الصحة حقاً من حقوق الإنسان

شارك:

محمد هيثم الخيّاط

يعدّ حقّ الحياة – في نظر الإسلام – أهمّ حقوق الإنسان بعد حقّ الحرية. برهـان ذلك قول اللّـه عزوجل في سورة البقرة: ﴿والفتنة أشدّ من القتل﴾ (الآية 191)، ﴿والفتنة أكبر من القتل﴾ (الأية 217). وذلك نص صريح على أن الفتنة التي هي «سلب الحرية» أشد من «سلب الحياة» أن الحرية أهم من الحياة ذاتها. وليس ذلك بغريب إذا تـذّكرنا أن إنسانية الإنسان تكمن في هذه الحرية. وأن اللّـه جل جلاله قد أسجد ملائكته لهذا المخلوق الحر، الذي يستطيع بملء إرادته أن يـؤمن أو بكفر، وأن يطيع أو يعصي، وأن يحسن أو يسيء.

ولكن حقّ الحياة يتبع حقّ الحـرية مباشرة – في نظر الإسلام – فقد كتب اللّـه على نبي إسرائيل وغير بني إسرائيل أنه ﴿من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ (المائدة: 32)، والإحياء والقتل – في ظّني – غير مقصورَيْن على الإحياء المادي والقتل المادي، وإنما يشملان الإحياء المعنوي والقتل المعنوي أيضا وواضح أن المقصود بالإحياء في الآية الكـريمة هو المحـافظة على الحياة، لأن اللّه عز وجل هو وحده الذي يمنح الحياة أو قل هو الذي ﴿يحيي ويميت﴾ (آل عمران: 156) إحياء حقيقيا وإماتة حقيقية. فحين نتحدث عن الحياة حقاً من حقوق الإنسان، فنحن نعني حقّ المحـافظة على الحياة، ماديا ومعنويا، ولا يكتمل هذا الحقّ ما لم يتمتع الإنسان بصحة طيبة، ويعش في بيئة طيبة، فهذان الحقّان جزءان لا يتجزآن من حقّ الحياة.

على أن حقوق الإنسان في الإسلام تمثّل مـزيجا عجيبا يمتزج فيه الحقّ بالواجب امتزاجا لا فكاك منه، فكل حقّ من هذه الحقوق يتطلّب من الإنسان أن يسعى إلى الحصول عليه والحفاظ عليه في وقتٍ معا، فالتخلّي عن الحقّ تخلٍ عن جزء من إنسانية الإنسان.

ألم تر كيف تحدّث اللّـه عز وجل عن أولئك الـذين تخلّوا عن حقّ الحـرية طوعا أو كرها؟﴿إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! ﴾ (النساء: 97)، إلى قوله: ﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة .. ﴾ (النساء: 100).

وقل مثل ذلك في الذين يتخلون عن حق الحياة: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم! إن الله كان بكم رحيماً. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً؛ وكان ذلك على الله يسيراً﴾ (النساء: 29 – 30).

من أجل ذلك نجد في حديث النبي ﷺ ذلك النص الفريد الذي لا نجده في أي كلام آخر سوى كلام المعصوم ﷺ، وهو قـوله في الحـديث المتّفق عليه عن عبد اللّـه بن عمرو: «إن لجسدك عليك حقّاً!». وإذا كان الناس قد تـوصّلوا بعد أربعة عشر قـرناً من تقــرير الإسلام لحقوق الإنسان، إلى إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإنهم لم يتوصّلوا بعد إلى إعلام «حق الجسد»، الذي من حقّه على صاحبه أن يطعمه إذا جاع، ويريحه إذا تعب، وينظّفه إذا اتَّسخ، ويحميه مما يؤذيه، ويقيه من الوقوع في بـراثن المرض، ويداويه إذا مرض، ولا يكلفه ما لا يطيق. وهو حقّ واجب لا يجوز في نظر الإسلام أن يُنسى ويُهمَل لحساب الحقوق  الأخرى، ولو كان منها حقّ اللّـه عز وجل .

والصحّة شرط لازم للمحـافظة على الحياة، كما أنها شرط لازم لقيام شـريعة اللّـه في الأرض، لأنّ هذه الشـريعة إنما ينهض بها حقّ نهوضها الأحياء الأصحاء، «فنظام الدين بالمعرفة والعبادة – كما قال الإمام الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» – لا يتوصّل إليه إلا بصحّة البدن وبقاء الحياة».

من أجل ذلك جعل الإسلام الصحّة في المقام الأول بعد الإيمان، فقال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي بكر-: «لم يُؤْتَ أحدٌ بعد اليقين خيراً من المعافاة»؛ وقال – في الحديث الذي رواه ابن ماجه والحـاكم وأحمد عن معاذ بن عبد اللّـه بن خبيب عن أبيه عن عمه –: «إنه لا بأس بالغـنـى لمـن اتقـى، والصـحـة لمن اتقى خير من الغنى»؛ وقال – في الحــديث الذي رواه ابن مــــاجه عن عبد اللّـه بن محصن الأنصاري عن أبيه-  «من أصبح منكم معافىً في جسده، آمناً في جسده، آمناً في سربه،  عنده قوت يومـه، فكأنما حيِزَت له الدنيا».

وفي مقــابل ذلك كانت الصحّة مسؤولية كبرى أما اللّـه عزوجل. فالنبي ﷺ يقول (في الحديث الذي رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيـرهم، وصححه الحـاكم ووافقه الـذهبي): «إن أول ما يحـاسب به العبد يوم القيـامة أن يقال له: ألم أصح لك جسمك؟»؛ ويقول – في الحــديث الذي رواه التـــرمذي عن أبي برزة الأسلمي، وقال: حـــديث صحيح-: «لا تزول قــدما عبد يوم القيـــامة حتى يُسال عن أربع: عن عمره فيم َ افناه، وعن علمه فيمَ فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه».

والإسلام يلفت نظر الإنسان إلى هذه النعمة، وينبّهه إلى أن كثيراً من الناس يخسرون الخسران المبين لقلّة اكتراثهم بها والاستفادة المثلى منها، فيقول النبي ﷺ – في ما وراءه البخـاري وغيره عن ابن عباس – : «نعمتان مغبـون فيهما كثير من الناس: الصحّة والفراغ»، ومن أجل ذلك يحضّه على اغتنامها والتمتّع بها، فيقول رسول اللّـه ﷺ – في ما رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس –: «اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك».

****

وحقّ الصحّة أو قل: حقّ المحافظة على الصحة يستمد أبعاده من أمرين فطريين في خلق الإنسان وخلق الكون كله.

أول هذين الأمرين مذكور في قوله تعالى في سورة الرحمن (7 – 9):

﴿ووضع الميزان:

أن لا تطغوا في الميزان!

وأقيموا الوزن بالقسط

ولا تخسروا الميزان﴾.

فهذه الآية الجـامعة تتحدّث عن «الميزان» الذي وضعه اللّـه عز وجل في طبيعة هذا الكون بمختلف منظوماته الكونية والبيئية والحيوية وغير ذلـك من المنظــومات .. ومنها الإنسان، فتلفت النظر إلى هذا التوازن الـدقيق العجيب الذي ينتظم كل شيء، وتنـبّه إلى أن أي إخلال به، أياً كان اتجـاهه: طغياناً كان أم إخساراً، أي في اتجاه الزيادة والإفراط أو في اتجاه النقصان والتفريط، يمكن أن يفضي إلى أوخم العواقب التي ترتدّ على الإنسان نفسه قبل كل شيء، كما قال سبحانه في سورة يونس: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم﴾ (الآية 23).

أما الأمر الثاني فهو أن الأصل في خلقة الإنسان هو «السَّواء»، كما يدل على ذلك قوله تعالى مخاطباً الإنسان: ﴿خلقك فسواك فعدلك﴾ (الانفطار: 7)، وقولـه جل شأنه: ﴿خلق فسوى﴾ (الأعلى: 2)، وقوله عز من قائل: ﴿ونفس وما سواها﴾ (الشمس: 7)، وقولـه سبحانه: ﴿لقدخلقنا الإنسان في أحسن تقويـــم﴾ (التين: 4). والمحــافظة على وضع السواء هذا، جزء أساسي من مقاصد الشريعة، لأن «الشرع موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم» – كما يقول العالم العامل المجاهد الفذ عز الـدين بن عبد السلام في كتابه النفيس «قواعد الإحكام في مصـالح الأنام»–، ثم يوضح ذلك بقوله:

«والشريعة كلها مصالح: إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصـالح. فإذا سمعت اللّـه يقول:﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ، فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثّك عليه، أو شراً يـزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والـزجر. وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح».

وقد صدق رحمه اللّـه وأحسن إليه، فإن اللّـه سبحــانه قال لنا في سورة الرعد (17):﴿كـذلك يضرب الله الحق والباطل: فأما الزبد فيذهب جفاءً. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾.فجعل سبحـانه مــا ينفع الناس هوالحقّ الذي أرسل به رسوله ﷺ وقال عنه: يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم (النساء:170).

«وقد اتّفقت الأمة، بل سائر الملل – كما يقول الإمام الشاطـبي في« الموافقات» – على أن الشــريعة وضعت للمحـافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل».

ونحن واجدون إن شاء اللّـه بعد قليل تــأمل، أن ثــــلاثاً من هذه الضروريات الخمس، وهي النفس والنسل والعقل، لا تكتمل المحـافظة عليها إلا بحفظ الصحة. فلا عجب إذن، أن نجد في كتاب اللّـه عز وجل، وسنة نبيه ﷺ، كثيراً من النصوص التي تضمن لـلإنسان حفظ صحته، وتعــــزيـــــــرها، والحفاظ على وضعه السوي الذي فطره اللّـه عليه، والمحافظة على الميزان الصحي الذي أودعه اللّـه في بنيانه.

****

وحقّ الصحة – من وجهة النظر الإسلامية – ذو ثلاث شعب. فهو حقّ على النفس، وحقّ على المجتمع، وحقّ على الدولة، في وقت معا.

هو أولا حقّ على المرء تجاه نفسه، وهو – كما أسلفنا – ملمح يتفرّد به الإسلام، ويلخصه قول النبي ﷺ الذي رواه البخاري عن وهب بن عبد اللّـه: «إن لنفسك عليك حقا».

وحفظ الصحّة «يكون بأمرين – إذا اتبعنا تصنيف الإمام الشاطبي في «الموافقات» (2/8) – أحــدهما: ما يـقيم أركانها ويثبت قواعــدها، وذلك عبارة عن مــراعاتها من جانب الوجود؛ والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم». وهذا التصنيف البـــديع الذي وضعه الإمام الشـاطبي رحمه اللّـه للضروريات جميعا، ينطبق أفضل انطباق على الهدي الإسـلامي في حفظ الصحة.

فهذا الهدى الكريم يتضمّن نوعين من التدابير: تدابير تقيم أركان الصحة الجسمية أو النفسية أو البيئية وتثّبت قواعدها، أي تراعيها من جانب الوجود بتعبير الشاطبي، ولنسمها «التدابير التعزيزية» بمصطلح اليوم؛ وتدابير تدرأ عن الصحة الجسمية أو النفسية أو البيية الاختلال الواقع أو المتوقّع فيها، أي تراعيها من جانب العدم بتعبير الشاطبي، ولنسمها «التدابير الوقائية».

وتشتمل التدابير التعزيزية على كل ما يحافظ على صحة الإنسان، ويزيد من رصيده الصحي. وقد يلفت النظر في أمثال هذه التدابير أن الإسلام يعتبر التقصير فيها نوعا من العدوان. فالتـغـذية مثلا تدبير معزّز للصحة، والامتناع عن الغذاء الطيب بلا مسوغ مشروع أمر مناف للصحة، وهو عدوان عليها في نظر الإسلام. برهان ذلك قول اللّـه عز وجل في سورة المائدة (87– 88): ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم، ولا تعتدوا؛ إن الله لا يحب المعتدين! وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا..﴾نزلت في أناس أرادوا أن يحرموا بعض الأغذية على أنفسهم، فاعتبر ذلك عدوانا على حق الصحة كما ترى!

وليس من غرض هذا البحث، الحـديث بالتفصيل عن هـذه  التدابير المعزّزة لصحة الإنسان، المـلبـية لجـزء من حق الإنسان على نفسه في الصحّة، ولكن ذكر بعض النصوص المباركة يجزئ عن التفصيل.

فمن ذلك النظافة الشخصـية، عـامة كانت، أم جـزئـية، أم في عضو عضو. ومن النصوص الواردة فيها:

﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبًا–إلا عابري سبيل- حتى تغتسلوا﴾ (النساء: 43).

«حقّ الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يغسل رأسه وجسده» (متّفق عليه عن أبي هريرة).

﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾ (المائدة: 5).

«الـوضوء شطر الإيمان» (رواه التــرمذي عن أبي مـالك الأشعري وقال: حديث حسن صحيح).

«لا يحـافـظ على الوضوء إلا مؤمن» (رواه ابن ماجه عن ثوبان).

«أسبغوا الوضوء» (رواه أبو داوود عن عبد اللّـه بن عمرو).

«كان إذا أراد أن يــــأكل غَسَل يــــديه» (رواه ابـن مـــاجه عن أبـي هريرة).

«كان إذا توضأ يدلـك أصابع رجليه بخنصره» (رواه أبو داوود عن المستورد بن شـداد».

«صح أن النبي مسح أذنيه، داخلهما بـــالسبـــابتـين، وخــالـف إبهاميه إلى ظاهر أذنيه فمسح ظاهـرهما وباطنهما» (رواه ابـن ماجه عن ابـن عباس).

«إذا توضّأ أحدكم فليستنشق بمنخـريه من الماء ثـم لينتـثـر» (رواه مسلم عـن أبي هـريرة ).

«روي أن النبـي ﷺ كان يمسـح المـــأقين» (رواه ابـن مـــاجه عن أبي أمـامة).«من كان له شعـر فليكرمـه» (رواه أبو داوود).

«إذا تغـوّط أحـدكم فليتـمـسّح ثلاث مرات»  (رواه ابـن حـزم في المحـلى من طـريق ابـن أخي الزخرجي ( محمد بن عبد اللّـه بن مسلم مسنداً).

«مُرْنَ أزواجكنَّ أن يستطيـبوا بالماء، فإنـي أستحييهم، فإن رسول اللّه كان يفعله» (رواه الترمذي عن عائشة)

«نظِّفوا لثـاتـكم من الماء وتسنّنوا ( تسوّكوا)» (رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد اللّـه بن بشر المازنـي).

«السـواك مطهرة للفـم مـرضـاة للـرب» (رواه النسائي وابـن خزيمة عن عائشة).

«خمـس من الفطرة: الختّان، والاستحداد (حلق العانة)، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقصّ الشّارب» (متفق عليه عن أبي هـريرة).

• ومن ذلك التغذية المتوازنة كماً وكيفاً:

﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ (البقرة: 172).

﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه﴾ (طه: 81).

﴿والأنعام خلقها: لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون﴾ (النحل: 14).

﴿سخّر البحر لتأكلوا منه لحما طريًا﴾ (النحل: 14).

﴿ كلوا من ثمرة إذا أثمر﴾ (الأنعام: 141).

«ما مـلأ آدمي وعاء شرّاً من بـطن! بحسب ابـن آدم لقـيـمات يقـمـن صلـبه، فإن غلـبت الآدمـي نفسه فثلـث للطعـام وثلـث للشراب وثـلت للنفس» (رواه الترمذي وغيره عن المقدام بن معدي كـرب).

•ومن ذلك الزواج لأثـره في حفظ الصحة الجسمـية والنـفسية والجنسية:

﴿والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا﴾ (النحل: 72).

﴿خلق لكم من انفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ (الروم: 21).

«النكاح من سنتي؛ فمــن لـم يعمل بسنتي فليس مني» (رواه ابـن ماجه عن عائشة).

«يا معشر الشباب من استطـاع منكم الباءة فلـيتزوّج» (رواه ابـن ماجه عـن ابـن مسعود).

«نهـى رسول الله ﷺعـن التبتُّل (وهو تـرك الزواج)» ( رواه النسائـي عن عائشة وسمرة بن جندب).

ومن ذلك إعطاء كل عضو حقه من الرعاية الصحية، والعمل في حدود الطـاقة، وتقوية الجسم بالـرياضات المناسبة، والقيـام بكل ما يجلب النفع للإنسان:

«إن لعينيك عليك حقا» (متفق عليه عن عبد اللّـه بن عمرو).

«عليكم بما تطيقون» (متفق عليه عن عائشة)

 «المــؤمن القـوي خيـر من المــؤمن الضعيـف» (رواه مسلم عـن أبـي هـريـرة).

«احـرص على ما ينـفـعـك» (رواه مسلم وابـن ماجه عن أبـي هريـرة).

****

أما التدابـيـر الوقـائية في باب حق  المـرء على نفسه، فتنطلق من قولـه عز وجل: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾( النساء: 29)، وقولـه جل شأنه: ولا تــلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195)، وقول النبي ﷺ «لا ضـرر ولا ضـرار» (رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم) (والضرر: الإضرار بالنفس، والضـرار: الإضـرار بالغير)، وقول اللّـه سبحانه: ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه﴾ (الأنعام: 120) مع قوله جل وعلا في سورة البقرة (219) عـن الخمر والميسر: ﴿فيهما إثم كـــبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ فجعل الإثـم نقيض النفع فهو الضرر إذن،وهو – كما نرى – محرم بنص القرآن.

وقد شرع الإسلام للمـرء سبيل تلبية هذا الحق من حقوق الإنسان، فأمره باتخاذ كل أسباب الوقاية من الأمـراض، لأن التوقّي يكفل الوقاية. فقد قال ﷺ: «ومن يَتوَقَّ الشر يـُوقَهُ» (أخرجه الخطيب في تاريخه عـن أبي هريرة).

وفي القـرآن والسنة نصوص كثيرة تتحدّث عن مختلف أنماط وقاية الإنسان لنفسه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

• اجـتـناب التعـرض للـعـدوى:

﴿ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة وساء سبيلا﴾ (الإسراء: 32).﴿ولا تقربوا الفراحش ما ظهر منها وما بطن﴾ (الأنعام: 151).

«إن أخوف ما أخاف على أمتـي عمل قـوم لـوط» (رواه ابـن مــــاجه والبيهقـي عـن جابر).

«وإذا سمعتم بالطـاعون بأرض فلا تـدخلـوها» (أخـرجه البخاري عـن أسـامة بـن زيـد).

• اجـتـناب التـعـرض للإصـابـات:

«إذا عـرستم (أي نـزلتـم للنوم بالليل في سفر) فاجتنبـوا الطـريق، فإنها طرق الدواب ومـأوى الهوام بالليل» (رواه مسلم عن أبي هـريرة).

«إذا أوى أحـدكم إلى فراشه فلينـفـض فـراشه بداخلة إزاره، فإنـه لا يـدري ما خلفه عليه» (متّفق عليه عـن أبي هريـرة).

«أطفئوا المصابيح إذا رقدتـم، وغلقوا الأبواب، وأوكوا (أي اربطوا أفواه) الأسـقــية، وخمروا (أي غطوا) الطعام والشراب» (رواه البخاري عن جابر).

«من بات على ظهر بيت ليس له حِجار (أي جدار) فقـد بـرئت منه الذمّـة» (رواه أبو داوود عـن علي بـن شيبان).

«نهـى رسول اللّـه ﷺ عن الـوحدة: أن يـبـيت الــرجل وحده أو يســافر وحده» (رواه الإمـام أحـمد عـن ابـن عمـر، وسـنده صحيح علـى شـرط البخاري).

• اجتناب المواد الضارة كالمسكرات والمخدّرات والتدخين:

﴿يسألونك عـن الخمر والميسر، قل فيهما إثم (أي ضرر) كبير﴾ (البقرة: 219).

﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه﴾  (المائدة: 90).

«نهـى رسول الله عن كل مسـكر ومفتـر» (رواه أحمد وأبو داوود عـن أم سلمة).

«ألا إن كل مسكر حـرام، وكل مـخدّر حـرام، ومـا أسكر كثيره حـرم قليلـه، وما خمر العقل فهو حـرام» (رواه أبو نعيم عن أنس بـن حـذيفة).

****

هذا ما كان من أمـر حقّ الإنسان في الصحـة على النفـس. أمـا حقّ الإنسان في الصحة على المجتمع فهو كذلك حقّ تعزيـزي وحقّ وقائـي.

 أما الحـقّ التعزيـزي فيعنـي بكل ما يزيد الـرصـيد الصحي ويقويه. وله أشـكال كثيرة.

فلطفل على أبويه مثلا حقّ تزويده بالتغذية الصحية، وهـي تتمثل بالإرضــاع من الثـدي بالــدرجة الأولـى امتـثـالا لـقـول اللّـه عز وجل: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة﴾(البقرة: 233)، وقوله سبحانه: ﴿وفصاله في عامين﴾ (لقمان: 14).

وله عليهما كذلك حقّ تزويده بالمناعة الكافية الـلازمة لوقايته من الأمـراض المعدية، وذلك بتطعيمه باللقاحات المناسبة. وذلك يدخل في الوصية العامة بالأولاد ورعايتهم بكل ما يصلح شأنهم، وعدم التفريط في حقّهم، امتثالا لقول النبي ﷺ: «وإن لـولدك عليك حقاً.. فآت كل ذي حقّ حقّه» (متّفق عليه عن عبد اللّـه بن عمرو) وقولـه ﷺ: «والرجل راع في بـيـته ومسـؤول عـن رعيـته، والمـرأة راعـية في بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم» (متفق عليه عـن عبد اللّـه بـن عمر). والتفريط في حقّ الولـد تفـريطـا قد يفقده حيـاته أمـر خطيـر، يقـول عنه ربنا عـز وجل: ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم﴾ (الأنعام: 140)، ويقول عنه نبينا ﷺ: «كـفى بــالمرء إثما أن يضيع مـن يقوت» (حـديث صحيح رواه أبو داوود وغيره عـن عبد اللّـه بن عمرو).

ولكل إنسان الحقّ في أن يعيش في بيئة صحية، وإنما يتحقّق ذلك بأمـرين رئيسيين في نظر الإسلام، أولهما تنظيف البيئة، وثانيهما زيادة رصيدها من العناصر التي تحافظ على موازينها.

فقد كان النبي ﷺ يحضّ على تنظيف البيئة فيقول: «عُرضت علي أعمال أمتـي: حَسَنُها وسيئُها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يُماط عـن الطــريق» (رواه مسلم وابـن مـاجه عـن أبي ذر)؛ ويقول: «الإيمان بضع وسبعون شعبة... أدناها إمـاطـة الأذى عن الطـريق» (رواه مسلم عـن أبي هريرة)؛ ويقول: «إمـاطة الأذى عن الطـريق صدقة» (رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي ذر).

وكان ﷺ يقول: « نظّفوا أفنيتكم» (رواه الترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه).

وفي مقابل ذلك حـرص النبي ﷺ على تشجيع الزراعة، بما يزيد الثروة النباتية ويضيف إلى البيئة الصالحة، فقال: «إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسـيلـة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» (رواه الإمام أحمد عن أنس بن مـــالك)؛ وقال ﷺ: «لا يغرس المسلم غــرسا ولا يـزرع زرعاً فيـــأكـل منه إنـسـان ولا دابـة ولا شـيء إلا كـانـت لـه صــدقة» (رواه مسلم عن جابر)؛ وقال: «من أحيا أرضا ميـتة فهي له»(رواه عن الترمذي عن جابر)؛ وقال:« من زرع زرعا أو غرس غرسا فله أجر  ما أصـابـت مـنه العـوافـي» (رواه يحيـى بـن آدم في كتاب الخـراج عـن أبي أسـيد): وقال: «من أحيا أرضا ميـتة فـله أجـرٌ فيها، وما أكلت العافية منها فهو له صــدقة» (رواه يحيى بـن آدم عـن جـــابر بـن عبد اللّـه): (والعافية والعافي: كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، وجمعها العوافي).

وقد اتّبع الخلفاء الراشدون المهديون هذا الهدي المبارك. فقد روى يحيى بـن آدم في كتاب الخـراج (89) عن محمد بـن عبيد الثقفي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الناس: «من أحيا مواتا فهو أحق به».

وروى يحيـى بـن آدم في كتاب «الخـراج» (46) كـــــذلك، عن أمير المـؤمنين رضي الله عنه أنه قال: «يا أيها الناس أعينوا على أنفسكم، فإنّ السبعة – أو قال التسعة – يكـونون في القـرية فيحيونها بإذن اللّـه عز وجل». وجاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: «أتيت أرضا قد خـربت وعجز عنها أهلها فكريت (استأجرت) أنهاراً وزرعتها» قال: «كل هنيئاً! وأنت مصلحٌ غير مفسد، معمِّر غير مخرب!» (الخـراج: 63).

وروى يحيـى بـن آدم عـن عمر بن عبد العـزيـز رضي الله عنه أنه كتب: «انظـر ما قِبَلكم من أرض الصـافية فأعطوها بالمزارعة بالنصف، وما لم تزرع أعطوها بالثلث، فإن لـم تزرع فأعطوها حتى تبلغ العشر، فإن لم يزرعها أحد فـامنحـها، فـإن لـم يـزرع فـأنـفـق عليها من بيت مـال المسلمين» (الخـراج:62).

وأمـا الحـقّ الوقائي على المجتمع فيتلخّـص في منع «الضرار» وهـو الإضرار بالغير، امتثالا لأمـر النبي ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار»، وقولـه ﷺ: «من ضـارّ أضـرّ الله بـه» (رواه ابـن مـــاجه وأبـو داوود عـن أبـي صــرمة)، وقـولـه: «والله لا يـؤمن!» قـالـوا: من هـو يا رسول الله خاب وخسر؟ قال: «مـن لا يـأمن جـاره بـوائـقه» (متفق عليه عـن أبي هـريرة)، وقـــوله ﷺ: «تـكـُفَّ شرّك عـن الناس، فإنها صـدقة منك على نفسك» (متفق عليه عن أبي ذر).

واللّـه سبحانه وتعالى يقول: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بـــغير ما اكـتسبوا فقد احـتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً (الأحزاب: 58) والـرسول ﷺيقــول: «من كان يـؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جـاره» (متفق عليه عن أبـي هريرة).

لـذلك كان من حقوق الإنسان على أفراد مجتمعه مثلا، أن لا يدخّن أحد منهم في مــركبة مغـلقة – سيـارة أو طـائـرة أو مقطورة – فيلـحق الضـرر بجيرانـه فيها جميعا ويعـرِّضهم إلى مخــــاطر هذا المنشوق الخبيث. والمسلم وإن كان لا يجوز له أن يدخّن ولو كان وحده، فيعرّض نفسه إلى أسباب المـرض والهلاك، فعدم جواز ذلك في حق الغير أظهر. فالجار في مقعد الطائرة جار، وفي الأمـاكن العامة جار، والجار في داخل البيت جار ذو قــــربى. وقد أمر اللّـه سبحــــانه في سورة النساء (36) بالإحسان إلـى الجار ذي القـربـى والجار الجنب والصـاحب بـالجنب، وليس تعـريض أي منهم إلى مضار التدخين من الإحسان في شيء، بل هي إساءة محضة وإضرار محض.

بل لقد عـدّ رسول اللّـه ﷺ من حق الإنسان على ســـــــائر أفراد المجتمع، أن يتّخذوا جميع الاحتياطات الكفيلة بوقايته من كل أذى أو ضرر، فقال مثلا: «من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل (سهام)، فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه، أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشئ» (متفق عليه عن أبي موسى).

كــــــذلك عـدّ النبي ﷺ من حقّ الإنسان على كل فرد من أفراد المجتمع، أن لا يعـرضه أو يعرّض سائر الأفراد إلى العدوى، فذلك فضلا عـن أنه يتدرّج تحت القاعدة الشاملة، قـاعدة تحـريم الضـرر والضـرار، فـقد ورد فيـه أكثـر من نص خاص، إذ قال ص:»لا يـورد المُمْرض على المُصـح» (متـفق عليه عن أبي هـريرة)، كما قال ﷺ: «لا عـدوى ولا طـيرة» وهـذا – واللّـه أعلم – كقـوله: «لا ضرر ولا ضرار» نهي عـن العـدوى وليس نفياً لها. فـمن حقّ الإنسان – في نظري – على أخيه المصاب بمرض من الأمراض المعدية، أن يعتزل مجـامع الناس ومحـافلهم ومساجدهم، ريثما يصبح غير مُعدٍ لهم.

وقل مثل ذلك في حق الإنسان علـى سائر أفـراد المجتمع في التمتّع ببيئة صحية نظيفة. وقد جاء النهي عن تلويث البيئة بصريح النص على وجه الخصوص. فقد قال النبي ﷺ: «من آذى المسلمين في طـــرقهم وجبت عليه لعنتهم» (رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن). وكان من هـديه ﷺ أنه قال: «لا يبـولن أحـدكم في الماء الـراكد» (رواه ابـن ماجه عن أبي هـريرة)، وكان يقول: «اتقـوا الـلاعنَـين» قـالـوا: وما الـلاعنان؟ قال: «الذي يتخلـىّ (يتغوّط) في طـريق الناس وفي ظلهم» (رواه مسلم عن أبي هريرة)؛ ويقول:«اتقوا الملاعن الثلاث: البـراز في الموارد، وقارعة الطـريق،  والظل» (رواه أبو داوود عـن معاذ بن جبل).

ومما يلفـت النـظر في هذه الأحـاديث استعمال لفظـة «الـلعن» ومشتقاتها، والـلعن: الطرد والنبذ والإبعاد، مما يدّل على أن فاعل هذه الأعمال التي تلوّث البيئة يسقط اعتباره الاجتماعي، ويصبح منبوذاً من مجتمعه.

وفي ذكـر البـراز في الظل نكتة لـطيفة لأن الشمس تقضـي على الجـراثيم المـوجودة في البـراز، في حين أن الظل يحــافظ عليها ويسمح بتكاثرها.التـدبيـر الـوقائي الأول إذن في مجال البيئة، هو عـدم تلـويثها بما يؤذي الناس، وذلك ابتداءً من البيئة الصغيرة: بيئة المنزل وما شابهه من أمـاكن محصورة يمكث فيها عدد محدود من الناس، فلا يجوز بل يحـرم تلـويثها مثلا بـدخان السـجـائر الـذي أصبح ضرره اليوم عين اليقـين؛ ومـرورا ببيئة الجوار حيث يحرم على صاحب المصنع أن يسكب نفايات مصنعه في المياه المشتــــركة بين الناس، أو يطلق أدخنة مصنعه دون تصفية أو ترشيح فيلوث جو المدينة وهواءها الذي يتنفسه الناس؛ بل يحرم التلويث الضوضائي بالأصوات العالية التي تزعج الناس ولو كانت بحجة العبادة، لأن اللّـه سبحانه يقول: ﴿واغضض من صـوتك﴾ (لقمان: 19)، فيقول: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول﴾ (الأعراف: 205)؛ وانتهاء بالبيئة العالمية الواسعة التي تضـرّ بها على سبيل المثال المواد الفلوروكربونية التي تستخدم في البخّاخات وأجهزة التبـريد، والأكاسيد الآزوتية والهيدروكربونيات التي تصـدرها عوادم السيارات، وكلها من المواد التي تستنضب الأوزون من الطبقات الجوية العليا من جهة، فتعرِّض سكان العالم إلى الآثار المضرة لـلأشعة فوق البنفسجية، ولكنها تساعد – في الوقت نفسه – على تولّد الأوزون في الطبقات الجـوية الــدنيا فتـزيد من هجمات الــربو، وتهيج الحنجرة والجهاز التنفسي، وتخرّب النبات وتؤخّر نموّه.

أما التـدبير الـوقـائي الثاني في مجال البيئة، فهو عدم استنفاد العناصر الضرورية للحفاظ على سلامتها.

فقد نهى النبي ﷺ مثلا عن الإسراف في استعمال الماء، حتى في  التنظيف والتطهير. وضرب بنفسه المثل لذلك، فقد كان رسول اللّـه ﷺ يغتسل بالصـاع ويتـوضّأ بـالمد (رواه أبو داوود وابـن مـاجه عن جـابر) وعائشة؛ والترمذي وابـن ماجه عن سفينة) والمد: أقل من نصف لتر، والصاع أقل من لترين اثنين.

بل روى الإمام أبو عبيد في كتاب الطهور عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ «أنه مـر بنهـر فنزل، وأخــذ قَـعـْبـاً مـعـه فـمـلأه من الماء، ثـم تنحـىَ عنه ثـم تـوضّـأ، فـفـضـل من ذلك الماء، فـردّه إلى النهر، وقال: يبلغه الله إنـسـانا أو دابـة وأشباهه ينفعهم الله عنه».

وعن عمـرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، ثـم قال: هذا الوضـوء، فمـن زاد على هذا فـقـد أسـاء أو تـعـدّى أو ظـلـم» (رواه ابـن مـاجة والنسـائي؛ وروى مثله أبو داوود عن عبد اللّـه بن عمرو).

وقـال رسول اللّـه ﷺ: «إنـه سـيـكون في هـذه الأمة قـوم يعتـدون في الطهور والدعاء» (رواه أبو داوود عن عبد اللّـه بن مغفل).

ومن الأمثلة المهمة الأخرى على استبقاء ما يحفظ البيئة الصحية: الحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية.

فقد قال النبي ﷺ: «من قـطـع سدرة صـوّب اللّه رأسـه في النـار» (رواه أبو داوود عن عبد اللّـه بن حبشي).

وقد كان النبي ﷺ أول من أنشأ محـميات بيئية لا يجوز قطع شجرها ولا قتل حيوانها. فقد «حمـى رسول الله ﷺ كل ناحـية من المدينة بريداً بريداً: لا يخـبـط (ينزع) شجره ولا يعضد (يقطع) إلا ما يـسـاق به الجمل» (رواه أبو داوود عن عدي بن زيد) وكان ﷺ «ينهي أن يقطع من شـجـر المدينة شيء» (رواه أبو داوود عن سعد بن أبي وقاص) وقال عن المدينة: «لا ينـفـر صيـدها.. ولا يصـلـح أن يقـطـع منها شـجـرة إلا أن يعـلـف رجل بـعـيره» (رواه أبو داوود) وقال: «إني أحــرم ما بين لابتي المدينة أن يُقطع عضـاهُها» (رواه الإمـام أحمد عـن سعد بـن أبيِ وقـاص) (والعضاه: الشجر)؛ وقال عـن واد بـــالطـــائف: «إن صيد وجٌ وعضاهُه حـرام» (رواه الإمام أحمد وأبو داوود عن الـزبيـر). وقال الإمـام أبو يوسف في كتاب «الخراج» (104): حـدثنا مالك بـن أنس أنه بلغه عـن النبي ﷺ أنه حـرم عضاه المـــدينة وما حـــــولها اثني عشر ميـلا وحـرم الصيد فيها أربعة أميال حولها.. قال أبو يوسف: وقد قال بعض العلماء إن تفسير هذا إنما لاستبقاء العضاه.

وقد تغلغلت هذه المعاني في أفهام المسلمين أيما تغلغل. يقول الإمام أبي محمد ابـن حـزم في المحلى: «والإحسان إلى الحيوان بر وتقوى، فمن لـم يعن على إصــــــــلاحه فقد أعان على الإثـم والعدوان وعصـى اللّـه تعالى. ..».

«بل يجب على سقـي النخل إن كان في ترك سقيه هـلاكُ النخل وكـذلك في الـزرع، بـرهان ذلك قول اللّـه عز وجل: ﴿وإذا تولىّ سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد﴾(البقرة: 205).

قال أبو محمد: «فمنع الحيوان ما لا معاش له إلا به، من علف أو رعي، وتـرك سقي شجر الثمر والـزرع حتى يهلكا، هو بنص كـلام اللّـه تعالـى فساد في الأرض، وإهـلاك للحرث والنسل، واللّـه تعـالـى لا يحب هذا العمل!».

****

أمـا حـقّ الإنسان في الصحة على الدولة، فينطلق من المبادئ التالية التي تعتنقها الدولة الإسلامية:

  (1) الإنسان مـكرم: ﴿ولقد كّرمنا بـــــني آدم﴾ (الإسراء: 70). ويقتضي تكريمه هذا المحافظة عليه في صحة تامة ومعافاة كاملة.

(2) الشريعة وضعت للـمحافظة على الضروريات الخمس: وهـي الـدين والنفس والنسل والمال والعقل». كـما يقـول الإمـام الشـاطبـي في «الموافقات»، وواضـح أن ثـــــــلاثاً من هذه الضروريات الخمس – وهـي النفس والنسل والعقل – لا تكتمل المحافظة عليها إلا بحفظ الصحة.

(3) الحياة حـق لكل إنسان، وهـي مقـدّسة مـحترمة مـدافع عنها. وقيمة النفس البشرية الواحـدة تعدل قيمة البشر جميعاً. يقول اللّـه عز وجل: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ (المائدة: 32). والاعتداء على حياة أي نفس بشـرية، ولو كـانت جنينا أو شيخا أو معوقاً ... عدوان على البشر جميعا: ﴿من قتل نفساً- بغير نفس أو فساد في الأرض-فكأنما  قتل الناس جميعا﴾ (المائدة: 32).

 (4) العدل والإحسان قيمتان من أهم القيم. والعدل في اللغة التي نـزل بها القـرآن يتضمّن معنى المساواة أيضا، كما في قـوله تعـالـى: ﴿أو عدل ذلك صياماً﴾ (المائدة: 95) أي ما يساوي ذلك صياماً.

والإحسان كـذلك تعبير من أروع تعابير اللّغة التي نزل بها القرآن، لأنها لفظة تتضمّن أولا معنى «الجودة»، فالحسن هو الجيد، وقد بشّر سبحانه عباده ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ (الزمر:18)، وهذه الجودة مطلوبة في كل شيء ..كل شيء..فالنبي ﷺ يقول: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (رواه أحمد ومسلم عن شداد بن أوس).

ولكن كلمة الإحسان تتضمّن أيضا تلك اللمسة الرفيقة الحانية التي افتقدناها أو كدنا نفتقدها في ممارسة الطب الحديث .. تتضمّن نفسية العطاء حيث يحب المـرء لأخيه ما يحب لنفسه بل ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة.

ويتضمّن الإحسان كذلك صحوة الضمير ومـراقبة الله عز وجل في كل تصرّف وسلوك كما يقول النبي ﷺ: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة).

وقد تـمّ تطبيق هذه القيم في مجال حق الإنسان في الصحة منذ صدر هذه الحضارة التي ننتمي إليها ونعتزّ بها.

  • فكان للمـرضى حقّ الرعاية على الدولة. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره البلاذري في «فتوح البلدان»: «أن عمر رضي الله عنه مـرّ عند مقـدمه الجابية من أرض دمشق على قوم مجذّمين (مصابين بالجذام) من النصارى، فــأمر أن يعطوا من الصـــدقات (الــزكاة)، وأن يجـرى عليهم القوت».
  • وكان للطفل – أي طفل – حقّ الـرعاية على الدولة؛ كالذي ورد في «طبقات» ابـن سعد: «أن عمر رضي الله عنه كان يفرض للمنفوس (الوليد) مئة درهـم، فإذا تـرعـرع بلغ به مئتي درهم، وفرض له رزقاً يأخذه وليه كل شهر بما يصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة، وكان يوصـي بهم خيراً ويجعل نفقتهم ورضاعهم من بيت المال».

وكان للضعيف والمعوق والمسن حقُّ الرعاية على الدولة؛ كما ورد في عقد الـــذمّة بين خـــالد بن الــــوليد رضي الله عنه وبين أهل الحيرة: «وجعلت لهم: أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصـــــابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصـدّقون عليه:(1) طـرحت جـزيته (يعني أعفي من الضـرائب)، و(2) عيلَ من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام (أي في الدولة الإسلامية)». ذكره الإمام أبو يوسف في كتاب «الخراج».

ويتّضح من هذه الأمثلة أن الدولة الإسلامية تعتبر حقّ الصحة هذا حقّاً «لـلإنسان»، دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين، وأن رعاية الدولة الإسلامية لـلإنسان تبدأ منذ الولادة بتأمين الرضاع الصحي، وتستمر حتى الشيخوخة بتأمين ما يكفل العيش الصحي، وأنها بين هذا وذاك لا تغادر مـريضاً أو عاجزاً أو مقعداً أو مصاباً إلا غمرته بالـرعاية الـلازمة.

فـــالناس جميعاً، بغضّ النظر عن أي اعتبار من أي نوع كان، من حقّهم على الدولة الإسلامية أن تتساوى فــرصهم في الحصول على الـرعاية الصحية، وقائية كانت أم عـلاجية. وهذا هو لبّ الشعار أو المفهوم الذي تـــدعو إليه – بعد أربعة عشر قــــرناً – منظمة الصحة العالمية بعنوان «توفير الصحة للجميع».

****

ويطيب لي أن أختم ببعض الحقوق الصحية التي أخذت تبرز اليوم وتستعلن، في مواكبة التقدّم العلمي الحثيث السير، وفي مواكبة التطور الذي طرأ على أفهام الناس، وعلى القيم والمبادئ الأخلاقية التي تحكم سلوكهم وتصرفهم.

فمن هذه الحقوق حقّ الجنين في الحياة. وقد اختلفت آراء فقهاء المسلمين في هذا الموضوع، لا من حيث المبدأ، فكلهم متّفقون على أن الجنين نفس، وعلى أن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولكن من حيث أن بعضهم اجتهد اعتماداً على أحـاديث تتعلّق بأوان نفخ الروح في الجنين. على أن الإمام الغزالي رحمه الله كان صاحب بصيـرة نافذة،  صدقتها معارف أواخر القرن العشرين. فقد قال إن الحياة في الجنين تمـرّ بطورين: فهي في الأول مستكنّة لا تحسّ بها الأم، وهـي في الثاني ظـــاهرة تشعر فيها الأم بحــــركته. ونعلم الآن أن ذلك يكون في أواخر الشهر الرابع، لأن الجنين طالت ذراعاه وساقاه ونما حجمه فاستطاع أن يصيب جدار الـرحم بلكماته وركلاته. وقال الغزالي إن الحياة تبدأ من البداية «عندما يخالط ماء (منوي) الـرجل ماؤ (بويضة) المـرأة، ويقع الشيء (البــويضة الملقحة بتعبير اليوم) في المحل (مكان علـــوقها في الرحم)، وإفساد ذلك جناية، وتكون الجناية أفحش بعد نفخ الروح، وتبلغ غاية التفاحش بعد الانفصال حياً بالميلاد، وهو ما كانت تقترفه عـرب الجاهلية من وأد البنات».

والأحكام الشــرعية الأخرى المتعلّقة بـالجنين تؤيّد ما ذهب إليه الغزالي، ومنها أن الحامل التي يحكم عليها بالإعدام يؤجّل تنفيذ الحكم فيها حتى تلد وترضع، ولو كان الحمل من سفاح (قصة الغامدية)، ومنها أن التسبّب في إسقاط الجنين ولو عن غير قصد يستوجب عقوبة مالية اسمها الغُرّة وهي نوع من الدِّية.

ومن هذه الحقوق حقّ الزوج والزوجة في الإنجاب. والسعي لذلك بالوسائل الطبية مشروع ما دام في نطاق المسموح الشرعي، أي أن يكون بمني الزوج وبويضة الزوجة في حال قيام الزوجية.

ومن هذه الحقوق حقّ المحتاج إلى نقل عضو أو نسيج أو ما إلى  ذلك من إنسان آخر، ويدخل في ذلك نقل الدم، وزرع قرنية العين، وزرع غير ذلك مما يمكن زرعه من الأعضاء. فعلى المجتمع ضمان تلبية احتياجات المـريض الصحية إذا كانت لا تضـرّ بالآخرين. وعلى الدولة المسلمة وضع الضوابط التي تنظّم ذلك بما يكفل الالتزام بــــالهدي الإسلامي. والتبرّع بالدم أو الكلية أو غيرهما إنما يؤدّي فرض كفاية

 نيابة عن المجتمع كله. فقد قضى سيدنا عمربن الخطاب رضي الله عنه  بأنه إذا مات إنسان جوعاً في جماعة، فإن على هذه الجماعة الدّية، كما لو كان أفرادها قد شاركوا في قتله. ويمكن – واللّه أعلم – أن يقاس على ذلك موت الإنسان إذا كان يكفي لإنقاذ حياته نقل دم أو عضو إليه، إن كان ذلك لا يضـرّ بالمانح. والأصل في ذلك قول النبي ﷺ: «ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد: إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسّهر» (متفق عليه عن النعمان بن بشير): وقولـه ﷺ: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه»، وفي رواية «ولا يخـــــــذله» (متفق عليه عن ابـن عمر)؛ وقول اللّـه عز وجل في صفة المؤمنين:﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾(الحشر:9) وقوله جل وعلا ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ (المائدة: 32). ففي نقل الدم إلى المنزوف أو زرع الكلية لمريض تلفت كليتاه تـلفاً لا يقـبل الإصلاح، احياء مادي، وفي زرع قـــرنية العين ليبصر الأعمى إحياء معنوي، وكــلاهما يـنـدرج تحت عنـــوان الإحياء الـذي ذكـــره اللّـه عز وجل في هذه الآية الكريمة.

والحـديث عن هذه الأنواع من الحقوق التي تستجدّ يوما بعد يوم، يطول. ويكفي أن نلتزم فيها بالآيات والأحاديث التي أسلفنا ذكــرها، مضيفين إليها قول النبي ﷺ حضّاً وترغيباً: «من نفّس (وفي رواية فرّج) عـن أخيه كربة من كرب الدنيا، نفّس (وفي رواية فرّج) الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» (رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة)، وقولـه ﷺ: «المـؤمن أخو المؤمن من حيث لقيه: يكفّ عليه ضيعته، ويحفظه من ورائه ويحـوطه» (متفق عليه عن ابن عمر).

                             واللّـه يقول الحـقّ وهو يهدي السبيل

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
ندوة حقوق الإنسان في الإسلام: المنعقدة في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 10_12 محرم 1420هـ / 26_28 نيسان 1999م. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 211-358.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top