علم مقاصد الشريعة من الولادة الكامنة إلى الولادة الكاملة

شارك:

أحمد بن عبد السلام الريسوني

رسم للكعبة والحجر الأسود في المخطوط "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" لابن الوردي (توفي عام 749/1348). نسخت هذه النسخة على يد ابن العابدين في عام 902/1496. المخطوط رقم 2611، مكتبة آيا صوفيا (تركيا).

عرفت الدراسات المقاصدية نمواً سريعاً مطرداً متعدد المسارات في هذا العصر، وخاصة منذ نشر كتاب (الموافقات) للشاطبي، ثم بعد تأليف ابن عاشور لكتابه (مقاصد الشريعة الإسلاميّة)، وهو الكتاب الذي دعا فيه إلى تأسيس علم جديد، قال: "ونسميه عِلمَ مقاصدِ الشريعة"1.

كثير من الدارسين يعتبرون أو يصرحون بأن الشاطبي هو مؤسس علم مقاصد الشريعة، وأن هذا العلم قد ولد فعلا في كتابه الموافقات.ففي هذا الكتاب الفذ نجد قسما مستقلا مخصصا للمقاصد. وهذا القسم لا يتميز فقط بمباحثه وتبويبه ونظرياته ومصطلحاته وقواعده، وبكونه هو أكبر أقسام الكتاب، بل يتميز حتى بتخصيصه بمقدمة وخاتمة خاصتين به، مما يعني استقلاله التام داخل كتاب الموافقات.

 وإذا جاز لنا أن نعتبر ولادة علم المقاصد على يد الإمام الشاطبي كانت وظلت "ولادة كامنة"، فإننا اليوم نستطيع أن نعلن عن "ولادة كاملة" لهذا العلم.

فالمؤلفات الخاصة بمقاصد الشريعة تعد اليوم – على الأقل – بالمئات، باللغة  العربية وبغيرها من اللغات. وقد فتحت هذه المؤلفات أبوابا متنوعة وآفاقا رحبة لقضايا مقاصد الشريعة، تأصيلاً وتفصيلاً وتفعيلاً. وإلى جانب ذلك انتشر التدريس الجامعي لمقاصد الشريعة باعتبارها مادةً دسمة، حتى عم كافةَ الجامعات والكليات الإسلامية وأقسامَ الدراسات الإسلامية عبر العالم. ثم بدأ تأسيس المراكز البحثية المتخصصة في مقاصد الشريعة، ونُظمت – وما تزال تنظم – ندوات ومؤتمرات ودورات علمية كثيرة للمقاصد، إلى غير ذلك من وجوه الحفاوة والعناية بها.

كما شهد حقل الدراسات المقاصدية تطوراً نوعياً آخر، هو ظهور البحث في مجال (قواعد المقاصد)، وذلك باستخراجها من مناجمها ودراستها وبيان أهميتها وآثارها. ولعل أهم عمل علمي تم في هذا الباب – لحد الآن – هو ما تضمّنته (معلمة زايد للقواعد الفقهيّة والأصوليّة2).ففي هذه الموسوعة نجد قسما خاصا بقواعد المقاصد يقع في ثلاثة مجلدات، ويحوي أكثر من مائة قاعدة مقاصدية، من ضمنها قواعد تخص طرق الكشف عن مقاصد الشريعة. ومعلوم أن ظهور قواعد خاصة بأي علم من العلوم هو أقوى تجلّ لنضجه واستقلاله.

وهكذا نستطيع أن نقرر أن ميلاد "علم مقاصد الشريعة" أصبح واقعا معيشا، لا يقبل المراء. فلهذا العلم اليوم أعلامه وتاريخه، وقضاياه ومؤلفاته، وأبوابه ومجالاته، ومبادئه وقواعده، ووظائفه المميزة له... فلم يعد ينقصه من مقومات "العِلم المستقل" شيء.

وها قد أصبح كثير من أهل الفقه والاجتهاد، وأهلِ الفكر والتجديد، وأهل الدعوة والتربية، وأهل المال والاقتصاد، وأهل السياسة والإصلاح، أصبحوا يُهرَعون إلى مقاصد الشريعة ويستنجدون3بها،فيجدون فيها من العطاء والغَناء ما لا يمكن أن يجدوه لا في "علم أصول الفقه" ولا في غيرهما من العلوم القائمة.

لقد كانت الاستنباطات والتوجيهات المقاصدية عند المتقدمين تعتبر ضربا من الحاجيات والتحسينات العلمية، ولكن البحوث والدراسات المقاصدية في  عصرنا أضحت في عداد المتطلبات الضرورية.

وأما القول بأن مقاصد الشريعة لا تستغني عن علم أصول الفقه ولا يستغني عنها، فهو صحيح، ولكنه لا يمنع من استقلال علم المقاصد وتميزه عن علم الأصول. ولا ننسى أن العلوم الشرعية كلها لا يستغني أحد منها عن غيره، فكلها متحدة المنبع والمصب، وكلها يَستمد بعضُها من بعض، بل هي "ذرّية بعضها من بعض".  وحتى ابن عاشور –أولُ الداعين لاستقلال علم المقاصد عن علم أصول الفقه – قد نصّ على أن الأصول واللبنات الأساسية لعلم مقاصد الشريعة توجد مبثوثة في بحر علم أصول الفقه، ويجب استخراجها منه، ثم تنسيقها وتنميتها والبناء عليها... بل يرى

أيضا أن في علم أصول الفقه قواعد إن لم تكن من صميم المقاصد، فهي تصلح أنتستعار وتجعل من المقدمات الأولية لعلم المقاصد، ولذلك دعا إلى أن "نعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير مُنْزَوٍ تحت سرادق مقاصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعلَ منه مبادئ لهذا العلم الجليل؛ علم مقاصد الشريعة"4.

ومعلوم أن علم الفقه قد خرج من علم الحديث ثم استقل عنه، أي خرج علم الدراية من علم الرواية، كما أن علم أصول الفقه قد خرج من علم الفقه ثم استقل عنه، أي جرى تخريج الأصول من الفروع. وبناء عليه فلا غرابة ولا غضاضة في أن يخرج علم مقاصد الشريعة من علم أصول الفقه ويستقل عنه. وفي جميع الحالات تبقى علاقات التكامل ووشائج الرحم وأواصر القربى محفوظة مرعية.

وهذا لو سلمنا يكون علم مقاصد الشريعة متولدا منبثقا من علم أصول الفقه، وأن مسائله ومادته العلمية تنحدر من هذا العلم الخاص. ولكن الحقيقة هي أن معظم  ما تتضمنه الدراسات المقاصدية، منذ عز الدين بن عبد السلام ومن قبله، إلى  الشاطبي ومن بعده، هو إما مبتكَر غير مسبوق، ومستمد مباشرة من الكتاب والسنة،  وإما مستفاد من علوم شت؛ كالتفسير، والفقه، وأصول الفقه، والقواعد الفقهية، والسياسة الشرعية، والتصوف، وعلوم العقيدة ومقارنة الأديان.

ولقد أصبح من الثابت ومن الواضح أن للدراسات المقاصدية مجالاتٍ ووظائفَ وقواعدَ تختلف اختلافا بيِنّا عما في علم أصول الفقه، وعما في غيره من العلوم الشرعية الأخرى.

وإذا كان الإمام الشافعي قد اعتُبر – بحق – مؤسسَ علمٍ جديد – هو علم أصول الفقه – ببضع عشرات من الصفحات حررها، وبمسائلَ أصوليةٍ معدودات أرسلها، فأوْلى بنا أن نَعترف اليوم بهذا العلم الجديد: "علم مقاصد الشريعة"، بعد كل الؤلفات والبحوث التي قدَمها، وكل المكاسب والإنجازات التي حقّقها، وكل الآفاق العلميو والعملية التي فتحها

فدعماً لهذا العلم الناشئ، وإرساله لأسسه وقواعده، رأيت أن أتناول – بمزيد  من الدراسة والبيان – ثلاثة من أركانه وقواعده، وهي قواعد مترابطة متشابكة حتى يمكن في النخاية اعتبارها قاعدة واحدة. والقواعد الثلاث هي:

قاعدة التعليل

وقاعدة الاستصلاح

وقاعدة المآلات

وعلى الرغم من كون هذه القواعد مطروقةً ومدروسة، قديما وحديثا، فإن طول التعامل معها، وتقليبَ النظر فيها، وطَرْقَ جوانب وتطبيقات جديدة لها، ونظمها في سياق جديد... كل ذلك يشكف ويؤكد "كم ترك السابق للاحق والأولُ للآخر"، وأن العلم والبحث العلمي ليس له نهاية.﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]

 كتب بالرّباط، في فاتح ربيع الأول 1435 للهجرة / ثاني يناير 2014 للميلاد. 

أحمد بن عبد السلام الريسوني

مضمون هذه المقدمة، كان موضوع محاضرة ومناقشة في الدورة العلمية (مقاصد الشريعة بين التهيّب والتسيّب)، التي نظمت بالاشتراك بين مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ومركز المقاصد للدراسات والبحوث، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس بفاس، نهاية شهر مايو 2014.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
أحمد الريسوني، القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة،2014 مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، لندن، ص 9-15.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني
Back to Top