خيرية قاسمية
محتويات المقال: أولاً : الوضع العمراني والمدني ثانيا : الحياة الاقتصادية ثالثا : الحياة الاجتماعية رابعا : الحياة الثقافية |
واكبت دمشق الزمن كأقدم مدن العالم وواحدة من عواصمه العريقة، وراحت تتوالى عليها الدول والحضارات فتترك كل منها عليها شواهد وآثارًا لا تمحى. وفي عام 1516م دخلت في حوزة العثمانيين، وظلّت كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (سوى فترة حكم محمد علي 1833 – 1840م) و أصبحت مركزًا لولاية امتدت في أحيان كثيرة من تخوم مصر إلى حدود حلب .
وفي الفترة موضوع الدراسة: منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى: وقفت دمشق بين ماضٍ يمتدّ حوالي ستة آلاف عام عامر بالتراث ونتاج الأجداد وبألوان الثاقافات والتقاليد، وبين حاضر مجتمعها وقد اخترقته التأثيرات المدنية الحديثة بكل مظاهرها ومبتكراتها .
أولاً : الوضع العمراني والمدني
بقيت دمشق حتى منتصف القرن التاسع عشر جنوبي نهر بردي1، محصورة، عدا امتدادات ضئيلة، ضمن دائرة السور القديمة2. ويُظهر السور ثلاثة نماذج من البناء: روماني وعربي وعثماني3. وتعد القلعة في مقدمة التحصينات قيمة4. وشهدت الفترة موضوع الدراسة انتهاء الدور الحربي للقلعة والسور، فقد رُدم الخندق حول القلعة، وأحاطت الأسواق بجدرانها، كما شيدت الدور فوق السور5.
وقد تعرّضت المدينة خلال القرون المنصرمة إلى عدد من الغزوات أتت على معظم آثارها، مع ذلك ذكر نعمان القساطلي (ت 1920م)6 في الربع الأخير من القرن التاسع عشر آثار أعمدة على جانبي (الشارع المستقيم) ووجود عدد من الكنائس . وإذا استثنى الجامع الأموي فإن أقدم الآثار الإسلامية في دمشق لا تعود إلى ما قبل القرن الخامس الهجري وقد شهدت دمشق نهضة عمرانية في عهد السلاجقة فالأيوبيين ثم المماليك، استمرت في العصر
العثماني، وحتى خروج العثمانيين من دمشق كانت ما تزال عروس بلاد الشام تزهو بمساجدها ومدراسها وحماماتها وخوانقها وبيمارستاناتها ومدافنها ودورها7.
وقد حافظت أحياء دمشق على مظهرها القديم، حتى منتصف القرن التاسع عشر: فكانت المدينة مقسمة إلى ثمانية أجزاء يعرف كل منها (بالثُّمن) على رأسه رئيس يساعده شيوخ حارات ( الثمن ). وكان لكل من أبواب دمشق الثمانية وأحيائها (حارات وأزقة ودخلات و أسواق)، بوابة ذات مصراعين أو باب كبير في وسطه باب صغير (خوخه)8. وكانت أبواب وبوابات دمشق تغلق بعد صلاة العشاء ويجلس أمامها الحراس أو فوق السطوح في الأسواق، ويناظر عليهم مشايخ الحراس ورجال الشرطة 9 .
وقبل إحداث البلديات وقبل استخدام الكاز والكهرباء، كانت الأضواء في الشوارع عبارة عن قناديل الحراس الضئيلة النور، ويحمل الناس فنارًا صغيرًا (مصباح ورق) وشمعة صغيرة، والأعيان يستعملون الفنارات الكبيرة مصنوعة من المشمع وغلافها من النحاس10. ((وقد مر وقت منعت فيه الحكومة سير الناس بعد صلاة العشاء دون مصابيح)) 11. وكانت الدور تضاء في الليل، قبل استخدام الكاز والكهرباء بالزيت والشمع فقط، فكان السراج الفخار الذي يملأ زيتًا وتوضع فيه فتيلة هو المصباح الوحيد لجميع الطبقات. وفي الدور الكبيرة كانت توجد الشموع، وتوضع في الشمعدان النحاسي الأصف، واستعملت القناديل الصغيرة ذات علب معدنية مملوءة بزيت الزيتون، يضيء بواسطة خيط من القطن. ويرسل في الجو نورًا ضئيلاً 12. وقد استخدم زيت الكاز فيما بعد للإنارة في الدور والشوارع .
شهدت دمشق منذ مطلع القرن العشرين تقدمًا في وسائل التنوير (وبالتالي النقل): فقد حصلت الشركة الفرنسية البلجيكية للترامواي والنور الكهربائي على أول امتياز في بلاد الشرق13. وكانت محطة توليد الكهرباء بالتكية ( على شلال مياه بردى)، كافية لسد حاجات المدنية بالتنوير (وفي تسيير الترامواي) . ولم تكن أية مدينة أخرى، عدا بيروت ودمشق، تضاء قبل الحرب . وبسبب تمديد الكهرباء إلى الدور ((لم تعد محطة التكية قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة، لذلك عملت الشركة لقطع التيار عن كل حي مرة في الأسبوع ولتخفيض معدل الفولتاج))14.
أما عن وسائط النقل في المدينة : فكانت الدواب هي واسطة النقل داخل المدينة وإلى القرى المجاورة، وكانت غالبية الرجالات المعروفين، يملكون اصطبلاً عامرًا بالجياد العربية العريقة الأصلية15. وقد عرف عن أهل الشام عنايتهم بتربية الخيل واقتنائها والمتاجرة بها 16. وكان سوق الخيل في دمشق بمثابة مركز شركة النقل أعدت فيه الحُمُر البيضاء للنقل ولُوّن ذيلها باللون الأحمر ولها برادع بشكل واحد .
ووجدت للتنقل داخل المدينة عربات ( كرّوسه وأصلها Carrousaالإيطالية) تجرّها الخيل ومقرها في الجانب الشرقي من المرجة تحت ظلال شجيرات الصفصاف حول حوض ماء17 . وكان لبعض بيوت الثراء في دمشق سّواس عربات (كروسه) خاصة. وتميّزت العربات بصوت عجلاتها الحديدية، إذ لم يكن بعد قد استعملت الإطارات المطاطية. وكان من الصعوبة بمكان أن تجتاز العربة طريقها بين المشاة والباعة المتجوّلين والأولاد الصغار والعربجي ينادي الناس بالابتعاد أو يستعمل الزمور (وهو طابه من المطاط يعصرها فيخرج الصوت من البوق النحاسي).18
وقد أصبح اتصال أهل دمشق مع الخارج في هذه الفترة أكثر سهولة مع تطوّر وسائط النقل الخارجية، وبعد أن كان الناس يعتمدون في أسفارهم ونقل تجارتهم إلى الخارج على حيوانات الركوب التي تقطع الطرق بقوافل، عُرفت واسطة نقل خارجية بين دمشق وبيروت هي العربات التي تملكها الشركة الفرنسية ديلجانس Delegance (عربة تتّسع لـ 18 راكبًا تقطع المسافة بين المدينتين بيومين)، والحنطور ( يقطعها بـ 12 ساعة وعدد ركابه أربعة ) . وكانت على طول الطريق مراكز لتبديل الجياد أو البغال19.
وجاءت السكك الحديدية لتزيد أهمية دمشق فقد أحدث بينها وبيروت عام 1895م ، طريق غير مباشر للسكة الحديدية الضيقة (شركة فرنسية ) تقطع المسافة في 9 ساعات، ومن محطة رياق يتفرّع خط حلب ويقطع المسافة في (18) ساعة20. وكانت سكة حديد الحجاز (الشمندوفير) التي دشنت 1908م تمتد من دمشق إلى المدينة المنورة (طولها 1321 كم ) ومحطتها في دمشق من أجمل الآثار الحديثة هندسة21. وعُزّز ارتباط المدينة بدمشق بأسلاك تلغرافية22.((وقد بدأ العمران يسري بفضل السكة الحجازية إلى بعض المحطات))23.
وكان أهل ذلك العصر يسمعون بالطائرة ويرون رسمها وهي ذات محرك واحد وطولها (7) أمتار والجناحان (7) أمتار ومقاعد الطيارين مكشوفة. وقد خرج أهالي دمشق إلى مرجة الحشيش لمشاهدة أول طائرة تصل إلى سماء دمشق 1914م، ووقف الخطباء والشعراء مع أفراد الحكومة للترحيب بالطيارين فتحي وصادق . وجاء خبر سقوطها وموت طياريها قرب بحيرة طبرية، ودُفن الطياران بجوار قبر صلاح الدين . وقدمت طائرة ثانية إلى دمشق بعد أسبوعدون احتفال، وسقطت في البحر أمام مدينة يافا ونجا أحد طياريها، ((وظلت الحادثتان مدار حديث الناس إلى أن أعلنت الحرب فشغلتهم فواجعها ))24.
وكان السفر من دمشق إلى جميع أنحاء البلاد العثمانية متاحًا في الفترة موضوع الدراسة، إلا أن السفر إلى البلاد الأجنبية لم يكن مألوفًا وغير ميسر بسهولة لمن لا يتكلم لغة أجنبية 25.
ولم يكن في دمشق، ولا في غيرها من المدن العثمانية، حتى منتصف القرن التاسع عشر، أي إدارة تخطيط أو تنظيم بلدي، إذ كان للمدينة تجهيزات جماعية (حرفية وسكنية) تتولّى الخدمات العامة (طرق صحية وحراسة وغير ذلك). ولم تنشأ البلدية إلا بعد عام 1860م، فعرفت المدينة تغيّرات ملحوظة في مجال تخطيطها المدني، وأخذت بالاتساع خارج الأسوار ومع أن هذا لم يكن نابعًا عن مخطّط كلي في تصوّر الولاة، إلا أنّه حقّق حدًّا معّينًا من التوازن، وجاء استجابة للمحور الاجتماعي (الديني التجاري) المتمثّل في طريق الحج، وللمحور السياسي (الهجرات) ولتيار الإصلاح (مباني إدارية ومستشفيات) 26.
بالنسبة للمحور الأول فقد طرأ على حي الميدان في الجنوب نمو جديد وأقيمت على طوله (3 كم) المهن والصناعات والأسواق التي لها صلة بقوافل الحج وينتهي (بباب الله) الذي كان يخرج منه الحجاج إلى الحجاز27. وقد سكن في الحي عدد من المغاربة هربًا من اضطهاد الفرنسيين والإيطاليين كما نزل فيه عدد من تجار الحبوب النجديين وعدد من مسيحيي حوران28.
أما بالنسبة إلى المحور الثاني فإن قدوم مهاجرين جدد من الرومللي عام (1891م)، ومن كريت عام ( 1900)، قد أدى إلى إعمار أجزاء واسعة من سفح قاسيون (في الشمال الغربي) بعد أن كان جبلاً أجرد ليس فيه إلا المدارس الأثرية والمدافن29. ويعود الفضل بإنشاء الحي الحديد (المهاجرين) إلى والي دمشق ناظم باشا، وكان نواة الحي (المصطبة) والسرادق اللذين أقيما خلال زيارة (إمبراطور ألمانيا) 189830. وأخذت كثير من الأسر الموسرة تنتقل من المدينة القديمة، وتعمر سفح الهضبة التي تطل على منظر السهل الفسيح . وقد حدث تطور مماثل في الأحياء الشمالية الشرقية في دمشق القديمة (باب توما والقصاع) لسكن الأوربيين من قناصل وتجار وبعثات. وقد بدأت الأسر التركية الكبيرة تلتف حول السراي الجديدة خارج المدينة في ضاحية على طول القناة الرومانية القديمة تدعى القنوات، وامتد العمران إلى حي سوق ساروجة وأطلق عليه استانبول الصغرى31.
وشرع الولاة المتعاقبون (وأولهم مدحت باشا 1878م) في إطار سياسة الإصلاح، بتنفيذ أعمال عمرانية حديثة، واستُبدلت الشوارع بعدد من الحارات القديمة، كما جرى تعريض القسم الغربي من (الشارع المستقيم) وتمت تغطيته بالصفائح المعدنية، وأصبح يعرف باسم مدحت باشا. وشُقت طرق حديثة تصل المدينة القديمة بأحيائها الجديدة : منها شارع من سوق الحميدية إلى محطة الحجاز (شارع جمال باشا ) وآخر من جانب المحطة إلى باب سريجة هو شارع خالد بن الوليد32 .
وكان لهؤلاء الولاة تأثير كبير في إنشاء أبنية رسمية ذات طراز عمارة غربية على الأراضي الخالية في غرب المدينة القديمة وعلى ضفتي النهر. فبنيت السراي (مقر دار الحكومة) وقصر الوالي (في المهاجرين) ومعهد الطب والمستشفى الوطني (الغرباء) ودائرة البلدية و إدارة شركة الترامواي ودائرة العدلية والثكنة الحميدية ومحطة سكة حديد بيروت والحجاز ودار المعلمين (جوار التكية السليمانية) ومستودع الذخائر الحربية (جبخانة) ودائرة الأملاك السلطانية ودائرة البريد والبرق ومستودع المدافع وثكنة التلغراف وثكنة المتطوعين ومخفر المستشفى العسكري 33. ولأن ذلك العهد شهد كثرة أعداد الوافدين الأجانب الذين بدأوا يصلون من بيروت بالعربات (ديلجانس) على الطريق الجديدة34، تمّ إنشاء فنادق جديدة إضافة إلى الفندقين (اللوكندة) الوحيدين. ويعتبر فندق فيكتوريا الذي كان قائما سنة 1910م من أقدم فنادق دمشق الحديثة في تلك الفترة .
وقد حدث بعض الخلل في تنظيم تزويد المدينة بالماء في فترة موضوع الدراسة بعد أن ظلت المدينة منذ القديم تتغذى بالماء من نهر بردى عن طريق شبكة معقدة من الفروع الصغيرة تجري تحت الأرض بالأنابيب (قساطل) فخارية أو حديدية وتظهر في الطوالع (المقاسم) في الأحياء، ومنها تجري إلى الأحواض (البرك) في الدور والمساجد والحمامات والخانات والمعامل . واضطرت الحكومة، بعد أن تكاثر عدد السكان إلى الاستعانة بمهندس إيطالي في عام 1904م لجرّ قسطل جديد من عين الفيجة إلى المدينة مباشرة، وجعلتله خزانًا عامًا في الصالحية حيث يقسّم منه على أحياء المدينة في أنابيب تحت ضغط الهواء تفتح أفواهها إلى 35 منهلاً يستقي منها الناس ماء الشرب مجانا35.
ومع أن الدمشقيين عرفوا بشدة ولعهم بعمارة بلدهم فإن من يجول في المدينة القديمة، لا يجد في الشوارع الضيّقة، عدا الأوابد التاريخية، سوى أبنية ذات جدران بسيطة استعمل في بنيانها طين وخشب و كلس ولبن36. ذلك أن الدمشقيين اعتادوا إهمال زينة الدور من خارجها والاكتفاء بتزيينها من داخلها وتفتح منافذها على صحن الدار. وهو فناء فسيح مفروش بالرخام أو بالحجر الصناعي في وسطه بحرة (بركة) تغلف بالأحجار البلدية أو الرخامية يتدفق الماء إليها. وفي أطراف البحيرة أحواض الزهور والأشجار دائمة الخضرة . ويقع على جوانب الصحنالغرف السفلية (المربع) وقاعة كبيرة أو أكثر (إيوان) تزدان جدرانها بالأحجار المنقوشة أو المحفورة وسقف القاعة من أعواد الحور يتخللها ألواح خشب رقيقة تطلى بالدهان الهندي على أشكال طيور أو أشكال هندسية، أو تملأ بالجص الملون. وفي أعلى الجدار منافذ علوية من قطع زجاجية ملونة وكتابات من آيات قرآنية وقصائد. وتحوي القاعة بركة ماء، و(كتبية) لوضع وأوائل الزينة (وخرستان) و(يوك) وهي خزائن لوضع الحوائج. وتصنع أبواب ونوافذ القاعات (والمربعات) من قطع خشبية رقيقة ترص على أشكال هندسية وتزخرف بالدهان الهندي .
وتقع دائرة المطبخ في زاوية من صحن الدار فيها دكة وبحرة وموقد ورفوف، وبجانب المطبخ بيت المؤونة (أو في قبو). وفي جهة خالية من الصحن سلالم حجرية توصل إلى شرفة في جهة منها الغرف العلوية، وهي خاصة بالشتاء. وتفرش أرض الدور بالحصر ثم البسط والسجاد وتوضع على أطرافها المقاعد (الطوطي) أو الدواوين، وتغلف المساند (المخدات) بنسيج دامسكو أو دوشمة أو الديما (صوفي أو حريري أو قطني) . وتعلّق المرايا على الجدران أو في إطار له رفوف، وتوضع الثياب في (صناديق) ذات قوائم مرتفعة من خشب السرو والصنوبر أو خشب الجوز المزخر ف بالأصداف أو النقوش . وفي آخر الفترة موضوع الدراسة أهملت الصناديق وأحدثت الخزانة المتحركة ذات المرايا من خشب الجوز المزين بالأصداف أو المحفور ثم استعيض عن الأخشاب البلدية بالخشب البسيط (الشوح) المستجلب يلبّس بقشرة الجوز أو يصلى بلونه و يزين بقطع قصدير ملون37.
وكانت الواسطة الوحيدة للتدفئة داخل الدور في فصل الشتاء هي الموقد (المنقل أو الكانون) الترابي أو الحديدي أو النحاسي الذي يملأ فحمًا نباتيًا . وبدأ استجلاب مواقد (صوبات) حديدية أو فخارية من الخارج يوقد بها الحطب أو الفحم الحجري . وكانت أحطاب الأشجار وأغصانها المتحطمة تؤمن حاجات الوقود، ويساعد الفحم المستعمل في الاصطلاء (التدفئة) على الطبخ . وأدت عوامل منشؤها الجهل والطمع، إلى تناقص الوقود: كإهمال أصحاب البساتين غرس الأخلاف مقام الأشجار المقطوعة، وتحوّل البساتين إلى شوارع ودور. وأصبح الفحم الحجري (الذي يستخدمه أرباب الصناعات في معاملهم) يستعمل في مواقد التدفئة رغم غلاء سعره وانتشار الروائح الكريهة . ثم اتجهت الأفكار إلى استخدام زيت الكاز في الوقود والتدفئة، إلى جانب استعماله في الإنارة 38.
وقد طرأ على أشكال الدور في دمشق في أواخر الفترة موضوع الدراسة تطورات كثيرة لدواع : أهمها تزايد النفوس والميل إلى التجديد وتقليد الطراز الغرييفي العمارة والزخرفة (الباروك والروكوكو وغيرها) التي أخذت محل أسلوب العمارة العربي الإسلامي أو ممتزجة به وخاصة بعد إشارة بيوت حديثة لسكن الأوربيين39، إلا أن التجديد لم يرضى كل الأذواق لأنه أفقد الدور رونقها من سعة وإبداع .
وهكذا وقبل انتهاء العهد العثماني أصبحت دمشق مدينتين متميزتين : الأولى قديمة محافظة فخورة بماضيها التليد وأوابدها العريقة وشوارعها المتميزة بضيقها وتعرجها وأسواقها الضيقة الظليلة، وأخرى حديثة المظهر بشوارعها العريضة المستقيمة وأبنيتها ذات الهندسة الغربية40 .
ثانيا : الحياة الاقتصادية
بقيت الغوطة التي تحيط بدمشق من جهاتها الأربع خلال الفترة موضوع الدراسة طافحة بالمغروسات على نوعيها : الفواكه والخضار وأشجار كبيرة كالسرو والزيتون والحور تؤلف أحراجًا كثيفة أصبحت مشرفة على النفاذ، ذلك لأن العادة بأن يستعاض عن كل شجرة تقطع بغرس شجرة مكانها قد أهملت، كما فقد قسم من البساتين بعد اتجاه الرغبة نحو البناء في الفلا
((فضاقت دائرة الغرس والزراعة، وقلّة الغيث سببها تناقص الأشجار41)). وظلت أكثر الأدوات المستخدمة لدى فلاحي دمشق، كسائر فلاحي الشام، هي المحراث والمحصاد القديمين الذين تجرّهما الأبقار أو الخيول في الفلاحة أو الحصاد لضيق البساتين وكثافة أشجارها التي لا تمكن من استعمال الآلات الحديثة .
واستمرت عادة أهل دمشق في بيع الأثمار على الأشجار قبل أن تنضج، وهو ما يسمى (الضمان)42وهو تجارة مهمة ينتفع بها الضامن وصاحب الأرض والعمال والباعة معًا، وله أصول وقواعد معروفة ومرعية: فيطوف طلاّب الضمان بعد منتصف نيسان البساتين، ويرون ثمارها ويقدرون وزنها وقيمتها. كما أن صاحب البستان يقدّر الكمية والقيمة على حدة، وإذا اتفق الضامن وصاحب البستان على بَدَل معين يؤدي الأول عربونًا إلى الثاني. وينتظر كلاهما ليلة عيد الخضر (مار الياس)، وهي آخر ليلة يحتمل فيها وقوع الصقيع، فإذا انقضت الليلة بسلام يعد الضمان نافذًا، وإذا أصيبت الأشجار بضّر يكون الضامن مخيّرًا في قبول الضمان أو العدول عنه .
وكان كثير من الملاكين الغائبين في المدينة يملكون المزارع والبساتين في القرى المجاورة لدمشق، وكانت المشاركة في المحاصيل مع الملاكين الغائبين هي القاعدة السائدة ((مما يجعل الفلاح مديونًا باستمرار وغير مطمئن على حيازته 43)). وكانت أكثر المظالم التي عانى منها فلاحو الغوطة، كسائر فلاحي البلاد، هي التي ترافق ضريبة العشر التي تحصلها الدولة من رعاياها في
القرى. وكانت الدولة تطرح الأعشار في المزاد العلني لكي تقبض ريعها سلفًا من الملتزمين وهم من أرباب النفوذ الإقطاعيين، وتطلق لهم العنان في تحصيلها من المكلفين . وتحدث أحد المعاصرين44 عن أشخاص يسمون (العوانية ) فكان الملتزمون يستعينون بهم في التحصيل مقابل نصيب من الأرباح، وكان ((القليل من العشارين يتقون الله في أخذ العشر من الفلاحين. ولم يُر ممن يتعاطى هذه الحرفة من حَسُنت نهايته 45)).
وظلت دمشق، كما عُرفت في معظم عصورها، مدينة صناعية، كما هي مدينة زراعية تجارية 46، لوفرة المواد الأولية المستخرجة من أرضها، وإلى أن رجال حرفة ما يرثون مهارتهم في الصنائع التي يتقنونها عن أجدادهم وينقلونها إلى الأجيال التالية 47. وكان أهل الحرفة الواحدة (الكار) يمثلون رابطة تستعين بها السلطة لإدارة شؤون أهل هذه الحرفة48. وأعجب صاحب المقتطف49 ببراعة أهل دمشق في الصناعة . كما تحدّث صاحب الهلال50 إلى امتياز دمشق في الصنائع اليدوية على سائر سورية. ومن أنواع الصنائع الدمشقية البديعة : الحفر الناتئ والتطعيم والنقش على الأحجار والأخشاب والمعادن والنسيج والوشي وعمل السيوف والنبال والتجليد والتذهيب والحجر الكاشاني وغيرها . وهي صنائع ((كانت تسد حاجات البلد وتفيض عنها فتصدرها إلى سائر الجهات المعمورة وتستدر منها الأرباح الطائلة))51.
وقد شهدت الفترة موضوع الدراسة منافسة البضائع والصناعات الأجنبية للصناعات التقليدية52، إلا أن بعض تلك الصناعات بعد تطويرها صمد في وجه المنافسة53 من ذلك ((الصناعات الشامية في ميدان النسيج (الديما والألاجه والشال) ما برحت رائجة لمتانتها وجمالها وثبات ألوانها ورخص أسعارها، والذين يعانون صنع الثياب والنسيج من القطن والصوف والحرير وقفوا بما اخترعوا من الأنوال في وجه الثياب المصنوعة في الغرب، كما أن أهل دمشق ما زالوا يتفنّنون بالنجارة، وصناديق السرو وخشب الجوز المحفورة فيها نقوش وصور جميلة وحلقات السرو لتزيين القصور والقاعات، بيع كثير منها إلى الغرباء لما خصت به من المتانة والجمال )) . ومن الصناعات التي ظلت مدينة دمشق تتفرد بها، صناعة الدهان ذي الألوان الثابتة ( العجمي )، وصناعة التنزيل في خشب الخزائن والمقاعد والكراسي بالصدف ((وكانت تباع منها مقادير عظيمة في أمريكا )) . وصناعة أواني النحاس المكّتب والمعّرق ومنها ما يعمل بالميناء ومنها بالفضة ((فراجت رواجًا عظيمًا في الممالك الأجنبية وتنافس أرباب الذوق في اقتنائها)).
وتحدّث بعض المعاصرين بأسى عن تراجع بعض الصناعات التقليدية التي اشتهرت بها دمشق: ((الأعمال النحاسية زالت عنها النواحي الفنية بسبب إهمالها من قبل المتقنين فبقيت نواحيها العادية، على أنه لا يزال هناك من أساتذة هذه المهنة من يستطيع صنع أوعية بأشكال هندسية رائعة، ولكن ليس هناك من يرغب في الاقتناء لعظيم أجورها. أما الأعمال الخشبية للمناضد والكراسي والصناديق المصدفة والحفرية، زالت (اليوم) برغبة الناس عنها. وأما بقية الحرف فكانت تسير بالدقة والإتقان بشكل يتناسب ومقدرة المستهلكين لا على نسبة مهارة وكفاءة صناعتها وحذّاقها، لذلك أخذت بالتدنّي54)) .
ومن أهم الصناعات التي اندثرت في دمشق صناعة القاشاني ((فقد بادت بفناء أربابها55))، وصنعة السيوف الدمشقية وترصيعها بالذهب والفضة (داماسكين) تكتب فيها آيات وأشعار بماء الذهب، وصنعة الوشي (داماسكو) وهي الديباج، وصنعة النقش والطلاء (الدهان الهندي) التي جدّدها البعض ولم تلق رواجًا لغلاء كلفتها، وصنعة الحك والحفر الناتئ ((وهي تكاد تفقد لرغبة الناس عن خشب الجوز والتخوف من نفقاتها56)). ومن الصناعات الأخرى التي اندثرت: صناعة الورق وصناعة الشمع ((وكان لها شأن عظيم قبل اكتشاف النفط واختراع الكهرباء57))، وكانت تصنع شموع ضخمة تجعل على جوانب المحاريب، وكذلك شموع الحرمين الشريفين التي تحمل كل سنة 58 .
وقد سجّل معاصرو تلك الفترة بعض المحاولات التي لم يكتب لها النجاح لإنشاء معامل حديثة في دمشق، تقف في وجه الصناعات الأوربية، كإنشاء معمل للغزل في أواخر القرن التاسع عشر، لم يقو على الثبات تجاه المضاربات الأوربية فأهمل وباد59. وفي عام 1910م قام أول معمل للزجاج في دمشق، أغلق ، لما بدأ الغرب يخرج المصنوعات الزجاجية رخيصة الثمن بديعة الشكل60.
وفي الحقيقة كان صناع تلك الفترة يتوقون إلى إدخال التطوير الحديث على صنائعهم : من ذلك صناعة النسيج إذ بعد أن كان النسيج مقتصرًا على غزل الخيوط البلدية بالمحركات العادية اليدوية، ((أصبحت (اليوم) تتمشّى مع قواعد الفن وبآلات ومحركات القوى الكهربائية)) وبعد أن كانت صناعة الجلود بشكلها البدائي ((فإنها (اليوم) تخرج جلودًا تضارع بها ما تنتجه فرنسا أو إنكلترا))61. ودخلت المجتمع الدمشق بعض الآلات الجديدة كآلة الخياطة (ماكينا)، ((وهي من أشغال الفرنج ذات دولاب وآلات مما يبهر العقول والخياطة بها قد تعلمها كثير من نساء المسلمين)). كما عرفت دمشق آلة (الفوتوغرافيا ))). واللفظة يونانية معناها الرسم بالنور، وهذه الصنعة من ألطف الصنائع وأدقها 62)) .
واستمرت شهرة دمشق التجارية، كنقطة اتصال التجارة بين الشرق والغرب، رغم تراجعها نوعًا ما عندما دخلها العثمانيون، لكنها ظلت متماسكة بفضل موقعها الجغرافي ومهارة أهلها في أمور التجارة والصناعة ووقوعها على طريق الحج، فقد ((أحدث الحج في المدينة حركة نشطة ظلتحتى أوائل القرن العشرين العامل الأهم في تطور تجارتها63)). وتشهد الخانات التي ظلت قائمة في دمشق على مكانتها التجارية، رغم تراجع وظيفتها64. وتشرف الخانات على الأسواق مباشرة ببواباتها المصنوعة من الخشب والمصفحة بالحديد والنحاس. ومن أشهر خانات دمشق خان أسعد باشا 65.
وانسجامًا مع نمو الحركة التجارية، وخاصة بسبب مواسم الحج شهدت أسواق دمشق، التي تعدّ من أفضل أسواق الشرق ازدهارًا ملحوظًا في هذه الفترة66 . وذكر (J.L. Portered) وهو رحالة إنجليزي67 ((من الممتع التجوّل بين هذه الأسواق ومشاهدة أنواع المعروضات الثمينة من السيوف والدروع والأسلحة المطعمة والثياب الموشاة بماء الذهب وأنواع السجاد الثمين )). ولاحظ أمام كل حانوت مصطبة أو (دكة) يجلس عليها التجار بين بضائعهم، كما لاحظ أن الأسواق مغطاة بسقوف خشبية لاتقاء الغبار والأمطار وكانت الأسواق التي تقع في قلب المدينة الاقتصادي، ويختص كل منها في صنف من أصناف المبيعات أو الصناعات، تعج بالحركة والنشاط نهارًا ثم تكون مغلقة بالليل عندما يعود أصحاب الحرف والتجار إلى منازلهم68 .
وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر استحداث أسواق تجارية جديدة أهمها السوق المعروف بمدحت باشا وهو يقع إلى الجنوب داخل السور، وهو جزء من الشارع المستقيم القديم الذي يصل باب الجابية بالباب الشرقي، وسوق الحميدية الذي يقع جنوبي القلعة من الغرب إلى الشرق بين باب النصر وباب البريد، (بني القسم الغربي من السوق 1780م والقسم الشرقي عام 1883م )، وجرى تجديد السوق واستبدال بالسقف الخشبي سقف حديدي في عهد ولاية ناظم باشا69.
وكانت العملة المتداولة في تلك الفترة كثيرة التنوّع : ((الليرة العثمانية قطعة من الذهب تساوي 100 غرش أو خمس مجيديات، والمجيدية قطعة من الفضة تساوي الواحدة عشرين غرشًا، والغرش الصاغ عملة مصكوكة من النيكل تساوي 40 بارة وينقسم إلى أربع قطع كل واحدة قيمتها 10 بارات. وهذه الأخيرة تسمى متليكًا والاسم آت من لفظة Metalique أي معدني بالفرنسية. والمتليك ينقسم إلى خمس نحاسات وكل عشر نحاسات تساوي بشلكًا وهي قطعة من النحاس الأسود . ولم تكن العملة الورقية معروفة قبل الحرب70)) .
وفي تلك الفترة تأسّست في دمشق، كما في أنحاء الدولة العثمانية، المصارف والبنوك، وهي وكالات تابعة لبنوك أوربية لتسهيل التجارة، ولم يحمل استحداثها الخير كله ((لأنها أخذت تستجلب للتجار جميع ما يطلبونه من البضائع والصنائع الإفرنجية وتسلّفهم كلما يرغبون، فاتسعت تجارة البلاد وازدادت معاملاتها ازديادًا لم يستطع تجارنا وقفة عند حاجة البلاد الطبيعية،
فاختلطت معهم ميزانية العرض والطلب وأخذوا يتسابقون باستجلاب البضائع، ويراكمونها في مخازنهم مما يستدعي الكساد الذي يضطرهم لبيعها برؤوس أمولها أو بأقل منها، كي يتمكنوا من تسديد أقساط المصارف المستحقة عليهم، حتى أصبحت مساعي التجار وأرباحهم كلها عائدة للبنك دون سواه 71. وقد يكون هذا أحد عوامل التحول الذي أصاب مركز دمشق التجاري في الفترة موضوع الدراسة حيت تمكّن الغرب من افتتاح أبواب الشرق لتجارته، وخاصة بعد حصول التطوّر الاجتماعي والترقّي الصناعي في القارتين الأوربية والأمريكية واستخدام البخار في معامل الغرب ومصانعه وطرقه وسفنه .
وزاد الوضع تفاقما افتتاح قناة السويس وتحوّل تجارة الشرق الأقصى إليها فانقطعت عن دمشق بذلك الواردات العظيمة التي كانت تأتيها بطرق القوافل البرية 72 . ولاحظ أحد المعاصرين73 امتلاء أسواق دمشق ببضائع الغرب المزخرفة المتنوّعة الأشكال التي أخذت تزاحم الصنائع المحلية. ويعلّق معاصر آخر على هذا التطور74 ((ونحن تجاه التيار الجارف اكتفينا بالأرباح الطفيفة التي تأتينا من وراء العمولة بترويج هذه البضائع، ولم نسع لمجاراة الغربيين بالعلم والعمل وترقية صنائعنا التي تحفظ لنا ثروتنا وتجعلنا في غنى عن الغير .
ولم تقتصر مزاحمة البضائع الغربية على الحاجيات التي ألفناها، بل اختلاطنا بأهل الغرب ساقنا إلى تقليدهم في أزيائهم وعاداتهم، فتنوعت بذلك
الحاجات التي لم نكن نعرفها من قبل)). ويضيف بأن ((المحاولات لإحداث انواع من الصنائع تقود إلى اقتصاد شيء من ثروتنا استلفت أنظار الرقباء الواقفين لنا بالمرصاد، فخفّوا لخنق هذه البضائع بمهدها، وذلك بتخفيض أسعار ما يماثلها من صنائعهم إلى أقل من أسعار الأوائل الخام. ولما كانت رؤوس أموالنا لا تساعدنا على الخسائر الفادحة اضطررنا إلى إحناء الرؤوس تجاه جبروت هذه المضاربات)) .
ثالثا : الحياة الاجتماعية
قدر عدد سكان دمشق في عام 1880 م بـ 000,0 15 نسمة75 وبلغ في عام 1914م، 300,000 نسمة 76 . ومعظم سكان دمشق عرب مع أقليات مستعربة من الأتراك والشراكسة والألبان والأرمن، ومن الوجهة الدينية والمذهبية فإن أكثرية أهل دمشق، من المسلمين السنيين مع أقلية شيعية ودرزية، والمسيحيون لا يزيدون على سدس المجموع منهم الأرثوذكسي والكاثوليكي والسرياني والماروني والإنجيلي، كما يوجد خمسة آلاف من اليهود المواطنين77. ((وانتفعت دمشق بهذا الاختلاط فقد ((كثر الذكاء، وتوفر في أهلها الحزم والعزم ))78. وقد أشاد صاحب المقتطف79 بأهل دمشق فهم ((على غاية من اللطف والرقة ولا يزالون على ما اشتهر به العرب من مؤانسة
الزائر وإكرام الضيف)). وقال صاحب الهلال80 عن الدمشقيين بأنهم ((أهل لطف وظرف ودماثة وضيافة)) .
ورغم ما يجمع أهل دمشق من مزايا متقاربة إلا أنه في ثنايا المجتمع الدمشقي، في تلك الفترة، عدد من الفئات الاجتماعية، يأتي في مقدمتها موظفو الحكومة : وكان معظم الموظفون الكبار من ولاة وقادة وموظفين يأتون من العاصمة وخاصة من المتمرنين في دوائر الحكومة، وألقابهم تعطى بفرمان سلطاني81. وكانت غالبية أهل البلاد سوى بضعة أشخاص تبتعد عن وظائف الحكومة، لعدم معرفة لسان الدولة الرسمي الذي لم يكن يعلمه سوى قلة . وبعد أن أحدثت التشكيلات الإدارية المتعددة في عصر التنظيمات فتح باب التوظيف لجميع أبناء البلاد ووصل إلى مراتب الدولة العليا عدد من أبناء الشام82. كما وصل إلى مجلس المبعوثان نواب عن لواء دمشق83.
واختلفت نظرة المعاصرين إلى موظفي الحكومة: فقد وجد البعض أن تقليد الوظائف العامة كان وفق الاقتدار والجدارة 84، ورأى البعض الآخر ((أنه لم يكن يقبل الوظيفة في الدولة العثمانية بوجه إلا اثنان فقير معدم ووجيه متنّفذ ))85. ووُجّه النقد إلى ولاة الأمر لقلة بصيرتهم وفسادهم وسرعة تبديل الولاة وسائر العمال وإلى أن معظم هؤلاء العمال يبتاعون مناصبهم بالمال86. وقد تصدّى عدد من الشبان السوريين الذين تخرّجوا في المدرسة الملَكية في الآستانة وغيرها من المعاهد العلمية لظلم الإدارة الحكومية87 .
وشكّل الأعيان الفئة الاجتماعية الثانية في السلّم الاجتماعي: وهم العريقون في الوجاهة والثراء ولهم النفوذ في السياسة المحلية88 . ولم يكن للطبقة هذه عمل معين سوى قبض إيجار العقارات التي يملكونها وجني أرباح أراضيهم والقيام بالاجتماعات والزيارات. وحياتهم فيها ((بذخ وترف يقتنون الخدم على اختلاف ألوانهم وتربية الأولاد بأيدي هؤلاء، وأن كل من أراد التقرب من الأغنياء يغدق عليهم المديح جزافًا فيصدقونه89)). وما يؤخذ على الأعيان تنافسهم في كسب رضا رجال الآستانة وعمال الدولة، وهذا يزيد في سيطرتهم وعبثهم بحقوق الشعب90. ومع ذلك لا يمكن إغفال الدور الذي تولاّه الأعيان في حفظ النظام واستتباب الأمن في الأحياء ((ففقدان قوى الأمن ساعد على انتقال السلطات الحكومية إلى وجوه الأحياء، لذلك كان رجال الحي يعتمدون على وجوه حيهم أكثر من اعتمادهم على حماية الحكومة وسلطتها))91، وغالبًا ما كان يساند وجوه الأحياء ( القباضايات) أو (الزكرتيه ) .
وفي الريف فئة اجتماعية أخرى هي فئة الفلاحين وقد تملّك قلة منهم الأرض التي يزرعونها وغالبًا ما يعملون كأجراء ومرابعين أو نواطير وحراس. ويصور أحد المعاصرين92، كفاح الفلاح في الغوطة في كسبه رزقه وتهافته على تجويد زراعته وهو ((يحيي الليالي لا يبالي البرد إذا كان ذلك في سقي زرعه وجمع حبّه وثمره)). ورغم وجود عدد من الملاكين يرعون شؤون فلاحيهم أو يساهمون في الزراعة 93، وكانت قرى الغوطة بوجه عام تعاني البؤس ويصف أحد المعاصرين94 أحوال إحدى القرى خلال موجة من العواصف والأمطار ((وقد أمست بحيرة لا كبحيرة جنيف، إذ ليس هنا للسيول مصارف ولا للقاذورات قنوات، وطرق القرى وساحاتها موكولة نظافتها وهندستها للرياح الذاريات في الصيف تسفي ترابها، وللسيول الجارفات تضيع قماماتها وأوحالها في الشتاء)).
ويعتبر أهل الحرف والتجار فئة اجتماعية متميّزة وكان هؤلاء يحرصون على أن يقطنوا في أحياء سكنية قريبة من أماكن مهنهم دون أن يعبّر ذلك عن تمييز اجتماعي دقيق، فالروابط العائلية والجوار والصلات الفردية كانت تعمل على تقوية التلاحم بين الأهالي95. وعُرف عن الدمشقيين تمسّكهم بآداب الكسب والمعاملة المبنية على أحكام الشرعية الإسلامية : الامتناع عن الاحتكار والنصح في المعاملة والامتناع عن الغبن الفاحش96 .
ويندرج في فئة أصحاب الحرف أولئك العالمين في المهن العلمية والفنية، وهي مهن كانت نادرة في الفترة موضوع الدراسة وقد يرجع هذا إلى إهمال الحكومة. وبرأي أحد المعاصرين97 ((الهندسة لا علم لأحد بها لأن الناس جميعا مهندسون بالفطرة، وهندسة الماء والجسور والكهرباء والميكانيك والشعب الأخرى لا تعلم دمشق لها و جودًا)). ولم يكن في دمشق من المحامين المأذونين الأخصائيين ما يتجاوز أصابع اليد، ولم يكن القضاة بأجمعهم أرباب اختصاص، لذلك كان القضاء مشوشًا ومدارًا لاستعمال الوساطة والارتشاء. ولم يكن في دمشق طبيب بالمعنى العلمي إنما كان أطباء نشأوا على أساس التجربة الكسبية، فكان في دمشق جميعها أربعة أو خمسة أطباء وكحال واحد . ولم يكن في دمشق طبيب جراح سوى أحد الأطباء الرسميين (السرّ طبيب عثمان باشا) تخرّج على يديه الكثيرون توزّعوا في البلاد أطباء رسميون يزاولون الطب والجراحة . وكشف معاصر آخر98 أن جّده قد اكتسب خبرة الطب من مطالعته الكتب الطبية القديمة، وكان يطبب المرضى مجانًا ويعطيهم العقاقير والأدوية التي يستحضرها بنفسه ويجري لهم العمليات الجراحية. وكان في تلك الفترة طبيب بريطاني (غراهام) يقيم في بيروت تهرع له الأسر المعروفة لاستشارته99. وحضر إلى دمشق في عام 1903م الطبيب (آغوب) من الآستانة لمقاتلة ميكروب الكوليرا، ولما استشرى المرض في بلاد الشام أوفدت الدولة اللواء بولكوفسكي باشا (سركيمائي السلطان) ومعه 20 رجلاً بين طبيب ومطهّر100 .
وكانت الصيدلة في دمشق منحصرة في جوانب العطارين، وغالبًا ما كان الأطباء أنفسهم يعطون الدواء من عندهم فإذا احتاجوا إلى دواء أجنبي أمروا المرضى أن يشتروا الدواء من صيدلية سليم فارس (أقدم صيدلية في دمشق)101. والصيدلاني هو بائع أصناف الأجزاء الأصلية التي تدخل في العلاجات كالحشائش والزهورات والبذورات، أما (الأجزاجي) فهو بائع العقاقير الواردة من بلاد أوروبا، ((وهذه العقاقير أصبحت بفضل الصناعة الأوربية وترقّي الطبابة مضاعفة الأثمان لا يرثى فيها لفقير أو لغني)) 102.
وقد حافظت فئة العلماء في دمشق على موقعها المتقدّم داخل المجتمع، فقد عُرفت المدينة بقدْر علمائها ومشايخها من رجال التدريس والتعليم، وتحوي مكتباتهم كتبًا قديمة من آثار أجدادهم103. وكان معظم جماعة العلماء والمشايخ يعقدون في المساجد الحلقات التي يتوسط كل منها أحد العلماء الشهيرين فيلقي درسًا على تلاميذه وغيرهم من القادمين عفوًا104 . إلا أن عددًا من الشبان المستنيرين في الفترة موضوع الدراسة وجّه النقد إلى فئة العلماء والفقهاء لقلة معرفتهم ولضعف الأحفاد عن اللحاق بالأجداد في العلم والفقه، ومحاولة بعض الأسر القديمة احتكار المدارس والأوقاف والوظائف الدينية 105، ((بعد أن ظّل الناس يرون طلب العلم فريضة والأخذ عن المشايخ شرفًا عظيمًا))106.
ويعتبر العسكريون فئة اجتماعية مرموقة: وكان التجنيد الإجباري (ومدته سنتان قد تجدد إلى 3 – 4 سنوات) قد بدأ مع إعلان التنظيمات القاضية بالمساواة التامة لمختلف القوميات. وبرأي أحد المعاصرين ذي النشأة العسكرية 107. أن السوريين راحوا يتقدمون إلى الخدمة العسكرية من تلقاء أنفسهم وفي مهرجانات عامة وكثيرون أحبوا الحياة العسكرية وبقوا فيها بعد انتهاء خدمتهم وتدرجوا في مراتب الجيش. كما دخل غيرهم المدارس العسكرية لتعلم أنواع العلوم والفنون الحديثة ويتخرجون ضباطًا ذوي شهادات عالية تؤهلهم للصعود في درجات الجيش . إلا أن معاصرًا آخر108 قدم صورة مغايرة عن الخدمة العسكرية حيث كان الناس يتذرعون بكل وسيلة للتهرب منها؛ لأن الدولة في شبه حرب مستمرة، ولكل قادر على تقديم البدل كان لا يتوانى عن دفعه . وحين كانت الإدارة المحلية تعمد إلى إصدار جداول بأسماء من تشملهم الخدمة الإلزامية تكثر التلاعبات، ((وفي حالات النفير العام تعاد الإساءات والمظالم والثراء غير المشروع للمخاتير ورؤساء التجنيد فبذلك يكثر الفارون من الجيش وتتحمل الحكومة نتائج موظفيها )).
وتغنّى أهل ذلك العصر بنساء دمشق، فهن ((في غاية السكينة والاحتشام فيبرزن غير متبرجات ولو كن متنزهات ومتفرجات، وعلى وجوههن المناديل وعلى رؤوسهن الإزار الطويل، نساء النصارى لا يُعفرن فيها ولا يتبرّجن كما في مثل بيروت فإنهن كنساء الإفرنج109)). وأشاد دمشقي معاصر110 بنساء مدينته (( وجمال طلعتهن وحسن هندامهن وهن في الإجمال ربات بيوت عرفن
بصبرهن وجرأتهن على الاغتراب وإن الزي الذي تتزين به المرأة الدمشقية ليسري إلى نساء القطر)) .
واتّسمت حياة المرأة الدمشقية في الفترة موضوع الدراسة بروح المحافظة وأبدى أحد المعاصرين111 إعجابه بهذا النمط فالنساء ((يقبعن في دورهن حيث يقضين معظم الوقت بالعناية بالمنزل أو الإشراف عليه لو كان لديهن خادمات، وبالأولاد وبتحضير المآكل و التفنن بها والعناية بزينتهن أو بالتطريز والخياطة)) . أما النساء الأقل ثراء فكن يعملن في مهن معينة سواء في المدينة (الأسطة والبلاّنة والرسّامة والغسّالة والماشطة، والنقاشة)، أو في الريف (المحمّرة والمعشّبة وغيرها)112.
وقد وجّه أحد أبناء الأعيان113 نقدًا مريرًا لنمط الحياة التي كانت تحياها المرأة في تلك الفترة ((متأثرة بالمحيط الضيق الذي كانت تعيشه، فكانت الزيارات قاصرة على الأهل والصديقات. وكانت المرأة تسير وهي تتعثّر بخطاها بسبب كثافة المنديل الذي يحجب وجهها، أما الملاءة التي ترتديها فمن اللون الأسود وتتدلّى حتى الأرض تحجب المرأة كاملاً وكانت الاجتماعات التي تروق للنساء هي التي تعقدها في الحمامات باللهو والغناء وسماع الموسيقى والأكل والاستحمامات)). والحمامات هي من معالم دمشق التقليدية وتفتح أبوابها من العشاء وحتى ظهر اليوم التالي وتخصص الفترة
الباقية للنساء114. أما النساء في الأحياء المسيحية فهن غير محجبات ويخرجن مع الأصدقاء والأقرباء للتنزه سيرًا على الأقدام وإلى البساتين115)).
وظلّت تقاليد الزواج116 في دمشق تتبع الأصول المتعارف عليها، تقوم والدة الشاب الذي يرغب في الزواج، برفقة قريباته، بالبحث عن فتاة موافقة ولو راقت لهن يذهب الوالد مع أقربائه لخطبة الفتاة ويُتفق على المهر، ويكون العقد في دار أبي الفتاة ومصاريفه على أهل العريس. ويتقدّم العقد تلاوة قصة المولد النبوي، ويجلس وكيلا العريسين أمام الشيخ الذي يبادر بخطبة العقد. ويتسلم والد العروس أو وكيلها كيس المهر مع بعض الهدايا، ويعقب ذلك تقديم المرطبات والحلوى وربما ألحان وطرب. ولم يكن يسمح للخطيب أن يجتمع إلى خطيبته حتى بعد العقد. ويعين يوم العرس ويأخذ أهل العروس باستحضار الجهاز وهو يتبع مقدار المهر ومكانة العروسين .
ويحمل الجهاز إلى دار العريس، الذي بعد له غرفة واحدة في الدار لوضع جهازه وإقامته، وكانت معظم العائلات الدمشقية تقيم في بيت واحد ولم يكن (الابن) يجرؤ على الانفصال عن هذا المجمّع السكني117. وقبل يوم العرس تجري الاستعدادات في دار العريس حيث تفرش أرض الدار بالمقاعد والسرر وتهيّأ الأطعمة، وكذلك يباشر أهل العروس بالاستعداد ليوم الحناء والحمام وأعمال التمشيط والتزيين والخياطة . ويكون العريس قد استعد ليوم العرس بالذهاب مع عدد من أقاربه وأصدقائه إلى الحمام ثم الحلاقة أو (التلبيسة )، ويجلس بين الحاضرين في انتظار وصول العروس من دارها برفقة وفد من النساء وهن متآزرات حتى العروس نفسها. وعند بلوغ الوفد دار العريس تلصق العروس قطعة من خميرة على الباب . وتجري النساء لها في باحة الدار (التفتيلة )، (وتجلّيها) المغنيات. ويأتي العريس ويسير معها إلى المقعدين المخصصين لهما ويقدم هدية (كشف النقاب)، وتقضي النساء الليلة بالغناء والرقص والتسامر والمداعبة . وعند الصباح يقدم العريس لعروسه هدية (الصبحية). وتدوم الأفراح مدة أسبوع تولم في آخره الولائم التي يدعى إليها أهل العروسين ( فينقطّون ) العروس بأشياء ثمينة .
هذه العادات التي احترمها المجتمع الدمشقي لم تحظ بإعجاب بعض المعاصرين نظرًا لكثرة الأكلاف118، حتى لقد وجد من يبيع أملاكه أو حوائجه ليقوم بما يعده واجبا، في حين كان يشكل عقبة تحول دون تكاثر الزواج119 .
وكانت عادات الزواج عند المسيحيين في دمشق، تجري على نهج المسلمين، ثم طرأ عليها التغيير مع الأيام لعدم جواز الطلاق عندهم فأطلقوا الحرية لشبانهم في انتقاء الفتيات وجعلهن مختارات بقبول الخطبة أو رفضها . وتكون الأعراس أيام الآحاد فيدعى الأهل والأصدقاء نساء ورجالاً ويذهب وفد إلى دار العروس للمجيء بها يتقدمهم الإشبين (وكيل الزوج)، ويلتف الحاضرون حول العروس ومعهم الشموع ويذهبون بها إلى دار العريس ويقيم القّس صلاة الإكليل ويجلّي النساء العروس بالرقص والغناء. أما تقاليد الزواج عند يهود دمشق : فهي ممزوجة بعادات المسلمين والميسحيين و يميزها الحرية التامة في انتقاء الزوجة و تقديم أهل الفتاة البائنة (الدوته) للعريس هدية له120 .
وتتنوع أزياء الرجال والنساء وتتعد أشكالها وألوانها وفقًا للفئات الاجتماعية والطوائف121. وبوجه عام فإن الرجال يرتدون القمباز مع الدامر (وهو رداء قصير ذو أكمام) ومن فوقه العباءة من الحرير أو الصوف أو القطن (دون أكمام) والمضرّبية (وهي رداء شتوي) والجبّه (المعطف الطويل) أو الفروه (رداء شتوي ) ويتمنطقون بالشال أو الكمر ويغطون الرأس إما بالعمائم الأغباني أو بالشال والبوشيات (وهي ستارة من الحرير والقصب) أو الطرابيش الحمراء أو الكوفية البيضاء أو الملونة122. ولم يكن يشاهد أحد بدون غطاء رأس إلا الأطفال الصغار. أما القاووق كغطاء للرأس فقد زال ولم يبق إلا رسمه123.
ولا يختلف لباس رجال المسيحيين واليهود من ناحية القنباز والسروال إلا بالألوان وهم يُعرفون بحلق لحاهم وإطلاق شواربهم . أما شبابهم فيلبسون الطرابييش الطويلة المائلة إلى السواد . والمتعلمون منهم يلبسون اللباس الإفرنجي وصغارهم السروال الإفرنجي القصير وجوارب طويلة124 .
وللعلماء والمشايخ أزياؤهم الخاصة : فالعمائم البيضاء فوق الجبة أو اللاطة أو الجدرية (هما من نوع الجبّة). وتختلف ألوان ألبسة المشايخ بحسب رتبة أصحابها وشكل العمامة تشير إلى رتبة العالم 125. وللإكليروس المسيحي القلنسوة والجبّة السوداء، والحاخامية اليهود يلبسون العمامة الرمادية والجبّة فقط126 .
ويلبس رجال الدوائر الحكومية العاديون اللباس الإفرنجي ( جاكيت) و صدرية وسروالاً ضيقًا فوقه معطف من جنسه أو من أقمشة أخرى، وكان رجال الدوائر الحكومية يشاركون الناس بلبسهم خارج ممارستهم الأعمال الرسمية ويرتدي أصحاب الرتب العالية المعطف الطويل المزركش بالقصب تعلوه الأوسمة المرصعة والشرائط الحريرية والسيوف مدلاة على الجوانب. كما أن هناك أوسمة مرصعة خاصة بالسيدات مع وشاحاتها البيضاء ذات الكنار الملون127. ويلبس الصناع و العمال القنايير كتانية أو حريرية أو قطنية حسب المهنة، وتحته السروال الأسود والقميص والمتيان والصدرية ويشّدون على خاصرتهم الكمر الأحمر أو الأبيض ويلبسون الطاقية الملونة أو اللبادة الصوف أو الوبر، ويجعلون فوقها الكوفية بيضاء أو ملونة أو المنديل، ومنهم من يختار العقال الأسود فوق الكوفية ، ومنهم من يكتفي أثناء العمل بستر الرأس بطاقية رقيقة 128.
وترتدي النساء داخل الدور الثوب والسروال الطويل وفوق الثوب المضربية وتتزين بتكّة حريرية (زنار) أو شال خفيف. وتعطي رأسها بقماطة (منديل صغير) أو بنسيج حريري على أطرافه سجق تتخله أحجار كريمة . أما ثياب السهرات والاحتفالات فكانت من البروكار الغالي وهي ذات (شاحط) طويل. وقد أخذت النساء أواخر فترة الدراسة يتخذون ثلاثة أنواع من المنسوجات الغربية: الحرير أو القصب للأعراس والأفراح، والصوف (بارنوس) للزيارات والنزهات، والنسيج القطني (السنقور) وهو للبيت129. وتميزت قواعد التجميل للنساء في ذلك العصر بالعناية فُعرفت البودرة والدزكن (سائل أبيض لطلاء الوجه ) والكحل . وكان الشعر طويلاً يمكّن النساء من رفعه130 .
وكانت أكثرية الرجال والنساء لا يستعمل الجوارب في الصيف، ولكن في الشتاء كان بعضهم يستعمل الجوارب البلدية من القطن أو الصوف . وكلا الجنسين يستعمل القبقاب في الدار وخارجها أحيانًا131. ولم تكن صنعة (الكنادر) حتى منتصف القرن التاسع عشر معروفة ولم يكن إلا (الخّف) و(البابوج) الأصفر و(الصرامي) الحمر. وكان البعض يعد الكنادر من أزياء الفرنج وينفرون عنها ((هذا قبل أن تروج هذه الصنعة ويصبح لها أسواق متعدّدة132)) .
وانتقد أحد المعاصرين133 ظاهرة (التفرنج) في الثياب بعد أن افتتحت أبواب البلاد لتجارة الغرب، وشرع الرجال يرتدون البنطلون والبيجاما، واعتاضوا عن الجبة بالمعطف (البالطو الإفرنجي) وعن العمامة بالطربوش، ثم شرعوا يحاولون لبس القبعة (البرنيطة)، وأهملوا الأحذية والجوارب الوطنية، واختاروا (البوط) الإفرنجي والكلسات الإفرنجية.
وظلّ الناس في تلك الفترة يسيرون مع عاداتهم في الاحتفال بالمواسم والأعياد إحياء لذكريات دينية بقدر ما فيها من ترويح عن النفس .وكان أهم الاحتفالات التي ترافق عيدي الفطر والأضحى . ومن ظواهر عيد الأضحى أن يزحف أهالي دمشق إلى حي الصالحية ويصعدون إلى جبل قاسيون بعد عصر الوقفة ويلبون كما يلبي الحجاج ((فالصالحية وما تحويه من أضرحة قديمة ومزارات ومدارس كانت جديرة بالتقديس134)) . وفي عيد الفطر تجري حفلة إخراج الشموع والزيوت والعطور المهيأ لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين135 .
وهناك مواسم دينية أخرى لها مراسم خاصة وحلوى معينة، من أهمها المولد النبوي (12 ربيع الأول) حيث تقيم الحكومة المحلية حفل المولد في المسجد الأموي، كما تجري مراسم في شهر رجب وليلة المعراج (27 رجب )، ومراسم نصف شعبان أو ليلة التجلّي الأعظم، والمراسم التي تقام في شهر رمضان وخاصة إحياء ليلة القدر، وحفلات الإذكار لمختلف رجال الطرق الصوفية . ويحمل شهر محرم ذكرى فاجعة كربلاء وما يرافق هذه الذكرى من حزن وألم ومواكب نحو قبر السيدة زينب مع الأدعية والصلوات136. ومن المواسم التي يشترك المسلمون بها مع المسيحيين خميس الأموات الذي يصادف خميس الإسراء عند المسيحيين (قبل الفصح الشرقي بثلاثة أيام)137 .
وبعد موسم الحج في دمشق متقدمًا على غيره من المواسم، وظلت دمشق طوال العصور الإسلامية نقطة اجتماع الحجاج ومركز انطلاق الركب الشامي كل عام138. واستمر هذا الركب يسيرسيرًا مطردًا يقوده أمير الحج لتأمين راحة الحجاج، (وكثيرًا ما كانت إمارة الحج تضاف إلى ولاة الشام)139. وكانت دمشق بأسرها تشتغل بإسكان الحجاج وإطعامهم والمتاجرة معهم، وإعداد ما يلزمهم ويلزم الصّرة السلطانية من الزيوت والشموع والمياه العطرية لغسل الكعبة. وكان خروج الموكب الشامي تظاهرة رسمية وشعبية 140، يتقدّمه أمير الحج راكبًا على صهوة جواده وهو يتهادى بين الجماهير، في طريق الميدان المزدحم، والموسيقى العسكرية تعزف الأناشيد بينما يتلو المشايخ التراتيل الخاصة وهدف الجموع قرية العسالي141. وبعد مراسم الوداع الرسمية والشعبية ينطلق الموكب، ويكون توقفه وقيامه بانتظام في المراحل المختلفة حيث يهيء (العكامون) أسباب الراحل للركب. وقبل إياب الحجاج في منتصف شهر صفر تُبعث (الجردة ) وهي إرسالية تجارية تنقل للحجاج ما يحتاجونه من لوازم . ويأسف أحد المعاصرين142 لضياع الفائدة المادية من موكب الحج بعد مدّ الخط الحجازي 1908م .
وكما هي عادة أهل دمشق، بحثوا عن وسائل التسلية داخل الدور وخارجها143، وكانت تسليتهم تتناسب مع بيئتهم بوجه عام : فقد اعتاد الوجهاء في السهرة استقبال ضيوفهم في (القناق أو البّراني أو السلاملك) يتناولون الحلويات والشاي والقهوة ويتبادلون الأحاديث ورواية النوادر والتساجل بالأشعار والأمثال، وغالبًا ما يستصحبون جوقًا من المغنين وعازفي الآلات الموسيقية. ويؤلف التجار والطبقة الوسطى والعاملة في السهرات مجموعات تربط بينها الصداقة والألفة، وكان المشايخ يقضون سهراتهم بالمدائح النبوية أو القصائد الصوفية، وشرابهم الشاي يحضرونه بالسماور وتحدث أحد المعاصرين144 عن إحدى سهرات دمشق حضرها الأصدقاء والضيوف، كان من بينهم أستاذ التجويد في دار المعلمين وأستاذ الترتيل في الكنيسة الأرثوذكسية، وتناوب المرتلون والمنشدون الإنشاد والغناء .
أما وسائل التسلية الخارجية فكانت المقاهي القريبة ذات الأنهار والأشجار، يؤمها جميع الناس ويقضون فيها نهارهم بعد أن ينهوا أعمالهم أو يلجأ إليها العاطلون عن العمل. ومقاهي دمشق قسمان بلدي ومدني، والبلدي يجلس الناس فيها على الحصر والكراسي المربعة أمام مناضد خشبية تقدم فيها النراجل والقهوة المرة والشاي، كما يشرب رواد المقاهي الشرابات المبردة، ويقطعون وقتهم في لعب الضاما و الدومينو والورق والنرد . ومقاعد المقاهي المدني من الكراسي الخيزران، وفيها ما يلزم من أوراق اللعب كالشطرنج والنرد (الطاولة) والبيلاردو والبيزيك و جميع أنواع لعب الورق. وفي الشتاء كان يوجد لهذه المقاهي قاعات داخلية يؤمن فيها الدفء145 .
وقد افتتح في دمشق مقهى على الطراز الحديث في المرجة لصاحبه ديمتري اليوناني، فكان مجتمعا لأرقى طبقات الدمشقيين. وافتتح أبو خليل الشماس مقهى آخر في المرجة (زهرة دمشق) استحضر له أدوات اللعب، وجعل في صدره مسرحا وعلى جوانبه ألواح وكان يستعمل في الليل للتمثيل أو الرقص والغناء 146. وأما الذين كانوا لا يكتفون بالحياة البسيطة، فلم يكن أمامهم ((سوى الاتجاه إلى حي اليهود حيث يقضون السهرة مع أصدقائهم بصحبة المغنيات والراقصات اليهوديات، وكانت جميع بيوت الحي اليهودي مرتعا لهذه الليلات التي كانت تنفق عليها الأموال جزافا))147.
وكان للدمشقيين بعض الهوايات المسلية كلعبة السيف والترس، وهي من أكثر الألعاب المتواثرة انتشارا في دمشق ولها أصول ثابتة148 . أما لعبة كرة القدم فلم تكن معروفة، إلا أن أحد أبناء دمشق149، قد تعلمها من الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان يتمرن عليها مع أخيه في مرجة الحشيش .
واعتاد أهل دمشق قضاء نزهاتهم (السيران) بعد انقضاء الشتاء خارج مدينتهم على ضفاف الأنهر وعلى المروج الخضراء. وتحدث أحد زوار دمشق أواخر القرن التاسع عشر150 عن منازه دمشق الرائعة وعن أن أهالي دمشق يتغالون في شم الهواء وإعداد المآكل اللذيذة . وأثار إعجاب زائر آخر 1907 م151 المنتزهات شرقي المدينة حيث يتفرع نهر بردى إلى فرعين عند مقام الشيخ رسلان . وكان أهل دمشق يعدّون (للسيران) عدّته، ويستحضرون معهم أوائل الطعام ويأخذون معهم جوقة طرب، ويلعبون ألعابًا تتناسب مع سنهم، ويقضون أوقات انشراح، ويعودون نشيطين إلى معطاة أعمالهم . وكانت في دمشق جمعيات مهنية غايتها تنظيم التسلية والنزهات لأبناء الصنعة، وكان بعض أفرادها يركبون في السيران الرهاوين والخيول والبعض يركب الحمر152 . أما (السماط) فهو النزهة الخاصة بالنساء في حديقة مستورة يستمعن إلى الغناء ويتفرجن على الرقص، ويشاركن فيه ويتـأرجحن ويلعبن ألعابا خاصة، أو يتجاذبن أطراف الحديث ويأكلن ما حملنه معهن أو أعد لهن في الحديقة من الزاد، وقبل الغروب يعدن إلى دورهن وقلبهن طافح بالسرور153 .
لقد تمسّكت دمشق بتقاليدها الاجتماعية، ولكنها كانت حريصة على تقبّل الجديد وتطويعه ليتناسب مع القديم، ورغم أن العملية في الفترة موضوع الدراسة كانت بطيئة ولكنها كانت واثقة الخطى تجاه أولئك غير القادرين على استيعاب الجديد لأنهم اعتادوا على ما ألفوه .
رابعا : الحياة الثقافية
كانت دمشق من أكبر مراكز العلم قبل الإسلام وتفوّقت بعد الإسلام، وقد نشأ فيها أو توطّنها طبقة حسنة من العلماء والفلاسفة والأطباء، والمحدثّين والفقهاء والشعراء والأدباء154. وعمرت دمشق بالمدارس (المنفصلة عن المساجد) منذ زمن نور الدين زنكي وزمن الدولة الأيوبية ثم المملوكية155
وكان لتلك المدارس أوقاف واسعة يقصدها الطلاب فيتعلّمون من الأساتذة أنواع العلوم والفنون . وقد شيّد في مدينة دمشق حتى دخول العثمانيين 159 مدرسة156. وظل عدد من المدارس قائمًا فيالفترة موضوع الدراسة إلا أن كثيرًا منها قد أخذ يتقهقر لانشغال الناس لبعض الحين عن العلم والأدب157. كما حّول عدد من أبنية المدارس إلى بيوت خاصة158. وكان الدمشقيون في جملة الناهضين من أهل الشام في مجال التعلم أواخر القرن التاسع عشر ورغم أن النشاط العلمي كان لا يمكن أن يقارن بماضي المدينة العلمي159 فهناك شواهد تفيد بأهمية التعليم: فالحكومة العثمانية كانت تعفي طالب العلم من الخدمة العسكرية 160، وأشار أحد المعاصرين 161 إلى أنه كان يطبع على جدران دمشق في عام 1911م عبارة ((تعلم يا فتى فالجهل عار )) .
وكان التعليم أواخر القرن التاسع عشر مزيجًا من الأسلوبين القديم والحديث : وظل نظام الحلقات سائدًا في بعض المساجد و الدور الكبيرة لتلقي العلوم الدينية أو اللغوية162، وظلت الكتاتيب القديمة هي المرحلة الأولى التي يلجأ إليها الأولاد الصغار من البنين والبنات للتعلم، والكتّاب غرفة صغيرة يفردها صاحب الدار الشيخ أو صاحب الدار الخجا يجتمع فيها الأولاد على الأرض لتلقي مبادئ القراءة وحسن الخط والحساب وتلاوة القرآن، وقد يقوم الشيخ بتدريس الأطفال في بعض غرف المساجد أو الزوايا. وانتقد 163أكثر الشيوخ ((من أشباه المتعلمين ممن أغلقت في وجوههم أبواب الرزق فتسلطوا على هذه الصنعة للارتزاق)). هذا في حين تحدث آخرون164 عن الكتاب بعاطفة طيبة تتخللها ذكريات عذبة واعتبروا هذه المؤسسة التعليمية البدائية البذرة الصالحة التي انطلقت منها ((نهضتنا العلمية ))
وكان أحد أبناء الأعيان165 أوفر حظًا من أطفال الكتاتيب : فقد جاءه أبوه بأستاذ يعلمه القراءة ومبادئ القرآن وبمربية أجنبية تعنى بتثقيفه باللغة الفرنسية وظل على هذا الحال في كل دراسته الابتدائية . وقدم أحد المعاصرين166 وصفًا للتعليم الذي كان يتلقاه بعض الأطفال المسيحيين في مدراس الإرساليات الأجنبية .
وكان التلاميذ يرسلون في مرحلة ما بعد الكتّاب إلى المدارس الحديثة الابتدائية التي أنشئت في عهد الوالي مدحت باشا (1878م ) واستهلت بذلك عهد النهضة167. وهي إما مدارس رسمية (أميرية) وتسمى مكاتب، أو مدارس خاصة أهلية وأجنبية . وكانت المدارس الرسمية منوطة بلجنة تسمى الجمعية الخيرية الإسلامية، ومن أبرز رجالاتها الشيخ طاهر بن صالح الجزائري (ت 1338هـ / 1920م ) وأصبحت الجمعية دائرة معارف رسمية وعين الشيخ طاهر مفتشًا عامًا للمعارف 168 . وتمر كزت المدارس الابتدائية الرسمية في مبان موجودة، وبلغ عددها حتى الحرب العالمية الأولى 9 مدارس للذكور و4 للإناث169. وكانت المدارس الابتدائية على ست مراحل أو صفوف فالصف السادس للمبتدئين من الأطفال والأول هو أعلى الصفوف ومنه يتخرّج الطالب بعد أن يحسن، بالإضافة إلى مبادئ التجويد والعقائد الدينية، مبادئ القراءة والأعمال الأربعة من الحساب ومبادئ الجغرافية . وقد وجه أحد المعاصرين170 النقد لهذه المدارس لأن ((أسلوب التدريس المشوش باللسان التركي واللسان العربي وما يرافق ذلك من جهالة المعلمين وصعوبة تفهّم الطلاب معاني ما يملي عليهم، كل ذلك باعثًا على خوف الطلاب وفرارهم من المدارس أو خروجهم بشهادة صورية)) . ولم يكن هذا رأي عالم زار دمشق أواخر القرن التاسع عشر171 والتقى الشيخ طاهر الجزائري الذي سعى في تحسين طرق التعليم وجمع كتبًا سهلة المأخذ من فنون شتى كالأدب والطبيعة والتاريخ وغيرها لتكون أقرب لفهم المبتدئين من التلاميذ .
وبعد أن ينال الطالب الشهادة الابتدائية يذهب إلى مدرسة (عنبر) وهي الإعدادية الرسمية الوحيدة في دمشق (أنشئت 1886م) وكانت ملتقى الثقافات المكتسبة من المدارس الرسمية الابتدائية بالمدينة وما يرد إليها من طلاب بقية الأنحاء العربية والتركية فكانت صفوفها غاصة ومفتوحة لجميع الطوائف172. وبلغ عدد طلاب المدرسة قبل الحرب الأولى ( 550 - 600 ) . والمدرسة ذات سبعة صفوف يدرس فيها : قرآن وعلوم دينية وعقائد وفقه وعلم الأخلاق واللغة العربية والتركية، واللغة الفرنسية، واللغة الفارسية، وعلم الثروة (الاقتصاد)، وعلم أحوال السماء (قوزمو غرافيا)، وجغرافية عامة، وجغرافية الولايات العثمانية، وتاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ العمومي، وخطط الصحة، وخلاصة القوانين، وعلم الأشياء، وعلم الحساب والجبر والهندسة، وأصول الزراعة، والرسم، وحسن الخط، والكيمياء، والفيزياء (علم الحكمة) والماكينا (ميكانيك)، وأصول مسك الدفاتر (دوبيا)، والمواليد الثلاثة (المعادم، وطبقات الأرض، والنباتات والحيوانات)،ولم يكن للرياضة ذكر في المناهج. ولا يتم التحصيل إلا عدد قليل من الطلاب، ولذا كان خريج المدرسة يتمتع بمكانة عالية في الأواسط العائلية 173. وكان الأساتذة أتراكًا، خلا معلم اللغة العربية والعلوم الدينية، فكان من أبناء العرب أو ممن يحسنون التكلم بالعربية174 . وأصبحت المدرسة خلال الحرب ثانوية (سلطاني ) .
وتنقسم المدارس الخاصة إلى أهلية وأجنبية، والأهلية مسيحية وإسلامية، وتتوزع المدارس الأهلية المسيحية بين الطوائف: ففي مدارس الروم نحو 250 من الصبيان و 150 من البنات، والكاثوليك نحو هذا العدد وكذلك البروتستنت . وتتوزّع المدارس الأجنبية في الأحياء المسيحية كمدرسة الفرير والعازارية ومدرسة لليسوعيين وأخرى للإنجليز وللروس ولليهود (جمعية الأليانس). والمدارس الأجنبية تعلم باللغات التي تنتمي إليها 175، وكانت هذه المدارس تعج بالطلاب المسيحيين والمسلمين واليهود إلا أن الأقلية مسلمة وهم ((من أبناء الثراء واليسر والغنى أنسوا فيها نظاما وعلومًا وتعليمًا للغات ))176.
وقد أشاد بعض المعاصرين177 بنظام هذه المدارس وبأسلوب التعليم فيها وخاصة إتقان اللغات، في حين لم يحمل آخرون رأيًا إيجابيًا عن المدارس الأجنبية بتهمة أنها تقوم بالدعاية لأمة تلك المدارس ودولتها ولأن أكثر من درس فيها أصبح من عملاء أهل الغرب178.
وقد دعت الأوضاع في المدارس الرسمية والتحفظ على نوايا المدارس الأجنبية ((أرباب الغيرة واليسار)) على تأسيس المدارس الأهلية، وهي ابتدائية تعنى باللغة العربية وتلقن مبادئ العلوم بلغة البلاد وكانت اللغة التركية درسًا كباقي الدروس على جانب اللغة الفرنسية .
وأخذت هذه المدارس تزاحم المدارس الأجنبية وكان لأساتذتها فضل في ((إحياء شعور أبناء العرب ويقظتهم 179)) .
ومن أهم المدارس الأهلية المدرسة العثمانية والتجارية والعلمية الوطنية والإسعاف الخيري والريحانية))180.
ومن المدارس الرسمية مكتب الرشدية العسكرية (في جامع يلبغا)، ومعظم طلابها من أبناء العسكريين، والمدرسة ستة صفوف تعلم أنواع العلوم واللغات والفنون العسكرية، فإذا أتم الطالب الدراسة فيها دخل مكتب الإعدادية العسكرية (جامع تنكز) طالبًا داخليًا ومدة الدراسة (3) سنوات، ومن يتخرج (10 – 200 طالب ) يمكنه أن يحترف المهنة التي يختارها أو يذهب للالتحاق بالمدرسة الحربية في الآستانة، فإن كان من المجلّين دخل دخل مدرسة الأركان ( مدة الدراسة (3) سنوات ويوزع الباقون على القطعات )181.
وقد أنشئت في دمشق في مطلع القرن العشرين عدة مدارس عصرية عليا رسمية : منها دار المعلّمين (1910 في الفناء الشمالي للتكية السليمانية)، ومكتب الصنائع في باب الآغا، والمعهد الطبي أو مدرسة الطب (1903 في مبنى زيوار باشا في الصالحية ونقلت في سنة 1913م، إلى المبنى الجديد خلف مستشفى الغرباء)182.
وقد نقل على دمشق من بيروت عند نشوب الحرب 1914م معهد الحقوق (شغل مبنى المدرسة الإنجليزية )، كما نقلت المدرسة السلطانية الر سمية من بيروت إلى دمشق عام 1915م ( شغلت مبنى مدرسة الآباء العازاريين المغلقة ). وكان التعليم فيها بالتركية، كما نقلت من القدس إلى دمشق أواخر عام 1917م الكلية الصلاحية (شغلت مبنى دار المعلمين )183.
وكان بعض من يتخرّج في المدارس الرسمية أو الأهلية يكمل دراسته في الآستانة في مدارسها العالية: الطب والحقوق والهندسة والمَلْكية (علوم الإدارة ) والبيطرة ودار المعلمين وغيرها، عدا الكلية الحربية. ولما ينالون إجازاتهم يعملون
في مهن بحسب المسلك الذي اختاروه عند دخولهم المدرسة العليا184 . وكان بعض التلاميذ يتوجهون إلى الأزهر كما كان الأمر قديمًا185 .
وكانت قلّة من أبناء الشام، ضمن البعثات التي بدأت ترسلها الدولة العثمانية إلى الخارج، وأولها العسكرية ، إلى ألمانيا. وكان من بين أعداد طلاب البعثة إلى فرنسا عام 1910م عربيان من طلاب المكتب الملكي. وتوجّه عدد من شباب بلاد الشام ( ومنهم من مدينة دمشق ) بعد استكمال دراستهم العليا في الآستانة، للدراسة في الخارج، وخاصة في فرنسا186 وعلى نفقة أهلهم. وكان لخريجي المدارس العليا في الآستانة أو في أوروبه، فضل تفتح اليقظة العربية الحديثة. وكان بعض أبناء دمشق الذين يتقنون اللغة الأجنبية187، يقومون برحلات إلى الغرب بهدف التعرف إلى مدينته ودرسها درسًا علميًا، إضافة إلى التعرف على علماء المشرقات ودورهم في التقريب بين الشرق والغرب .
وكان يعزّز سمعة دمشق العلمية منذ القديم وجود المكاتب أو دور الكتب . وقد ذكر كثير من المترجمين والمؤرخين مكاتب دمشق العامة والخاصة188.
وكانت بقايا مكاتب دمشق، ومن بينها مخطوطات تتسم بجمال الخط والتجليد، كانت لا تزال حتى الفترة موضوع الدراسة في بعض الجوامع والمدار س والبيوت. وقد أنشأ الشيخ طاهر الجزائري، بمعاونة بضعه من أصدقائه دار الكتب الظاهرية، فجمع فيها الكتب الوقفية وغيرها والمخطوطات بعد أن كانت مفرقة ومعرضة للضياع، ووضعت في خزائن مخصوصة في تربة الملك الظاهر بيبرس، لينتفع بها أهل العلم . وصدر أمر الوالي بتأسيس دار كتب عمومية، وعين لها محافظ، ورتبت لها فهارس، وبلغ عدد ما جمع فيها من الكتب حتى عام 1914م (3566) كتابًا189 .
وتعدّى الإقبال على العلم إلى خارج جدران المدارس والمكتبات، وما خلت دمشق يومًا من أعلام يشار إليهم بالبنان في جميع العلوم الدينية ومعظم العلوم الأدبية والمدينة، بعضهم كان يدرس في المساجد وخاصة في الجامع الأموي وفي التكية السليمانية وكان لهم تلاميذ لا ينقطعون عن سماع تدريسهم190 . ووصف عالم من زوار دمشق أواخر القرن التاسع عشر191 حلقة الشيخ طاهر الجزائري في المكتبة الظاهرية ((وهم صفوة من الشباب المثقف ينهلون من ينابيع الكتب القديمة )). وأشار مثقف من الفترة موضوع الدراسة192 إلى اجتماعات
علمية مفيدة كان يعقدها الشباب المثقف، يجتمعون على قراءة كتاب حول الدين أو التاريخ أو الأدب ((فإذا فرغنا من المذاكرات العلمية تجرنا الأحول إلى البحث في الشؤون السياسة وكان هذا المجلس نافعًا من كل وجه كأنه مبعث دعاية إلى الحقوق والنور)) .
وقد عرفت دمشق منذ زمن بعيد كغيرها من البلدان ملازمة الناس طبقة من الزهاد اشتهروا بفضلهم ونسكهم فأخذوا يلتفون حولهم، ويرجعون إليهم بكل ما يحتاجونه من أمور الدنيا والآخرة، ويصغون إلى ما يلقوه عليهم من النصائح والإرشادات. وكان من الطرق الصوفية التي عرفت بكرامة مؤسسيها الرفاعية والقادرية والشاذلية والمولوية والنقشبندية وغيرها التي كانت لا تحيد في عهد شيوخها الأول عن الشريعة . ثم تعاقب بعض الشيوخ فابتدعوا للناس مراسم وحالات ليست من الدين في شيء، فصارت بشكل لا يرضاه عقلاء العارفين والعلماء. ومع ذلك فإن هذه الطرق لم تخل في زمن ما من رجال يسيرون في منهجهم وفق تعاليم الشريعة والتقشف في العيش والخشونة في الحياة وهي الصوفية الحقيقة193 .
ومع أن هذه الطرق في الفترة موضوع الدراسة، قد تضاءلت بانتشار العلم، ظلت حفلات الأذكار تقام، وتقتصر على المدائح النبوية المترافقة مع حركات إيقاعية 194. وفي مقدمة حفلات الأذكار تلك التي يقيمها دراويش المولويين، وخاصة في ليلي الأعياد، في أحد المساجد أو الزوايا أو الدور بحضور شيوخ الطريقة، وقد يرافق تلك الحفلات الأناشيد والتهليل والتكبير على ضرب الطبول، وتنتهي بالدعاء وتلاوة القرآن. وكان يقبل على حضورها الوجهاء والرسميون السواح. وغالبًا ما يقوم أصحاب الطرق ومريدوهم بزيارات لأضرحة الزهاد والأولياء في أيام معينة من السنة وفي شكل مواكب على غاية من الترتيب وقرع المزاهر (الدفوف ) والطبول. وفي خميس المشايخ تجتمع كافة مواكب أحياء دمشق وقراها لتتجه نحو قرية برزة حيث مقام إبراهيم الخليل195 .
وقد لعبت الصحافة في هذه الفترة، دوارًا محدودًا في تفتيح الأذهان وإنارة العقول، وقبل عام 1908م لم تكن سوى الجريدة الرسمية (سورية) التي تطبع في مطبعة الحكومة الحجرية196. وهي باللغتين العربية والتركية. وقد وجدت الصحف المصرية، وكذلك صحف بيروت والصحف التركية والمجالات الأدبية والتاريخية طريقها إلى دمشق، وقد سمى الدمشقيون الصحفية (كزيطة) وهي تحريف كلمة غازيت الإيطالية197 . وبعد عام 1908م فتح باب الصحافة في دمشق، كسائر مدن بلاد الشام، وأصدر محمد كرد علي بعد رجوعه من مصر جريدة المقتبس اليومي السياسي (وكان قد أصدر في مصر مجلة المقتبس للعلوم والآداب). وقد عاضد كرد علي في المقتبس اليومي بعض العلماء المتنورين والشبان المثقفين . وأصبح لها مكانة لم تحرزها جريدة من جرائد السلطة العثمانية التي تصدر بالعربية لأنها كادت تكون رأيًا عامًا في البلاد، وتعرّضت الجريدة مرارًا للرقابة والإغلاق198.
وكان لفخري البارودي تجربة في الصحافة غير ناجحة فقد أصدر جريدة فكاهية في دمشق (حطّ بالخرج) باللهجة العامية مقلدًا الجرائد الفكاهية المصرية فراجت أعدادها الأولى لتناولها بالنقد والتعليق أمور البلاد. ولكن البارودي انقطع عن الجريدة بعد أن وجد أن الجرائد قد تبذّلت199. وبوجه عام فإنّ الصحافة، كانت لا تلاقي استعدادًا لها ولا تشجيعًا من الحكومة، كما أن الاستعداد في الأمة لم يكن كافيًا لتقبل وتفهم ما كانوا (أهل الصحافة) يسطرون))200.
وعرفت دمشق، كما هو عهدها منذ القديم، أشكالاً من الثقافة العامة تنوعت وفقًا للفئات الشعبية : وكان عامة الشعب يسرعون في المساء إلى (الحكواتي)، وهو من يحفظ الحكايات ويلقيها في المساء عن ظهر قلبه أو من الكتاب، كقصص عنترة والملك الظاهر والملك سيف أو حكايات من نمط آخر مضحك. ويصفّى المستمعون مشكلاتهم بالإصغاء إلى الحكواتي وبما يشحن به أذهانهم منصور البطولة والشجاعة والحب. وكان ((غالب الناس ينكبون على استماعه أكثر من انكبابهم على العلم ))201.
وكانت العامة كذلك تقبل على (الكركوزاتي)، أي (خيال الظل)202 في رمضان . وكما كان يذهب الأولاد الصغار إلى (الكركوزاتي) كذلك كان يذهب إليه الشباب والشيوخ من أهل الحارة. ولم تقتصر مهمة الكركوزاتي على تسلية الناس فقد كان ناقدًا في أمور الاجتماع والأخلاق والسياسة203.
وبوجه عام فإن ارتياد مقاهي (الكركوزاتي) كان للطبقات الشعبية، مع ذلك فهو ((أكثر الملاهي استجلابًا للزبائن من كهول وشباب وأولاد )) 204. ويبدو أن التمثيل في أول مراحله كان استمرارًا لتقليد قديم هو كراكوز، ويعده البعض ((طليعة السينما ))205.
والتمثيل هو شكل أرفع درجة من أشكال الثقافة العامة في دمشق وكان الاسم الغالب على المسارح في تلك الأيام (التياترو) وراجت في دمشق أواخر القرن التاسع عشر مدة ست سنين وغصت المسارح بالمتفرجين، ثم صدرت الأوامر بتعطيل (القوميدا)، لأن من الصناع والعمال يصرف ما يكسبه من المال على الفرجة206.
ولم يكن هذه يعني نهاية تمثيل الروايات، فقد سمحت الحكومة بقدوم رجال ونساء من الأرمن والروم ويمثلون الروايات الإفرنجية، كما حضرت جوقات من مصر لتمثيل الروايات العربية 207 .
ومن مسارح دمشق في تلك الفترة مسرح (قهوة الجنينة ) ومسرح ( الإصلاح خانه) ومقهى ومسرح زهرة دمشق208. وقدّمت في لبنان صيف 1915م تمثيلية (اليتيمتين) اشترك بها الشيخ سلامة حجازي وجورج أبيض ((وكان الأول في أوج مجده الفني الطويل يطلق أغنياته فيشير حماس المتفرجين))209.
ووجد في دمشق مسرح للغناء والرقص في بستان البلدية قُدم فيه في نيسان 1918 جوق نمساوي وجوق غناء ورقص عربيين210.
وعرفت السينما أواخر الفترة موضوع الدراسة وكانت في حالة بدائية تبدو حركات الممثلين وكأنها حركات دمى. وكانت تعرض في صالة مقهى زهرة دمشق في المرجة، وطرازها كطراز المسارح التمثيلية أي تحيط الألواح بالصالة211.
ويعتبر الغناء سببًا من أسباب التسلية العامة، فهو ((لذة السمع وربيع القلب ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب، لعظم توضع الصوت الحسن من القلب وأخذه بمجامع الأنفس، وهذه الحرفة بدمشق رائجة دائمًا حيث في زمني الربيع والصيف يقصد أكثر الناس المتنزهات والبساتين لترويح النفس، فلا يخلو جمعهم من وجود من يغني، وكذا في زمن الشتاء مجتمعون في البيوت يقطعون ليلة بالسهر))212. وقد كثر في هذه الفترة المحترفون بضرب العود من المسلمين واليهود والمسيحيين ((يدعوهم من كان عنده وليمة للقيام بما يطرب المدعويين. (والآن) كثيرون من الأكابر والمتوسطين تعلموا الضرب على العود في بيوتهم)) 213. أما المغنيات في التياترو في تلك الفترة، فقد اصطلح على تسمية البلديات منهن بالمغاني واللواتي يأتين من مصر بالعوالم . وذُكر أن معظم المغاني المحترفات للغناء والرقص هن يهوديات، وأنه كان يفد إلى دمشق عدد كبير من مغنيات الأروام والأرمن والأتراك. وكان يغني على تخوت المسارح في دمشق المغنون والمغنيات من مصر كعبده الحمولي والسيد عثمان والشيخ سلامة حجازي فضلاً عن الست ليلى ومنيرة المهدية ومثيلاتهما214.
وهكذا لم تكن دمشق ساكنة خاملة فقد كانت، وقبل جلاء العثمانيين عن أرضها، حافلة بالنشاطات الفكرية والفنية إلا أن ذلك ظل في حدود ضيقة واقتصر على النخبة وعلى أسر معينة . قبل أن تنتقل دمشق من العهد العثماني إلى عهد جديد، بدأت رياح التغيير تخترق دمشق، كسائر بلاد الشام والدولة العثمانية، من خلال تسرّب التأثيرات الغربية وتزايد النشاط التجاري الخارجي، وكان لهذا أثره البالغ في إجراء تغييرات جذرية في نمط الحياة، ورغم الانتقاد الذي يوجهه أحد المعاصرين215 للغرب بسبب الاعتماد عليه في جميع الحاجيات ولوازم الحياة والانهماك في تقليده، لم يسعه إلا أن يحث على مجاراته في سلوك طريق العلوم والصنائع العصرية وتحصيلها بإمعان وإتقان، ((فإن فعلنا ذلك رجونا الحياة وإلا فلا حياة لأمة بدون علم)) . إلا أن الاعجاب بالغرب لم يكن مطلقا ويرى أحد المعاصرين216 أن ((القوم اليوم )) في أوروبا وأمريكا أكثر انصرافًا إلى المال وجمعه منهم إلى ترقية العقول والتنقيب عن العلم في مطانه المستوره، والمشتغلون بالعلم هم جزء صغير جدًا من السكان خلافًا لما يظن عنهم في هذه الديار. وتحصيل المعارف عند الجمهور منهم إنما هو سطحي فقط، إلا من اتخذ العلم مهنته. أما التجّار والصناع . فلا يعبأون بالعلم، اللهم إلا إذا كان مخترعًا .
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: صفحات من تاريخ دمشق، و دراسات أخرى، 2006، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص65 -110. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |