لواء القدس من دفتر مُفصَّل لواء صفد والغزة [غزة] والقدس الشريف

شارك:

محمد عدنان البخيت ونوفان رجا السوارية

يعتبر دفتر تحرير (T.D.427): دفتر مفصل لواء صفد والغزة (غزة) والقدس الشريف العائد لسنة 932هـ/1525-1526م – 934هـ/1527-1528م من أقدم دفاتر تحرير سنجق (لواء) القدس المحفوظة في أرشيف رئاسة الوزراء في استانبول1، وتعرف هذه الدفاتر بـ(طابو تحرير دفترلري)، والدفتر الذي بين أيدينا هو أحد دفاتر المفصل، وهو على الأغلب أول تحرير أجرته الدولة العثمانية لألوية صفد وغزة والقدس الشريف بعد فتحها بلاد الشام بتسعة أعوام تقريباً (932هـ/1525– 1526 م)، ويبدو أن اهتمام محرر الدفتر قد انصب في هذه المرحلة على مسح القرى والمزارع ولم يفصل في مواضيع أخرى كالتيمار والأوقاف، بل جاءت المعلومات عنهما مجملة، بينما جاءت  مُفصّلة في دفتر تحرير (T.D. 131) الذي يعود  تاريخه  إلى الفترة نفسها  (932هـ/1525م – 938هـ/1531 – 1532م)2. لذا، اعتبرنا هذين الدفترين متكاملين لدراسة مرحلة تأسيس الإدارة العثمانية في لواء القدس الشريف.

ولاستكمال الصورة التفصيلية لوضع لواء القدس الشريف في تلك المرحلة، أفدنا من المادة المتوفرة في سجلات محكمة القدس الشرعية، وبخاصة سجل تحرير البلاد  (تخمين البلاد) المستخرج من السجل الشرعي الأول الذي يعود تاريخه إلى سنة 938هـ/1531-1532م3.

وتُقدم دفاتر المفصل  إحصاءات  شاملة؛ تُسمى  محلات المدن  والقصبات  وتحصي  سكانها على أساس الخانة والمجرد، وتُعدَّد مرافقها، وتُبينَّ فعاليتها التجارية، وتحصي القرى بأهاليها وإنتاجها ومرافقها. وتورد أيضاً اسماء الجماعات البدوية  العربية منها والتركمانية، ومقدار ما كانت تجبيه الدولة منها تحت عنوان (عادات). ويمكن للدارس أن يجد صورة مفصلة لكل من مدينتيْ القدس الشريف وخليل الرحمن، فيذكر محلاتهما ويورد تعداد أهالي كل محلّة، ويبين دياناتهم من مسلمين ومسحيين  ويهود، ويورد تفصيلات عن المرافق العامة من الأسواق ودار الخضر والوكالة والقبان والحوانيت والحمامات والخانات والمعاصر (بدود) والمطاحن (الأرحية) والأفران والمصابن والمصابغ... الخ. وتساعد هذه الإحصاءات في التعرف على التفاصيل الدقيقة للتشكيل الاجتماعي لفئات السكان من أسر (خانات) أو مجردين ( عُزاب أو ربما الغرباء)، أو من ذوي العاهات من مكسحين أو عميان أو مرضى... الخ. الذين كانوا يُعفون من دفع العوائد والرسوم، إضافة إلى عدد الأئمة والخطباء والمؤذنين والسادة والأشراف الذين  كانوا  يُعفون  أيضاً  من  دفع  العوائد  الديوانية والتكاليف العرفية. كما شملت هذه الإحصاءات أهل الذمة من النصارى واليهود الذين تشير إليهم الدفاتر بلقب (گبران) أي الكفرة، وتوضح مقدار الجزية المفروضة عليهم كأنفار شكل علم وليس على أساس الرؤوس كما جرت العادة سابقاً بموجب الأحكام الشرعية.

 أما في الأرياف، فتُحدّد دفاتر المفصل أسماء القرى التابعة إدارياً لكل ناحية، وتورد عدد سكان كل قرية، وتُبينَّ نوعية الأملاك والأوقاف فيها، ونوع الإنتاج الزراعي وحصة الدولة منه سواء كان على شكل ”القَسْم “ أم على شكل الديموس4 (المقطوع / المفصول)، إضافة إلى تحديد تصنيف كل قرية والأراضي التابعة لها، أكانت تيمارات أم أوقافاً أم أملاكاً، ونوعية التيمارات (خاص، زعامت، تيمار). ويمكن لدارس أن يجد معلومات موثّقة للحاصلات الزراعية من حنطة وشعير وعدس وكرسنة وحمص وسمسم وذرة وفول وأرز وقطن، ولنوعية الزيتون سواء أكان إسلامياً أم رومانياً وللأشجار المثمرة كالجوز والتين والرمان و التوت والخرنوب والدوالي والكروم والأشجار المختلفة مع ذكر البساتين، وينصّ على مقدار قيمة الرسوم والعوائد المُجباة على إنتاج الأراضي المزروعة حسب المحصول، ويوضح الدفتر مقدار المقاسمة ( نسبة القَسْم من الثلث أو الربع أو النصف... الخ) حسب تحمل الأرض وبعدها عن المركز، ويُشكَّل المعلومات الإحصائية الواردة في دفاتر المفصل المبكرة ثروة كبيرة لإجراء مقارنات مع الوضع السابق في أواخر عهد المماليك، أو مع الوضع اللاحق على ضوء ما أدخله العثمانيون من تعديلات إدارية فيما بعد.

 وجرت  العادة  لدى  العثمانيين عند  تحرير أي  سنجق (لواء)، ذكر اسم  ذك  السنجق وموضوع التحرير، واسم السلطان الذي تمّ التحرير في  عهده، واسم الأمين والكاتب وتاريخ الدفتر. ويتصدر دفاتر التحرير عادة قانون نامة5 الولاية أو السنجق الذي يتم تحريره.

غير أن دفتر (T.D427) موضوع هذه الدراسة لا يحوي– لسوء الحظ – قانون نامة لواء القدس بل جاء اعتمادنا على القانون نامة المثبت في مطلع دفتر (T.D 516)6عند توثيقنا أو مقارنتنا لبعض المعلومات، ويقع القانون نامة في 92 قلماً (مادة)، وهي تُشكَّل المفاتيح لفهم أسلوب الدولة  العثمانية  في  جمع  ريع  المقاطعات ومختلف الرسوم والعوارض.

وابتداءً فإن أهم ما أوضحه قانون نامة لواء القدس الشريف هو التأكيد على أن حصّة الدولة تختلف بين قرية وأخرى، ومن هنا فإن قَسْم (حصة) الدولة، أو من يُمثَّلها من كل  مقاطعة  تسجل في القصبات (شهرلر) عند ذكر كل ”مقاطعة“ في كل من مدينتيْ القدس الشريف وخليل الرحمن، وكذلك عند ذكر كل قرية أو قطعة أرض أو مزرعة أو بستان، وهذا المنهج ظل يضبط عمل محرر الدفتر (أمين السر، الكاتب) عند قيامه بأي إحصاء فيما بعد.

 الموقع و الحدود

كان لواء القد الشريف7، على ضوء ما يمدنا به (T.D 427) من معلومات، يتشكل في القرن العاشر الهجري/السادس  عشر  الميلادي  من  ثلاث  نواح، منها ناحيتان8 واسعتان  هما: ناحية  القدس  الشريف  وناحية  خليل  الرحمن،  وناحية  صغيرة  هي  ناحية  بني  عمر  (عامر، عميرة؟)  التي  كانت  تتشكل  من  (8) قري و(3) مزارع، ويشير الدفتر إلى أن  أهاليها قد هجروا قراهم دون أن يوضح سبب ذلك، بينما أورد سجل تحرير البلاد (تخمين البلاد) المستخرج من السجل الأول من سجلات محكمة القدس الشرعية لسنة 938هـ / 1531-1532م، أي بعد ست سنوات من تحرير الدفتر، أن لواء القدس كان يتكون من ثلاث نواحِ  هي: ناحية  القدس  الشريف، وناحية بني زيد9، وناحية خليل الرحمن عليه السلام، مع اختلاف ملحوظ في عدد القرى وإحصاءات السكان، مقارنةً مع دفتر (T.D. 427)، وربما يُعزى ذلك إلى عدم استقرار الوضع الإداري بسبب طبيعة المرحلة الانتقالية بين نظامي الدولتين المملوكية والعثمانية، ولقصر المدة ما بين مطلع العهد  العثماني  وتاريخ  تدوين  الدفترين. ومما يدل على استدامة أثر النظام الإداري المملوكي على النظام الإداري العثماني ورود العديد من مصطلحات الإدارة المملوكية سواء في دفاتر  التحرير  أم  سجلات المحكمة الشرعية في مطلع العهد العثماني، مثل مصطلح (معاملة)، حيث تمت الإشارة في الدفتر إلى معاملة بني زيد، ومعاملة بني سهل  ومعاملة  بني  عمر (عميرة؟)، ومعاملة  بني  عبيدة (عبيد؟)، ومعاملة بني حارس (حارث؟)، وبلاد حارثة، وبني غافر وبني نعيم، وبني شجاع. ويبدو أن كلمة معاملة هنا أطلقت على منطقة كانت تسكنها بعض  الأسر والقبائل ثم أصبحت المنطقة تُعرف بها فيما بعد، ومن المصطلحات المملوكية التي بقيت مستعملة في لواء القدس ” ملك الأمراء كافل المملكة الغزية والقدسية “10. ويحدد مؤرخ القدس مجير الدين العليمي الحنبلي (ت: 927هـ/1520م)، الذي عاصر أواخر العهد المملوكي ومطلع العهد العثماني ناحيتي القدس والخليل حسب ما تمّ العُرف عليه في زمانه، فنجده يقول: ”وأما الحدود المنسوبة لبيت القدس عُرفاً مما يلي القبلة يُطلق عليها عمل القدس الشريف ويسوغ لقضاة القدس الحكم فيه: فمن القبلة  عمل  بلد  سيدنا  الخليل عليه الصلاة والسلام يفصل بينهما قرية سعير11 وما حاذاها وهي من عمل القدس، ومن الشرق نهر الأردن وهو المسمى بالشريعة، ومن الشمال عمل  مدينة  نابلس  يفصل بينهما قرية سنجل12 وعزون13 وهما من أعمال القدس. وتتمة الحد رأس وادي بني زيد وهو من أعمال الرملة، ومن الغرب مما يلي رملة فلسطين قرية بيت نوبة14 وهي من أعمال القدس، ومما يلي مدينة غزة قرية عجور15 وهي من أعمال غزة16.

”وأمّا الحدود المنسوبة لبلد سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام، فمن القبلة منزلة الملح17على درب الحجاز الشريف وقباب الساوية18(؟) ومن الشرق قرية عين جدي19 من عمل بلد سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام، وبحرة لوط، وهذا الحد هو الفاصل بين عمل بلد سيدنا الخليل عليه الصلاة والسلام وعمل مدينة الكرك20، ومن الشمال عمل  القدس الشريف يفصل بينهما قرية سعير وما حاذاها،... ومن الغرب من الجهة المحاذية لرملة فلسطين قرية زكريا21وهي من أعمال الخليل عليه الصلاة والسلام، ومن جملة الوقف الشريف المبرور، ومن الجهة المحاذية لمدينة غزة قرية سيمح22 المجاورة لقرية السكرية23وبلاد بني عبد وهي من أعمال الخليل عليه الصلاة  والسلام“24.

وبناء على كل ما تقدم، كانت حدود لواء القدس في القرن السادس عشر الميلادي على النحو الآتي: من الشمال حدود قريتيْ سنجل وعزون وهما من عمل القدس، ورأس وادي بني زيد من جهة الرملة، ومن الجنوب منزلة الملح على درب الحاج الشريف، وقباب الساوية. ومن الغرب رأس وادي بني زيد، الذي يفصل القدس عن الرملة، وبيت نوبة (من عمل القدس) وقرية عجور (من عمل غزة). وقرية زكريا (من عمل الخليل) وقرية سيمح (؟) وبلاد بني عبد (من عمل الخليل). ومن  الشرق الشريعة (نهر الأردن) وبحيرة لوط (البحر الميت) وقرية عين جدي25. وقد تطابقت هذه الحدود مع المواقع التي أوردها دفتر تحرير  (T.D. 427)موضوع الدراسة.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
لواء القدس الشريف: دراسة تحليلية للنص العثماني وترجمته إلى العربية مع الشروحات الإيضاحية، 2005، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 16-19.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.
Back to Top