نظّم مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي يومي 10 و11 نوفمبر 2018م في رحاب فندقGrand Istanbul Europe بإستانبول، ندوة علمية تحت عنوان "الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية"، تتميمًا للندوة السابقة من السنة الماضية في نفس الموضوع، لإجماع المشاركين على مواصلة البحث في هذا الموضوع ذا الجدة والجدوى انطلاقا من رؤية معرفية مقاصدية، مستجيبين بذلك لمقتضايات الشرع ومتطلبات العصر.
الجلسة التمهيدية
وقد ترأّس هذه الجلسة التمهيدية الدكتور أحمد الريسوني فافتتحت بتلاوة آيات بينات من كتاب الله تعالى تلاها الدكتور وصفي عاشور أبو زيد، ثم أعقبتها كلمة ترحيبية للأستاذ صالح شهسواري، المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، رحب فيها بالسادة العلماء والأساتذة، ومعبرا عن تحيات مؤسسة الفرقان ومؤسسها وراعيها الدكتور أحمد زكي يماني، وركز فيها عن بيان أهمية الموضوع وطرق البحث فيه من خلال مقاصد الشريعة الإسلامية، وأكد على أن الفنون هي حاجة ضرورية متجددة في النفس البشرية، وأن للفن دور كبير في توجيه الشعوب، لأجل ذلك عقدت مؤسسة الفرقان العزم على إثارة الموضوع من منظور مقاصدي استئنافا للدورة السابقة. كما نبه إلى أن هناك توجهات باسم الفن تمرر أفكارا هدامة، فكان لزاما على العلماء والباحثين إلقاء الضوء على الفنون من وجهة مقاصد الشريعة، لتصحيح كثير من المفاهيم التي ترسخت في أذهان المسلمين حول الفن، والعمل على تقديم أفكار وحلول عملية في شتى المجالات الفنية لتكون نبراسا للعاملين في مجال الفنون. وذكر أن هذه الندوة تتميز بحضور كوكبة من الفنانين والمتخصصين. وختم كلمته بالتقدير الجزيل والشكر العميق للسادة العلماء والمفكرين ولجنة التحكيم واللجنة التنظيمية مقدرا جهود الأستاذ محمد ادريوش ودوره الفعال في إقامة مثل هذه الدورات، كما تقدم بالشكر للإخوة الإعلاميين.
ثم تناول الكلمة بعده الدكتور راتب النابلسي، تمحورت حول بيان أن الفن هو الجانب الجمالي من الجانب الإنساني، ونبه إلى أن الفن يمكن أن يكون سلاحا ذو حدين متناقضين، وأشار في ذلك مثلا إلى أن هناك دراسة أمريكية للأفلام الكارتونية تثبت أن هذا النوع من الأفلام ينشر الإلحاد، ويشوه الدين، وخاصة الإسلام.
وأعقبه بالكلمة الدكتور محمد غورماز رئيس الشؤون الدينية السابق بتركيا، حيث شكر بداية العلماء ومؤسسة الفرقان ورحب بهم، مشيرا إلى أن إستانبول هي ملتقى الثقافات، ومؤكدا على دور العلماء المصلحين والصالحين، وقد أتى في هذه الكلمة بالبيان إلى أن الفنون هي إحدى المصالح الكبرى للحضارة. ووضح أن موضوع الفن ينبغي أن يعالج بنظرة مقاصدية، وفق مراد الله تعالى، كمقاصد العمران ومقاصد التكليف. وقد ألمع إلى أن التحسينيات هي أكثر الفروع المظلومة في فكرنا، لم نعطها المكانة اللائقة بها.
وتناول الكلمة بعده الدكتور عصام البشير حيث أكد على ضرورة توسيع النظر الكلي في المجال الفني، بحيث تؤسس على الجمال المبني على عقيدة التوحيد، وعلى التزكية المؤسسة على القيم. ونبه إلى أنه لا بد من تجاوز النظرة المحدودة إلى الفن، لتخرج إلى نظرة حضارية. وبين أن مجال الفن أصيب بالجموح والجنوح وهي دائرة السلبية والتبعية. وختم كلمته بأن دراسة الفن لا ينبغي قصر ذلك على فقه التأصيل، ولكن لا بد من التحول إلى بدائل، ثم إن الفن مكون من الذوق والسماع وغيرهما، وجميع الفنون تتأسس على قيم الجمال حتى تصلح للإقلاع الحضاري.
الجلسة الأولى
وتلت الجلسة التمهيدية الجلسة الأولى، وكانت برئاسة الدكتور عصام البشير، استهلت بموضوع الدكتور نور الدين الخادمي حول (الفنون والأصول: الأصول المعبرة عن الفنون، والفنون المعبرة عن الأصول)، حيث أكد من خلال تقديمه على العلاقة الجدلية بين الأصول والفنون، وذلك من خلال خدمة الأصول بالفنون وتفعيل الفنون بالأصول، تطرق إلى بيان ذلك من خلال محاور ثلاثة:
الأول: وهو عملية تأطير الحكم الشرعي للفنون، وذلك من خلال خطاب التكليف وخطاب الوضع، فالأول متعلق بإقامتها. والثاني متعلقبتنزيلها سياقا وزمانا وأسبابا وموانع وملابسات. ثم بين تأطير الأدلة الأصولية الكلية للفنون حيث ربط ذلك بأدلة الوحي القرآن والسنة، وأدلة الاجتهاد التي تعنى بتحقيق التنزيل عبر مدرك تحقيق المناط واعتبار المآل وغيرهما.
الثاني: وقد تناول فيه مسألتين، وهما: وسائل التعبير عن الأصول، وقد أشار في ذلك إلى أَشكال من التعبير الفني كالقصة والمسرح والشعر والصورة وغيرها. وضوابط التعبير الفني عن الأصول، وهي كما عبر عنها ضوابط القيم في بُعدها الديني والإنساني والموضوعي العلمي والفني والدستوري والعرفي... ومنها ضابط الفطرة السوية والنظام العام والنفع المشترك.
الثالث: وهو ما أسماه بجدلية الأصول والفنون، من الـتأصيل إلى التفعيل. وقد رام فيه بيان قضيتين: الأولى: متعلقة بتأصيل الوعي بأصول الفنون، حيث ذهب إلى أن للأصول ارتباطا بالفنون، بإضفاء الرؤية التشريعية العملية والاجتهادية. والثانية: متعلقة بتأصيل الوعي بفنون الأصول، وهذه مرتبطة بوسائل الفنون المحققة للأصول.
وقد عقب الدكتور سالم عبد السلام الشيخي على هذا البحث، وقرأ التعقيب الدكتور جاسر عودة نيابة عنه، وقد بدأ تعقيبه بما سماه مقدمات ممهدات ركزت على قضية منهجية علمية مقاصدية لعلاقة الأصول بالفنون. وبين أن البحث لا يخلو من التميز بالجدة وله جدوى في بعض مضامينه، ثم أشار إلى أن البحث من هذا كله لم ينضج بشكل تام وكامل لاتسامه أحيانا بالعموميات خاصة في بعض الأفكار المنهجية. كما أن البحث غلبت عليه كثرة المترادفات والاستطرادات، مما نتج عنه غموض مع غياب المقصود.
ثم قدم بعد ذلك الدكتورإدهام محمد حنش مداخلته التي عنونها بـ(مقاصد القرآن الجمالية وتمثلاتها المعرفية في الفنون الإسلامية)، افتتح بحثه بالحديث عما سماه بالهيكلة الثلاثية الأبعاد التي ذكرها الشاطبي وغيره، وهي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات أو الكماليات، وقد ذهب إلى تصنيفها بحسب قيمتها الفلسفية والمعارية إلى مقاصد حقانية، ومقاصد خيرية، ومقاصد جمالية. وهذه الأخيرة متعلقة عنده بصورة الإنسان الطبيعية وهي الفطرية.
ثم بعدها طفق في تناول التصنيف المقاصدي للفنون الإسلامية إلى:
· فنون جلالية تتعلق بالمقاصد القرآنية (الأصلية) كالتوحيد والإيمان، مثل: فن الخط القرآني، وفن التذهيب المصحفي.
· فنون جلالية جمالية تتعلق بمقاصد القرآن العمرانية، مثل: فن العمارة (المسجد)، وفن الزخرفة.
· فنون جمالية تتعلق بمقاصد القرآن (التابعة) العمرانية مثل: فنون التصوير(الرسم والنحت والتصميم).
وخلص بعدها إلى أن الجمال مقصد أصلي وكلي وأساسي، والفن مقصد تابع وجزئي وتكميلي، ينبغي النظر فيهما من خلال خارطة المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية.
وقد عقب على هذا البحث الدكتور جاسر عودة، ركز فيه على تجاوز التخصصات والمقاربات إلى دراسة الظواهر الفنية وهي متعددة التخصص، وهي الأقرب إلى القرآن، لأنه يعالجها في أبعادها المتعددة.
الجلسة الثانية
ثم جاءت بعد هذين البحثين وتعقيبيهما الجلسة الثانية برئاسة الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، وقد تناول فيها الدكتور صلاح الدين شيرزاد بحثه حول (إسلامية الفنون الإسلامية بين التنظير المعرفي والتطبيق الإجرائي) أثار في بدايته قضية مصطلح إسلامية الفنون وأن الكتابة في هذا المجال جاء متأخرا تأثرا بالكتابات الغربية التي لها فضل السبق. بالرغم من كون المسلمين كانوا سباقين لممارسة جملة من الفنون لكنهم لم يدونوها وفقا للتصنيف المعاصر إلا حوالي قرنا من الزمن.
وقد أكد الدكتور صلاح على أن البحث في الفنون اليوم اتخذ منحى ببليوغرافيا وتاريخيا، من خلاله تبين شموله لعديد من التخصصات. ورأى أنه لا بد من التطرق إلى مجموعة من الإشكالات المتعلقة بالجانب التنظيري والتطبيق الإجرائي لحل إشكالية مصطلح الفنون الإسلامية.
وعقب على بحثه الدكتور عبد اللطيف بوعزيزي فبسط القول فيه عن الملاحظات المنهجية التي تركزت حول عدم دقة عنوان البحث إذ المقصود من خلال مضمونه مدى وجود فنون تصح أن توصف بالإسلامية، لكنه طفق يبحث عن صحة هذه التسمية، ثم استثنى من ذلك الفنون الأدبية وفي ذلك نظر، مما جعل البحث في بعض جوانبه يتسم بعدم العمق.
ثم أشار المعقب إلى أن بعض المصطلحات في حاجة إلى الدقة ومزيد من الضبط. وقد تساءل المعقب عن الحكم على مدى إسلامية الفن هل يكون وفق أصوله ووظائفه ومآلاته؟ أم وفق مضمونه ومقصده؟ غير أن الباحث لا يصدق تصوره على إسلامية الفن سوى على فن الخط العربي. ثم بين الأستاذ بوعزيزي أن الباحث اهتم في دراسته بالشكل على الطريقة الغربية مع العلم أنه كان من المفروض الاهتمام بالخلفية الفكرية والعقدية والتشريعية.
وأشار المعقب الأستاذ بوعزيزي إلى أن الباحث اهتم بالتصنيف الوظيفي مغفلا التصنيفات الأخرى كالتصنيف التاريخي أو الجغرافي. وختم تعقيبه أن الحكم على إسلامية الفنون يعتمد على مدى انطلاقها من روح الشريعة ومقاصدها وانضباطها بالنص القرآني وأحكامه وتأثرها بروحه ومنهجه.
ثم جاء بعده بحث الدكتور محمد غورماز حول (التحسينيات في المقاصد: فلسفة الجمال والفن نموذجا) حيث أكد على أهمية علم المقاصد والغايات، بحيث يلقي بظلاله على كل العلوم الإسلامية والحياة برمتها. وتساءل الدكتور غورماز هل حصرنا علم المقاصد في زاوية ضيقة حتى جعلناه كالفرع للعلوم الإسلامية الشرعية.
وتحدث عن خمسة أنواع أساسية من المقاصد وهي: مقاصد التكوين، ومقاصد العمران، ومقاصد التنزيل، وأخيرا مقاصد التشريع ومقاصد التكليف. ثم بين أن هناك خللا في التعامل مع التقسيم الثلاثي للمصلحة: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. وذكر أن تعاملنا مع التحسينيات زمنا طويلا على أنها ثانويات وزيادات ومكملات لا أهمية لها، ومن خلال هذا ذهب إلى أن تهميش التحسينيات في منظور الفكر الإسلامي جريمة بحقه، تفقده جماله ورونقه. من خلال ذلك دعا الدكتور محمد غورماز إلى توسيع مفهوم التحسينيات ليشمل الحياة كلها، فجعل علاقة التحسينيات بالضروريات والحاجيات كمثل السنن للفرائض والواجبات.
ودعا إلى إعادة الاعتبار لمفهوم التحسينيات، وإخراجه من الحصار الذي طوق به. وختم بحثه بالإشارة إلى قضية الصراع الهوياتي والثقافي، والنهوض يستلزم إعادة النظر في قضايا منها التحسينيات باعتبارها ليست زيادات لا معنى لها.
الجلسة الثالثة
وقد كانت هذه الجلسة برئاسة الدكتور نور الدين الخادمي، وقد استهلت ببحث الدكتورة عمَّارة كحلي الموسوم بـ(تأمّلات في السياقات المقصدية للجمال الإسلامي: مقاربة تأويلية للفن الإسلامي في ضوء نصوص معاصرة)، تناولت فيها قضية الخطاب الجمالي للفن الإسلامي، انصب اهتمامها بتأمّلات بعض المفكرين الذين اشتغلوا حول مفهوم "الفن الإسلامي" مثل: كتاب جماليات الرؤية: تأمّلات في الفضاءات البصرية للفن العربي، للكاتب راتب مزيد الغوثاني، وكتاب الفن الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال، للكاتب شربل داغر، وكتاب أصول في جماليات الفنون الإسلامية، للكاتب محمد إقبال العروي. وقد عللت اختيارها بكون هؤلاء اشتغلوا بـ"رؤية منهجية مختلفة عن الأبجديات الكلاسيكية المُتعارف عليها لمصطلح الفن الإسلامي"
وحددت الدكتورة عمارة كحلي هدف هذا البحث من خلال "تأصيل المحتوى المعرفي والجمالي لمدوّناتنا التراثية" التي تطرقت إلى الفن الإسلامي، لتنكشف بذلك "السياقات المقصدية للجمال الإسلامي"، وخلصت الدكتورة كحلي إلى أنّ الفن قد أضحى ضرورة مقصدية في حياة المسلم، ولم يعد من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها.
وقد عقب على بحثها الدكتور حسن جابر ومما جاء فيه أن عنوان البحث فيه مسامحة، وذكر أن الكتاب الذين اعتمدتهم الباحثة في دراستها لا يجمعهم وحدة موضوع، لذلك من الصعوبة صياغتهم في نمط واحد، حبذا لو اختارت الباحثة لو اختارت الباحثة كتابين متقاربين حتى تعطينا صياغة تجربة فنية.
ثم بين حسن جابر أن المضمون فيه شيء من التساهل في الاستدلال ببعض الآيات مثل قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) فهي وردت في سياق منافع هذه الأنعام، وليست لها علاقة بالتشريع؟
وقام بعده الدكتور إبراهيم البيومي غانم بعرض بحثه حول (مقاصد الفنونِ العمرانية في المدينةِ الإسلاميةِ: قراءةٌ في نصوصٍ تراثيةٍ ورؤيةٌ في الواقعِ المعاصرِ)استهل مقدمته ببيان نشأة المدينة الإسلامية الذي ارتبط على حد قوله "بالتحول الجذري الذي أحدثه الإسلام في نمط الحياة" ثم ألمع إلى توسع عمران المدينة بناء على المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ظهر ذلك من خلال فنون التخطيط العمراني للمدينة، وفي تقسيم مساحاتها ومرافقها العامة، وكذلك في توظيف الجماليات الهندسية في تشييد الأبنية وتزيين تلك المرافق والساحات العامة.
وتطرق الباحث إلى أن من وجهة الاجتماع السياسي للمدينة، تجلت المظاهر الكبرى لجمالية المدينة وفنونها بناء على مقاصد الشريعة، فكونت بذلك المجال العام الذي انطوى على وجود الفنون وجمالياتها في تصميم المدينة وتخطيطها ابتداءً، لتنمو فتؤدي وظائفها، فأصبح بذلك المجال العام المنفتح من أهم شروط الحياة الطيبة.
وبعدها وضع الدكتور إبراهيم غانم سؤالا جوهريا وإشكاليا عن المبادئ الجمالية العمرانية التي حكمت المدينة الإسلامية القديمة؟ ولماذا تم تغييب ذلك في المجال العام؟ وقد ربط هذا الإشكال بقضية علاقة السلطة بالمجتمع. وقد طفق يبين أهم القيم الجمالية والعمرانية للمدينة الإسلامية. وختم بحثه برؤية تفسر أسباب تدهور الفنون والجماليات في المجال العام في واقع المدن الجديدة في بلدان العالم الإسلامي.
وعقب على بحثه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، بدأ تعقيبه ببيان أن القراءة المهمة هي التي تقوم على النماذج حيث تنطلق من الرؤية الكلية، وفي ذلك معايير منها معيار القراءة النموذجية، ومعيار الرؤية المقاصدية، ثم أشار إلى التحولات والإشكالات التي تعرضت لها المدن الإسلامية وهو تغيير الهوية العمرانية. ثم بين الدكتور سيف الدين أن المقاصد الشرعية أسهمت في بناء تلك الفنون الجمالية، تجلى ذلك في التصميم الجمالي للمدينة بناء على الكليات الشرعية.
وأكد المعقب إلى مسألة مهمة استنبطها من تأملاته لقوله تعالى: (فانتشروا في الأرض) الآية فهو انتشار بنياني وعمراني والضروريات والحاجيات وغيرها، تشكل بعمارة المدينة وعمران المقاصد، وإن تكريس النماذج الغربية أفضى إلى الفوضى المعمارية، فهذا النمط الغربي لا يستجيب للحاجيات الإسلامية، فأدى إلى تشوه البنيان، الذي يدل على افتقاد الموازين العمرانية.
الجلسة الرابعة
وفي يوم الأحد استأنفت الجلسة الرابعة برئاسة الدكتور حسن جابر، وقدم فيها الدكتور عبد الملك بومنجل بحثا عن (وظائف الفنون الأدبية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية)، بدأ فيه ببيان أن الإسلام دين الفطرة، وأن هذه الفطرة ترنو نحو الجمال، لأن الإسلام على حد تعبيره "هو دين الجمال الشامل الكامل" الذي يجعل من الإنسان أن يترقى في نمط حياته، بحيث يتحرى الجمال في كل شؤونه، مظهرا ومخبرا، شعورا وسلوكا، كلاما وصمتا، حركة وسكونا.
وقد قام الدكتور عبد الملك بتأصيل مفهوم الجمال، وعلاقة الإسلام بالجمال، ثم بين ارتباط الجمال بإنسانية الإنسان، وأكد على أن مقاصد الإسلام لا تتعارض في شيء مع مقاصد النشاط الأدبي للإنسان. لذلك ركز في بحثه على الفنون الأدبية، باعتبارها فنونا كلامية، تستثمر قدرة الكلمة على اجتذاب الشعور الإنساني من خلابة الصورة، وحلاوة الإيقاع، وحيوية السرد، وقوة الفكرة، ومهارة النسج، وطرافة المعنى، ومتانة البناء.
وبين الدكتور بومنجل أن الإسلام أولى بالجمال من سواه من المذاهب والأديان، حيث يستثمر الكلمة في سبيل إشباع الوجدان، وإضفاء جوٍّ من البهجة على الحياة حتى تكون في خدمة المصالح الحيوية الكبرى للإنسان، وليست لإفساده وإشقائه. ثم تطرق إلى طبيعة الفنون الأدبية من حيث مادتها وخصائصها ودوافعها وأهدافها، وكر عليها بالمناقشة في ضوء ما أصّله علماء الإسلام من مقاصد الشريعة. وهو في ذلك يناقش كبريات النظريات في مجال الفنون الأدبية.
وعقب على بحثه الدكتور عصام البشير، فبدأ بالإشادة بالبحث من حيث اعتماده على منهجية واضحة، حيث تناول بالترتيب الأدب الوجداني، والأدب الإقناعي، والأدب القصصي، فحمد له هذا الترتيب المنهجي لهذه القضية.
ثم أبدى الدكتور عصام البشير بعض الملحوظات وهي: التشارك بين الظاهر والباطن، فلا تعارض بينهما، وهذا واضح في القرآن الكريم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر..) الآية. فهي علاقة مطردة بين الشكل والمضمون والظاهر والباطن. ثم بين المعقب أن القرآن الكريم أشار إلى الانتفاع المادي بالوجود، والاستمتاع بالقيم الجمالية، واستدل على ذلك بالآية الكريمة وهي قوله عز وجل: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) هذا الانتفاع المادي، (وزينة) الانتفاع الجمالي والفني.
ثم انتقل عصام البشير إلى بيان أن الفن يتخلل كل مراتب الشريعة من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، بحسب الظروف والمآلات، وهكذا لا بد من جمال الروح والذوق بحيث لا تستقيم الحياة بدونهما.
ثم تحدث عن بلاغة الكلمة وتأثيرها البالغ، ثم صرح بعدها بعدم اتفاقه مع صاحب البحث على عدم تحميل الشعر البعد الأخلاقي، بل لا بد من أن يتحلى الشعر بما يصون القيم الأخلاقية. وبعدها أشار إلى لون من الكلمة المعاصرة التي تظهر في فن التغريدات القصيرة، بحيث يكون لها أثر على النفس وعلى الواقع المعيش.
وختم تعقيبه بذكر بعض الضوابط، وهي: ضابط المصداقية، وضابط سمو المضمون (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، وضابط التسامي فوق الجراح، وضابط الربط بين الشكل والمضمون.
وتلاه بحث الدكتور جميل حمداوي بعنوان (المسرح الإسلامي وفق النسق المقاصدي) وقد تفضل بقراءته نيابة عنه الدكتور عصام تليمة. تطرق في مقدمته إلى حساسية وصعوبة البحث في موضوع الفن، فاختلفت على إثر ذلك وجهات النظر بين الرفض سواء كراهة أو تحريما، والقبول إيجابا أو جوازا، ومن ذلك فن المسرح.
ثم طفق الباحثيبين مختلف الرؤى والتصورات حول المسرح، من الرؤية الفنية المقاصدية المنفتحة، ويمثلها كل من الدكتور نجيب الكيلاني، والدكتور عماد الدين خليل. والرؤية الاحتفالية التراثية ومنها ينطلق عبد الكريم برشيد وعز الدين المدني. والرؤية الفقهية التشريعية المعتدلة وإليها ذهب الدكتور أحمد الريسوني والدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة. وتقابلها الرؤية الفقهية المتشددة وهذه مبنية على التحريم والرفض، وإليها ذهب الدكتور أحمد بن الصديق والدكتور محمد الزمزمي والباحث السوداني طاهر دفع الله.
وعقب على بحثه الدكتور وصفي عاشور أبو زيد حيث ألمع إلى الهدف من البحث، وهو دراسة موقف التصورات الإسلامية من المسرح. ثم ذكر أن الباحث اقتصر على ذكر آراء أهل المغرب كالدكتور الغماري والدكتور الريسوني وغيرهما باستثناء طاهر السوداني، وقد أغفل غيرهم ممن يحرم المسرح وفي هذا قصور.
ثم رأى المعقب أنه لا بد من توسيع المجال الحضاري والنهوض بالأمة من خلال هذا النوع من الفنون وغيره، وليس قصر ذلك على الحكم الفقهي. ثم إن البعد الأخلاقي والقيمي بارز لكن مع خفوت في البعد المقاصدي. وذكر وصفي أن الشيخ يوسف القرضاوي أشبع الفنون كتابة أحكاما ومقاصد، لكن الباحث لم يتوسع في ذكر آرائه، أما الدكتور أحمد الريسوني فلم يخصص المسرح بدراسة، وإنما تحدث عن الفن عامة. ثم ذكر الدكتور وصفي عاشور أن هناك شخصيات مهمة مثل الدكتور محمد عمارة والدكتور يوسف القرضاوي غابت عن البحث، مع العلم أن لهما كلاما عن المسرح، وختم تعقيبه بقولة الدعوة إلى الدين الماجد بوسيلة الفن الصاعد.
وبعده شرع الدكتور عبد المجيد النجار في تناول بحثه الموسوم بـ(مقاصد الفن في ترقية الإيمان)، تطرق في بدايته إلى معنى الإيمان وهو ما وقر في القلب من التصديق بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الارتباط بالجانب العملي السلوكي. وبين أن لقوّة الإيمان وضعفه أو لترقّيه وهبوطه أثرا على العقل الإنساني وإرادته الحرّة، وذلك هو مناط التكليف بالإيمان. وخلص في تناوله لهذه القضية إلى أن الإيمان يرتقي بالتدبّر في آيات الله المسطورة والمنظورة، من ظواهر الصنعة، إلى اليقين بالصانع، إلى العمل بأوامره ونواهيه، وهذا ما أكدته آيات كثيرة في القرآن الكريم.
وقد تطرق بعدها إلى التدبر في جمال الصنعة وما تحتويه من تناسق وتناغم في الأحجام والألوان، والتناسب القائم بين الأنغام والأصوات ونظم في العبارات وتناسق الكلم مما يثير المشاعر والأحاسيس المعبرة عن الجمال، فيخلص الدكتور النجار إلى أن الفن هو التعبير عن الجمال، وهو ما دعت إليه آيات كثيرة إلى التدبر في آيات الجمال، صورا كانت أو أصواتا، أو كلما منظوما، والمقصود من ذلك كما قرر الدكتور النجار هو ترقية الإيمان.
وعقب على بحثه الدكتور أحمد الريسوني فبين أن البحث أسهم في تصحيح مفهوم الفن وترقيته وتوسيع وظائفه ومقاصده، بدا له ذلك من عدة عناصر ذكر منها: إبراز البعد الفني للدين، أو تصحيح النظرة إلى علاقة الدين بالفن، وأن الفن الراقي جزء من الدين. وإبراز الأبعاد الفنية والجمالية لمظاهر الكون وآياته، كما هي مصورة في القرآن الكريم. وإبراز العناصر الفنية الجمالية في القرآن ودورها في تحصيل الإيمان. وإبراز العناصر الفنية في القرآن، وبيان أثرها في تنمية الحس البيئي والجمالي.
وذكر الدكتور أحمد الريسوني أن البحث له منحى آخر، إذ أنه جواب ضمني عن مسألة الرسالية أو الحيادية في الفن. ثم أشار إلى أن بحث الدكتور عبد المجيد النجار موضوعه الربط بين الدين والفن، وتحديدا بين الإيمان والفن، وهو باب كمال قال المعقب قلَّ طارقوه والباحثون فيه، لذلك أثار عددا من الزوايا المهملة.
واقترح الدكتور الريسوني أن يتطرق الباحث إلى ريادة الشهيد سيد قطب رحمه الله خاصة في كتابه الفذ (التصوير الفني في القرآن)، ونبه إلى أن سيد قطب هو الحاضر الأكبر والغائب الأكبر، حاضر بسريان روحه وجوهر فكرته ونظريته في البحث، وغائب لأنه لم يذكر نهائيا في البحث، ولم يستشهد بكلامه. وأكد الريسوني على أنه لا يمكن تجاوزه في هذا الباب.
وختم الدكتور الريسوني تعقيبه بالتنبيه إلى أن عنوان البحث (مقاصد الفن في ترقية الإيمان) اتسم بالعموم والشمول، بينما البحث اقتصر من ذلك على الجانب الجمالي الكوني في القرآن الكريم، واقترح إضافة نماذج من الفنون البشرية، الإسلامية وغير الإسلامية، التي خدمت الإيمان والتدين، وإذا بقي البحث على ما هو عليه فرأى الدكتور الريسوني تغيير عنوانه إلى عنوان مناسب وهو: (مقاصد الفن في ترقية الإيمان، نماذج من القرآن الكريم).
الجلسة الختامية
وقد ترأسها الأستاذ محمد ادريوش الجلسة الختامية، فبين أهمية هذه الدورة المنعقدة حول (الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية)، وأن الحاجة إليها ملحة دينيا واجتماعيا وحضاريا، كما نوه بالجهود التي بذلت من السادة العلماء والباحثين لإنجاح هذه الندوة العلمية بأفكارهم ومناقشاتهم وحواراتهم، بحضور فنانين متميزين ومرموقين، فشكرهم على ذلك، ونوه بالجهود التي بذلها الأستاذ صالح سهشواري المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي لإقامة هذه الندوة. كما شكر اللجنة التنظيمية.
وبعدها أعطى الكلمة للأستاذ الفنان وجدي العربي، وهو من الشهرة بمكان، فأكد بداية على أن الدين جاء لحفظ الضروريات، وأن الفن الأصيل الراقي هو ما كان خادما لهذه الضروريات. وبين وجدي العربي أن الفن ما أجمله حين يكون في خدمة المجتمع والدفاع عن قضاياه، حين يحارب الطغيان والجهل والفساد والاستبداد، ويحارب الفساد الأخلاقي.
وأكد على أن الفن لا يسمى فنا إذا تحول إلى فتنة للمؤمنين، والفن هو الذي يحيي الضروريات لا أن يميتها. ونبه إلى أن أعداء الأمة سيطروا على مصادر التنوير فيها، ووجه رسالة إلى أصحاب الفن بان يتقوا الله.
وأعقبه بالكلمة الأستاذ محمد ناصر الذي أكد على أهمية الفنون في خدمة المجتمع، وأن الفنون الراقية لا تصطدم بالدين بل هي من صميمه. وقد عرض الأستاذ ناصر مجموعة من الصور الفنية على الشاشة مبرزا أهميتها الفنية والجمالية، وأن الخط أيضا له قراءة معينة يعبر أفقيا عن العلو والهمة، وتموجاته عن الاضطراب والانحدار، وهي قراءة فنية وسيكولوجية وسوسيولوجية للفن المعبر عن المجتمعات والحضارات.
وختم كلمته بعرض مقطع من آيات كريمات بقراءة صديق المنشاوي رحمه الله، حيث أبرز من خلالها تنوع القراءة وجمالية الصوت وتنوعه، من البياتي وغيره.
وبعده تناول الكلمة الدكتور أحمد الريسوني الذي أكد على ضرورة تجاوز الإيغال في ضبط المصطلح، ويعني بذلك مصطلح الفنون الإسلامية، وأنه لا داعي لإنكار ذلك باعتبار أن الفن الإسلامي هو الذي ينطلق من الرؤية المعرفية الإسلامية للكون والوجود وهذه إحدى ميزاته وسماته. ودعا الريسوني إلى المزيد من مشاركة المتخصصين في الفنون وتقديمهم على المتخصصين في العلوم الشرعية، ويكفي هؤلاء الشرعيون أن يكونوا معقبين ومصوبين بناء على روح الشريعة ومقاصدها.
ثم قام بعده الدكتور نور الدين الخادمي بقراءة البيان الختامي باسم المشاركين، حيث بدأها بالشكر والعرفان لمؤسسة الفرقان الرائدة في إقامة هذه الموضوعات المتميزة الخاصة بالفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، فشكر المؤسس الرائد والمفكر الدكتور أحمد زكي يماني حفظه الله، كما لم يفته أن ينوه بالجهود المضنية والمخلصة لكل من الأستاذ صالح سهشواري المدير التنفيذي لمؤسسة الفرقانوالأستاذ محمد ادريوش مسؤول المشاريع والمطبوعات.
ثم حدد أربعة مستخلصات لهذه الدورة القيمة وهي: أولا: التكامل المعرفي بين الفنون والمقاصد، وهي مقاربة تجلي الفنون بروح الإسلام ومقاصده وقيمه الحضارية والإنسانية. ثانيا:تأسيس الوعي الدقيق بمنظومة الفنون الموصولة بقيم الإسلام ومقاصد الشرع ومصالح الناس وحاجيات الأوطان وحفظ الأمة الإسلامية وإثراء للإنسانية جمعاء. ثالثا: الحاجة الشديدة إلى زيادة البحث والتحقيق في قضايا نظرية مهمة ، لا تزال الجهود البحثية فيها غيرَ مستوفيةٍ لمقتضياتها الدراسية والمنهجية على الوجه الأكمل والأدق. رابعا: الحاجة الأشد إلى الاهتمام بالمسارات التفعيلية والتشغيلية للفنون مؤطرة بالمقاصد، والضرورة إلى وضع المقاربات العملية والمشروعات التنفيذية، التي تقبل التحقق في الواقع، بمراعاة القدرات والإمكانيات الذاتية والموضوعية.
وختم بيانه هذا بأن هذه الدورة تمثل لحظة سبق وصدق في عالم الفنون، التي هي ملمح عالم الإنسان، في مجالات التربية والتعليم والسياسة والخطاب والتنمية، وفي ساحاتِ صناعةِ الرأي العام، والترقي في مواقع النفوذ والاستقطاب والهيمنة والاحتلال.
وبعده قرأ الدكتور محمد عوام التوصيات التي اقترحها السادة العلماء والباحثون. والتي انصب معظمها على الاستزادة من هذه الدورات الموصولة بمقاصد الشريعة، وأنه لا بد من دورة أخرى في نفس المجال. كما جاءت معظم التوصيات ناصة على إقامة كشافات ومشاريع وبرامج تعليمية خاصة بالفنون.
وختم هذه الندوة المباركة الدكتور وصفي عاشور أبو زيد بقراءة آيات بينات من الذكر الحكيم.