدٍ على القاهِرَة والفُسْطاط. وكان نِظَامُ الحُكْم في هذه الفَتْرَة أشْبَه بنظامِ حُكْمٍ فيدرالي يتبع فيه أفْرادُ البَيْت الأيُّوبي في الشَّام واليمن وإقليم الجَزيرَة السُّلْطان الأيُّوبي المُستقرّ سواء في قَلْعَة الجَبَل أو قَلْعَة جَزيرَة الرَّوْضَة بمصر.
وإذا كانت مصر في عَصْرِ الدَّوْلة الفاطمية دَوْلةٌ ثيوقراطية بمعنى الكلمة وكان الإمامُ الفاطمي هو الرَّئيسُ الدِّيني والسِّياسي للدَّوْلَة ويُنْظَرُ إليه ـــ دون أي الْتباس ـ على أنَّه مُمَثِّلُ الله على الأرْض والمُفَسِّرُ الأوَّل للشَّرْع ومَصْدضرُ كلّ العِلْم؛ ممَّا أدَّى إلى ارْتباط التَّنْظيم الإداري للعاصمة المصرية في العَصْر الفاطمي بالكثير من الاحْتفالات الدِّينية التي كان يَحْضُرُها الإمامُ بشَخْصه ( رُكوبُ أوَّل العام ـــ رُكوبُ أوَّل شهر رَمْضان ــــ رُكُوبُ أيَّام الجُمَع الثَّلاث من شهر رَمَضَان ــ رُكُوبُ صَلاة عيد الفِطْر ـــ رُكوبُ صَلاة عيد النَّحْر ـــ رُكوبُ الإمام في الأعْيادِ الوطنية ـــ رُكوبُ الإمام في الأعياد الشِّيعية ) والتي كان للوالي وصَاحِب الشُّرْطَة دَوْرٌ كبيرٌ فيها فإنَّ مصر في العَصْرين الأيُّوبي والمملوكي كان السُّلْطانُ يأتي فيها على رأسِ الدَّوْلة و يتولَّى قيادَة الجَيْش إلاَّ أنَّه لم تكن له أيَّةُ سُلْطَة دينية، كما أنَّ الدَّوْلة شُغِلَت بمواجهة التَّهديدات الخارجية (الفِرِنْج والمغُول ) حتى نهاية القرن التاسع الهجري / الثالث عشر الميلادي. ولذلك فإنَّ معلوماتنا عن تنْظيم العاصِمَة في العَصْر الأيُّوبي قليلةٌ ولا تعيننا على رَسْم صُورَةٍ واضحةٍ للنِّظام المديني في هذه الفترة .
أمَّا العَصْرُ المملوكي (648 - 923 هـ / 1250 – 1517م) فقد اخْتَلَفَ فيه هذا الشَّكْل واسْتَقَرَّت فيه الأمُورُ برَغم أن نِظَامَ الحكم في عَصْرِهم في خُطوطِه العريضة كان امتدادًا طبيعيًا لحكم الأيُّوبيين، فالأيُّوبيون – كما قال القَلْقَشَنْدي ( ت 821 هـ / 1418م) : ((أصْلُ الدَّوْلَة التُّرْكية))5، وعلى ذلك لم يُدْخِل المماليكُ تَغْييرًا كبيرًا على أسْلُوبِ الحُكْم وجهازِ الإدارة .
غير أنَّ مصر شَهِدَت في زمانهم بَلاطًا متمَيِّزًا ورُسُومًا مُعَقَّدَةً أعادَت إلى الأذْهان ما كان عليه بَلاطُ الفاطِميين من قَبْل. وكانت قَلْعَةُ الجَبَل أهَمَّ مِيراثٍ وَرِثَة المماليكُ عن الأيُّوبيين حيث أضْحَتْ منذ هذا التاريخ مَرْكَزَ الحُكْم في مصر وظَلَّت كذلك عِدَّةَ قُرون .
وشَهِدَت مَدينَةُ القاهرة أقْصَى اتِّساعٍ لها في سَلْطَنَة النَّاصِر محمد بن قلاوون الثالثة (709 – 741 هـ / 1309 – 1341م) التي تُعَدُّ نُقْطَة تَحَوُّلٍ هامَّة في تاريخ المَدينَة. وتَرَكَّزَ نُمُوُّ المَدينَة واتِّساعُها في الأساس خارج حُدُودِ المَدينَة الفاطِمية جنوب بابِ زَوِيلَة وفي المنطقة الواقعة أسْفَلِ قَلْعَةِ الجضبَل حيث عَمَّر الأمَرَاءُ المماليك العَديدَ من المُنْشآت الجديدة في هذه المنطقة : دورٌ وقصُورٌ ومَدارِس وخَوانِك وحَمَّامات ومَساجدِ جامعة . . . . . ولم تكن القاهرة في زَمَنِ المماليك مَدينَةٌ مُحَصَّنَةٌ، فقد اخْتَفَى السُّورُ الفاطمي وَسَطَ أحْياء المدينَة المملوكية، كما أنَّ القَصَبَة أو الشَّارِع الأعْظَم الذي يربط بابَ الفُتُوح في الشَّمال ببابِ زَوِيلَة ويمتدُّ حتى صَليبَة ابن طُولُون في الجنوب، لم يَكن الشُّرْيان التجاري للمَدينَة فحسب، وإنَّما المكان الذي كانت تتمُّ فيه كذلك الاحتفالاتُ الموكبية والتي كان يهْبِطُ فيه السَّلاطينُ من القَّلْعَة ويَظْهَرُون للشَّعْب .
وابتداءًا من هذا العَصْر بدأ يتَّضح التَّفْريقُ بين أقسام المَدينَة على أسَاسِ وَظائِفها، فوجود مركز اقْتصادي تَتَجَمَّع فيه الأنْشطَةُ التجارية والحِرَفية المختلفة يظهر بوضُوحٍ من خلال فُصُول كتاب ((المَواعِظ والاعْتِبار )) التي يُحْصى فيها المقريزي ويُحَدِّد بدِقَّة مَوَاضِعَ الأسْواق والوَكالات والقياسِر6، فعلى جانبي القَصَبَة بين بابي الفُتثوح وزَوِيلَة وعلى مساحَة تَبْلُغ حوالي 94 فدَّانًا كان يتَجَمَّع 48 سُوقًا ( من بين 87 سُوقًا يُحَدِّدُ المقريزي مواقعها ) و 44 وكالة وقَيْسارية (من بين 58 وَكالَة يذكرها ) .
وكانت الأَنْشِطَةُ الاقْتِصادية تتركَّز على الأخَصِّ وَسَط المَدينَة الفاطمية في قِطاع عَرْضه مائة متر وطوله أربعمائة متر بين حيِّ الصَّاغَة في الشِّمال وحيِّ الكحْكيين في الجنوب حيث نجد 21 سُوقًا و 18 قَيْسارية على مساحةٍ تَبْلغ نحو عشرة أفْدِنَة. وفي هذه المنطقة كانت تتمّ أكبر التجارات المصرية : الأقْمِشة والتَّوابِل والسلاح 7 .
وأُقيمت أسْواقٌ أخرى متَخصِّصَة أحاطَت بوَسَط المَدينَة في الطُّرُق المؤدية إلى خارج المدينة الفاطمية عند باب القَنْطَرَة وبابِ الخَرْق وبابِ زَوِيلَة إلى صَليبة ابن طُولُون. أمَّا باقي المَدينَة فقد ضَمَّ الأسْواقَ المحلية غير المتخصِّصَة (السُّوَيْقات) التي كانت تمدُّ سكان الحارات والأخْطاط باحْتياجاتهم اليومية الضَّرورية .
تَنْظِيمُ العاصِمَة
>> في العَصْر الفاطمي
بالرغم من قِلَّة عَدَد المُؤَسَّسات الحضرية الموجودة بالعاصِمَة الفاطِمية، فقد كان النِّظامُ العام محفوظًا داخِل المَدينَة. وكانت الوَظائِفُ الحَضَرية مَؤَمَّنَةً بالنسبة للأساسيات، في غَيْبَة تلك الجماعات المُتَخَصِّصَة، بفَضْلِ بعض المنظَّمات الذاتية وشِبْه التلقائية .
النِّظَامُ العامُ
كان النِّظامُ محفوظا بطريقةٍ مرضية في القاهِرَة في خلال القرن الفاطِمي الأوَّل وحتى فترة قليلة بعد زيارة ناصِر خُسْرو لها ( 437 هــ / 1045 م ـــ 444هـ / 1052م)، ولكن لم تَلْبَث أن عَمَّت الفَوْضَى في فترة الاضْطرابات السِّياسية وصِراع فِرَقِ الجيش الفاطِمي المختلفة في منتصف القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي. ورغم الهدوء النِّسْبي الذي سادَ القاهِرَة بعد ذلك وحتى أوائل القرن السَّادِس الهجري فقد بدأت الاضْطراباتُ من جَديدِ في أعقابِ وَفاة الخَليفة الآمِر بأحْكام الله في نهاية سنة 524 هـ / 1129م، وكان مَيْدانُ بَيْن القَصْرَيْن هو مَسْرَح هذه الاضْطِرابات المتتالية والتي تكرَّرَت في سنوات، 524 هـ / 1129م، 526 هـ / 1131 م، و 529 هـ / 1134م، و 531 هـ / 1135 م، وفي فترة الأزْمَة بين شَاوَر وضِرْغَام .
وإذا كانت المصادِرُ لم تَمُدُّنا بمعلوماتٍ كافية عن الإجْراءات التي اتَّخَذَتها الحكومةُ الفاطِمية لمواجهة هذه الاظْطرابات، ولا الدَّوْر الذي كان يقومُ به الوالي في زَمَنِ هذه الأزَمات، وإذا لم نكن نعرف أيضًا أين كان يُقيمُ الوالي ومساعدوه في مَدينَة القاهرة، ففي المقابل أمَدَّتْنا المصادِرُ بطريقةٍ غير مباشرة بمعلوماتٍ عن دَوءر الوالي في وَقْتِ رُكُوبِ الخَلِيفَة وخُروجِه للاحتفالاتِ العامَّة، حيث كان واجِبُ الوالي الأساسي هو تأمينُ الطَّريق الذي يسلكه مَوْكِبُ الخَليفَة والإشْراف على من يتولَّوْن اسْتِقْبالِ الخَليفَة وتوديعه8 .
التَّنْظيمُ
كان اهتمامُ الحكومات طَوال العَصْر الإسلامي وإلى وَقْتٍ غير بعيد، فيما يَخُصُّ التَّنْظيم وإدارَة الطُّرُق، لا يتجاوَز حَدًّا متواضَعًا كتنظيفِ الشَّوارع وإزالَة الأنْقاض التي تُهَدِّد بسَدِّها . وبفَضْلِ فقراتٍ مُطَوَّلةٍ من تاريخ المُسَبِّحي ( ت 420 هـ /1029م )، حفظها لنا المَقءريزي، نستطيع أن نَصِف بقَدْرٍ كبيرٍ من الدِّقَّة كيف حُوفِظَ على نَظافَة المَدينَة ونِظامِها العام في الخمسين عامًا الأولى لحكم الفاطِميين . ولكنَّنا للأسف لا نملك تفصيلات مماثلة فيما يخص بقيَّة التاريخ الفاطمي .
فالمُسَبِّحي وهو يَسْرُدُ أحداث سنة 381 هـ / 993م يذكر أن السَّقَّائين أُمروا أن يُغَطُّوا روايا الجمال والبغال لئلا تُصيب ثياب النَّاس9 ويقول المؤرِّخُ نفسه في حوادث سنة 383 هــ / 993 – 994م إنَّ الخَليفَة العَزيز بالله أمَرَ بأن تُنْصَب أزيارٌ مليئةٌ بالماء على الحضوانيت وأن تُوقَد المصابيحُ على الدُّور في الأسْواق10. ويمدُّنا المُسَبِّحِي كذلك بالمعلومات التالية عن فترة حُكْم الخَليفَة الحاكم بأمر الله. ففي جُمادَى الآخرة سنة 395 هـ / 1005م مُنِع كلُّ من يركب من المكاريين أن يَدْخُل من بابِ القاهرة راكِبًا ولا المكاريين أيضًا بحميرهم وأن لا يجلس أحدٌ على بابِ الزُّهُومَة من التُّجَّار وغيرهم وأن لا يمشي أحَدٌ ملاصِق القَصْر الفاطِمي من بابِ الزُّهُومة إلى أقصى بابِ الزُّمُرُّد . . . إلاَّ أنَّه قد أعْفَى المكاريون فيما بعد من ذلك وقُرئَ لهم أمانٌ بهذا المعنى11. وفي السَّنَة نفسها أمَرَ الخَلِيفَةُ الحاكم بكَنْسِ الأزِقَّة والشَّوارع وأبْواب الدُّور في كلِّ مكان12، وغالبًا ما أمر أيضًا برَشّ الشَّوارع والأزِقَّة حتى لا يَعيق الغُبار والتُراب الحركة في المدينة .
ويذكُرُ المَقْريزي، في أغْلَبِ الظَّنّ عن طريق ابن المأمون، أنّ واليي القاهِرَة ومصر كانا يأخذان جميع السَّقَّائين أرْباب الجِمال والدَّوَاب لرَشِّ ما بين البلدين سُخْرةً بغير أجْرٍ في اليومين اللذين يركب فيهما الخَليفَة في الأسبوع13 . ومن ناحية أخرى فإنَّ عليَّ بن رضْوان الطَّبيب يمدُّنا بوَصْفٍ فَريدٍ لمدينَة القاهِرَة نحو منتصف القرن الخامِس الهجري / الحادي عشر الميلادي، يقول : ((ويلي الفُسْطاط في العِظَم وكثرة النَّاس القاهِرَة، وهي في شمال الفُسْطاط . . وليس ارْتِفاعُ الأبنية بها كارْتِفاع الفُسْطاط لكن دونها كثيرًا وأزِقَّتها وشوارعها بالقياس إلى أزِقَّة الفُسْطاط وشَوارِعها أنْظَف وأقَلُّ وَسخًا وأبعد عن العَفَن . وأكثر شُرْب أهْلها من مياه الآبار. وإذا هَبَّت ريحُ الجنوب، أخَذَت من بُخَار الفُسْطاط على القاهِرَة شيئًا كثيرًا، وقرب مياه آبار القاهرة من وَجْه الأرض مع سَخافَتها مُوجبُ ضَرورةً أن تكون يصل إلىها بالرَّشْح من عُفُونَة الكَنَف شيءٌ ما. وبين القاهِرَة و الفسطاط بَطَائشح تمتلئ من رَشْح الأرض في أيَّام فَيْض النيل، ويصب فيها بعض خَرَّارات القاهرة، ومياهُ البَطَائِح هذه رديئةٌ وَسِخضة أرضها، وما يَصُبّ فيها من العُفُونَة يقتضي أن يكون البُخار المرتفع منها على القاهِرَة والفُسْطاط زائِدًا في رَداءَة الهواء بهما. ويُطْرَح في جنوب القاهرة قَذْرٌ كثير نحو حارة البَاطِليَّة، وكذلك يُطْرَح في وَسَط رَحْبَة بابِ العيد إلاَّ أنه إذا تأمَّلْنا حالَ القاهِرَة كانت بالإضَافَة إلى الفُسطاط أعْدَل وأجْوَد هَواءً وأصْلَح حالاً لأن أكثر عُفوناتهم تُرْمى خارج المدينة، والبُخَار ينحلّ منه أكثر، وكثيرٌ أيضًا من أهْلِ القاهِرَة يَشْرَب من ماءِ النِّيل وخاصَّةً في أيَّام دخوله الخَليج، وهذا الماء يُسْتقى بعد مُروره بالفُسْطاط واخْتِلاطه بعفوناتها 14 فمن شأن أهْل الفُسْطاط أن يرموا ما يموت في دورهم من السَّنانير والكِلاب ونحوها من الحَيَوان الذي يُخالطُ النَّاس في شَوارعهم وأزقتهم فتَعْفَن وتخالط عفونتها الهواء، ومن شأنهم أيضًا أن يرموا في النِّيل، الذي يَشْرَبون منه، فضول حَيَوَاناتهم وجِيَفِها وخَرَّارات كَنَفِهم تَصُبُّ فيه وربما انْقَطَعَ جَرْيُ الماء فيشربون هذه العُفُونَة باخْتِلاطِها بالماء 15 .
هذا النَّقْدُ اللاذع الذي وَجَّهَه علي بن رضْوان إلى مَوْقع الفُسْطاط وعادات أهْلِها هو الذي جَعَلَ الدُّولَ المتعاقبة تَبْحَث عن مَوْضِع في الجهة الشمالية جَيِّد الهواء، وهذا هو سَبَب امْتِداد القاهِرَة دائمًا في اتجاه الشِّمال والغَرْب .
وقد أدَّى إلقاءُ النَّاس لمخلَّفاتهم في الخَليج الذي يحمل المياه إلى القاهِرَة خلال الشهور الثلاثة التي تَعْقُب الفَيَضَان، أدَّى إلى سَدِّ الخَليج نحو نهاية القرن الخامس الهجري بحيث تَعَذَّرَ دُخُولُ المراكِب إليه إلاَّ بمَشَقَّة، لذلك فقد جُدِّدَ حَفْرُه في سنة 502 هـ / 1108 – 1109م وعُيِّنَ له والٍ مُفْرَد بجامكية ومُنِعَ النَّاسُ من أن يلقوا فيه شيئًا 16.
وفيما يلي نُجْمل العوائد التي كانت متبعة في القاهرة والتي تُوَضِّحُ تنظيم المَدينَة : فلم يكن يُسْمَح بمرور حِمْلِ تِبْنٍ ولا حمل حَطَبٍ بقَصَبَة القاهِرَة، ولا يَسُوق أحَدٌ فرَسًا بها، ولا يمرّ بها سَقَّاءٌ إلاَّ وروايته مُغَطّاة، وعلى كلِّ صاحب حانوت أن يجعل أمامَ حانوتِه زيرًا مملوءًا بالماء مخافَة أن يَحْدُث الحريق في مكانٍ فيطفأ بسرعة، كما أنَّ كُلِّ صَاحِب حانُوت كان يُلْزَم بأن يُعَلِّق على حانُوته قِنْديلاً طَوالَ الليل يَسْرج إلى الصَّباح . كما كان يوجد في القَصَبة قومٌ يكنسون الأزْبال والأتْرِبة ونحوها ويرشُّون كُلَّ يوم. كان بالقَصَبَة كذلك، في أغْلَبِ الظَّنَ قُرْب نهاية العَصْر الفاطِمي، عَدد ٌ من الخُفَراء يطوفُون طُولَ الليل لحِرَاسة الحوانيت وغيرها. وكان يتمّ كذلك على فترات متقاربة قَطْعُ ما عَسَاه قد تربَّى من الأوْساخ في الطُّرُقات حتى لا تَعْلو الشَّوارع17.
وقد كان من العَوائِد أيضًا أنه إذا قَدِمَ رَ سُولُ بَلَدٍ أجنبي ينزل من بابِ الفُتُوح ويُقَبِّل الأرْضَ وهو ماشٍ إلى أن يَصِلَ إلى القَصْرِ الفاطِمي، وكذلك كان يَفْعَل كلُّ من غَضِبَ عليه الخليفة فإنَّه يخرج إلى بابِ الفُتُوح ويَكْشِف رأسَه ويستغيث بعَفْوِ أمير المؤمنين حتى يُؤْذَن له بالمصير إلى القَصْر18 .
الخَدماتُ العَامَّة
لم تَعر ف العاصِمَة الفاطِمية ((الخَدَمات العامَّة)) بمعناها المتعارَف عليه اليوم، فقد كان نَقْلُ المياه والنَّقْلُ الدَّاخلي والصِّحَّةُ العامَّة على سَبيل المثال موكَلَةً إلى مِهَنِيين مُتَخَصِّصين كان نَشَاطُهم يجري بعيدًا عن أيّ تَدَخُّلٍ من السُّلْطات .
وقد أخَذَت مشكلةُ نَقْل المياه إلى سُكَّان العاصِمَة الفاطمية تَزْدادُ حِدَّةً مع الزَّمَن سواء في القاهِرَة أو في الفُسْطاط بعد أن أخَذَ مَجْرَى النّيل يَنْحَسِر نحو الغَرْب على فترات متباعدَة فالسَّبْع سِيقايات التي أقامها الوَزِيرُ ابن الفُرات في نهاية عَصْر الدَّوْلَة الإخْشيدية في شمال غَرْب الفُسْطاط بالقُرْبِ من بِرْكة قارون كانت تَسْتَمدّ ماءهَا من الآبار التي حُفِرَت في الموْضِع الذي انْحَسَر عنه النِّيل19. وقد شَكَّلَ تزويد أهل المدينتين بالمياه الصَّالِحَة للشُّرْبِ أزْمَةً بالنسبة للمُرور داخِل العاصمة . فقد تطلب احْتياجُ العاصِمَة الفاطمية من المياه تَخْصيص عدَدٍ كبيرٍ من الجمال يصل – كما قَدَّرَه ناصِرُ خُسْرو – إلى نحو 52 ألف جمل تحمل المياه في رَوايا كبيرة، بالإضافةِ إلى السَّقّائين الذين كانوا يحملون على ظُهُورهم جِرارًا نحاسية أو قِرَبًا من الجِلْد وذلك في الحارات الضيقة التي كان يتَعَذَّر على الجِمال السَّير فيها 20. ويضيف ناصِر خُسْرو أنَّ ماءَ الشُّرْب كان يُجْلَب دائمًا من النِّيل وأنَّ الآبار القريبة من النِّيل عَذْبٌ ماؤها بينما تزداد مُلُوحَة المياه كلَّما ابتعدنا عن مجرى النهر21. ثم يذكر أنَّه رأى قُدُورًا من النُّحَاس الدِّمَشْقي، كلّ واحد منها يسع ثلاثينَ منّا
كانت من الطَّلاوة بحيث يظنها المَرْءُ من الذَّهَب. وأنَّه حُكِيَ له أنَّ امرأةً كانت تملك خمسة آلاف قِدْر، وأنَّها تُؤَجِّر الواحد منها بدرهم في الشهر، وكان ينبغي على مستأجرها أن يَرُدَّها سليمة 22 .
وتبعًا لما يورده المُسَبِّحي فقد كان ثَمَنُ راوية الماء المحمولة على ظُهُور البغال في سنة 415 هــ / 1024 – 1025م درهمين، بينما بلغ ثَمن الرَّاوية المحمولة على ظُهور الجِمال ثلاثة دراهم 23.
أمَّا مَوْرِدَةُ السَّقّائين التي كان يحمل منها السَّقَّاؤون المياه إلى أهْلِ القاهِرَة فكانت تقع على الشاطئ الشَّرْقي للخليج خارج باب سَعادَة24 وقد أقامَ السُّلْطانُ الصَّالح نَجْمُ الدِّين أيُّوب في موضعها في سنة 639 هـ / 1241م قَنْطَرَةٌ عُرِفَت بقَنْطَرة بابِ الخَرْق لينتقل عليها إلى المَيْدان السُّلْطاني الذي أقامه في أرْض اللُّوق على الجانِب الغَربي للخَليج25 .
وهكذا فقد لَعِب السَّقَّاؤون في القاهِرَة والفسطاط على السَّواء طَوال العُصُور الوُسْطى وحتى العُصُور الحَديثضة دَوْرًا بارزًا. ففي العصْرِ الفاطِمي كان لهم رُؤساءُ ينوبون عنهم في علاقتهم مع الدولة، كان الواحِدُ منهم يعرف ((بالعَريف))، فيذكر ابنُ المأمون في حَوادث سنة 517 هـ / 1123م أن الوزير المأمون البطائحي أمَرَ واليي القاهِرَة والفُسْطاط باسْتِدْعاء عُرَفَاء السَّقْائين وأخْذ الحُجَج على المتعيِّشين منهم بالقاهِرَة بحضورهم متى دَعَت الحاجة إليهم ليلاً ونهارًا، وأن يُعْتَمد ذلك كذلك في القِرَبِييّن، وأن يبيتوا على بابِ كلِّ مَعُونَة ومعهم عشرة من الفَعَلَة بالطَّواري والمَسَاحي26.
ورغم أننا لا نملك تفصيلات دقيقة عن وَسَائِل النَّقْل في العاصِمَة الفاطمية فيمكننا أن نَظُنّ أنَّ الانْتِقال الداخلي في القاهِرَة والفُسْطاط وبين البلدين كان يتم بواسَطة ركوبات تُؤَجَّر. على كلِّ فناصِر خُسْرو يوري أنَّ كِبَارَ التُّجَّار وصِغارَهم في الفُسْطاط كانوا يتوجَّهون من مَنازِلهم إلى الأسْواق ممتطين الحُمُر المسرجة . ويضيفُ ناصِرُ أنَّه كان في كلِّ حيٍّ على رأس كلِّ شارع مجموعة من الحمير عليها بَرَادِع مُزَيَّنة مُعَدَّة للإيجار مقابل أجْرٍ زهيد. وفيما يقالُ فإنَّه كان هناك نحو خمسين ألف بَغْلَة مُعَدَّة للركوب كلَّ يوم . ولم يكن يَسْتَخْدم الخيل سوى الأجْنادِ والعسكريين أمَّا التُّجَّارُ والحِرَفيون ورجالُ الأقلام فكانوا يركبون الحمير27.
وكانت الحيواناتُ المُعَدَّة للركوب جاهِزةً في مَواِقف تُوجَد على رؤوس الشَّوارِع الرئيسة وأسواق الفُسْطاط . كما كانت مَواقِفْ الحمير في القاهِرَة تقع على العُمُوم بالقُرْب من مداخل المدينة . فابنُ سعيد، في أواسط القرن السابع هجري / الثالث عشر الميلادي، يذكر أنَّ من كان يريد التوجُّه من القاهرة إلى الفُسْطاط يجد عند بابِ زَويلَة عددًا لا يحصى من الحمير، لم يجد مَثيلاً له في بَلَدٍ آخر، معدًا لذلك28.
إدَارَةُ العاصِمَة
ما هي الطَّريقةُ التي كانت تُدَارُ بها هذه العاصِمَة وما هي المرافِقُ التي عرِفَتها والوَظَائِف الحَضَرية التي أدَّتها29.
لعلَّه من الغريب أنَّ المؤرخين المسلمين لم يُقَدِّموا لنا أبدًا صُورةً ولا حتى محاولةً لشَرْح التَّنْظيم المديني للعاصمة المصرية في العصر الإسلامي، وإن كان الطَّابِعُ الأكثر وُضُوحًا للعاصِمَة – إذا نظرنا إليها من زاوية إدارتها المدينة – هو الغَيْبَة شِبْه التامَّة للمؤسَّسات النوعية، سواء منها ما يمثِّل المنظَّمات الجماعية للشَّعْب أو تلك التي تنشئها السُّلْطاتُ الحاكمة، وهذا النَّقْصُ ليس ممَّا يثير الدَّهْشَة على الإطْلاق، فقَبْل كلِّ شيء وبصفة عامَّة، فإنَّ المُدُنَ الإسلامية لم تتَّبع نِظامًا انْتِخابيًا في اخْتِيار مَوَظَّفيها المسؤولين عن شؤون البَلَديات، لأنَّها لم تجد في الواقع ضَرُورَةً لتبنِّي نظامٍ من هذا النوع، إذْ يجب أن نتذكّر أنَّ المَدينَة الإسلامية لم تُكافِح أبدًا من أجْلِ اسْتِقلالها كما فَعلَت المُدُنُ الأوربية والإيطالية منها بصفة خاصَّة، في العَصْر نفسه، وهذا هو السَّبَبُ الذي من أجْله لم تَعْرف المَدينَةُ الإسلامية نفس نَمَط المؤسَّسات النوعية الذي عرفته المُدُنُ الأوربية، فقد كان مُوظَّفو المَدينَة الإسلامية أجمعون يختارهم الخَليفَةُ أو السُّلْطان.
فمن هم إذًا هؤلاء المُوَظَّفُون الذين اخْتَارهم الخَليفَةُ لإدارة العاصِمَة في العَصْر الفاطمي ؟ وما دورهم ؟ وما هو التَّطَوُّر الذي طرأ على وَظائِفهم في خِلال هذا العَصْر ؟
كانت إدارةُ العاصِمَة الفاطمية تستند إلى ثلاثة مُوَظَّفين رئيسيين هم : الوالي وصَاحِب الشُّرْطَة والمُحْتَسِب بالإضافَة إلى القاضي .
الوَالي وصاحبُ الشُّرْطة
كان الوالي وصَاحِبُ الشُّرْطَة دائمًا من أرْباب السُّيُوف30، وكان الذي يتولَّى وَظِيفَة الوالي يُعَدّ من ذوي المكانة العالية في الدَّوْلَة31. وقبل أن نُوَضِّح واجبات هذه المرتبة يجب أن نذكر أن صاحب الشرطة لم يكن كما يؤكد Goitein هو نفسه الوالي طوال العصر الفاطمي32، وإنَّما كانت هناك وظيفتان مختلفتان وإن كانتا متداخلتين في الاختصاص : صَاحِبُ الشُّرْطَة والوالي . غير أنَّه طَوال القرن الفاطِمي الأوَّل وحتى قُرْب نهاية القرن الخامس الهجري كان الذي يَحْفَظ النِّظام في المدينتين يُعْرف بـ ((صَاحِب الشُّرْطَة))، الموجود في الفُسْطاط يسمى ((صاحِب الشُّرْطَة السُّفْلى)) والموجود في القاهِرة يسمَّى ((صَاحِب الشُّرْطَة العُلْيا)). أمَّا مُصْطَلح ((الوالي)) فلم يظهر في مَصَادشر العَصْر الفاطمي إلاَّ مع نهاية القرن الخامس الهجري. فالمُسَبِّحي، الذي ألَّف تاريخه في أوائل حُكْم الفاطِميين في مصر، يستخدم فقط مُصْطَلَح ((صَاحِب الشُّرْطَة)) أو ((مُتَوَلّي الشُّرْطَة))33، ولا يذكر على الإطْلاق لفظ
((الوالي)) بينما يقابلنا لَفْظ ((الوالي)) بكثرة عند المؤرخين الفاطِميين المتأخِّرين وخاصَّةً ابن المأمون والمرتضى عبد السلام بن الحسن القيسراني ابن الطُوَيْر (ت617هـ/1220م) اللذين لا يذكران مصطلح ((صَاحِب الشُّرْطَة)) على الإطلاق34.
وهذا يعني أنَّ العاصمة الفاطِمية لم تعرف في القرنين الرابع والخامس للهجرة سوى وَظيفَة ((صَاحِب الشُّرْطَة)) التي اخْتَفَت بعد ذلك لتحلّ محلَّها وظيفة ((الوالي)) بحيث أنَّ مسؤوليات الشُّرْطَة والمحافَظَة على الأمْن أصبحت من ضِمْن اخْتِصاصات وَظيفَة ((الوالي)).
ويبدو أنَّ الشُّرْطَتَيْن العُلْيَا والسُّفْلى كانتا تُجْمَعان لشَخْصٍ واحدٍ خلال القرن الفاطِمي الأوَّل. فالمُسَبِّحِي يذكر أنَّ بَدْر الدَّوْلَة نافِذ الخادِم الأسْوَد كان يتولَّى الشُّرْطَتَيْن العُلْيا والسُفْلى في سنة 415 هـ35، وعندما تولَّى بَقِيّ الخادم الأسْوَد الشُّرْطَتَيْن في العام نفسه نَظَرا في الحِسْبَة مُضافًا إلى الشُّرْطَتين ثم صُرِفَ عن الحِسْبَة والشُّرْطَة بعد إعادة دَوَّاس بن يعقُوب الكُتَامي للحِسْبَة36. يؤيِّدُ ذلك ما ذكره القلقشندي من أنَّه رأى في بعض سِجلاَّت الفاطِميين إضافَة الحِسْبَة بمصر والقاهرة إلى صَاحشبي الشُّرْطَة بهما أحيانًا 37 .
ولا شَكّ أنَّ التطوُّر الذي عرفته وظائِفُ الإدارة في العاصِمَة المصرية في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي قد حَدَثَ في أعْقابِ زَوالِ
الأزمات المتتالية التي تعرَّضَت لها البلاد والعاصمَة بصفة خاصَّة في أواسط القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي. فقد اتَّضَحَ النِّظَامُ الإداري للعاصِمَة ولسَائِر الإقليم بعد الإصْلاحات الإدارية التي أدْخَلَها نِظَامُ بَدْر الجَمالي (ت 487 هـ/ 1094م) في العقد السابع لهذا القرن والتي قُسِّمت فيها مصر إداريًا إلى أرْبَعِ ولايات رئيسة هي: قُوص والشَّرْقية والغَرْبية والإسْكَنْدَرية38 بالإضافة إلى القاهِرَة والفُسْطاط39 ممَّا تَطَلَّبَ إنشاء وَظَائف ولاة لهذه الولايات السِّتّ كان يخرج لأصحابها، الذين كانوا من أرْبابِ السُّيُوف، سِجِلٌّ من الخَليفَة .
وظَهَر دَوْرُ والي القاهرة في تَنْظيم مَواكِب الخَليفَة من خلال النُّصُوص التي أوْرَدَها ابنُ الطُّوَيْر ووَصَفَ فيها المواكب العِظَام للدولة الفاطِمية والتي اسْتَقَرَّ ترتيبها في زَمَن خِلافَة الآمِر مع مطلع القرن السَّادس الهجري . فقد كان لوالي القاهرة مكان في الموكب يسير فيه40 ويتولَّى مع صَاحِب الباب الوقوف على رأسِ الطرق لمنع المارَّة في أياَّم جُلُوس الخَليفَة 41 وكذلك ترتيب العَساكِر وحِراسَة الطُّرُق التي يستخدمها الخَليفةُ في أيَّام الرُّكُوب 42.
مُوَظَّفٌ آخر كانت اخْتِصاصاته مُشابِهَة لصَاحب الشُّرْطَة، إلاَّ أنَّه كان يُؤَدِّي عمله فقط في أثناء اللَّيْل هو ((صَاحب العَسَس)) أو ((مُتَوَلّى الطوف لَيْلاً)) وكانت صَلاحيَّاتُ هذا الموظف، الذي كان يعمل تحت إشْراف الوالي، تتضمَّن الإشراف على القَصْر الخِلاَفي43 والقَبْض على السُّراق44، كما كان يصحبه دائمًا عَدَدٌ من السَّقَّائين والمَشَاعلية والنجَّارين والقَصَّارين والهدَّادين ((خَوْفًا من أن يحدث في القاهِرَة في اللَّيْل حَريقٌ فيتداركون إطْفاءَه ))45 .
ولا يعني اخْتِفاء وَظيفَة ((صَاحِب الشُّرْطَة)) في أواخِر العَصْر الفاطِمي أنَّ ((الوالي)) كان يقوم تمامًا بصلاحيات هذه الوظيفَة، بل كان هناك موظَّفٌ آخَرُ لم يَرد ذكره كثيرًا في المصادِر الفاطِمية يتولَّى مهمة صَاحِب الشُّرْطَة هو ((مُتَوَلِّى المَعُونَة)) أو ((والي المَعُونَة)) . وقد مَيَّزَ كتابُ ((تاريخ بطارِكة الكنيسة المصرية )) المنسوب إلى ساويرس بن المُقَفَّع بين مُتَولِّي المَعُونَة بمصر (الفسطاط) ومُتَولِّي المَعُونَة بالقاهرة الذي كان يشبه أن يكون نائبًا للوالي46. وتبدو بعض صَلاحِيَّاته من الأمْر الذي أصدره له حُسَامُ الملك صَاحِب البابِ عندما تَحوَّل الخليفَةُ الآمر بأحكام الله إلى مَنْظَرَة اللؤلؤة واهتم بسَكَن الدُّور المُطِلَّة على الخليج، حيث أمَرَه بالكَشْف عن الأدُرّ المطلة على الخليج قِبْلي اللؤلؤة وأن لا يُمْكِّن أحدًا من السَّكَن في شيءٍ منها إلاَّ من كان له مِلْكٌ كنوع من الإجْراءات الأمنية ليقيم بها حواشي الخَليفَة لحراسته47.
والمرَّة الوحيدة التي صادَفَني فيها ورود اسم ((مُتَولِّي المَعُونَة)) في وَثيقَةٍ رسمية هي أمْرُ الخَلِيفَة الآمِر للأمير مُتَولِّي المَعُونَة بمصر بقِراءَة سِجل التعزية في وَفاة الوزير الأفْضَل بن بَدْر الجمالي على منبر الجامِع العَتيق بمصر48 .
وللأسف لا تتوفَّر لدينا معلوماتٌ دقيقة عن الكيفية التي كان يُديرُ بها الوالي القاهرة أو الفُسْطاط على السواء. ولكن من حُسْن الحظ أنَّ القلقشندي حَفِظ لنا في ((صُبْح الأعْشَى )) نَصَّ سِجلٍّ خاصٍّ بوِلاية القاهِرَة صَادِر في نهاية الدَّوْلَة الفاطمية يحدِّدُ فيه الخَليفَة، وهو في الغالب الخَليفَة الفائِز أو الخَليفَة العاضِد، مكانَة مَدينَة القاهرة ومَهامّ الوالي ومسؤولياته. يَصِفُ فيه مكانه المدينة بقوله :
((واعلم أنَّ هذه المَدينَة هي التي أُسِّس على التقوى بُنْيانُها، ولها الفَضيلَةُ التي ظهرَ دليلُها ووَضَح برهانُها؛ لأنَّها خُصَّت بفَخْرٍ لا يُدْرَك شَأْوُه ولا تُدْرَك آمادُه، وذلك أنَّ منابِرهَا لم يُذْكَر عليها إلاَّ أئمةُ الهدى آباءُ أمير المؤمنين وأجدادُه، ثم إنَّها الحَرَمُ الذي أضْحَى تقديسُه أمرًا حتمًا، وظَلَّ ساكنُه لا يخَافُ ظُلْمًا ولا هَضْمًا، وغَدَت النعمةُ به متمَّمةً مكمَّلة))49.
ثم يُحدِّد وظيفة الوالي ومسؤولياته بقوله :
((فاشْمَل كافَّة الرعايا بها بالصِّيانة والعِناية، وعُمَّهم بتامِّ الحِفْظ والرِّعاية وابسُط عليهم ظِلَّ العدل والأمَنة، وسِرْ فيهم بالسيرة العادلة الحَسنَة، وساوِ في الحقِّ بين الضعيف والقوِيّ، والرَّشيد والغَوِيّ، والمِلِّيّ والذِّميّ، والفقيرِ والغنيّ، واعتمدْ مَنْ فيها من الأمراء والمميَّزين، والأعيان المقدَّمين والشهود المعدَّلين، والأماثل من الأجناد، وأرباب الخِدَم من القوَّاد بالإعزاز والإكرام، وبَلَّغهم نهاية المُراد والمَرَام، وأقمْ حدود الله على من وجبت عليه بمقتضى الكتاب الكريم وسُنَّة محمدٍ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتفقَّد أمور المتعيِّشين، وامْنَعْ من البَخْس في المكاييل والموازين، وحَذِّر من فسادٍ مُدْخَلٍ على المطاعم والمَشَارب وانْتهج في ذلك سبيل الحق وطريق الواجب، واحظر أن يخْلُو رجلٌ بامرأة ليست له بمَحْرَم، وافعَل في تنظيف الجوامع والمَسَاجد وتنْزيهها عن الابتذال بما تُعَزُّ به وتُكْرم، واشدُد من أعوان الحُكْم في قَوْد أبَاة الخصوم. وأوْعِز إلى المستخْدَمين بحِفْظ الشارع والحَارَات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، وواصل التَّطْواف في كل ليلة بنفسك في أوْفَى عِدَّة و أظهر عُدَّة . . . وطالع مجلس النظر الأجليّ المَلَكي بما تحتاج إلى علمه ))50.
وحَسَب ما وَرَدَ في هذا السِّجلّ نجد أنَّ والي القاهرة كان يَجْمع وَظائف الحِسْبَة والشُّرْطَة بالإضافة إلى مهامِّه الإدارية والتي تَشْمل في الأساس تنفيذ أوامِر الخَليفَة والمحافظة على الأمْن والنِّظام، والنَّظَر في قضايا العقوبات والإجْرام وتولِّى تنفيذ الأحْكام كالسِّجْن أو التَّحْذير أو الجَلْد، بالإضافة إلى قِيادَة مَواكِب الخَليفَة في أيَّام الرُّكوب والمواسِم والتي أتى على تفصيلها ابنُ الطُّوَيْر .
ومن ناحيةٍ أخرى فقد حَفِظَ لنا القلقشندي نَصَّ ثلاثةِ سِجلاَّتِ أخرى خاصَّة بتولية والي الفُسْطاط صادِرَة جميعُها أيضًا في نهاية العصر الفاطِمي يحدِّد فيها الخَليفَة مكانَة الفُسْطاط بأنَّها (( المجاوِرَةُ لمحلّ الخِلافَة، وكلُّ مصر بالنسبة إليها معها بالإضافَة، وهي خِطَّة النِّيل وفُرْضة المَنيل . . . ولا يؤهَّل لولايتها إلاَّ كلّ حاملٍ لعِبْئها الثَّقيل، ولا تُسْنَد الخِدْمَةُ فيها إلاَّ لكلِّ مثْرٍ من ذَخائِر السِّياسَة غير فقير ولا مُقِل))51 وأنها ((من أنْفسِ الولايات محلاً، وأثبتها على غيرها فَضْلا، بمجاوَرتها للمَقام الكريم، وحُصُولها من اسْتِقْلال الرِّكاب الشَّريف إليها على الشَّرَفِ العظيم، واختِصاصِها في مَجَال الخِلافَة بما جَمَع لها بين الفَخْرين الحادث والقديم، وأوْجَب لها على غيرها من البِلادِ مزيَّةً ظاهرةَ التكريم والتقديم . . . . ))52.
كذلك حَدَّدَ الخَليفَةُ في كلِّ هذه السِّجِلاَّت الثلاثة وَضْعَ أهْلِ الفُسْطاط وطَبَقتهم فقال إنَّها مَدينَة ((الفُقَهَاء والأتْقِياء والقُرَّاء و العُلَماء))53، ((والتُّجَّار الذين هم عَيْنُ الحَلال والحَرام والرَّعِيَّة الذين هم قِوامُ العَيْش في الأيام))54.
وبعد ذلك يوجِّه الخَليفَةُ الوالي إلى اتِّباع نفس السِّياسِة التي يقوم بها والي القاهرة من حيث الإشْراف على النِّظام والأمْن والقِيام بواجب المُحْتَسِب. وتبعًا لهذه السِّجِّلات فقد كان والي الفُسْطاط يتولَّى بالإضَافَةِ إلى عمله وِلاية الصِّناعتين55.
وأوَّلُ ما يقابلنا ذِكْر اسْم والٍ القاهِرَة في المصادر الفاطِمية في أثناء حوادث سنة 490 هـ / 1096م كما يرويها لنا ابنُ مُيَسَّر56 وذلك عندما ذَكَرَ ذَخِيرَة المُلْك جَعْفَر بنِ عُلْوان الذي عاقَبَ في هذه السنة (1096م) عَددًا من العامَّة لسَبِّهم الصَّحابةَ في يوم عاشوراء عند مَشْهدِ السَّيِّدَة نَفيسَة 57. وقد ظَلَّ ذَخِيرَةُ المُلْك واليًا للقاهِرَة حتى وزارة المأمُون بن البطائحي ، وهذا الوالي هو وسَعْد الدَّوْلَة الأَحْدَب، الذي كان واليًا للقاهرة في زَمَن الآمِر، الاسمان الوحيدان اللذان حَفِظتهما لنا المصادِرُ الفاطمية 58.
وعندما تَوَلَّى الوَزيرُ شَاوَر الوزَارَة للخَليفَة العاضِد للمرة الثانية بعد انتصاره على ضِرْغام في سنة 559 هـ / 1163م عيَّن الخَليفةُ ابنه الكامل شُجَاعًا نائبًا لأبيه في الوزَارة كما عَهدَ إليه في سِجلّ توليته بالإشْرافِ على مَدينَة القاهرة لتأمينها من الفَوْضَى التي أحاقَت بها على أيْدي شِحْنَة الفِرنْج ( التي تركها عَمُوري الأوَّل ملك بَيْت المَقْدِس ) وبسبب انْتِقالِ أهْل الفُسْطاط إليها بعد حَريق مَدينتهم59 .
وقد أدَّت العنايةُ بتَعْمير البَرِّ الغَرْبي لخليج القاهِرَة منذ بداية القرن السَّادس الهجري إلى ضَرُورَة تعيين والٍ خاصٍّ بجامكية لهذا الجانِب وإن لم تُحَدِّثنا المصادِرُ عن طَبيعَة دَوْر هذا الوالي60.
ولعلَّ من أهَمِّ الواجبات التي أسْنِدَت إلى واليي القاهرة والفُسْطاط الأمْر الذي أصْدَرَه إليهما الوزير المأمون البطائحي سنة 518 هـ / 1124م وأمرهما فيه ((أن يٍسَقِّعا له شارعًا شارعًا وحارةً حارةً بأسماء من فيها من السُّكَّان وأن لا يمكِّنا أحدًا من الانتقال من منْزلٍ إلى مَنزلٍ إلى أن يخرج أمره بما يعهداه فيه)) لم يكن هذا التَّكْليف بغَرَض إحْصَاء السُّكَّان وإنَّما خَوْفًا من الفِرْقَة الحَشيشية . فقد كانت الأماكِنُ الشَّاغرة تمثِّل تهديدًا للدَّوْلَة وعلى ذلك أصبحت المباني أماكن ممنوعة ولابد من إرسال تقريرٍ عنها إلى السُّلْطات . وعندما وصَلَت إليه أوراقُ التَّسْقيع وفيها أسماءُ أهْل مصر والقاهرة وكُنَاهُم وأحوالُهم ومعايشُهم ومن يصل إلى كُلِّ ساكِنٍ من سُكَّان الحارات من الغُرَباء، أرْسَلَ المأمون من قِبَله نساءً يدخلن هذه المساكن ويتعرَّفن أحْوال سكانها الدَّاخلية ولمعرفة إذا كان هناك غُرَبَاء يقيمون في البلدين بحيث أصبح لا يخفى عليه شيء من أمرهما 61.
وكان لكلِّ قطاع سَكَني أو حارَة في العاصمة ( القاهرة والفُسْطاط ) مُشْرفٌ خاصٌّ بها يسمى ((صَاحِب الرُّبْع))62. كان هذا المُوَظَّف هو وأعوانه أوَّلَ من يتحرَّكون عندما يُهَدِّد النظامُ العام . وكان من اختِصاصاتِه جَمْع سُكَّان الحارة وقيادَتهم للقاء الخليفَة عندما يدخل في مَوْكِبٍ عام إلى المَدينَة 63 .
ونعرف عن طريق وَثائِق الجِنيزَة أنَّ مَصاريفَ تكاليف العناية بالشَّوَارع كانت واجبةً على المباني التي تحدُّها . وكانت عملية الإصْلاحِ تتمّ تحت إشراف صَاحب الرُّبْع أو المُلاّك أنفسهم64 .
المُحْتَسِب والقاضي
وإذا جاز لنا أن نعتبر الوالي وصَاحِب الشُّرْطَة موظَّفيْن مدنيين، لأنَّ واجباتهما لم تكن مرتبطةً بالمسائل الدِّينية ارتباطًا مباشرًا (فيما عدا إشرافهما على الحِسْبة)، فقد كان المُحْتَسشبُ على عكس ذلك موظَّفًا دينيًا في الأساس مثله في ذلك مثل القاضي .
كانت الحياةُ في القاهرة طَوال العَصْر الفاطمي، أو على الأقل حتى نهاية القرن الخامس الهجري، بسيطةً خاليةً من الأسْواق العامَّة تقريبصا بحيث إنَّها لم تتطَلَّب وُجُود مثل هذا الموظَّف، بعكس الفُسْطاط المركز التجاري والاقتصادي الكبير العامِرة بالأسْواق و البَضائِع ممَّا جعلَ وُجُود المُحْتسِب أمرًا ضروريًا للإشراف على الأسْواق ومراقبة الأسعار .
كانت مهامُّ المُحْتَسِب متنوّعة وتتراوح بين الإشْراف على التجارة والصِّناعة إلى تطبيق الشَّريعة والأمْر بالمعروف والنَّهْي عن المُنْكَر65 . وكان سجله يُقْرأ بمصر والقاهرة على المنبر، وكان له أعْوانٌ في القاهرة والفُسْطاط وسائر الأعمال كنُوَّاب الحكم . وكان من العوائِد في الدَّوْلَة الفاطمية، دون شك قرب نهايتها، أن يجلس بالجامع الأزْهَر وجَامِع عَمْرو يومًا بعد يوم 66. وكان المُحْتَسِبُ يتقاضى مرتبًا شهريًا قدره ثلاثون دينارًا67.
ولا نستطيع أن نعرف بدقَّةٍ إذا كان المُحْتَسِب موظَّفًا حكوميًا بمعنى الكلمة كما يبدو ذلك واضحًا من كتب الحِسْبة التي كتبت ابتداء من بداية العصر الأيوبي، أو كان رئيسًا لطائفة حِرَفية، فمعلوماتُنا عن العُصُور الإسلامية الأولى لا تفيدنا في التعرُّف على نشأة أية تجمُّعات خاصَّة ذات دور حِرَفي . ولكننا نجد في كتاب ((إغاثة الأمَّة)) للمَقْريزي نصًّا يحوي سلسلةً من الإشارات الدقيقة عن الحياة الاقتصادية في مصر في منتصف القرن الخامس الهجري وعن ذِكْر الأسْواق والطَّوائف والعُرَفاء والحِسْبة.
يشيرُ هذا النَّصّ بوضوح إلى أنه كان لكلِّ سوقٍ من أسْواقِ الفُسْطاط فيما يخصّ إشرافه الداخلي إلى جانب المُحْتَسب وأعْوانه، الذين يمثلون في الحقيقة الحكومة الفاطمية، رئيسٌ مفوَّض عنه في الاتّصالِ بالحكومة يعرف بالعَرِيف 68. وكذلك كان لكلِّ طائفةٍ رئيس مماثل، فابن المأمون يحدِّثنا عن عُرَفَاء السَّقَّائين69.
أمَّا القاضي فقد كان موظَّفًا دينيًّا أصلاً، وكان واجبه الأوَّل إقامة العَدْل على أساس الشَّريعَة، ومن ثم فقد كان من الضَّروري أن يكون ضَليعًا في الفِقْه خبيرًا بأحكامه. يقول ابنُ الطُّويْر : ((لا يتقدَّم عليه أحدٌ أو يحتمي عليه، وله النَّظَر في الأحْكام الشَّرعية ودور الضَرْب وضَبْط عيارها))70. وإذا كان وزير الدولة صاحب سيف كان تقليده من قِبَله نيابةً عنه وإن لم يكن كان تقليده من الخليفة وكان له نُوّابٌ ينوبون عنه في سائر الإقليم يعرفون بنوَّاب الحُكْم، وكان لا يعدِّل شاهدًا إلاّ بأمر الخليفة 71.
وكان القاضي يجلس يوم الاتنين والخميس بالقصر بالقاهرة، ويجلس يومي السبت والثلاثاء بزيادة الجامع العتيق بمصر72.
وكان أهم اختصاصاته مصاحبة الخليفة في المواكب العظام والوقوف بجانبه عند صلاة الجمعة أو صلاة العيدين73 وهو الذي يضع النَّصْل في نَحْر الضحية في عيد النحر نيابة عن الخليفة74، كما كان من اختصاصاته كذلك الصلاة على الجنائز 75 وكان يتقاضى راتبًا قدره مائة دينار في الشهر76.
>> في العَصْر المملوكي
شهِدَت القاهرةُ الفاطمية (الواقعة داخل الأسْوار الفاطمية) حركةً عُمْرانيةً واسعةً منذ اسْتيلاءِ الأيُّوبيين على السُّلْطة، وأحْدَثَت المنشآتُ الضَّخْمة التي أقامها السَّلاطينُ والأُمَراءُ تَغْييرًا في وَسَطِ المَدينَة التَّقْليدي الذي كان يشغله في العَصْرِ الفاطمي القَصْرُ الكبير الشَّرْقي والقَصْرُ الصَّغير الغربي . فقد حَلَّت المَدَارِسُ التي أدْخَلَها الأيُّوبييون إلى مصر مَحَلَّ القُصُورِ الفاطمية ابتداءً من المَدْرَسَة التي أنشأها الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّين أيُّوب في موضع الرُّكْن الجنوبي الغربي للقصر الفاطمي الشَّرْقي ثم المدارس التي أنشأها على التوالي الظَّاهِرُ بيْبَرْس والمَنْصُور قلاوون والنَّاصِرُ محمد بن قلاوون والظَّاهِرُ بَرْقُوق والأشْرَفُ بَرْسباي إضافةً إلى القَصْر الذي شَيَّده الأمير بَشْتاك والتي جَعَلَت من وَسَط القاهرة الفاطمية ما يُشبه المَدينَة الجامعية .
ونَدينُ بمعرفتنا عن وَضْعِ مَدينَة القاهرة ونَسيجِها العُمْراني حتى نهاية القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي للوَصْفِ الشَّامِل الذي قَدَّمه لنا المقريزي في كتابه الرَّائد ((المَواعِظ والاعْتبار في ذِكْر الخِطَط والآثار)) للمُنْشضأت الدِّينية والاقتصادية وذات الطابع الاجتماعي التي كانت تَذْخَر بها القاهرةُ في هذا الوَقْت. وبالرَّغم من أنَّ المقريزي ألَّف كتابه في فترةٍ حرجة من التاريخ المصري، هي فترة انتقال السُلْطة من المماليك البحرية وأسرة قلاوون إلى المماليك الشَّراكسة وأسرة بَرْقُوق، فإنَّ المقريزي لم يهمل عنصرًا واحدًا من العناصر التي كانت قائمةً في هذا العَصْرِ .
كان المركزُ السِّياسي للدَّوْلَة قد انتقل نهائيًا منذ مطلع القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي إلى ((قَلْعَة الجَبَل ))، وتركز النشاطُ الاقتصادي والدِّيني في قلب القاهرة الفاطمية حيث أقام الجزء الأكبر من سُكَّان العاصمة، وفي القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي تَمَّت بشكلٍ واضح الأحياءُ الجنوبية الواقعة خارج باب زَوِيلَة والممتدّة شرقًا إلى قَلْعَة الجَبَل ومَيْدان الرُّمَيْلَة وجنوبصا حتى صَليبة ابن طولُون، وشهدت هذه المنطقة وعلى الأخَصِّ في عَصْر النَّاصر محمد بن قلاوون الطويل إنشاء العديد من المساجد الجامعة والمدارس والدُّور والقُصُور التي أنشأها جَميعًا كبارُ أمراء النَّاصر محمد بن قلاوون حيث نشأ حَيٌّ سكنه كبارُ الأمراء في قُصُورٍ انتشرت حول بركة الفيل بالقُرْب من مركز الحُكْم في قَلْعَة الجَبَل .
نائِبُ الغَيْبَة
كان السُّلْطانُ المملوكي والأمراءُ المماليك هم الذين يُديرون العاصمة المصرية، سواء فيما يتعلَّقُ بالشُّؤُون اليومية أو ما يتعلَّق بحركة التَّعْمير والتَّشْييد ويَتِّضِحُ لنا مدى اتِّساع مجال تَدّخُّل السُّلْطان أو من يُنيبه في الإشراف ( نائِب السُّلْطَنَةَ ) عند اطِّلاعنا على ((التَّذْكِرة)) التي كَتَبها في ذي الحِجَّة سنة 679 هـ / آذار 1281م، القاضي أبو عبد الله محمد بن المكرَّم بن أبي الحسن الأنْصاري الكاتِب للأمير زَيْنِ الدِّين كَتْبُغا المَنْصوري ((نائِب الغَيْبَة)) عندما أسْنَدَ إليه السُّلْطانُ المَنْصُور قَلاوون إدارةَ شؤون مصر و القاهرة أثناء تَغَيُّبه في دِمَشْق . وتُعْطينا هذه ((التَّذْكِرَةُ)) ـــ التي حَفِظَ لنا نَصَّها كلٌّ من المؤرِّخ محمد ابن عبد الرَّحيم بن الفُرات وكاتب الإنْشَاء أبي العَبَّاس أحمد بن علي القَلْقَشَنْدي ــ فكرةً عن مفهوم السَّلاطين عن مسؤولياتهم تجاه العاصِمَة؛ فممَّا وَرَد فيها مُخْتصّا بالقاهِرَة :
((أن لا يَمْشي أحَدٌ بالمَدينَة ولا ضَواحيها في الحُسَيْنِيَّة والأحْكار في اللَّيْلِ إلاَّ لضَرُورَةٍ ولا يَخْرُجُ أحَدٌ من بيته لغير ضَرُورَةٍ ماسَّة، والنِّسَاءُ لا يَنْصرِفْن في اللَّيْلِ ولا يخرُجْن ولا يمشين جِملة كافيةً )) .
وأن تُحْرَس الحُبُوسُ وتُحْفَظ باللَّيْل والنَّهار وتُحْلق لحى الأسارى كلِّهم من فِرِنْج وأنْطاكيين وغيرهم ويُعْتَمَدُ ذلك فيهم كلما تَنْبُتُ، ويُحْتَرَزُ في أمْرِ الدَّاخِل إلى الحُبُوس ويُحْتَرَزُ على الأسارى الذين يُسْتَعْمَلون والرِّجال الذين يخرُجون معهم، ويُقامُ الضُّمَّانُ الثِّقَاتُ على الجانْدارية الذين معهم، ولا يُسْتَخْدَم في ذلك غريبٌ ولا من فيه ريبَة، ولا تبيتُ الأسارى الذين يُسْتَعْمَلون إلاَّ في الحُبُوس، ولا يخرج أحَدٌ منهم لحاجَّةٍ تَخْتَصُّ به ولا لحمَّامٍ ولا كنيسة ولا فُرْجَة، وتُتَفَقَّدُ قيودُهم وتثوثَّق في كلِّ وَقْت، ويُضاعَف الحَرَس في اللَّيْل على خِزانَةِ البُنُود باطنها وظاهِرها وعُلوّها وحوْلها و كذلك خِزانَةِ شَمائِل وغيرها من الحُبُوس)) .
وأشارت ((التَّذكرة)) كذلك إلى ضَرُورَة أن ((يُرَتَّب جَمَاعَةٌ من الجُنْد مع الطُّوْفِ في المَدينَة لكَشْفِ الأزِقَّة وغَلْقِ الدُّرُوب وتَفَقُّد أصْحابِ الأرْباع وتأديب من يخلّ بمركزه من أصْحاب الأرْباع، وتكون الدُّرُوب مغْلَقة ، وكذلك يُجَرَّد جَماعَةٌ بالحُسَيْنِيَّة والأحْكار وجميع المراكز ويعتمد فيها هذا الاعتماد، ومن وُجِدَ في اللَّيْل قد خالَفَ المَرْسُوم وتَمَشَّى لغير عُذْرٍ يُمْسَك ويُؤَدَّب )) .
وأن (( يُحْتَرز على الأبْوابِ غاية الاحْتِراز وتُتَفَقَّد في اللَّيْل خارجها وباطنها وعند فَتْحها وغَلْقشها الأماكِنُ التي يجتمع فيها الشَّبابُ وأولو الزَّعارة ومن يتعانى العَبَثَ والزَّنْطَرَة لا يُفْسَح لأحَدٍ في الاجتماع بها في ليلٍ ولا نَهارٍ ويكفّون الكفّ التَّام بحيث تقوم المَهابَة وتَعْظُمُ الحُرْمَةُ ويَنْزَجرُ أهْلُ البَغْي والعَبَث )) .
و((يُرَتَّبُ المُجَرَّدون حَوْلَ المدينتين بالقاهرة ومصر المحروستين على العادة وكذلك جِهَةُ القَرافَة وخَلْفَ القَلْعَة وجِهَة البَحْر وخارجُ الحُسَيْنِيَّة ولا يُهْمَل ذلك ليلةً واحِدةً، ولا يُفارقُ المُجَرَّدون مَراكزَهم إلاَّ عند السُّفُور وتكاملِ الضَّوء )) .
و((يُتَقدَّم بأن لا يجتمع الرِّجال والنِّساءُ في ليالي الجُمَع بالقرافتين وتُمْنَعُ النِّسَاءُ من ذلك)). و((يُهْتَمُّ بعَمَلِ وحَفْرِ وإتْقَانِ خَليج القاهِرَة ومصر المحروستين في وقته بحيث يكون عَمَلاً جَيِّدًا مُتْقَنًا من غير حَيْفٍ على أحَدٍ بل كلّ أحَدٍ يعمل ما يلزمه عملاً جَيِّدًا)) .
و((جُسُورُ ضَواحِي القاهرة يُسْرَع في إتْقانها وتعريضها ويُجْتَهضد في حُسْن رَصِّها وفَتْح مَساربها وحِفْظها من الطَّارِق عليها وتبقى متقنةً مكملة إلى وَقْتِ النّيل المبارك ولا تخرج في إمْرتنا عن العادة ولا يحتمى أحَدٌ عن العَمَل فيها عمَّا يلزمه ويحمل الأمْر في جَرارِيفها ومَقَلْقِلاتها على ما تَقَدَّمَت به المراسِيمُ الشَّريفَة في أمْرِ الجُسُور القَريبَة والبَعيدَة))77.
وإلى جانب ذلك كان يتقاسَم إدارَة القاهرة وشُؤون سُكَّانها في العَصْرِ المملوكي ــــ تمامًا مثل العَصْر الفاطمي ـــــ ثلاثُ فِئات : أصْحابُ الشُّرْطة والقُضَاةُ والمُحْتَسِبون .
الوالي وصَاحِبُ الشُّرْطَةِ
كان صَاحِبُ (وَالي) الشُّرْطة هو المسؤول عن حِفْظ النِّظام والأمْن العام، ومثلما كان الحالُ في العَصْر الفاطِمي نُظِّمضت شُرْطَةُ العاصِمَة في العَصْر المملوكي إلى: ((شُرْطَة عُلْيا)) تَشْمَل القاهرة وامتداداتها الجنوبية حتى قَناطِر السِّباع (السيدة زَيْنَب حاليًا )، و((شُرْطَة سُفْلى)) في مصر أو الفُسْطاط التي أضيف إليها الإشْرافُ على القَرَافَة . كانت رُتْبةُ صَاحِب شُرْطة القاهرة إمْرةَ طَبْلَخاناه، وصَاحِب شُرْطة الفُسْطاط إمْرَة عشرة، ثم لما أُضيفَ إليه الإشْرافُ على القَرَافَة أصبح أمير طَبْلَخَاناه إلاَّ أنَّه لا يّبْلُغ شأو صاحِب شُرْطَة القاهرة. أمَّا مَرْكَزُ الحُكْم، قَلْعَة الجَبَل، فكان يتولَّى الإشْراف على النِّظام والأمْن بها واليان: والي القَلْعَة وهو أمير طَبْلَخاناه و((له التَّحَدُّث على باب القَلْعَة الكبير الذي منه طُلُوع عامَّة العَساكر ونُزُولُهم في الفَتْح والغَلْق ونحو ذلك ))؛ ووالي باب القُلَّة، وهو أمير عشرة، وله التَحَدُّث على هذا الباب وأهْله فقط78 .
يقول المَقْريزي، عند ذكره لسُوق الجَمَلُون الكبير المُتَوَصَّل منه إلى البُنْدُقانيين وإلى حارة الجَوْذَرية، كان ((يجلس تجاهه ((صَاحِبُ العَسَس)) ــــ الذي عرفته العامَّة في زماننا بوالي الطَّوْف ـــ من بعد صَلاَةِ العشاء في كلِّ لَيْلَة، ويُنْصَبُ قُدَّامه مَشْعَلٌ يُشْعَلُ بالنَّار طول الليل، وحوله عِدَّةٌ من الأعْوان وكثيرٌ من السَّقَّائين والنَّجَّارين والقَّصَّارين والهَدَّادين بنُوَبٍ مقرَّرة لهم، خَوْفًا من أن يحدثُ بالقاهرة في الليل حَريقٌ فيتداركون إطْفاءه. ومن حَدَث منه في الليل خُصُومةٌ أو وُجِدَ سَكْرانًا، أو قُبِضض عليه من السُّرَّاق، تولَّى أَمْرَه والي الطَّوْف وحَكَم فيه بما يَقْتضيه الحالُ))79.
ويُضيف المقريزي أن والي القاهرة دولات خُجا – أحد المماليك الظاهرية – عندما تولَّى، في سنة 835 هـ / 1432م، بدأ في الإفْراج عن أرْباب الجَرَائم من سِجْنهم وحَلَف لهم أنَّه متى ظفر بأحَدٍ منهم وقد سَرَقَ ليوسِّطَنه وأرْهَبَ إرْهابًا زائدًا، وركب في الليل و أمْضى وَعيدَه في السُّرَّاق، فما وَقَعَ له سارِقٌ إلاَّ وَسَّطه، فذَعر النَّاسُ منه 80. وأكثر دولات خجا من الركوب ليلاً ونهارًا بفُرْسانه ورجالته، وألْزَم الباعَة بكَنْس الشَّوارع ثم رشّها بالماء، وعاقَبَ على ذلك، ومَنَع النساء من الركوب إلى التُّرَب في أيَّام الجُمَع81.
ونَظَرًا لتَجَبُّر هذا الوالي ولاَّه السُّلْطان بَرْسباي حِسْبَة القاهرة في سنة 841 هـ / 1438م، ((رَغْبَةً من السُّلْطان في جَبروته وقَسْوته وشِدَّة عقوبته وقلِّة رحمته ))82. وتوفي دولات خُجا في نهاية هذا العام .
وعندما اشتكى النَّاسُ من قَسْوَة دولات خُجا، عَزَلَه نائِبُ الغَيْبَة عن ولاية القاهرة واستقر حالُ النَّاس ((لحُسْنِ سيرة نائب الغَيْبَة وتشبته وإظهار العَدْل مع كثرة الأمن ورَخَاء أسعار عامة المبيعات كلها))83.
كان الوالي (صّاحِب الشُّرْطة) هو المنوط بتَنْفيذ العُقُوبات، وقد عرف العَصْرُ المملوكي أنواعًا من العُقُوبات لم تكن تُعْرَف من قَبْل مثل : ((التَّنْصيف)) أو ((التَّوْسيط)) و((العَصْر)) و((التَّسْمير))، كما كان االوالي مسؤولاً أيضًا على تنفيذ العقوبات الطويلة الأمد مثل: التَّرْسيم ـــ أي تَعْويق الشَّخْص ومنعه من التَّصَرُّف بنفسه84، والسَّجْن. وقد انْتَشَرَت السُّجُون بالقاهرة ومصر وأشهرها : حَبْس المَعُونَة بالقاهرة، وخِزانَةِ شَمائل بجوار باب زَوِيلَة (التي حَلَّ محلَّها جامع المُؤَيَّد شَيْخ) والمَقشَرَة بجوار باب الفتوح85 . ووَصف المقريزي معاناة المسجونين في سُجُون الولاة وما كان يحل بهم من البلاء وتَسْخيرهم في الأعمال الشَّاقَة من حَفْر وبناءٍ للعمائر86.
القاضي والمُحْتَّسِب
كان القُضاةُ في العَصْر الفاطمي يُمَثِّلون المَذْهَب الإسماعيلي مذهب الدَّوْلَة، ولكن في فترة الانْقشلاب الذي قادَه الوزيرُ أ بو علي الأفْضَل كُتَيْفات في أعقاب وَفاة الإمام الآمر بأحكام الله سنة 524 هـ / 1130م عَيَّن في سنة 525 هـ / 1131م أربعة قُضاة : اثنين من الشِّيعة أحدهما إمامي والآخر
إسماعيلي، واثنين من السُّنَّة أحدهما شافعي والآخر مالكي، كلٌّ منهم يَحْكُم بمَذْهَبه ويُوَرِّث بمَذْهَبه، وعَلَّقَ على ذلك ابنُ مُيَسَّر ((بأنَّه لم يُسْمَع بمثل هذا في المِلَّة الإسلامية من قبل))87. ولكن هذا الوَضْع لم يستمر طويلاً فسُرْعان ما قُضِي على انْقِلاب أبي علي الأفْضَل، وفي عصر الدولة الأيُّوبية استمَّر العَمَلُ بقاضٍ واحِد كان يُمَثّل المَذْهَب الشَّافِعي .
ولكن اعتبارًا من سنة 666 هـ / 1268م قَدَّر السُّلطانُ الظَّاهِرُ بيبرس، المُوَسِّسُ الحقيقي لدولة المماليك البحرية، أربعة قُضاة بديار مصر: شافِعي ومالكي وحَنَفي وحَنْبَلي، يقول المقريزي: ((فاسْتَمَرَّ الأمْرُ على ذلك إلى اليوم))88. وكان القُضاة يتمتَّعون بسُلْطاتٍ قضائية واسعة على الأحْوال الشَّخْصية وعلى العَديد من المشاكِل وعلى الأخَصّ المتعلِّقَة بمسائل الوَقْف والاسْتِبْدال .
وكان لكُلِّ قاضي قُضاة أعْوانٌ ينُوبون عنه يُسَمَّون ((نُوَّاب الحُكْم))89. كما كان يخْتار جماعَةً من الشُّهُود يعرفون بــ ((الشُّهُود العُدُول )) .
وفي عَهْد سلاطين المماليك تنامى الدور الأخْلاقي والاجتماعي للمُحْتَسِب نظرًا لتفَشي شُرْب الخَمْر والتَّجاهُر به وتعاطي الحشيش وزيادة عَدَد الغَواني حيث كانت تَفْرضُ عليهم الدَّوْلة ضريبة تعرف بضمان المغاني وكانت تنوب عنهم في ذلك امرأة تُعْرَف بــ ((ضامِنَة المَغَاني )) .
أمَّا الدَّور الاقتصادي للمُحْتَسب، وهو الإشْراف على الأسْواق، فقد تَراجَع هو الآخر نظرًا لتعدُّد الأزمات الاقتصادية التي شهدتها البلاد. واعتبارًا من القرن التاسع الهجري نَلْحَظُ بداية انْهيار هذه الوظيفة الدينية الهامَّة التي أرجعها الدكتور أحمد دَرَّاج إلى عوامل ثلاثة : تَدَخُّل كبار الأمراء في تولية أعوانهم في هذه الوظيفة لخدمة مصالحهم؛ وأصبح تَولّي المُحْتسب يتم عن طريق ((البَذْل))، أي شراء الوظيفة بمبلغ من المال يُدْفَع مقدّمًا؛ ولم يعد توليها قاصرًا على الفقهاء والمتعممين إنما تعدَّاها - منذ عهد السلطان المُؤيَّد شيخ ـــ إلى الأمراء أصحاب السُّيُوف ثم اقْتَصَرَت أخيرًا عليهم 90.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: صفحات من تاريخ دمشق، و دراسات أخرى، 2006، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 163-198. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |