رمضان ششن
عثرت على هذه الرسالة، أثناء بحثي حول مخطوطات الجغرافيا، بين مخطوطات معلّم جودت في استانبول تحت رقم 0.96، وهي مكتوبة على الرق بالخط الريحاني المشكول، بمقياس 25×5,32 (18×5,25) سم، ومسطرتها 13 سطرًا. وتقع الرسالة في 27 ورقة، إلاّ أن بعض الأوراق منها قد تأثر بعوامل الرطوبة، وسقطت منها عدة كلمات1. وقد كُتِبت تلك الرسالة على غرار كتب عجائب المخلوقات، ولم يُذكر عنوانها ولا اسم مؤلفها. ومع ذلك فإن المؤلف يذكر في المقدمة والخاتمة بعض صفات الشخص الذي أهداها غليه، فيقول إنه صاحب «المقام الشريف العالي النجمي قاضي القضاة ابن صصري الشافعي». وقد تبين لنا من البحث أن الشخص الذي تنطبق عليه هذه الصفات هو نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصري الربعي الدمشقي الشافعي. ولد في دمشق سنة 655/ 1257، وقام بالتدريس في المدرسة العادلية سنة 682/ 1283، وفي المدرسة الأمينية سنة 690/ 1291، كما عمل في ديوان الإنشاء ثم تولى منصب قضاء العسكر ثم منصب شيخ الشيوخ. وفي عام 720/ 1320 تم تعيينه على قضاء دمشق ومات فيها عام 723/ 1323. وقد عُرف بالثراء وحمايته الشعراء والأدباء وكثرة عطاياه وإحسانه2.
واعتمادًا على ذلك يتبين أن الرسالة كتبي فيما بين أواخر القرن السابع/ الثالث عشر وأوائل القرن الثامن/ الرابع عشر. وتمثّل هذه الفترة ذيوع الكتب التي وضعت في عجائب المخلوقات، والرسالة نفسها في هذا الموضوع. ومع ذلك فلم نعثر على شيء يدل على استفادة المؤلف من كتابي القزويني المتوفى سنة 682/ 1283 وعماد الدين بن الأثير المتوفى سنة 699/ 1300. ونرى من بين الكتب التي اعتمد عليها المؤلف كتاب الحيوان وكتاب الأحجار وكتاب كيفية وضع الأرض لأرسطو (انظر 1 آ، 22 ب، 24 آ)، وجغرافية بطليموس (5 ب، 6 آ، 14 ب، 21 ب) ومروج الذهب للمسعودي (1 ب، 20 آ) والآثار الباقية للبيروني (10 ب) ومدخل السنجري (1 ب) وعجائب الموجودات (7 آ، 8 آ- ب، 13 آ، 26 آ) وتحفة الغرائب (7 آ- ب، 18 آ، 20 آن 21 ب، 22 آ، 23 آ، 24 ب). كما ينقل المؤلف عن البيروني والسمرقندي في (3 ب، 5 آ) بدون ذكر كتابيهما. ولهذا لم نستطع التأكد من ماهية هذين الكتابين. ولكننا نجد النقلين المذكورين في كتب مثل معجم البلدانلياقوت الحموي وعجائب المخلوقات للقزويني. ويتضح من هذا أن أغلب المصادر التي اعتمد عليها المؤلف لم تصل إلينا.
ويذكر المؤلف في المقدمة والخاتمة أنه سوف يدرج في الرسالة جدولًا ييسر التعرف على حساب أوائل الشهور، ورؤية الأهلة، وحساب تحديد المواسم. ولكن النسخة لا تحتوي شيئًا من ذلك.
وتتكون الرسالة من مقدمة وثلاثة عشر قولًا (مبحثًا) وخاتمة). لكن المؤلف لم يذكر القول (المبحث) الخامس، كما أعاد الحديث مرة ثانية موجزة عن بحر الخزر في القول الثاني عشر بدون فائدة. وتظهر المباحث على النحو التالي:
المقدمة (ا آ- 2 ب)، القول الأول على كرة الأرض (2 ب- 4 ب)، القول الثاني على كرة الماء (4 ب 6 ب)ن القول الثالث في بحر طنجة وسبته ومرطانية وأفريقية ومصر والشام والروم (6 ب- 8 ب)، القول الرابع في بحر طرابزندة ويسمى الأسود (8 ب- 9 ب)، القول السادس في بحر الخزر (9 ب- 1 ب)، القول السابع في بحر الصين (10 ب- 14 ب)ن القول الثامن في بحر الهند المتصل ببحر الصين (14 ب- 17 ب)، القول التاسع في ذكر بحر فارس (17 ب- 20 آ)، القول العاشر في بحر القلزم المتصل ببحر الهند (20 ب- 21 آ)، القول الحادي عشر في بحر الزنج المتصل ببحر الهند والقلزم (21 آ- 23 آ)، القول الثاني عشر في بحر الخزر (23 آ- ب وهو تكرار القول السادس موجزًا بدون جدوى)، القول الثالث عشر في منابع النيل وما معه من الأنهار الكبار والعيون العجيبة والآبار (23 ب- 27 آ)، الخاتمة (27 آ- ب).
والواضح من الرسالة أنها تتحدث فقط عن كرة الأرض، والبحار والأنهار والعيون، كما تحكي العجائب في تلك الأمور. ولا شك أن افتقاد الرسالة لمبحث من مباحثها، والتكرار الموجز لمبحث آخر، يجعلنا نعتقد أن تغييرًا وقع في ترتيب الرسالة أو انها كتبت على عجل.
وتحتوي الرسالة على معلومات جغرافية صحيحة، كما تضم إلى جانب ذلك أمورًا خرافية على غرار كتب عجائب المخلوقات. وينقل مؤلفها أغلب هذه المعلومات الخرافية عن كتابَيْعجائب الموجودات وتحفة الغرائب، وكلاهما لم يصل إلينا ولا نعرف مؤلفيهما. ويتضح من النص أن الجغرافيين المسلمين لا يعرفون شيئًا كثيرًا عن البحر الأسود وبعض الجزر. إذ يعتقد المؤلف، كما يعتقد كثير من الجغرافيين الآخرين، أن البحر الأسود يتصل من الشمال ببحر البَلْطيق وبحر الشمال، ويتعرض في هذا المبحث لبلاد الفرنج والورنك وانكلتره. كما يقع في بعض الأخطاء أيضًا حول البلاد المجاورة لبحر القلزم والبحر الفارسي. ويخلط المؤلف الواقع بالخرافة في موضوع منابع النيل وفروعه، ويخلط بين نهر سيحون ونهر الرسّ، بل ويقول أيضًا إن دجلة يمر على شهر زور (السليمانية) بعد آمد، وإن شط العرب يتفرع إلى ثلاثة أفرع، ثم يصب في خليج البصرة.
ومما يسترعي النظر في الرسالة عدا ذلك وجود بعض الأخطاء النحوية وركاكة الأسلوب. كأن يقول مثلًا في الورقة (4 ب): «... من العشرين وإلى تسعين وعشرين... والرابع من ذلك وإلى تسعة وثلاثين...»، وفي الورقة (15 ب): «وبقيوا...»، وفي (16 آ): «ويخرج من البحر إلى أشجارها سمك يصعدون إليها ويمتصون من ثمارها فيصادفون...»، والصحيح ويخرج من البحر إلى أشجارها سمك يصعد إليها ويمتص من ثمارها فيصادف ثمرة... ثم إنه يستمل كثيرًا الفعل قبل الفاعل في صيغة الجمع. مثل «ويزعمون البحارة... ويقولون التجار..».ولسوف يتعرض القاؤئ بسهولة على هذه الأخطاء عند قراءة النص ومقارنته بنصوص الكتب المذكورة في التعليقات.
نص الرسالة
ولا زالت الأقدار تمنحه المنى ولا برحت كفّاه ينهلّ رفدها | ويقضى بما تختار من سعودها وتحيى نفوس الطالبين بجودها |
أما بعد فهذه تحفة لطيفة وهدية ظريفة شرُفت بمن أُهديت إليه وهو سيدنا ومولانا المدعو أسبغ الله جلايل نعمه عليه تختص بصورة جغرافيا وهي لفظة يونانية معناها صورة شكل الأرض وما فيها من الأقاليم وغرائب المصنوعات وكيفية انبساط كر [ويته] على وجهها وأوضاع وأشكال ما فيها من البحور الزاخرة والجزاير المشهورة والأنهار الكبار والبحيرات الحلوة والحيوان العجيب والجبال والمدن والأمصار. وَضَعَ ذلك حكماء اليونان لملوكهم ليعلموا بها حدود الممالك وسَعتها واختلاف ألسنة سُكّانها وألوانهم وسياسة أخلاقهم وعروض البلاد وأطوالها وسهول الأرض ونجودها. إذ كانت سياسة الممالك عائقة لمعاناة الأسفار.
(b1) ولم يكتفوا في علمها بالخبر بل أرادوا أن يُشاهدوا ما فيها من المدن البلاد وأوضاعها مشاهدة حسية، فمثَّل لهم العلماء مثال ذلك بعد أن حرروا مقادير مساحة كرة الأرض وسطحها وبحارها وجزايرها المشهورة ومواقع مدنها إلى غير ذلك مما اعتُنِي بتحريره أفاضل الملوك أيضًا كآفريدون وأردشير والاسكندر وبطلميوس والخليفة المأمون رحمه الله تعالى.
جمع العبد برهانها وترجمة وضعها من كتاب عجايب الموجودات وكتاب تحفة الغرائب وكتاب مروج الذهب وكتاب المدخل للسنجري وكتاب برهان كيفية وضع جغرافيا لأرسطو وغيره [لمن يريد] على الاختصار وجعلها دليلًا واضحًا على أن الأقاليم الذي نحن فيه قريب من الاعتدال وأن عقول أهله أرزنَ العقول وأشكال صورتهم أحسن الأشكال لكونه وقع في أواخر الثالث وأوائيل الرابع من الأقاليم، وأنه لم يزل مَظْهرًا للأنبياء صلوات الله عليهم وموطنًا للعلماء ومقرًا للحكماء والصلحاء، وأنّ من آتاه الله بهذا الإقليم علمًا وحُكمًا وولّاه أمور الرعية وزاده بسطة في العلم والفضل والقضايا الشرعية يكون لا شك مُقِرًّا (a2) في الفضايل على سائروُلاة أمور الأقاليم. ولا سيما مَنْ غَمَر بإحسانه الرعية وأيد الله به الأحكام الشرعية وهو سيدنا ومولانا المشار إليه في صدر الكتاب قاضي القضاة ملك الفقهاء رئيس الأصحاب أدام الله أيامه وأنفد أحكامه. ثم قرن العبد إلى صورة جغرافيا الموضوعة شَبكةً حسابية لاستخراج معرفة أوائل الشهور في جميع السنوات وللعلم بمواقيت الأهلّة ومواسم الأوقات نِيطَ بها من ألقاب مولانا وسيدنا وقاضي القضاة المشار إليه وأسمايه الشريفة سبعة ألقاب عليها مدار حساب الشبكة ودليلها وإليها مرجع تفريغها وتأصيلها ليُخَلّد حمدُ العبد وثناؤه وشكره لأتعم المقام الشريف المشار إليه إلى آخر الدهر، وليكون سببًا إلى التصفح لهذا الكتاب واستجلاء النظر في محاسن ما وضعته برسم خزانته العالية في كل زمن وعصر وحين ودهر
ولو أن أشجار البلاد خُلِقْن لي وأردتُ حصر فضائل جُمِعتْ له | أقلام خطّ والمداد الأبحرا دون البرية كنتُ فيه مُقصرًا |
وعلى الله يتوكل العبد في وقوع هذا الكتاب من الآراء العالية بالموقع الأوفق (b2) وحُلوله من موضع الخدمة بالموضع المحض من ولاء العبد المحقق إن شاء الله.
القول الأول على كرة الأرض3
أجمع العلماء بالهيئة وعلمها على أن الأرض جسم بسيط طباعه أن يكون باردًا يابسًا متحركًا إلى الوسط. وإنما خُلِقت الأرضُ باردة يابسة للغلِظ والتماسُك إذ لولا ذلك لما أمكن قرار الحيوان عليها ولا حدث النبات والمعدن فيها. ولأنها موضوعة في جوف الفلك كموضع مخّ البيضة في البياض منها بمركزها. فالأرض مركز للأفلاك وهي واقفة في الوسط والماء محيط بها إلّا المقدار البارز الذي جعله الله تعالى مقرًّا للحيوان. فإنه بمنزلة التضاريس الخارجة من الماء كالخشونات على ظهر الكرة. وجعل الله تعالى هذه التضاريس محلًّا للحيوان البرّيّ وجعل ما بينها من الوهاد المعمورة بالماء مقرًا للحيوان المائي. وكل واحد من الأركان الأربعة أعني العناصر فهو في حيزه مُحيط بالآخر إلّا الماء. فإنه مَنعته العناية الإلهية عن الإحاطة بجميع جوانب الأرض لما تبيّن لنا أولًا من الحكمة، ولِما بيْن مركز الشمس ومركز الأرض من المخالفة. فإن الشمس تدور في مركزها الخاصّ بها الذي هو غير (39) مركز الأرض فَتقْرُبُ من جانب الأرض وهو الجنوب موضع مدار خضيضها وتبعُد من جانب الأرض وهو الشمال موضع مَدَارِ أوجها فانجذبت المياه إلى جهة الجنوب وانحسرت عن جهة الشمال لذلك. فصار الشمال أرضًا يبسًا فتمت الحكمة وأُتْقِنَ نظام خلق الحيوان والنبات والمعدن.
قال أصحاب الهيئة: والدليل على أن الرض كُرة مستديرة الشكل أنا اعتبرنا خسوفَ القمر فوجدناه في البلاد المشرقية والمغربية مختلفًا متفاوت الأوقاف. فلو كان طلُوعه وغروبه في وقت واحد بالنسبة إلى الأماكن لما اختلف. قالوا أيضًا: ولأن الضارب في الأرض يرى أبدًا نصف السماء. وكلما انتقل من موضعه إلى موضع آخر جنوبًا او شمالًا ظهر له ما خفي من الجانب الآخر من السماء وخفي عنه مما كان ظاهرًا بمقداره. قالوا أيضًا: وبُعْد الأرض من السماء من جميع جهاتها تُساوي. ليس شيء من ظاهر سطح الأرض أسفل كما يتوهم كثير من الناس. بل كل موضع يعيش فيه الإنسان على سطح الأرض فرجلاه أبدًا مما يلي الأرض ورأسه مما يلي السماء. قالوا أيضًا: وللأرض منافذ وخُلْجان وأنهار وبطايح وآجام وغُدْران (ط 3) وليس فيها قدر شبر إلّا وهناك معدن أو نبات أو حيوان.
وقال أبو الريحان الخوارزمي4 في مقدار جِرْم الأرض ومساحتها: طولُ قُطر الأرض بالفراسخ ألفان ومائة وثلاثة وستون فرسخًا وثُلُثا فرسخ ومساحةُ سطحها أربعة عشر ألف ألف فرسخ وسبعمائة ألف فرسخ وأربعة وأربعون ألف فرسخ ومائتان واثنان وأربعون فرسخًا وخُمس فرسخ. قال: وكل ثلاث فراسخ بريد من البُرد وكل فرسخ ثلاثة أميال وكل ميل أربعة آلاف ذراع وكل ذراع ثان قبضات بالأربع أصابع من الكف غير البَهَام. وهو أيضًا ثلاثة أشبار بالشبر التام وخطوة من خُطا الرجال المتوسِّطة تقريبًا. والأصبع ستة شعيرات متلاصقة ببطونها. والشعيرة الواحدة ستة شعرات من شعر الخيل. قال: ومقدار هذا الذراع بالقراريط أربعة وعشرون قيراطًا. والقيراط بقدر المفصل من الأصبع الوسطى من الكفّ تحقيقًا. قال: وكل درجة فلكية فحِصَّتها من الأرض تسعة عشر فرسخًا. وذلك ستة وخمسون ميلًا وثلثا ميل.
وقال أصحاب5 الهيئة في سطح مُعدَّل النهار: إنه دائرة متوهمة تسمى خط الاستواء يقطع الكرة بنصفين متساويين؛ أحدهما (a4) النصف الشرقي والآخر النصف الغربي فيكون أرباعًا رُبْعان جنوبيان وربعان شماليان. فالشماليان هما المعمور من الأرض يشتملان على ما يُعرف من البلاد ويُسلَك من البحار والجزاير والجبال والأنهار والمفاوز والقُرى. على أن تحتها قطعة غيرُ معمورة لإفراط البرد وتراكم الثلوج. وهي ما تحت القطب الشمالي في أقصى الشمال. وأما الجنوبيان فمعمور منهما نحو من ستة عشر درجة وباقيها مَغْمُورٌ بالماء ومُحْترِق بشدة الحر لم يُسْلَك ولم يأت منه أحدٌ. والربع الغربي منها أشد احتراقًا وخرابًا من الشرقي وهو المتاخم ليَمْيَمَ ولَمْلَمض وغانة وبربر السُودان الخارجين عن الاعتدال القريبين من أخلاق الوُحش في أخلاقهم.
وقالوا في الأقاليم السبعة6: إن هذا النصف الشمالي مقسوم من خطّ الاستواء وإلى جهة القطب الشمالي بسبعة أقسام. كل قسم منها يُسمى إقليمًا. كأنما هو في التوهم بساط مفروش من المشرق إلى المغرب طولًا ومن الجنوب إلى الشمال عَرْضًا. وهي مختلفة الطول والعرض. فأطولها وأعرضها الإقليم الأول. وهو نحو ثلاثة آلاف فرسخ طولًا ونحو مائة وخمسين فرسخًا عرضًا. وهي التي من اثني عشر درجةً (b4) وإلى عشرين درجة شمالًا. والإقليم الثاني من العشرين وإلى تسعة وعشرين درجة، والثالث منها وإلى ثلاثة وثلاثين درجة، والرابع من ذلك وإلى تسعة وثلاثين درجة، والخامس إلى ثلاثة وأربعين درجة ونصف درجة، والسادس إلى خمسين درجة ونصف درجة، والسابع إلى ستين درجة ونصف. وما وراء الأقاليم فإلى ستّة وستين درجة ورُبْع وسُدُس درجةٍ معمورًا. ثم إلى تمام تسعين درجة خرابٌ لا تُسْكنُ لتراكم الثلوج عليه وبعد الشمس عنه.
وقالوا: وبهذه الأقاليم المذكورة نحو المائة والستين مملكة من الممالك الكبار كمصر والشام والروم والحجاز واليمن وأشباه ذلك من الممالك، وبها من الجبال المشهورة الكبار المتصلة نحو المائتين والستين جبلًا طولُ الجبل الواحد منها يومان وثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك، وبها من الأنهار الجرارة الكبار التي تحمل السُّفنُ نحو من أربعين نهرًا كلها مثل النيل وجيحون وأتل ودجلة والفرات وخمران ومنخار وغيرها، وبها من المدن المعمورة التي أُحْصِيت في زمن أردشير أربعة آلاف مدينة وخمس مائة ونيّف وثلاثين مدينة والله سبحانه أعلم.
القول الثاني على كرة الماء
قال الهَيْئُون: الماء المحيط بالأرض هو جرم (a5) بسيط طباعه أن يكون باردًا رطبًا مُشِفّا متحركًا إلى المكان الذي تحت كرة الهواء وفوق الأرض وهو البحر المحيطُ الذي منه مادة سائر البحار ور يُعْرَف له ساحل. واليونان يسمونه أُوقْيانوس. وكل البحار التي على وجه الأرض فإنها بمنزلة الخُلْجان له. وفي سَواحل أوقيانوس المذكور من الجزاير الكبار المسكونة والمُعطَّلة كثيرٌ لا يعلم عددهن إلّا الله تعالى. وهذا البحر لا يلجه مركب ولا يُلجج فيه إلّا تاه وربما يَهْلك7.
وذكر السمرقندي في كتابه8 أن الإسكندر ذا القرنين لما مُسِحت له البحار والأنهار والجبال والبحرات (البحيرات) وعُرضت عليه مثالاتُها ومواقع البلدان بأطوالها وعُروضها، فأراد أن يَعْلم ساحل البحر المحيط المسمى أوقيانوس فبعث جماعةً في عدة مراكب مُقَببيّة لا تكاد تَغْرق وحملها الماء والزاد وأمر أهلها أن يسيروا سنة كاملة ليأتونه بخبر. فساروا متفرقين من مجاري متفرقة على نوٍّ واحد متقارب المجرى حتى أكملوا السنة، فلم يروا إلّا سكح الماء. ثم رجعوا إلّا مركب واحد. فإن أهله لما أرادوا الرجوع قال بعضهم لبعض: تسير شهر آخر لعسى نطلَعُ على شيءنُبَيِّض به وجوهنا عند الملك ونُقلّل الماء والزاد في الرجوع. فساروا دون الشهر (b5) فإذا هم بمركب فيه أناسٌ فالتقى المركبان، ولم يفهم أحدهما كلام الآخر فدفع قومٌ ذي القرنين إليهم امرأة وأخذوا منهم رجلًا، ورجعوا إلى الإسكندروأزوجوه بامرأة ممن معهم في المركب. فأتت بولدٍ يفهم كلام الأبوين. فقالوا له وقد تكلم: سل أباك من أين جئت؟ قب. فقيل: لأي شيء جئتَ؟ قال: بعثنا الملك لنعلم حال هذا الجانب. فيقول له: وهل ثم ملك؟ قال: نعم ملكٌ أعظم من هذا الملك وممالِك أعرض من هذه الممالك. والله سبحانه أعلم بصحة هذا القول، وإن كان غير مُسْتَبْعَد عن قدرة الله تعالى.
قالوا: وحدود البحر المحيط أوقيانوس9 من الساحل الشرقي أقصى صين الصين عند طول مائة وأربعة وستين درجة من درجات الطول وعند عرض اثنى عشر درجة ونصف درجة خلف خط الاستواء حيث مصب نهر خمْران الأعظم وحيث جبل السحاب الحائل بين البحر المحيط والبحر المنسوب إلى الزنج والهند والصين والهركند. ومن هناك مخرج البحر المشار إليه. وله أيضًا مخرج آخر من أصل جبل اصطيفون وهو جبل واغلٌ في البحر محيط بجزيرة السحاب وجزيرة القَشْمير وجزاير الياقوت وجزيرة صُبُح والجواهر ولا جبل أعظم منه هناك.
وقال بطليموس: في ساحل البحر المشرقي أصنام كثيرة (a6) البرية بأيديها مفاتيح تشير بها أن ليس خلفنا من جهة المشرق عمارة ولا مسلك. قال: وهذه الأصنام والأصنام التي في الجزاير الخالدات10 والصنم المعروف ببادس توازيها في المحاذاة على الخط الذي يخرج من المشرق إلى المغرب وساحل البحر المحيط المغربي عند أول درجة من الطول من أقصى المغرب على حد خط الاستواء. وهناك أحد الجزاير الخالدات. ثم يمتد في الطول والعرض إلى مخرج بحر طَنْجة وسَبْتَة والروم. فيخرج منه بحر الروم المذكور من بين جبلين ويندفع إلى جهة المشرق في نحو طول ستين درجة وعرض خمس مائة فرسخ إلى سبع مائة فرسخ. وهذا المخرج المذكور يسمى زُقاق سبتة. وهناك غربَ الزُّقاق داخل البحر المحيط ثلاث جزاير متساوية المقدار تسمى الخالدات. وفي كل جزيرة منها صنم بيده مفتاح ٌ يشير به أن ليس وراءنا عمارةٌ. قال: وساحل المحيط أيضًا من جهة الشمال الأقصى مخرج بحر أفرنجة والبَيْط والبَيْطا والكِلابية والصقالبة. وفيما بين الزقاق وبين الحدود المذكورة خليج بادس وهو بحر خارج من المحيط بحد جزيرة الأندلس من جهة الشمال مخرجه جزيرة بادس، بها منارة عظيمة معمورة من صلد الحجارة كهيئة الأهرام المصرية (b6) لا يعمل في صخرها حديدٌ ولها أساس راسخ وليس لها باب ومقدار ارتفاعها نحو تسعين ذراعًا وعلى رأسها صنمٌ ويده اليمنى ممدودةٌ إلى البحر المحيط. كأنه يشير بأصبعه إلى شيء ويُسمى صنم بادس والله أعلم.
القول الثالث في بحر طنجة وسبتة ومرطانية وإفريقية ومصر والشام والروم11
وهو بحر واحد متصل يسمى من كل ناحية باسم الإقليم والبلد المجاور لساحله بها. وهو بحر مأمون الغائلة مبارك وله جَزْرٌ ومد يظهر في زقاقه المذكور. وذلك أنه من طلوع الشمس أبدًا إلى الزوال يجزرُ وينصب إليه الماء من أوقيانوس المحيط. ثم يصبّ هو في المحيطمن الزوال إلى غروب الشمس، ثم يصب فيه المحيط من المغرب إلى نصف الليل، ثم يصب هو في المحيط من نصف الليل إلى طلوع الشمس. وبهذا البحر من الجزاير المشهورة جزيرة أقريطش بها مُدُن وقرى وجبال وأشجار وأنهار، وبه جزيرة برشلونة كذلك وجزيرة بلنسية كذلك وجزيرة صقلية كذلك، وبها جبل اللكام وهو جبل مطل على البحر ذروته نحو ثلاثة أيام، وفي ذيله أشجار وغالبها البندق والصنوبر والأرز وحوله قرىً كثيرةً وفي أعلاه منافسٌ تخرج منها النار تُرى ليلًا من مسيرة (a7) يومين في البحر وترى في النهار دخانًا عظيمًا وحولها رمادٌ عظيم قد أحاط بها لا يمكن خوضه لأحد لنعومته وحرارته ويصعد من تلك المنافس حجارةٌ محترقة مشتبكة يحملها اللهبُ إلى عنان السماء. ثم يقذف بها يمنةً ويسرةً فيصل منها إلى البحر أحجارٌ فتعوم على الماء لخفتها. ومنها حجارة حكِّ الأرجل بالحمام. وربما سالت النار الخارجة منه إلى بعض جهاته فتحرق ما تمر عليه وتجعله كخبث الحديد. ومع ذلك فلا يزال أعلا هذا الجبل مكْسِيًّا بالسحاب والثلج والمطر صيفًا وشتاءً ويسمونه اليونان جبل الذهب لما فيه من معادن الكبريت ومعدن الذهب. وفيه أيضًا عينان تجريان أحدهما تجرّ نهرًا باردًا حلوًا والأخرى سخينة شديدة الحرارة، وبين منبوعينهما نحو من عشرين ذراعًا. قال ذلك صاحب عجائب الموجودات. وبهذا البحر أيضًا جزيرة جالطة12. قال صاحب تحفة الغرائب: هذه الجزيرة مملؤة غنمًا جبلية ليس فيها غير الغنم. فإذا وصلت إليها المراكب أوسقت وسقها والغنم في تبارك أبدًا. قال: ولا يقدرون الناس على سُكنى الجزيرة لما يعرض لهم من الفناء والوباء بها. قال: وبالقرب منها جزيرة (b7) صغيرة تُسمى جزيرة الموت لا يسكنها أحدٌ وبها نبات وأشجار من شم شيئًا من زهره أُغمى عليه. فإن تداوم اشتمامه للزهر مات. ومن استظل بظل تلك الشجرات وقعد تحتها مقدار ساعة من نهارٍ مات أيضًا. قال: وورقُ هذه الشجرات يشبه ورق السِّذَاب، ولبست هي الغربيون.
قال صاحب كتاب تحفة الغرائب: وبه جزيرة الغراب13 بالقرب من ساحل الأندلس وزقاق بحر البنادقة بها كنيسة كبيرة بها قبة عالية وعلى رأسها غراب يُرى أبدًا ليلًا ونهارًا من أسفل القبة وحولها. وإذا صعد الإنسان إليه لم يره. وعند ذلك الغراب في أعلا القبة كوة إلى داخل القبة. زائر أو زوَّار صاح الغراب بعددهم إعلامًا لأهل الكنيسة بالزائرين لهم ليهيئوا لهم الضيافة. قال: وبه جزيرة الدير وهي بقرب قسطنطينية والدير الذي سُميت به لا يزال مغمورًا بالماء طولَ السنة إلّا يومٌ واحد فإنه ينكشف الماء عنه، والناس يقصدونه للزيارة والوفاء بالنذر. فإذا كان يوم ظهوره انحسر الماء عنه وبقي مكشوفًا إلى بعد العصر. ثم يسرع الماء يَغْمُره أولًا فأولًا إلى وقت المغرب فيتوارى في الماء إلى مثل ذلك اليوم من السنةالآتية، وذلك مشهور هناك. قال: وبه جزيرة سس بالقرب من هذه الجزيرة وفيها بحرة (a8) حُلْوة بساحلها وللماء المالح بها اختلاطٌ في حال هَيْج الموج وانفصالٌ في حال سكون الماء. ومنها نَهْرٌ يصب في الحلو دائمًا يظهر فيها في كل شهر نوع من السمك لا يرى أحد من الصيادين في شبكته غيره. فإذا تمت السنة ظهر النوع الأول كما ظهر في أول السنة الخالية. كذلك أبدًا. وبهذه البحر جزيرة ميرقة وجزيرة مرسية وجزيرة رودس وجزيرة قبرص وبها صليب وزنه نحو قنطار دمشقي واقف في الهواء بجواذبٍ من حجارة المغناطيس إذا حركه الإنسان تحرك من سائر جهاته وهو واقف في الهواء.
قال صاحب عجائب الموجودات: وبهذا البحر من الحيوان العجيب سمكة كهيئة رجل مُحارب بيده سيف وبالأخرى تُرسٌ وعلى رأسه بيضة وهو بجملته جسد واحد لحم حساس متحرك يُسمى سياف البحر وسمكة لها وجه كوجه الآدمي وله لحية بيضاء كبيرة ولون جسده كلون الضِفدع ومقداره في الحجم كمقدار العجل، ويسمى بالشخ اليهودي. يخرج من البحر ليلة السبت قبل غروب الشمس إلى البر ولا يزال إلى غروب الشمس ليلة الأحد فيدخل البحر. وسمكةٌ أيضًا كهيئة الرجل والمرأة بالوجوه (b8) والأبدانُ أبدان السمك يسمى الذكر شيخ البحر والأنثى بنت البحر14.
وقال صاحب تحفة الغرائب15: بهذا البحر سمكة كبيرة طولها شبر وأكثر وعلى ظهرها مكتوب بالعربية «لا إله إلا الله» ومكتوب خلف أذنها «محمد» وخلف أذنها الآخر مكتوب «رسول الله». قال: وأكثر ما توجد هذه بالقرب من قسطنطينية. قال: فيه سمكة تسمى البغل وهي بحرية برية صوتها كشهيق البغال يسمعه الناس منها إذا خافت أو حدث لها حادث. قال: وسمكة تعرف بحوت موسى عليه السلام طولها أكثر من ذراع وله جنب كهيئة ما قد أكل وجنب سويّ كأجناب السمك والناس يتبركون بها إذا وجدوها ويقولون: «هذا السمك من نسل حوت موسى عليه السلام». وبه سمكة كهيئة القلنسوة البلغارية لا رأس لها ولا عين ولا ذنب. ولها مرارة كمرارة البقر سوداء من كتب استغنى عن الحبر البراق الجيد. وسمكة تُعرف بالمنارة16 تخرج من الماء كهيئة المنارة ثم تلقي نفسها على المركب التي تراه لتغرقه وتبتلع ما فيه. قال: وبالبحر أيضًا طائر أبيض يكاد يُرى في البر. ومن شأن هذا الطائر إنذار المراكب من كل عدو.
القول الرابع في بحر طرابزندة ويسمى الأسود17
[...] (a9) وجزيرة الدوم بها معادن الزمرد والمرمر وأهلها كالتكرور ومعاشهم السمك وسويق الدوم، وجزيرة الأصنام والجزاير الثلاث الخالدات. وجزيرة أماغش بها معادن كثيرة من الفضة والنحاس والحديد والرخام الملكي المرمري والمها الذي هو البلور. وجزيرة أفرنجة وجزاير انكلطر وجزيرة البيط وجزيرة أرمانوس التي فيها الرجال وجزيرة أرمانوس التي فيها النساء، وبها السَنَاقُر الشهب والبزاة الحمر العيون ومعادن الفضة. وبهذه الجزرات كلها أفرنج غتم بيض الشعور كأنما شعورهم الكتان بياضًا ونعومة. والله أعلم.
وبأقيانوس ونوطس من الحيوان العجيب سمكة عظيمة تُسمى التنين وتسمى البتان يكون طولها نحو الماية ذراع، وأكثر وأقل. وللناس في صيد هذه السمكة تحيل عجيب. وهو أنهم يصنعون من الحديد كهيئة سكة الحرث تكون نصف قنطارأو أكثر وتكون محددة الرأس، وبها خشبةٌ طولها ستة أذرع وينقشون عليه اسم ملكهم ورنكهم ويحملونها في جوانب السفن. ويكون في تلك الخشبة المتصلة بالحديد حلقة موثقة فيها حبل طويل متين، فإذا سكن البحر ومرت هذه السمكة تحت السفينة (b9) وشاهدوا حركتها في الماء أو شاهدوها أسلوا عليها تلك السكة فإن أصابها غاص بعضها في جسدها فتهرب مجروحة ولا تزال حتى تهلك فيقذفها الموج إلى الساحل، فإن كانت أرض أولئك الصيادين كانت لهم بمجموعها، وإن كانت أرض غيرهم كان لهم ثلثها. وفيه من أنواع الحيوان ما لا يعلمه إلا الله تعالى18.
القول السادس في بحر الخزر19
وهو بحرغير متصل بالمحيط ولا بشيء من البحار. وهو مستدير إلى طولٍ مّا. وإذا أراد السائر أن يطوف به على ساحله لا يمنعه شيء، وهذا البحر في جهة الشمال وعلى ساحله الشرقي وبالقرب منه جرجان وطبرستان، وبالقرب من ساحله الغربي ألَّان وجبال القبجق، وفي شماله بلاد الخزر وفي جنوب منه بلاد الديلم. وهو بحر واسع صعب المسلك كثير المهالك والاضطراب. وليس فيه مدٌّ ولا جزرٌ ودورته ألفوخمس مائة فرسخ، وطوله نحو من مائتي فرسخ وثمانين فرسخًا، وعرضه مائتا فرسخ. وفيه من الجزاير أربعة مشهورة غير مسكونة أحدها خراب جبلية من طينٍ أسود كالقبر وفي ذروة جبلها شق يخرج منه الماء ويخرج (a10) مع الماء منه قطع من الصفر كهيئة الدوانيق وأكبر وأصغر. وحول الجبل20 حيات غالبة على أرضه كثيرات لا يقدر أحدٌ يضع رجله إلّا على حية لكثرتها فيه وهي متلفة بعض لبعض ولا يؤذي أحدًا من الناس الداخلين إلى الجزيرة، وبين الحيات وبين الجبل طيرٌ كثير يبيض ويفرخ ولا تؤذيه الحيات. وثاني جزاير البحر المذكورة جزيرة الجان ليس فيها ساكن من الناس ولا أنيس ولا وحوش ويسمع السامع منها أصوات عجيبة وزعجات يخاف منها السمع لها. والجزيرة الثالثة جزيرة الكباش الجبلية وهي ما بين الخزر وبلغار. وبها هؤلاء الكباش مثل الجراد كثيرة. والجزيرة الرابعة جزيرة بها حصن منيع.
قالوا: وَمِن بحر الخزر يرتفع التنين21 كما يرتفع من بحر الروم. وكيفية التنين إذا وصفناه هو ماءٌ بخاري يجتمع كالزَوْبَعَة من اصطدام ريحين مختلفين. فيرى ذلك كأنه حية عظيمة سوداء مجتمعة الصورة. ولونها شبيهة بالسحاب الأسود. ويزعم الخزر أن ذلك تنين وأنه يؤذي بذنبه ما يمسه من الأشياء. ويزعم بعضهم أنه حيوان بري وله أنفاس تحرق ما وصلت إليه، وأنه إذا عتا هذا التنين وطغى على دواب البحر نقلته الملائكة (b10) إلى البحر المحيط. وزعم بعض أن التنين ينقله ملك من البحر إلى جهنم ليكون من حياتها العظام الخالدة بها. والله أعلم بصحة ذلك. ومن مشرق هذا البحر بحرٌ أصغر منه بينه وبينه نحو فرسخ وليس به جزيرة وهو معه في التسمية. والله أعلم.
القول السابع في بحر الصين الشرقي22
وهو متصل بالمحيط من جهتي المشرق والجنوب، ويحجزه جبل عظيم مديد من جهة أرض الصين ومجرى نهر خمران الأعظم. ثم يمتد هذا البحر من جهة الجنوب إلى الشمال خليجان عظيمان محيطان بجزيرة طولها نحو من شهرٍ ونصف وعرضها الأعرض نحو خمسة عشر يومًا. وهي أقصى جزاير الصين الداخل خلف خط الاستواء. ويلتقي الخليجان على خط الاستواء حيث لا عرض. ثم ينفرش الماء بحرًا عظيمًا وهو بحر الصين الغربي المتصل بالهند وفارس والزنج والقلزم. وحدوده المخصوصة بالصين من جزاير الزابج وممالكها وإلى جهة المشرق ويسمى بجملته بحر الهركند. وهو كبير الموج عظيم الاضطراب بعيد العمق وجميع المد والجزر فيه وفيما هو متصل به.
قال أبو الريحان الخوارزمي (a11) في كتابه المسمى بالآثار الباقية23: إن بحر الصين إذا قرب هيجانه يستدل على ذلك بارتفاع السمك من قعره إلى وجه الماء. وإذا دنا سكونه يبيض طائر مشهور للبحريين به مجامع القذا. وهذا الطائر لا يصبر إلى البر ولا يعرف غير لجة البحر. قال: ووقت سكون البحر وقت يبيض هذا الطائر لا يتقدمه ولا يتأخره. وفي هذا البحر بحر الصين مغاص الدر النفيس يوجد في مصب المياه العذبة فيه وعند المنابع العذبة الذي في قعره حيث كانت عيون نابعة فيه. وفي هذا البحر الموضع المسمى دُردُور24 وهو مكان مُهلك إذا وصل إليه مركب بطل سيره وأخذ في دوران أبدًا على سطح الماء هناك إلى أن يموت أهله ويغرق هو. ولا يكاد مركب ينجو منه إذا وصل إليه. ويقال إن هناك دردور يفيض الماء بقعره. والله أعلم بذلك.
وذكر صاحب تحفة الغرائب أن رجلًا من البحرين قال: رَكِبْنا بحر الصين ومعنا جمع من التجار وكان رئيس المركب مكفوف البصر وهو عارف بالبحر وأحواله معظم عند أهل سفينة مشهور بالخبرة التامة فجاءتنا ريح عاصف صرفت المركب عن مجراه المقصود لنا وساقته إلى مجراها ما شاء الله. قال: وكان رئيس المركب معه جملة قناطير حبال لا يزال يوصي بأمرها الملاحين ولا يعلمون ما يصنع بها. (b11) فأصبحنا يومًا وقد سكنت الريح وقلت الأمواج فقال ذلك الرئيس انظروا ما ترون عن بعد وعن قرب وخبروني عن كل ما تبصرونه وتجدونه فأنا خايف من دُرْدُور25. قال: فالتفتوا يمنةً ويسرةً وصعدوا في أعلا دقل للمركب. وقال قايل منهم: رأيت سوادًا كأنه طائر يحوم على وجه الماء وما حققته بالرؤية. فلما سمع الرئيس ذلك استرجع ونادى في التجار: «من أراد السلامة فليحضر ما عنده من المكسود واللحوم والحبال». فلما صار ذلك إليه قاول أهل المركب على مشترى حباله منه، وقال لهم: «يا قوم نحن هالكون إلّا إن أنقذنا الله تعالى من هذا المهلك. فاشتروا ما فيه نجاتكم فهي خير من المال وإن لم تكن نجاة فنحن والمال ذاهبون». فلما اشتروا الحبال وأحضروا اللحوم أمر بربط الحبال في جنبات المركب وفي مقدمه وأوثق في أطرافها اللحوم وأرسلها في الماء مثقلة فغاصت فيه. فلما كان ذلك أمر أهل المركب أن يضربوا على النحاس وبالطبول والبوقات والأشياء المصوتة ففعلوا. وكان السمك قد تعلق بتلك اللحوم وابتلعوا أكثرها. فلما سمعوا إزعاج الأصوات جفلوا جفلة واحدة عن جهة دردور إلى جهة السلامة منه. واستمروا في جفلتهم والأصوات المزعجة كذلك، وهم يأكلون ويجفلون والمركب (a12) منجذب مع السمك حتى بعد عن دردور، ووجدوا الرياح متحركة فأصلحوا قلوعهم وقطعوا تلك الحبال على المركب. وكان ذلك سبب النجاة. وأخبرهم الرئيس أن الطائر الأسود الذي رأوه من بعد ليس هو طائر. وإنما هو مركب.
قال صاحب عجائب الموجودات: ومن جزاير بحر الصين جزيرة الزابج26 في حدوده الغربية أقصى بلاد الهند. بها ملك يسمى المهراج كما يسمى كسرى لمن ملك فارس ويسمى قيصر لمن ملك الروم. قال: ومن شأن هذا الملك أن له جباية تقع جملتها في كل يوم مائتي مَنٍّ من الذهب. كل مَنّ ست مائة درهم. يتخذ منها البنات ويطرحها في الماء وخزانته الماء. وبهذه الجزيرة سُكان أشباه الناس وهم إلى الوحشية أقرب مما هم إلى الإنس يطفرون من شجرة إلى أخرى يأكلون الثمار، ولهم كلام لا يفهمه أحد غيرهم. قال: وبها نوع من السنانير لها أجنحة كأجنحة الخفاش. وهي من أصل الأذن إلى الذنب. قال: وبها وعُول حمر الألوان منقطة بأبيض ولها أذناب كأذناب الظبي ولحومها حامضة الطعم. قال: وبها دابة الزباد تشبه السِّنّور ولونها أبلق وهي أكبر من الهر. وبالجزيرة أيضًا فأرة المسك كبيرة وبها جبل البيضان بها حيات (b12) عظيمة تبتلع إحديهن الجمل أو الفيل، وبها قرود بيض كأمثال الجواميس ونوع منهن بيض الصدور سود الظهور، وبها الببغات الخضر والحمر والبيض والصفر يتكلمن بما يسمعن. وحول هذه الجزيرة جزاير كثيرة تسمى كلها بالزابج، وبها خشب الكافور وهو شجر كبار يستظل تحت الشجرة الواحدة منها مائة رجل وأكثر، إذا نُقِرت أعلا الشجرة سال منها ماء الكافور فيأخذونه منها في الجرار. ثم ينقر في سفلها ووسطها فتسيل قطع الكافور. وإذا خرج ذلك منها ماتت الشجرة ويبست.
قال: وبالبحر المذكور جزيرة رامي بها حيوان شبيه الناس لا يفقه أحد كلامهم وعلى أبدانهم شعور تستر سوأتهم يسكنون الشجر كالطير يأكلون الثمار. طول الواحد منهم أربعة أشبار أو ثلاثة أشبار. وشعورهم حمر وأرجلهم كأرجل الطير. وبالجزيرة شجرة الكافور والخيزران والبقم وشجرة أشبه بالخروب الشامي. لكنه الثمر كالعلقم. وبها الحيوان المسمى الكركدن وهو شبه الحمار لونه لون الفيل، وله قرنٌ بين عينيه غليظ هو سلاحه، حجمه أكبر من الجاموس. وهو عدو الفيل لا عدو له أشد منه. وبها جاموس لا أذناب لها.
ومن جزايره (a13) جزيرة الواق27وهي متصلة بجزاير الزابج يشار إليها بالنجوم. ويملكها امرأة أبدًا، والحديد بهذه الجزيرة والذهب سواء في القيمة. وبها قصر للملكة يدخله نهر وفي ذلك النهر مركب مطلسم وهو من معادن. وهو موثوق بسلسلة من خارج القصر. فمن لدغته حية أو أصابه عارض صرع حملوه أهله ووضعوه في المركب. وأطلقوا المركب من وثاقه. فإن دخل القصر بالعليل وخرج به من الناحية الأخرى برئ العليل. وإن لم يخل به القصر مات العليل، ولم يكن له برؤ من علته.
قال: وسميت بالواق لأن بها شجر يسمع من ثمرها صوت كأنه يقول واق واق. وأهل الجزيرة يفهمون من هذا الصوت شيئًا يتفألون به ويتطيرون منه. وحول هذه الجزيرة جزاير كلهن يعرفن جزاير الواق واق. وفي بعضها معادن الذهب كثير حتى أن الكلاب والقرود بها يسلسلون بسلاسل الذهب ويطوقون بأطواق الذهب. وبالبحر أيضًا جزاير سلا وهن كثيرات. ومن داخل واحدة منها لا يستهى الخروج منها بعد ذلك لطيبتها وكثر الذهب والبزاة الشهب والشواهين والخيرات الحسان. ومن شأن ملوك هذه الجزاير أن بلادهم تقحط ما لم يهادوا ملك الصين، هذا يزعمونه (b13) كذا.
وجزيرة أطوران28 واغلة خلف خط الاستواء بالقرب من جزيرة الدجال، بها نوع من القردة كالحمير والبقر. وبها واد يسمى وادي الهول به حيوان أشباه أبدان الناس ورؤوس السباع يراهم الإنسان من بعدٍ وإذا قرب منهم لم يرهم. ويقال: إنهم جان. وجزيرة القلعة المضية مشهورة. وجزيرة الياقوت والجواهر وجزيرة صبح والعلوية وجزيرة القشمير29 وجزيرة السحاب والرزق والمطر، وجزيرة القمر بها قوم سود كبار الجثث وشعورهم مفلفلة ووجوهم طوال ورجل أحدهم مقدار ذراع طول قدمها، وهم يأكلون الناس.
قالوا: وببحر30 الصين من الحيوان العجيب طائر بحري يرى في الليل نورًا متلأليًا يملأ البصر بضيائه ومن يراه من أهل المركب يستبشر برؤيته. فإنه مبشر بالسلامة. وسيما إن وقع قريبًا من المركب أو مِن على دقل. وبه أيضًا أشخاص أشبه بأولاد الجيوش سود يظهرون عند هيج البحر. وربما يتعلقون بالمركب صعودًا فيه ونزلًا عنه، ولا يؤذون ولا يؤذيهم أحد.
ولا يرى أحد منهن ضررًا ولا نفعًا. وبه طائران بحريان أحدهما تابع يسمى كركر والآخر متبوع يسمى خشنة، وليس (a14) للتابع غذاء ولا قوت إلّا ما يسقط من ذوق المتبوع حال طيرانه. وبه دابة برية بحرية توجد كثيرًا بسواحل جزيرة الياقوت وجزيرة القشمير. لها أنياب معقفة، ولها جناحان ورؤوس كثيرة مجتمعة في عنق واحد. وقوت هذه الدابة من دواب البر ودواب البحر. وبه سلاحف31 كبار استدارة الواحدة نحو من عشرين ذراعًا فما دونها، وبها سمكة يقال لها الطم لها وجهٌ كالخنزير وبدنٌ مثل أبدان الناس وفرج كفرج المرأة، وعلى بدنها شعر كثير. ويزعم أهل الصين وسحرة التتار أن من أخذ شيئًا من شحمها في وقت مخصوص ودهن به بدنه في وقت مخصوص حمله الماء على سطحه كما يحمل الخشب. وبه سمكة يقال لها شيلان تُصادُ وتبقى الستة أيام والأسبوع ملقاةً على الأرض لا تموت. وإذا جعلت وهي طرية مقطعة قطعًا للطبيخ في القدرة وغُطّي رأس القدرة بغطاء مثقل نضج اللحم، وإن تركت القدرة مكشوفة فإن النار إذا أثرت في اللحم طفر من القدرة هاربًا. وبه سرطان32 يكون طوله الشبر أو أكثر يخرج من الماء بسرعة ويصير إلى البر فيصير حجرًا ويزول حيوانيته وهو معروف عند الناس ويدخل في الأكحال (b14) والله أعلم سبحانه وتعالى.
القول الثامن في بحر الهند المتصل ببحر الصين الذي ذكرناه
ولهذا البحر هيج وسكون فابتداء هيجه من حيث نزول الشمس الحوت وإلى نزولها السنبلة لا يزال في تموج واضطراب وظلمة وأمواج مثل الجبال إلى أن تنزل الشمس السنبلة فينزل في السكون، وأسكن ما يكون إذا كانت الشمس في القوس.
قال بطليموس33: ببحر الهند من الجزاير نحو العشرة آلاف جزيرة ويمد ويجزر على حالتين: إحداهما يمد مع امتلاء القمر وزيادته من استهلاله وإلى إبداره. وينقص مع نقصانه من منتصفه إلى سراره.وثانيها مثل مد بحر الصين يمد من طلوع القمر إلى توسطه بوسط السماء. ثم ينقص من توسط القمر إلى غروبه. ثم يمد من غروب القمر إلى نصف الليل. ثم يجزر من نصف ليله إلى طلوعه. وسواء كان ذلك ليلًا أو كان نهارًا . وبحر الهند الذي هو البحر الأخضر من جهة شماله. وسأذكر حدوده في مكان ذكرنا إن شاء الله تعالى.
وببحر الهند من جزيراته المشهورة المعروفة جزيرة برطابيل34 متاخمة لجزيرة الزابج بها قوم أشبه بالأتراك، لهم شعور مثل أذناب الخيل. بها جبال يُسمع منها (a15) في الليل أصوات طبول ودفوف ومعازف وضجات منكرة. والبحريون يزعمون أنها الدجال وأنه يخرج من جزيرته إليها ومنها إلى الدنيا. وبهذه الجزيرة القرنفل الكثير يرسلون التجار بسواحل الجزيرة. ثم يوقدون في الليل نارًا في أماكن عديدة ويعودون إلى مراكبهم فيرون في داخل الجزيرة نارًا موقدة كوقودهم. فإذا أصبحوا نزلوا ببضايعهم وتركوها في الساحل صُبْرات صبرات متفرقات، ثم يعودون إلى مراكبهم ويبيتون بها. فإذا أصبحوا صبيحة اليوم الثاني نزلوا إلى الساحل فيجدون عند كل صبرة من أمتعتهم وبضايعهم صبرة من الفلفل. ومما في تلك الجزيرة من الطيب والصنف. ولا يرون أحدًا من أهل الجزيرة الجالبين لذلك. فإذا وجدوا الأعواض عند بضايعهم فمن رضي بالعوض رفعه إلى المركب وترك متاعه مكانه على حاله. ومن لم يرض تركها معًا على حالهما. فإذا كانت الليلة الثالثة لذلك فقد صاروا أهل المراكب في مراكبهم على العادة جاؤوا أهل الجزيرة. من كان منهم قد رفعت أعواضه رفع متاعه ومن لم يؤخذ منه عِوَضه (b15) زاد زيادة تظهر لغيره. وإذا كان صبيحة تلك الليلة نزل أهل المراكب ورفعوا الأعواض كلها وسافروا، ولا يرى أحدٌ منهم أحدًا من أهل تلك الجزيرة. ويقال: إن تاجرًا ستر نفسه في ليلة مقمرة بتلك الجزيرة. فلما كان وسط الليل أقبل أهلها إلى البضايع فقلبوها وزادوا وأنقصوا.
قال: فرأيت أشباحهم ولم أتحقق صورهم فتجاسرتُ وصرتُ بينهم. فلما رأوني ورأيتُهم تركوا البضائع ولهم همهمةٌ بينهم وزجلةٌ أعرفها وأفهمها. ثم لم يرجعوا إلى الضايع ولا رفعوا شيئًا من متاعهم وداموا على ذلك محجوبين إلى أن أخذنا الأعواض وتركنا أمتعتنا وسافرنا. قال: وبقيوا (هكذا) بعد ذلك ثلاث سنين ولا يأتون إلى ساحل جزيرتهم ولا يتعوضون حتى أسروا من التجار كافرًا. ولما وصلوا قتلوه وصلبوه على خشبة بعد أن أوقدوا نارهم للإعلام بوصولهم. فلما كان الليل رأوا النار. ثم لما أصبحوا وجدوا الأعواض قد وُضعت على العادة. قال: ولما رأيت صورهم رأيت قومًا أشبه بجنس الترك الخطا بشعورٍ طوال جدًّا، وهم قصار جدًّا (a16) وجثثهم كبار ولم يكن على أبدانهم ثيابٌ، ولكن سوءاتهم مستورة.
وجزيرة السلامط35 يُجلب منها الصندل الأبيض والأحمر والسنبل والكافور والدرصيني. ويخرج من البحر إلى أشجارها سمك يصعدون (هكذا) إليها ويمتصون من ثمارها فيصادفون ثمرة مخصوصة يسكر آكلها فيسكرهم فيقطون إلى الأرض ويبقون تحت الشجر ثم يمرون عليهم الناس فيحملونهم ويأكلونهم وللحمهم لذة عظيمة. وبالجزيرة عين فوارة تفور بالماء ثم تفور بالقرب من منبعها ويفضل رشاشٌ من ذلك الماء فيعقد في الليل حجرًا أسود ويعقد في النهار حجرًا أبيض. قال ذلك صاحب تحفة الغرائب.
وجزيرة القصر36 وهو قصر من البللور. والقصر شاهق في الهواء عالٍ جدًّا يرونه البحريون من مسيرة يومين في البحر. وسكانه قوم لهم قوة وبأس شديد. وهم قوم ذووا أبدان كالناس ووجوهٍ كالكلاب.
وذكر صاحب تحفة الغرائب أن طائفة من جيش الإسكندر قصدوا الجزيرة وقتلوا هؤلاء وأجلوهم عن (b16) القصر واستظلوا بظله وحاولوا دخوله غلب عليهم النوم. فمن كان بعيدًا من الجيش وشاهد نوم أصحابهم القريبين من القصر جذبه وأحز عنه. فنام قومٌ منهم واستمروا ولم يُعلم ما كان منهم. وسلم الله الباقين. فتركوا القصر وأهله وأخبروا الملك الإسكندر ذلك. فسماه قصر النوم.
وجزاير السحاب وهن ثلاث جزاير مشهورات: الواحدة لا تزال سماؤها يبرق أبدًا، والثانية لا تزال سماؤها ترعد أبدًا، والثالثة بها المطر الكائن عن سماء الأولى والثانية أبدًا.
وجزيرة القمر القصوى طولها نحو سنة وعرضها نحو أربعة أشهر. وبها من كل شيء عجيب وغريب. بها ستة عشر مدينة وبها بحرات (بحيرات) حلوة وأنهار عظام وبجنوبها مما يلي بحر الظلمة المحيط صحارى وقفار وقوم سود عراة الأبدان يلتحفون بورق الموز عندهم. وهو ينبت لنفسه بأرضهم. وبهذه الجزيرة معادنٌ كثيرة للذهب والزمرد والياقوت، وبها الأفيلة البض والبُلق والسود ما لا بغيرها. وبها الكركدن والزراف وبها وحوش كالسباع (a17) لهن قرون عجيبة وهن لا يطاقون لشدة جرأتهم على سائر الحيوان.
وجزيرة جابه37 بها جبل عليه نار عظيمة تُرى في الليل بالبحر عن بعد بعيد. وأشجار هذا الجبل أكثرها العِنبة والشكى والبكى والكاذي والأبنوس والعود والكافور وغالب طيب الهند.
وجزيرة قنطالوس38 أهلها عراة وطعامهم السمك الطري والموز والنارجيل وأموالهم الحديد يتحلون به كما يتحلون الناس بالذهب ويتعاملون به كما التعامل بالذهب والفضة.
وجزيرة خازل وهي بحذاء جزيرة الجابة بها مغاص الدر الجيد في مصب الأنهر العديد بياض [...........]39 بها من العنبر الكثير الأشهب والفستقي مالا بغيرها يقذفه البحر إلى الساحل. واختلفوا في كيفية تولده. فقال قوم هو دهانة تنبع من قعر البحر وتجتمع فيه. فإذا تحرك موج البحر قلع ذلك وألقاه بالساحل. وقال قومٌ هو من جملة المنّ النازل من السماء ينزل على بقاع مخصوصةٍ تجتمع فيه ذراته وتصير قطعًا تقذفه أمواج البحر إلى سواحله، ومنه يبتلعه السمك ويقذفه من غير هضم فيسمى ذلك المبلوع. وقال قوم هو في شجر (b17) في البحر يشبه شجرة القطن يسيل من ذلك الشجر عنبر كهيئة الدهانة وتنعقد عليه حتى تجتمع قطعًا كثيرة. ثم يقذفها الموج إلى الساحل فما بلعه منه من السمك يسمى مبلوعًا وما بقي منهعلى حاله يسمى خامًا. وقال قوم هو زَبْلُ دابة من دواب البحر. والصحيح أنه دهانة تخرج من البحر. وبه من الحيوانات كلما ذكرناه. وفيه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
القول التاسع في ذكر بحر فارس40
هو شعبة من بحر الهند ومن أعظم شعبه. وهو [بحر مبارك كثير] لمؤن كثير الخير لم يزل مركوبًا. واضطرابه وهيجانه أقل من سائر البحار. قال ابن الفقيه: إن بحر فارس وإن كان متصلًا ببحر الهند فإن حاله مخالف لحال بحر الهند في السكون وفي الاضطراب وكثرة الموج وصعوبة الركوب على ظهره وغزارة الماء. فإن فيه من الماء سبعين ذراعًا إلى ثمانين ذراعًا. وفيه مغاص الدر الجيد واللؤلؤ الصافي ومعادن العقيق والمازنج والبيجاذق والباذبني ومعدن الياقوت ومعدن الذهب والفضة والحديد والنحاس. وبه أنواع الطيب والأفاويه وفيه مكانان (a18) لا يكاد مركب يسلم منهما أحدهما يسمى عوير و[الآخر] كسير، والبحريون إذا مروا بالقرب من هذين الجبلين يقولون عوير وكسير. والثالث سلامة وخير وبحر فارس يَمُدّ ويجزر. وذلك أنه يمد من إشراق القمر إلى توسطه ويجزر من توسطه غلى مغربه، يمد من طلوعه وإلى توسطه وسط السماء هناك. وكذلك أبدًا مده وجزره موجود فيه دون بحر الهند الذي هو أصل مادته. ويبين ذلك للبحرين عند مخرج مائه حيث بلاد الهند وأرض البحرين.
وبحر فارس المذكور من الجزاير المشهورة المعمورة التي يأتونها التجار جزيرة التنين41. وهي جزيرة واسعة عامرة بها جبال وأشجار الساج والساسم والآنبوس. وبها مدينة قديمة وحصون ويحوط على ذلك سورٌ واحد دوره نحو ثلاثة أيام. يزعم أهل الجزيرة أن سبب بناء السور في أيام الإسكندر ظهور تنين عظيم بالجزيرة استأصل مواشي أكثر أهلها وكاد يفنيهم أكلًا وإهلاكًا لهم، وأن الإسكندر أمرهم بوضع سُلوخٍ طرية من سلوخ البقر والغنم محشوة كلسًا حيًّا وكبريتًا وزفتًا وزرنيخًا، وأن تلطخ تلك السلوخ بالدماء وتجعل في ممر التنين ففعلوا. وجاء التنين فابتلع من السلوخ ولم يكن إلا اليسير حتى عطش (b18) بعد أن التف على الشجر وهشم بين ضلوعه تلك السلوخ المبتلعة له على عادة فعله بعظام ما يبتلعه من البقر وغيرها. فلما فعل ذلك أخذه العطش وشرب فانطفأ الكلس وأحرقه فاضطرب حتى مات وتفطر. فألقوا عليه أهل الجزيرة أحطابًا عظيمة بأمر الإسكندر وأحرقوه حتى صار رمادًا. ثم أمر ببناء السور صونًا للمدينة والحصون من مثل ذلك التنين. والله أعلم بصحة ذلك.
وجزيرة جاشك42 وهي بقرب قيس43. ولأهلها قوة عظيمة وجلادة قوية وصبرٌ شديدٌ على المحاربة مع العوم على وجه البحر. حتى أن أحدهم يسبح في الماء اليوم واليومين، وهو يجالد بالسيف على وجه الماء كما يُجالِد في البر. شأنهم يأخذون المراكب عند ركود الريح. يزعم أهل جزيرة قيس أن هؤلاء من نسل الجان. وذلك أن بعض ملوك الهند أرسل تحفًا وجواري حسانًا هديةً إلى بعض الملوك، وأن المركب أرسى بساحل الجزيرة وطلعن الجواري إليها وبتن بالساحل، فاختطفهن الجان بها وافترشوهن فأولدن أولادًا وتناسلوا، وأهل الجزيرة المذكورون ذريتهم. رواه صاحب تحفة الغرائب.
وجزيرة فارس بها من النخيل ما لا بغيرها وينجب فيها ما لا ينجب بغيرها. ويقال أن النخل الذي ببلاد فارس والعراق واليمامة أصل غراسه منه (a19) لأنه لا ينبت في بلد ولا بقعة إلا بفارس يغرسه من فسيل أو نوى وبهذه الجزيرة ينبت بنفسه.
وببحر فارس من الحيوان العجيب طائر يسمى فنون بارّ بأبويه معروف بين البحارة. وذلك أن هذا الطائر يهرم لطول عمره ويعود من العجز عن الكسب إلى مثل حالة الفرخ منه فيلهم الله سبحانه لبعض ولده أن يتخذ له عشًّا أو مكانًا ويجعله فيه ويتعاهده بالطعام والماء كما يفعل الطير بفراخه. كذلك حتى يموت.
ويزعمون البحارة أن ريش هذا الطائر ما كان في مركب إلا وسلمه الله تعالى من الغرق ببركته ولا يجدون أهل المركب ما يجده غيرهم من هول البحر، والله أعلم.
وسمكة تسمة الغدارة طولها شبر لا تزال على وجه الماء. فإذا رأت حيوانًا فتح فاه طفرت إلى فيه فإن دخلته قتلته. وإن فاتها نجا وعادت إلى حالها من التماوت والسكون على وجه الماء.
وسمكة ذات قوائم أربع تخرج من البحر ليلًا وترعى ما تجده من نبات السواحل ويأتيها حال إذا فعلته خرج من منخريها نار وتحرق ما أصابته. وسكان تلك النواحي يعرفون هذا الحيوان ويستدلون على مواضع خروجه بآثار الحريق في مرعاه.
وسمكة تطير عند غروب الشمس إلى وجه البر قاصدة للمرعى فيه، ولا تزال إلى طلوع الشمس فتطير إلى (b19) جهة البحر راجعة.
وحيوان يسمى أبا المنذر وهو سمكة متى رآها البحريون طافية على وجه الماء تحققوا أن البحر لا يهيج بعد ذلك من نصف نهار وإلى مضيّ يومين من رؤيته. وما لم يروها طافية فالبحر لا يهيج.
وسمكة تقبل من بلاد الزنج إلى البصرة بكثرة حتى تغلب في شباك الصيادين عن سائر السمك غيره مدة شهر. ثم لا يعود يُرى منه واحدة، ويخلو منه ساحل الزنج تلك المدة. ثم تخلو منه البصرة والزنج ولا يُرى إلا في بعض سواحل الجزاير فيما بين البصرة والزنج. ثم يظهر في ساحل الزنج ويخلو منه ما عداه. يعلم ذلك أهل البحر ويسمون هذا النوع من السمك برستوج. وحيوان أخضر اللون له خرطوم عظميّ أقصر من ذراع، وأطول ما يكون بدنه أربعة أذرع. والخرطوم يشبه المنشار ذو حدين يضرب بهما يمنة ويسرة ويسمى القَرْش.
وسمكة مدورة شبيهة بالسفرة المتسعة ولها ذنب نحو من ذراع وعلى وسط ذنبها شوكة كشوكة العقرب معقفة كالخطاف وهي سلاحها من أصابته جرحته ونشر ذلك الجرح ناسورًا لا يتم. ولهذه السمكة منخران على ظهرها، ولها فم على بطنها ولها فرج كفرج المرأة ولونها منمّر (a20) أبيضها أبيض وأسودها أسود وليس لها يد ولا رجل ولا جناح، وحركتها هو أن تخفق أطراف بدنها خفقًا فتسير حيث سارت وشاءت في البحر وتسمى الشاقة44.
القول العاشر في بحر القلزم المتصل ببحر الهند أيضًا45
وهو شعبة عظيمة خارجة من بين جبلين بالقرب من مدينة عدن أخذه شمالًا إلى مدينة القلزم وأيلة والطور. قال المسعودي وصاحب تحفة الغرائب: كان بين بحر الزنج الهندي وبين اليمن جبل حايل للماء يحجزه عن الامتداد في أرض اليمن. فقطع بعض الملوك ذلك الجبل بالمعاول قطعًا حتى وصل إلى أسفله وجعل الحاجز رقيقًا. ثم أمر بإضعافه وخرقه خروقًا. فاندفع وساح الماء وطاف وطف مقدار رمية سهم وأهلك بلادًا وأممًا واستولى وصار بحرًا كبيرًا ووصل إلى الحاجز إلى أسفل مدينة جدة وأسفل مدينة ينبوع ووصل إلى الشام إلى أسفل مدينة قلزم وسمى بها. وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وجنوده. وببحر القلزم جزاير مسكونة وغير مسكونة. منها جزيرة زنجبار (هكذا) وجزيرة دهلك وأهلها قوم من الحبشة سودان تلتحفون بالثياب التحافًا (b20) وينتفون لحاهم وشواربهم إلا شعرات يسيرة في أحناكهم فإنهم يتركونها. ومن شأن هؤلاء أنهم يمهرون النساء بخصيتي الآدمي لا يتزوج منهم أحد امرأة حتى يقهر إنسانًا ويقطع منه انثييه ويجعلها مع ما يدفعه من مال وغيره.
ومنها جزيرة سَوَاكِن وأهلها حبشة مسلمون وبها مغاص اللؤلؤ وببحر سرها وسواحلها النجب الصهب والحمر الوحشية ومعادن الزمرد والبرام والزرافة. أيضًا ببرها. وبها بالقرب من مرسى أم خريري أرض نحو فرسخ كلها طلق لولوي أبيض. إذا طلعت عليه الشمس كاد يبهر الناظر.
ومنها جزيرة أبحر وجزيرة بارات46 بالقرب من أيلة يسكنها عرب معاشهم السمك لا غير. وبالقرب منها في البحر دوارة تسمى العَرَنْدل وهي بركة في البحر صعبة الركوب لاختلاف مهاب الرياح هناك ولكثرة الشعاب بها. والشعاب جبال صغار تتولد في الماء وقل أن يمر بها مركب فتسلم. ويقال إن هذه البركة هي الموضع الذي غرق فيه فرعون.
وببحر القلزم جبل المغناطيس47 وحجارته وهو الذي يجذب الحديد بخاصيته وقل أن يُعمر الناس مركبًا بمسامير من حديد خوفًا من المغناطيس. وإنما يتخذون دُسرًا من خشب القنا وليفًا (a21) من النارجيل يسمى القُنْبار يوثقون به المراكب والألواح.
ومنها جزيرة سقطرة48 وهي في أعاليه متاخمة لبحر الزنج وأهلها سودان عرايا من جنس قلجور وعيشهم اللحم واللبن وبهذه الجزيرة الصبر السقطري.
وببحر القلزم المرجان الأبيض وهو شجر ينبت نباتًا متوسطًا بين المعدن والنبات أبيض اللون متفرع فروعًا. وبه سمكة طولها نحو من ذراع وبدونها بدن سمكة والوجه وجه بوم وسمكة طولها نحو عشرين ذراعًا تسمى البسه ظهرها هو النبل المتخذ منه غلف نصب السكاكين والخواتم في الأصبع. وهذه البسة تلد وترضع. وسمكة تصاد وتجفف فيبقى لحمها كهيئة القطن فيغزل وتصنع منه الثياب الفاخرة وتسمى صوف السمك ويقال للثياب أيضًا سمكين. وسمكة مدورة كالأكرة وحجمها كالبطيخة الكبيرة ولونها لون الضفدع إذا صيدت وتركت انتفخت لنفسها وربت. ولا تزال حتى تبقى أضعاف أضعاف مقدارها الأول كبرًا. ثم تعود تتصاغر قايلًا قليلًا إلى أن تعود إلى حالها الأول ولا تزال تكبر وتصغر حتى تموت.
القول الحادي عشر في بحر الزنج49
(b21) المتصل ببحر الهند والقلزم
وهو بحر الهند بعينه وإنما سمي بالزنج لمتاخمته الزنج، وبلاد الزنج منه في ناحية الجنوب تحت سُهيل المسمى جاة. ومن ركب هذا البحر رأى القطب الجنوبي وسهيلًا واختفى عنه القطب الشمالي وبنات نعش. وأقصى هذا البحر من جنوبه متصل بالبحر المحيط المسمى بحر الظلمات، وموج هذا البحر أعظم الأمواج. وسيما بالغرب من جزيرة بربرا. فإنه الهول المهول. وفيه من الجزاير المشهورات جزيرة منبلو مسكونة للزنج، وبها الطيب والآبنوس ومعادن الذهب. وجزيرة كرموه بها الببغات المختلفة وبها الطائر المسمى الرخ. قال ذلك صاحب تحفة الغرايب.
وبها مدينة الطيب وجزيرة البركان بها جبل في أعاليه نارٌ ترى من مسيرة أيام في البحر. والجزيرة لا تسكن وجزيرة القرود وجزيرة القطربة بها مدن وبها جبل عظيم يقال إنه مسكون للغيلان المسماة بالقطرب والسراوع والسعالي يأكلون الناس. ولهم قوة التقلب في الصور. وجزيرة بربرا بها أربع مدن وهي من بلاد الهند. وللبحريين ارتجاز يرتجزونه لهول البحر هناك في الطريق منها وإليها لشدة هوله.
وقال بطليموس: إن أواخر حدود بحر الزنج حيث الطول خمسة (a22) وتسعون درجة وحيث لا عرض سوى درجة أو درجتين هناك تسع مائة جزيرة متقاربة تكاد تلتحم، والماء يتخلل بين تلك المدن والجزائر. وهي تسمى جزائر الزنج الملتحمة. وهي جزائر صغار أشبه بالمصر الجامع للمساكن العالية.
قال صاحب تحفة الغرائب: وبه الجزيرة المحترقة50 وهي واغلة في البحر. قلما يصل إليها من بلادنا أحد. وسميت بذلك لأنها في كل سنة يطلع في أفقها كوكب باباني ذو أذناب. ولا يزال يرتفع عن الأفق قليلًا قليلًا حتى يسامتها في توسطه فتبرز منه نارٌ إلى الجزيرة تحرق ما بها أو أكثره. وإذا طلع رأوه أهلها فيتهيئون للرحيل عنهاويهجرونها مدة ثم يعودون إليها.
وبه جزيرة الضوضاء51 بالقرب من ظُفار مما يلي مجرى الزنج، بها مدينة مبنية من حجارة بيض منقولة من معدن بعيد جدًا. غذ لا يوجد هناك حجر أبيض البتة ولا ساكن بها. وإذا كان الليل وفي بعض الأيام نهارًا يُسمع من داخلها جلبة وضوضاء. ولا يعلم السامع ممن ذلك المسموع. وبها نهر يوجد دايمًا فيه رايحة الكافور كأنما هو مُذوب في الماء. وبها جبل عظيم به حيات قتالة درياقها حصا اللبان يصيدونها الناس بدخانة ويتخذون من جلودها مفارش. من أطال الجلوس عليها برئ من علة الدق والسل (b22) وبه جزيرة العور وهم قوم سودان أصغر حجمًا من الناس يسكنونها، وفي كل سنة يأتي إليهم الطير المسمى بالغرنوق يرعى ما عندهم ويقاتلهم فيصيب عيونهم فتقلعها. وقال آرسطو عنهم في كتاب الحيوان: إن الغرانيق تنتقل من خراسان إلىناحية مصر حيث يسيل ماء النيل تقاتل هناك رجالًا قاماتُهم قدر ذراع.
ومن عجيب الحيوان ببحر الزنج دابة تسمى المنشار مثل الجبل العظيم حجمًا. ومن رأسها إلى ذنبها عظام سودٌ مثل الآنبوس سودًا وهن كالأسنان النابتة في المنشار، كل سِنٍّ منها قدر أذرع عديدة، وعند رأسها عظمان طويلان كل واحد منهما نحو العشرين ذراعًا. ويخرج مِنْ فيها ومن أنفها الماء إذ بخته مثل الفوارة صاعدًا إلى السماء يحسبه الناظر إليه منارة من الماء تفور وصعوده نحو الخمسين ذراعًا فما فوقها. وسبب بخّها للماء أن حلقها قد خلقه الله تعالى كالمصفاة به خروق متسعة فإذا أرادت الغذاء فتحت فاها فيدخل الماء فيه، وفيه من السمك ما شاء الله تعالى. فإذا بلغت الحد أطبقت فاها وصوّلت السمك وحجبته في بطنها بطباعها. ثم بخت الماء بخًّا فيخرج الماء ويبقى السمك فتهضمه معدتها. قال صاحب تحفة الغرائب: وإذا أحس أهل المركب بهذا الحيون في البحر نفروه عنهم بالطبول (a23) والصنوج والأصوات المزعجة. والله أعلم بصحة ذلك كله. وفيما ذكر مقنع وبلاغ.
القول الثاني عشر في بحر الخزر [...]52
القول الثالث عشر في نابع النيل وما معه من الأنهر الكبار والعيون العجيبة والآبار
فالكلام على الأنهار بالجملة على ما قاله أصحاب الهيئة: أن سائر الأنهار والعيون كلها تبتدئ من الجبال تبعًا وتنتهي إلى البحار دفعًا. وتختلط بالماء المالح، والشمس تشرق على البحار فتسخن مياهها فتصعد المياه بخارًا وينعقد البخار غيومًا وتسوقها الرياح إلى الجبال والبراري وتمطر هناك وتجري مياه الأمطار سيولًا في الأودية والأنهار وتسقي البلاد ويرجع فاضلها إلى البحار المالحة كما كانت. ولا يزال هذا دأبها إلى أن يبلغ الكتاب أجله بتقدير العزيز العليم سبحانه وتعالى53.
فمن ذلك منابع نيل54 مصر حرسها الله تعالى. مخرجه من جبال القُمْر بضم القاف وسكون الميم وقيل القمر أعني قمر السماء. فالقُمْر إقليم وبلاد وقوم سودان كلهم خلف خط الاستواء (a24) من مشرق الدنيا إلى مغربها. والقمر: قيل لأن بهذه الجبال حجر الباهت. وهوكالفضة البيضاء يتلألأ نورًا وهو مغناطيس للإنسان. من رآه من الناس التصق به محبة وطباعًا وضحك سرورًا حتى يموت. وذكر ذلك آرسطو في كتاب الأحجار أيضًا.
قالوا: ومجراه يعنون النيل من الجنوب إلى الشمال خلافًا لسائر الأنهار يجري شهرًا في بلاد الإسلام وشهرين في بلاد النوبة وأربعة في الخراب وبلاد الحبشة إلى أن يصل إلى بحرة الجاورس وإلى البحرة الجامعة للأنهار كلها يعنون المنصبة من الجبال المذكورة بالقًمْر. وأصل مخرجه من عين آلهة خلف جبال القمر. ثم يجتمع ماؤه متقسمًا في عشرة أنهار من منابع مختلفة كلها نابعة من جبال القمر. فتصب منها خمسة أنهار في بطيحة عند طول ثلاثة وخمسين درجة وعرض ثلاث درج خلف خط الاستواء وسعة البطيحة نحو من خمس درج في مثلها وتصب الأنهار الخمسة الباقية في بحرة مجاورة لها مقدارها. ثم يخرج من كل واحدة من البحرتين أربعة أنهار تصب في بحرة جامعة مقدارها نحو درجتين في ثلاثة درجات. ثم يخرج من هذه البحرة الجامعة نهر عظيم ويسمى بحر الدمادم يجري في تلويات أبدًا إلى جهة المغرب مارًا ببلاد (b24) السودان. ثم توكامي ثم غانة ثم شمغرا ثم سمغارة ثم التكرو السود يدخل البحر المحيط عند مدينة سرمندة ومدينة موية بأقصى المغرب وأقرب القرب بخط الاستواء. ويخرج من هذه البحرة الجامعة أيضًا نهر كبير عظيم يسمى نيل الحبشة ينصب إلى جهة المشرق. ثم إلى جهة الشمال ثم إلى جهة الجنوب. ولا يزال حتى يمر بمدينة قرقونة خلف خط الاستواء جنوب بحر الزنج بمُقْدِشُوَة. وتسمى هناك ببحرها. ثم ينفرق ثلاث فرق ويدخل بحرة الزنج من ساحله الجنوبي خلف خط الاستواء ببلاد سفارة ودعوطه. ثم يخرج من هذه البحرة الجامعة نيل مصر. ومخرجه من طول أربعة وخمسين درجة. ثم يمر بالنوبة حتى يجوز الإقليم الأول ويغيض هناك عند مدينة تنه. ثم يخرج من الأرض عن بعد عشرة فراسخ ونحوها. ثم يندفق إلى أن يصل إلى مدينة بولاق ومدينة أسوان. ثم يندفق إلى الصعيد حتى يصل إلى مدينة مصر. ثم إلى دمياط واسكندرية ويصب هناك في بحر الروم.
قال صاحب تحفة الغرائب وبأعلا النيل في الخراب وأول بلاد الحبشة حيوان يسمى فرس الماء أسود اللون أكبر من الجاموس له عُرْف أسود من عرف الفرس وذنب ذيال. وللونه بريق، وله حافر مشقوق كالبقر. وربما ينزو على فرس من خيل البر فيولد (a25) منه فرس لا يشبه سبقها سبق. قال وهذا الحيوان يوجد أيضًا في بحر الخرز وبحر الهند. قال وبالنيل أيضًا ببلاد الحبشة حيوان يسمى الخادم والمخدوم ويسمى قندار أو قندر يوجد هناك. وفي نيل مقديشوة والأنهار الكبار. ومن شأنه أن يتخذ بيتًا على شاطئ الماء كما يتخذ الإنسان البيت. ويجعل هذا الحيوان في البيت صفة لنفسه وزوجته وصفة لأولاده وصفة أنزل وأصغر من الصفتين لخادمه. يشاهدون أهل تلك النواحي ذلك. وإذا صادوا المخدوم وجدوا جسده صحيحًا سالمًا من الخدوش ويجدون الخادم إذا صادوه مخدش الجسد لما يصيبه من شوك الشجر والسعي في تحصيل ما يحتاج إليه المخدوم من القوت وغيره. وبه السقنقور55 وهو حيوان بري مائي. قال الرئيس ابن سينا: إنه ورل مائي يصاد في نيل مصر. وقال غيره: إنه من نسل التمساح. إذا وضعه خارج الماء ثم قصد الماء صار تمساحًا. وما قصد البر صار سقنقورا. ومن خصائصه إن عض إنسانًا فغسل ذلك الإنسان العضة بريقه قبل وصول السقنقور إلى الماء مات السقنقور. وإن وصل قبل الغسل مات الإنسان. قال: وله قضيبان كما للضب قضيبان. والسقنقور يوجد هو والتمساح بنيل مصر وبحر الدمادم وبحر مقدشوة وبنهر بالسند يسمى مهران (b25) يمر على المنصورة ويصب في البحر بالنيل المقياس العجيب الوضيع. أنشد فيه أبو الحسين بن الوزير:
أرى أبدا كثيرا من قليل فلا تعجب فكل خليج ماء زيادة إصبع في كل يوم | وبدرا في الحقيقة من هلال بمصر مُسيب بخليج مالِ زيادة أذرعٍ في حسن حالِ |
ومن ذلك نهر جيحون56 مشهور يخرج من حدود بخشان وينضم إليه أنهر كثيرة من حدود الختل ووخش فيصير نهرًا عظيمًا. وهو نهر دغل قتال لا يكاد ينجو غريقه ولا ينتفع به الناس حتى يصير إلى أرض خوارزم. وهو مما يجمد في الشتاء ويمشون عليه الناس بالقوافل والأحمال ويبقى أشبه بالأرض لتراكم الغبار وغيره. وإذا حمي الزمان تقطع جليده وعاد إلى ما كان.
ومنها نهر دجلة57 وهو نهر بغداد. مخرجه من أصل جيبل بقرب آمد. ثم يمر بين جبلين إلى شهر زور (هكذا) ثم إلى ميافارقين ثم إلى الموصل. ثم ينصب فيه الزابان ويدخل إلى بغداد. ثم إلى واسط ثم إلى ناحية جلوان ثم إلى البطايح ويفترق ثلاث فِرق تمر واحدة بالبصرة، وواحدة بين عبادان وبينها، وواحدة بالقرب من الأهواز ويصبون في بحر فارس. وأنشد بعضهم (a26):
أحسن بدجلة والدجى وكأنها فيه بساط أزرق | والبدر في أفق السماء مغرب وكأنه فيها طراز مُذْهَبٌ |
ومن ذلك نهر الفرات58 مخرجه من أرمنية. ثم من قاليقا قرب أخلاط. ثم يمتد إلى ملطية ثم إلى شميصات. ثم إلى الرقة ثم إلى عانة والحديثة. ثم إلى الهيت. ثم ينصب إلى دجلة.
ومنها نهر أتل59 نهر عظيم يقارب دجلة في بلاد الخزر، مجيئه من أرض الروس وبلغار ومصبه ببحر الخزر. ويتشعب منه نيف وسبعون نهرًا. وعموده لا يتغير لغزارة الماء ويجري في البحر يومان لا يغلب عليه ماء البحر ويجمد في الشتاء. وفيه سمك عظيم الجثث. ومخرجه من أرض القبجق وبلاد البجناك غرب سد يأجوج وشاملهم.
ومنها نهر سيحون60 وهو نهر الرس (هكذا) بآذربيجان شديد الجرية وفي أرضه حجارة بارزة لا يحمل السفن لذلك. وله إجراف هايلة وعليه قنطرة عظيمة عالية عليه تعرف به. وفي ذكر هذه الأنهار غنية واقتصار عن التطويل.
وأما العيون العجيبة فقال صاحب عجائب الموجودات عين تسمى ياسي ﭼَمَن61 بين أخلاط وأرزن يفور الماء منها فورًا شديدًا (b26) يسمع من بعيد. وإذا دنا الحيوان منها يموت في الحال. فيرى حولها جثث طير ووحش ما شاء الله. وبالقرب منها أناس موكلون بها يحرسون الناس من شرب مائها والدنو منه.
وعين بسِيَاه سَنْك62 بأرض جرجان حولها دور يسعى كالنمل فمن اغترف من الماء وحمله ثم داس دودة فقتلها انقلب الماء الذي معه من العذوبة إلى المرارة. وإن لم يدس دودة لم يتغير طعمه.
وعين سَمِيرم63 بناحية اصفهان [وشيراز] مَن حمَل من مايها في قوارير ولم يضعه بعد حمله على الأرض أبدًا ثم سار به إلى اي بلدٍ من البلاد التي استولى عليها الجراد اتبع ذلك الماء من الطيور السودانيات المتسلطة على الجراد. ولا يزال إلى أن يصير ذلك الطير إلى الجراد ويفنيه عن آخره أكلًا وقتلًا.
وعين العقاب64 بجبل من جبال كُنْبايت بالهند. مَنْ شرب منها سقط شعر رأسه ولحيته وبدنه ونبت بعده شعر أسود لا يشيب بعدها ويصير الرجل عثينا بعد ذلك. لا ينتفع بنفسه.
وعين بثول وهي قرية من قرى الشقيف وهو حصن منيع بجبل كنعان من الأرض المقدسة بالشام بها سمك صغار يركب بعضه بعضًا في شهر شباط. فمن أخذ منهم من أول يوم من شباط وإلى ثالث يوم منهوجمع أيضًا ما يجده على كل زوجين منهم من رغوة وزبدٍ بوجه الماء. ثم استعمل من تلك الرغوة يسيرًا أو من جسد السمكة كذلك انعظ انعاظا عظيمًا ولا يكل ولا يسكن إلا ان اغتسل بالماء البارد. ومتى عاد إلى استعمال ذلك (a27) عاد إلى الحال الأول من الانعاظ.
وعين بارد بَهشْتَك من قرى قزوين. من شرب من مائها انسهل انسهالًا مفرطًا وإذا حمل ماؤها إلى مكان آخر بطلت تلك الخاصية. والله أعلم.
فصل من لوازم ما تقدم ذكره وبيانه
وهو ما ذهب إليه أصحاب الهيئة بأن قالوا عند النظر في تركيب الأجسام من حيث هي أجسام. إما أن تكون ناميةً أو لا. فإن لم تكن نامية فهي المعدنيات. فإما أن يكون لها قوة الحس والحركة فهي الحيوان. أو لم يكن فهي النبات. وقالوا: أول ما تستحيل إليه الأركان الأبخرة والعصارات. فالبخار ما يصعد من لطيف مياه البحار والأجسام والأنهار بواسطة تسخين الشمس. والعصارات ما يتجلب من باطن الأرض من مياه الأمطار ويختلط بالأجزاء الرضية وتغلظ وتنضجها الحرارة المستكنة في عمق الأرض فتصير مادة للنبات والمعادن والحيوان. وهي متصلة بعضها بالبعض بترتيب عجيب ونظام بديع. فتبارك الله أحسن الخالقين.
قالوا: وأول مراحل [الأشياء المعدنيات] وآخرها نفس ملكية ظاهرة. فإن المعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء. [والنبات] متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان. والحيوان متصل لأوله بالنبات وآخره [بالإنسان]. والإنسانية أولها متصلة بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية. فسبحان الله العظيم وسبحان ... (b27) وسيأتي صورة هيئة ما ذكر فيه مشخصًا في آخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وهذه اللمعة الحسابية الموضوعة لمعرفة أوائل الشهور في جميع السنوات والحكمة المستنبط بها مواقيت الأهلة ومواسم الأوقات جعلتها وسيلة إلى تخليد المحامد كما تقدم ذكره. وفضيلةً تحرض الناظر فيها على الدعاء والثناء لمن نيطت بالألقاب الشريفة إلى آخر الدهر بُنيت قواعدها على سبعة ألقاب من ألقابه العزيزة وتلخص العمل بصورةٍ سهلةٍ وجيزةٍ. فالألقاب الشريفة المشار إليها والمعول في هذا الحساب عليها هن المقام الشريف العالي النجمي قاضي القضاة ابن صصري الشافعي من تأمل سرها بعين الدراية عرف رمزها. ومن تحمل عباءها لطلب الهداية كشف كنزها [والجدولان مفتاحها وبالألقاب] الشريفة إيضاحها.
ولما كانت الحاجة داعية إلى [............] وقد تكون المطامع كاسية من ملابس الغيوم بما يحول [.....] مزين إليها كان من فوائد العمل بهذه اللمعة إزالة الارتياب وقد يكون [.....] محققٍ يغني في معناه من الاسطرلاب وعما يخاطر النفس من الارتياب وكيفية العمل هو أن تُسقط من جملة سني الهجرة كلها مائتين وعشرة مايتين وعشرين ماية. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع.
* * *
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقالات ودراسات مهداة إلى الدكتور صلاح الدين المنجد ، 2002، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 259-296. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |