أحمد عزيوي: أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتعليم فاس/ مكناس، المملكة المغربية.
مقدمة:
لقد كان الناس عامة والعرب خاصة في زمن البعثة النبوية في ضلال مبين، وفي جاهلية وشر مستطير، وكان يغلب على أكثرهم طابع الشدة والخشونة والغلظة والفظاظة والقسوة، يكاد خلق الرحمة ينعدم عندهم، حتى أنهم كانوا يقتلون أولادهم بسبب الخوف من الفقر الواقع أو المتوقع، وكان بعضهم يدفنون بناتهم. وكان بأسهم بينهم شديدا يقتل بعضهم بعضا بسبب تافه أو بغير سبب أحيانا، ويستمر القتال بينهم سنين عددا بسبب سباق بين فرسين، وتثأر قبيلة لقتل واحد منها بقتل العشرات من قبيلة القاتل بدعوى أفضليتها عليها، وكانوا يمثلون بالقتلى، ويعذبون الأسرى ويقتلونهم. وكذلك كان الحال سيئا في جل بلدان العالم آنذاك بسبب الاستبداد واستعباد العباد، وسيادة ثقافة العنف والاعتماد على القوة والبطش الشديد لبسط النفوذ والتحكم في الرقاب، وللحفاظ على الجاه والحكم، ولو أدى ذلك إلى إهلاك الحرث والنسل!
ولما أراد الله تعالى أن يخرج الناس من الضلال إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلمات إلى النور، ومن العنف والقسوة إلى الرفق والرحمة، بعث فيهم محمدا ﷺ رسولا بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا، ورحمة مهداة للعالمين برسالة قصدها الرحمة بالخلق أجمعين، فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، فكانت الرحمة من مقاصد بعثته وسنته، وقد تجلى ذلك في تصاريف شريعته، وفي سيرته وخطابه وأفعاله، وقد عمت رحمته المؤيدين والمخالفين، والموالين والمعادين، والمؤمنين والكافرين، وفي ذلك يقول القاضي عياض: «قال أبو بكر محمد بن طاهر: زين الله تعالى محمدًا ﷺ بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب»1. لأنه «فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته لأمته واتحد بالرحمة وانحصر فيها، فصار وجوده رحمةً وسائر أكوانه رحمة...»2، ولم تتخلف هذه الرحمة في سرائه ولا في ضرائه، ولا في سلمه ولا في حربه، وقد دعا أصحابه وأمته إلى التحلي بالرحمة وحضهم عليها، وحذرهم من القسوة والعنف.
وفي هذا الإطار يأتي هذا البحث المتواضع لأشارك به في دورة مقاصد الشريعة الإسلامية في ضوء السنة النبوية الشريفة، في دورتها الثانية: منهجية الكشف عن مقاصد الشريعة من السنة النبوية وتنزيلها، قصد الإسهام ما استطعت في مدارسة المجال التطبيقي للسنة. وقد اخترت أن يكون موضوعه في تطبيقات مقصد الرحمة في السنة النبوية مقتصرا على رحمة رسول الله بأهل الكتاب -اليهود والنصارى-، ووسمته بـ: «مقصد الرحمة في السنة النبوية: رحمة الرسول ﷺ بأهل الكتاب أنموذجا».
إشكالية البحث:
هل يعلم المسلمون اليوم بأن رحمة الرسول ﷺ تشمل اليهود والنصارى فيقتدون به في معاملتهم لهم ويميزون بين المسالم منهم والمحارب؟ وهل يعلمون مقاصد رحمة الرسول باليهود والنصارى؟
وهل من سبيل إلى إقناع اليهود والنصارى - في زماننا - بأن رحمة الرسول ﷺ تشملهم ليكفوا عن معاداته ومعاداة أتباعه واتهامهم بالعنف والإرهاب؟
أهداف البحث:
إبراز شمول رحمة الرسول ﷺ للمسلمين ولغير المسلمين.
بيان مقصد الرحمة في معاملة الرسول ﷺ وخطابه لليهود والنصارى وتنزيلها والاستفادة منها، ودفع شبهة العنف والإرهاب عن الإسلام التي يثيرها الأعداء جهلا أو تجاهلا.
بيان كون رسالة الإسلام رسالة رحمة وسلم وسلام للعالمين، وليست رسالة نقمة وحرب وإرهاب للآمنين.
الإسهام في تبرئة الأمة الإسلامية من الأعمال الإرهابية التي يقوم بها بعض المغرر بهم من أبنائها ـ باسم الجهاد والدفاع عن المستضعفين ـ وهم لا يمثلون الإسلام ولا المسلمين.
بيان أن رحمة الرسول ﷺ بالمخالفين لا تعني الوهن والجبن والخوف، والتفريط في حقوق الله وفي نصرة الإسلام والمسلمين.
منهج البحث:
قد اعتمدت في إعداده المنهج التاريخي والمنهج الوصفي وذلك نظرا لطبيعته. جاعلا أساسه نصوص القرآن والسنة، ثم كتب السيرة النبوية وباقي كتب التراث الإسلامي التي تناولت أخلاق الرسول مع المخالفين.
وبعد توثيق تلكم النصوص وقفت على معانيها ودلالاتها ومقاصدها.
خطة البحث:
وقد اتبعت في إنجازه الخطة التالية: قسمت البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وستة مطالب وهي:
المبحث الأول: مفهوما الرحمة وأهل الكتاب وفيه مطلبان: الأول: مفهوم الرحمة، والثاني: مفهوم أهل الكتاب.
المبحث الثاني: طبيعة اليهود والنصارى وموقفهما من نبي الرحمة ورسالته: وفيه مطلبان:
الأول: طبيعة اليهود وموقفهم من نبي الرحمة ﷺ ورسالته.
الثاني: طبيعة النصارى وموقفهم من نبي الرحمة ﷺ ورسالته.
المبحث الثالث: مقصدا الرحمة في معاملة الرسول ﷺ وخطابه لليهود والنصارى: ويتكون من مطلبين:
الأول: مقصد هداية اليهود والنصارى وإنقاذهم من النار وتجلياته.
الثاني: مقصد بناء مجتمع حضاري إنساني نموذجي تحكمه قيم الشريعة الإسلامية السمحة وتجلياته.
وخاتمة: ضمنتها الخلاصات والنتائج.
وحسبي في هذا البحث - رغم قدم موضوعه وكثرة الكتابة فيه - أني اجتهدت ما استطعت لتكون فيه فائدة وشيء من الجدة، وليكون مسهما في تحقيق أهداف دورة المقاصد، وألا يكون تكرارا لما قيل، وتحصيلا لحاصل، لأنني حرصت قبل إنجازه وأثناءه على الاطلاع على ما تيسر لي مما كتب في موضوع رحمة الرسول ﷺ بغير المسلمين وخاصة اليهود والنصارى منهم، وهي كثيرة ومتنوعة، ومنها القديم والحديث. فوجدتها جميعها تكاد تتفق على جمع النصوص الواردة في الموضوع، وتختلف في عددها وفي منهج دراستها، ولا تكاد تخرج عن اعتبار صور رحمته وتجلياتها عن اعتبارها من أخلاق الرسول مع المخالفين، أو عن حقوق غير المسلمين التي ضمنها لهم الرسول ﷺ. و من أحسن ما اطلعت عليه منها كتاب الرحمة في حياة الرسول ﷺ للدكتور راغب السرجاني، وهو كتاب مهم ومفيد في بابه، قد جمع فيه ما تفرق في غيره، واعتمد فيه منهجا علميا رصينا، خصص الباب الثالث منه لرحمته بغير المسلمين، في تجنب الحرب وأثناءه، ورحمته بالأسرى وبزعماء الأعداء... وأورد ما يناسب ذلك من النصوص، وذكر بعض ما يستفاد منها، وعزز ذلك بشهادات بعض علماء الغرب على كون الرسول رحمة للعالمين، لكنه لم يشر إلى مقصد بعثته ولا إلى أن الرحمة من مقاصد سنته، ولا إلى وسائلها ولا مراتبها.
وكذلك كتاب نبي الرحمة الرسالة والإنسان لمحمد سعد ياقوت المشرف العام على موقع نبي الرحمة. الذي تناول فيه ملخص سيرة الرسول وأشار إلى رحمته بغير المسلمين في حديثه عن العفو وعن الأسرى وأهل الذمة إشارات قليلة، ولم يذكر شيئا عن مقاصد هذه الرحمة ولا دواعيها ولا وسائلها.
ومنها كتاب بيان محاسن الدين في معاملة غير المسلمين للدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، الذي جمع فيه جل ما ورد من نصوص في معاملة غير المسلمين، ورتبها حسب مضامينها تحت عناوين مختلفة بلا شرح ولا أدنى تعليق، وفائدته أنه ييسر الوصول إلى النصوص الواردة في الموضوع.
وغيرها من الكتب والمقالات التي تناولت الرحمة على أنها من أخلاق الرسول ﷺ مع المخالفين، أو على أنها من الحقوق التي ضمنها الرسول ﷺ أو الإسلام لغير المسلمين..
ولم أجد فيما اطلعت عليه من الكتب والبحوث والمقالات من درس صاحبه فيه الموضوع دراسة مقاصدية، فبدت لي الحاجة إلى ذلك ماسة، وتبين لي أن في ذلك جدة وفائدة قد تسهم في تحقيق مقاصد هذه الدورة المباركة.
ولتحقيق ذلك عملت في هذا البحث على إبراز كون الرحمة من مقاصد السنة النبوية، وأن خير نموذج في تطبيقها وتنزيلها هو رسول الله ﷺ، وخاصة في رحمته باليهود والنصارى. كما بينت حقيقة رحمته وأصلها ومراتبها باعتبار أنواع المرحومين، وما تشمل منها اليهود والنصارى وما لا تشملها، وميزت بين المقاصد والوسائل ومقاصد المقاصد فيها. كما وقفت على دفع شبهة التعارض بين كونه ﷺ رحمة للعالمين وكونه مشرعا للقتال والقصاص والحدود.
وإذا كان كل عمل بشري لا يخلو من نقص، فإن ما كان في هذا البحث من صواب فمن توفيق الرحمان، وما كان فيه من نقص أو خطأ أو زلل فمن نفسي وكيد الشيطان. أسأل الله أن يتقبل مني ما أصبت فيه، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن ينفع به، وأن يغفر لي ما فيه من نقص أو سهو أو تقصير في حق نبي الرحمة المهداة عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
المبحث الأول: مفهوما الرحمة وأهل الكتاب
المطلب الأول: مفهوم الرحمة:
1 ـ الرحمة في اللغة:
قال ابن فارس: ««رحم» الراء والحاء والميم أصلٌ واحدٌ يدلُّ على الرّقّة والعطف والرأفة. يقال من ذلك رَحِمَه يَرْحَمُه، إذا رَقَّ له وتعطَّفَ عليه. والرُّحُم والمَرْحَمَة والرَّحْمة بمعنىً...»3.
2 ـ الرحمة في الاصطلاح:
عرفت الرحمة بعدة تعريفات منها: أنها «رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وقد تستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، نحو: رحم الله فلانا. وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة، وعلى هذا روي أن الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطف...»4. وأنها «رقة في النفس تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه»5.
كما عرفها ابن القيم رحمه الله بقوله: «إن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصالَ المنافع والمصالح إلى العبد، و إن كرهتْها نفسُه وشقَّت عليها...»6.
*حقيقة رحمة رسول الله ﷺ ومراتبها:
إن رحمة الله تعالى هي الأصل لأنه الرحمن الرحيم، ورحمته شملت الخلائق كلها في الدنيا، وشملت المؤمنين في الآخرة. ومن تجليات رحمته أن جعل شريعته كلها رحمة، وأرسل رسوله محمدا ﷺ رحمة للعالمين شملت المؤمن والكافر، والبر والفاجر. فقال الله تعالى في حقه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، وعن ابن عبـاس قال: «من آمن بـالله والـيوم الآخر كُتبت له الرحمة فـي الدنـيا والآخرة، ومن لـم يؤمن بـالله ورسوله عُوفِـيَ مـما أصاب الأمـم من الـخَسْف والقذف»7.
وقال السمرقندي في تفسيرها: «يعني: ما بعثناك يا محمد إلاَّ رحمة للعالمين يعني: نعمة للجن والإنس ويقال للعالمين أي: لجميع الخلق لأن الناس كانوا ثلاثة أصناف مؤمن وكافر ومنافق، وكان رحمة للمؤمنين حيث هداهم طريق الجنة، ورحمة للمنافقين حيث أمِنوا القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب...»8.
وبهذا يتبين أن لرحمة رسول الله ﷺ مراتب ومقاصد ووسائل سأوضحها فيما سيأتي بحول الله تعالى.
مراتب رحمة رسول الله ﷺ:
انطلاقا مما ورد في تعريف الرحمة عامة ورحمة الرسول خاصة يمكن ترتيب رحمة الرسول ﷺ باعتبار المرحومين من الأعلى إلى الأدنى فهو:
رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة حيث هداهم طريق الجنة.
رحمة للجن والإنس - مسلمين كانوا أو كافرين - بالإحسان إليهم بإيصال المنافع والمصالح.
رقة وتعطف تبعث على سوق الخير للمرحومين.
رحمة للمنافقين في الدنيا حيث أمنوا القتل.
رحمة للكافرين في الدنيا بتأخير العذاب لهم ومعافاتهم مما أصاب الأمم من الخسف والقذف والاستئصال.
المطلب الثاني: مفهوم أهل الكتاب
اتّفق جمهور العلماء على أنّ المراد بأهل الكتاب: اليهود والنّصارى، وهما الطّائفتان اللّتان أنزل عليهما الكتاب من قبلنا، لقوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ﴾ [الأنعام:156]، ويُعَدُّون من أهل الكتاب وإن كانوا قد وقعوا في التّحريف، ونسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك من كفريّاتهم؛ لأنّ النبيّ ﷺ عاصرهم واعتبرهم من أهل الكتاب.
وخلاصة القول هي أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأنهم ثلاثة أنواع: ذميون، ومعاهدون، ومحاربون.
المبحث الثاني: طبيعة اليهود والنصارى وموقفهما من نبي الرحمة ﷺ ورسالته:
إن المقصد من إدراج هذا المبحث قبل الذي يليه هو بيان حال من شملتهم الرحمة وخاصة اليهود منهم رغم ما انطوت عليه طبيعتهم من الخبث والسوء والعداوة، لتتضح عظمة رحمة رسول الله ﷺ بخصومه، وأنها من مقاصد سنته، وأنه خير الرحماء من الناس، وأنه على خلق عظيم.
المطلب الأول: طبيعة اليهود وموقفهم من نبي الرحمة ورسالته
إن خير ما يستدل به على طبيعة اليهود ومواقفهم من الرسول ﷺ ورسالته وأتباعه كتاب ربنا ـ العليم الخبير بما يسرون وما يعلنون ـ الذي شهد الله فيه على اليهود بكفرهم بآياته، ونقضهم لعهودهم، وقتلهم لأنبيائه، وكذبهم على أوليائه، وتحريفهم الكلام عن مواضعه، وخيانتهم لأماناتهم،... مما عاقبهم عليه بالطبع على قلوبهم وجعلها قاسية كالحجارة أو أشد قسوة ولعنهم، حيث قال تعالى فيهم: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [النساء:155 - 156]، و قال عز وجل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[المائدة: 13].
كما أخبر سبحانه بتمنيهم كفر المؤمنين وردتهم عن دين الإسلام حقدا وحسدا من عند أنفسهم، بعدما عرفوا بأن ما جاء به رسول الله ﷺ حق. ففضحهم الله بقوله: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾[البقرة: 109]، وكانت نتيجة هذه الطبيعة الفاسدة لليهود أن صاروا أشد الناس عداوة لرسول الله ﷺ وللمؤمنين. وقد أخبر الله بذلك في كتابه العزيز وكشف ما انطوت عليه أنفسهم من الخبيثة والحقد والحسد والبغض لرسول الله ﷺ ولمن آمن به وصدقه حيث قال:﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة:82].
إنها آية محكمة قليلة المبنى عظيمة المعنى، وقد بين المفسرون دلالات ألفاظها بيانا شافيا كافيا، ووقفوا فيه على المقصود باليهود وبالذين آمنوا، وعلى سبب هذه العداوة، والفرق بينها وبين عداوة المشركين... واقتصرت على ذكر ما يحصل به القصد وتتجلى به رحمة الرسول ﷺ بهم - رغم خبثهم ودسائسهم ومعاداتهم له ولرسالته ومكرهم به - ومنها:
قول ابن عطية رحمه الله في تفسير هذه الآية: «وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله؛ وهكذا هو الأمر حتى الآن؛ وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم؛ ودربوا العتو والمعاصي؛ ومردوا على استشعار اللعنة؛ وضرب الذلة والمسكنة؛ فهم قد لحجت عداوتهم؛ وكثر حسدهم؛ فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين»...«و شأنهم الخبث؛ واللي بالألسنة؛ وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل إلا الشاذ القليل منهم؛ ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا»9.
وقال السعدي في بيانها: «فهؤلاء الطائفتان ـ اليهود والمشركون ـ على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم، وذلك لشدة بغضهم لهم، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا»10.
وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيرها: «وفي وصف الله إياهم - اليهود - بأنهم أشد عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق، ولذلك قل إسلام اليهود...»11.
ورغم كل هذا المكر والكيد وشدة العداوة... شملتهم رحمة رسول الله ﷺ وعمتهم، ولم يحرموا منها، لأنه رحمة مهداة للعالمين من الله الرحمن الرحيم.
المطلب الثاني: طبيعة النصارى وموقفهم من نبي الرحمة ورسالته
بما أن كلا من اليهود والنصارى يدخلان في مسمى أهل الكتاب، وقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز، وبين ما هم فيه سواء كالكفر، وما هم فيه متفاوتون فيه كالأخلاق والمعاملات، فسأقتصر في حديثي عن طبيعة النصارى على ما خصوا به وخالفوا فيه اليهود خاصة، درءا للتكرار وحرصا على الاختصار.
فأقول: إن مما لا شك فيه أن النصارى ليسوا كاليهود، لأنهم طلبوا الحق وضلوا عن سبيله، بينما اليهود عرفوا الحق وأعرضوا عنه وجحدوه، والنصارى لم يتصفوا بأخلاق اليهود الخبيثة السالفة الذكر. وخير شاهد على ذلك رب العالمين الذي أخبر بما فيهم من المحاسن والصفات الحميدة، حيث قال فيهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ* أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾[سورة القصص: 52-53-54-55].
قال ابن كثير في تفسيرها: «يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن..»12. ومما يؤكد ذلك أقوال العلماء الواردة في تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿... وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ...﴾ [المائدة: 83 - 82]
ومنها: قول ابن عطية: «والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح؛ لولا أنهم ضلوا؛ فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا؛ وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم؛ ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين؛ ويستهينون من فهموا منه الفسق؛ فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب؛ لا أن شرعهم يأخذهم بذلك؛ وإذا سالموا فسلمهم صاف؛ ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق... ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود؛ وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود؛ والمشركين؛ فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين»13.
وقول ابن كثير:» أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾[الحديد:27]، وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعا في ملتهم»14.
وقال الطاهر بن عاشور فيهم: «أقرب الناس مودة للذين آمنوا، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام. وهذان طرفان في معاملة المسلمين. وبين الطرفين فرق متفاوتة في بغض المسلمين، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطلة.
والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة، لقوله: «أقربهم مودة للذين آمنوا» فأما من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين»15.
وخلاصة القول عن طبيعة النصارى وعن أخلاقهم أنهم أمة شريفة الخلق، يتصفون بالرأفة والرحمة، وأنهم أقرب مودة للمؤمنين، وأن أول أمرهم صحيح لولا ضلالهم، يعظمون من استشعروا صحة دينه، ويهينون من فهموا منه الفسق، حربهم أنفة وكسب، وسلمهم صاف.
وهذا لا يعني أن هذه الصفات موجودة في كل النصارى وفي كل الأزمنة والأمكنة. بل فيهم الصالح والطالح كسائر الفرق والطوائف، إلا أن الغالب عليهم ما ذكر من الصفات الحميدة، كما أن الغالب على اليهود ما ذكر من الصفات الخبيثة، وفيهم قلة ممن ليسوا كذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض محاسنهم. و لكن الحكم للغالب كما هو معلوم، فمن غلب خيرُه شرَه كان من الأخيار، ومن غلب شرُه خيرَه كان من الأشرار.
المبحث الثالث: مقصد الرحمة في معاملة الرسول ﷺ وخطابه لليهود والنصار
إن من اطلع على جحود اليهود بالحق الذي جاء به نبي الرحمة محمد ﷺ، ومكرهم به وكيدهم وسوء معاملتهم، وعلى ضلال النصارى وكفرهم ليعجب ويستغرب من الرحمة التي قابلهم بها رسول الله ﷺ، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، وذلك حين يعلم أنه رسول الله،
وأن الله الذي بعثه سمى نفسه الرحمن والرحيم، وأخبر بأنه أرسله رحمة للعالمين، وبرحمته لان للمؤمنين وصبر على الكافرين، وأنه على خلق عظيم، وأن الله لا يعذب قومه مادام فيهم.
وقد أرشده إلى حسن معاملة الناس أجمعين المؤيدين منهم والمخالفين، ومن ذلك ما ختمت به الآيات السالفة الذكر - التي تضمنت مكر اليهود وجرائمهم - حيث أمره سبحانه بالعفو والصفح عنهم فقال: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13]، وقال سبحانه:﴿فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾[ البقرة: 109]، ومنها أيضا ما جاء في الآيات التالية: «﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾[العنكبوت:46]، و﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].
وتأكيدا لما جاء في كتاب الله يقول رسول الله ﷺ عن نفسه بقوله: «أنا نبي الرحمة»16، وقوله: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة»17. وعن أبي هريرة قال:«قيل: يا رسول الله ادع على المشركين. قال «إني لم أبعث لعانا. وإنما بعثت رحمة»18.ولقد حث النبي ﷺ على الرحمة بالناس كلهم، فقال ﷺ: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»19. وقال ﷺ: «من لا يَرحم لا يُرحم»20، وقال: «وإنما يرحم الله عز وجل من عباده الرحماء»21 وقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»22.
وبناء على هذه النصوص وغيرها التي تدل على عموم رحمته ﷺ باليهود والنصارى وغيرهم، وانطلاقا من مفهوم الرحمة ومن حقيقة رحمة الرسول ﷺ ومراتبها الخمسة باعتبار أنواع المرحومين - السالفة الذكر - المستفادة من القرآن والسنة نجد اليهود والنصارى مشمولين برحمة رسول الله ﷺ في جميع الأحوال، فمن آمن منهم واهتدى كان من أهل المرتبة الأولى المرحومين في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن منهم وبقي عل كفره شملته باقي مراتب الرحمة الأخرى - باستثناء مرتبة المنافقين- أو بعضها، أو الأخيرة منها، ولا يحرمون من رحمته بحال من الأحوال، لأن الله تعالى أرسل رسوله رحمة للعالمين.
وبعد هذا تبقى الحاجة ماسة إلى معرفة السر في ذلك والقصد منه بالجواب عن السؤالين التاليين: ما هي مقاصد رحمة الرسول ﷺ باليهود والنصارى؟ وما هي تجلياتها ومظاهرها؟
وبما أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فبيان ذلك كما يلي:
انطلاقا من النصوص الواردة في القرآن والسنة والسيرة وأقوال العلماء المتعلقة برحمة رسول الله ﷺ باليهود والنصارى تبين لي أن مقاصد هذه الرحمة بهم تتلخص في مقصدين اثنين هما:
المقصد الأول: هدايتهم وإنقاذهم من النار: وهذا يندرج تحت مقصد حفظ الدين في حالة استجابتهم، لأن في هدايتهم وتوبتهم زيادة في عدد المسلمين وقوتهم، وعونا على حماية الدين والدفاع عنه والدعوة إليه. وإسعادهم في الدنيا والآخرة. وفي حالة عدم استجابتهم يشملهم المقصد الثاني الذي يندرج تحته من بقي منهم على دينه.
والمقصد الثاني: بناء مجتمع حضاري إنساني نموذجي: تحكمه قيم الشريعة الإسلامية السمحة، وتسوده الحكمة والرحمة والعدل، ويعيش الناس فيه مكرمين وأحرارا، وآمنين فيه على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، رغم اختلاف أديانهم وأجناسهم وألوانهم ولغاتهم، ويتعاونون فيه على المتفق عليه، ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه. وهذا المقصد يندرج تحت مقاصد حفظ النفس والعرض والمال.
ولكل مقصد من هذين المقصدين تجليات ومظاهر كثيرة سأذكر منها ما يتحقق به القصد، وذلك في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: مقصد هداية اليهود والنصارى وإنقاذهم من النار وتجلياته
إن هذا المقصد يندرج في مقصد حفظ الدين، وهو من الضروريات الخمس، لأن الرسول ﷺ كان حريصا على تبليغ رسالته، وعلى هداية الناس أجمعين، وعلى رأسهم اليهود والنصارى الذين اعتنى بهم عناية خاصة. ولهذا المقصد تجليات ومظاهر يتبين من خلالها أن قصد رحمة الرسول ﷺ باليهود والنصارى هدايتهم إلى الإسلام وإنقاذهم من النار، ويمكن تقسيم هذا المقصد وتجلياته إلى قسمين هما:
أولا: مقصد هداية اليهود وإنقاذهم من النار وتجلياته:
إن لهذا المقصد تجليات ومظاهر كثيرة منها:
1 - دعوتهم إلى الإسلام بالحكمة والرفق واللين، وجدالهم بالتي هي أحسن كما أمره ربه عز وجل، وإلحاحه عليهم، وأخذه بكل الأسباب المساعدة على قبولهم دعوته. ولم يقدم على حربهم بسبب غدرهم وخيانتهم إلا بعد دعوتهم إلى الله وتذكيرهم بما يجب عليهم، ويتضح ذلك جليا في حمده لله على إسلام غلام يهودي وإنقاذه من النار، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار»23.
وفي جوابه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر لما قال رضي الله عنه: يا رسول الله أقاتلــهم حتــى يكونــوا مثلنا؟ فقال: «انفذ على رســلك حتى تنزل بســاحتهم، ثم ادعهـم إلى
الإسلام، وأخبرهم بما يجبُ من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمرِ النعم»24.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على كل معاني الرحمة من الرقة والعطف وحب الخير للغير وإيصال المنافع والمصالح المتجلية في حرصه ﷺ على هدايتهم وإنقاذهم من النار، وهي أعلى مراتب الرحمة، ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾[آل عمران:185].
ومما يؤكد هذه الرغبة الناتجة عن رحمته بهم قوله ﷺ: «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود»25. قال الحافظ في الفتح: «المراد عشرة مختصة وإلا فقد آمن به أكثر من عشرة... والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعا لهم فلم يسلم منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام وكان من المشهورين بالرياسة في اليهود عند قدوم النبي ﷺ»26. فمن رحمته حرصه ورغبته في إسلام رؤسائهم ليسلم بإسلامهم باقي يهود المدينة.
2 - حرص الرسول ﷺ على إسلام اليهود بإسلام عالمهم وسيدهم عبد الله بن سلام، وذلك «... لما جاء نبي الله ﷺ - إلى المدينة -جاء عبد الله بن سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد عَلِمَت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت، قالوا فيّ ما ليس فيّ. فأرسل نبي الله ﷺ فأقبلوا، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله ﷺ: يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا. وأني جئتكم بحق، فأسلموا. قالوا: ما نعلمه. قالوا للنبي ﷺ قالها ثلاث مرار. قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأَعْلَمُنا وابن أَعْلَمِنا. قال: أفرأيتم إنْ أَسْلَمَ. قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم. قال أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم. قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاشى لله ما كان ليسلم. قال: يا ابن سلام اخرج عليهم. فخرج، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فو الله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق فقالوا: كذبت. فأخرجهم رسول الله ﷺ»27.
3 - الدعاء لهم بالهداية: ففي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَعَاطَسُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُولُ: «يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»28.
وكيف لا يدعو لأهل الكتاب بالهداية وقد دعا للمشركين من قبلهم، فقال ﷺ ـ: «اللهم اهد دوسا وائت بهم»29. ودعا ﷺ لأم أبي هريرة رضي الله عنه قبل إسلامها -وهي مشركة- لما طلب منه ولدها أن يدعو لها، فقال ﷺ: «اللهم اهد أم أبي هريرة»30، ودعا لثقيف فقال ﷺ: «اللهم اهد ثقيفا»، قالوا يا رسول الله ادع عليهم، فقال: «اللهم اهد ثقيفا، اللهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا»31. ولما قيل له ادع على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة»32.
وهذا من رحمته ﷺ بالمخالفين يهودا كانوا أو غيرهم، لأنه كان يحب دخول الناس في الإسلام، فلا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الحق، ويرجو توبتهم وإذعانهم له. وهذه الصورة يقال فيها ما قيل في الصورة الأولى من صور رحمته، لأن الدعاء وسيلة لمقصد الهداية، والهداية وسيلة لمقصد النجاة من النار والفوز بالجنة، وهذا من رحمته بهم لأنه رحمة للعالمين.
4 - عيادة مريضهم والقيام لجنازتهم:
ومن رحمته ﷺ باليهود أنه كان يعود مرضاهم، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ - فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي ﷺ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار»33. فعيادة هذا المريض اليهودي ودعوته إلى الإسلام لعله يهتدي فيكون آخر كلامه لا إله إلا الله، فينقذ من النار ويدخل الجنة، وهذا من ثمار مقصد رحمته به. وقد كان رسول الله ﷺ يقوم للجنازة حتى تتوارى مهما كان دين الميت، فقد روى جابر بن عبد الله قال: «مرَّ بنا جنازة، فقام لها النبي ﷺ وقمنا. فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي. قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا»34.
وروي أنه مرَّت به ﷺ جنازة فقام لها واقفاً، فقيل له: «يا رسول الله! إنها جنازة يهودي». فقال: «أليست نفساً»35. إن هذه الرقة والتعطف لمن رحمته ﷺ بهذا اليهودي الذي فلت منه ومات على يهوديته ولم يهتد ولم ينقذ من النار.
ثانيا: مقصد هداية النصارى وإنقاذهم من النار وتجلياته:
بعدما تبينت طبيعة النصارى وعلاقتهم بالمؤمنين وموقفهم من النبي الأمين وكتاب رب العالمين، واتضح الفرق بينهم وبين غيرهم من اليهود والمشركين، وعلمنا كيف كانت رحمة رسول الله ﷺ باليهود رغم عداوتهم ومكرهم، ونقضهم لعهودهم، فلا عجب ولا غرابة في أن نجده رحيما بالنصارى الذين وصفهم الله بأن في قلوبهم رأفة ورحمة، وأنهم أقرب مودة للذين آمنوا، وغيرها من الصفات الحميدة التي سبق بيانها. لكن الفارق بين الطائفتين في موضوع الرحمة بهما كبير، من حيث كثرة النصوص والأحداث الدالة على صور رحمة رسول الله ﷺ بهم وقلتها. فما ورد في شأن النصارى منها قليل ـ خلافا لما ورد في شأن اليهود ـ وذلك لقلة عدد النصارى الذين كانوا يقطنون بالجزيرة العربية في زمن رسول الله ﷺ، وقلة احتكاكهم به وبأصحابه وبدعوته بعد بعثته وقبل موته. بينما كان عدد اليهود كثيرا، واستوطنوا المدينة المنورة قبل البعثة وبعدها حتى أجلاهم الرسول ﷺ منها بسبب غدرهم ومكرهم وسوء أفعالهم.
ونظرا لاشتراك اليهود والنصارى في بعض صور رحمة الرسول ﷺ بهم جميعا وتشابهها، وأنهم مشمولون جميعا برحمته، وخاضعون لاختلاف مراتبها حسب اختلاف أحوالهم، فسأقتصر على ما خصوا به منها، ومعرضا عما كان مشتركا وسبق ذكره، معتمدا في ذلك على النصوص الصريحة في شأنهم دون غيرهم، من الكتاب والسنة النبوية والسيرة العطرة وخاصة منها المعاهدات التي عقدها رسول الله صلى الله وسلم مع النصارى ووفودهم وأسقفهم والكتب التي كتبها إليهم.
ومن تجليات مقصد هدايتهم وإنقاذهم من النار ما يلي:
1 - دعوة ملوك النصارى إلى الإسلام وترغيبهم فيه، ومما ورد في كتابه إلى هرقل ملك الروم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]»36.
ومما جاء في رد هرقل قوله: «إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى؛ من قيصر ملك الروم، إنه جاءني كتابك مع رسولك، وإني أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريم، وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيراً لهم، ولوددت أني عندك فأخدمك وأغسل قدميك»37.
لكنه رغم شهادته بأن محمدا رسول الله، بقي على كفره، حرصا على ملكه وخوفا من قومه. وحسب رسول الله ﷺ أنه دعاه إلى الإسلام ورغبه فيه ورهبه من التولي عنه وبقائه على كفره. وكذلك فعل مع غيره من الملوك - كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس - الذين كاتبهم حرصا عل هدايتهم وإنقاذهم من النار، ورغبة في إسلام أقوامهم بإسلامهم، وهذا من تجليات مقصد رحمته بهم.
2 - ومنها كذلك سماحه لوفد نجران بدخول مسجده ﷺ وبالصلاة فيه لما حان وقت صلاتهم، وصلوا فيه إلى المشرق. فبين لهم بذلك سماحة الإسلام لعلهم يقبلون عليه، وتنشرح صدورهم إليه، فيهتدون وينقذون من النار.
المطلب الثاني: مقصد بناء مجتمع حضاري إنساني نموذجي تحكمه قيم الشريعة الإسلامية السمحة وتجلياته:
لقد تبين من خلال النصوص الواردة في الموضوع وغيرها مما لم يتسع له المقام أن من مقاصد رحمة الرسول ﷺ باليهود والنصارى وبغيرهم من المخالفين بناء مجتمع متحضر إنساني وفق أحكام الشريعة الإسلامية، يكون نموذجا للناس أجمعين ليبنوا مجتمعاتهم على منواله، يكون مستوعبا لكل مكوناته - المسلمين واليهود والنصارى -، تسوده الحكمة والرحمة والعدل، ويعيش الناس فيه مكرمين وأحرارا، وآمنين فيه على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، رغم اختلاف أديانهم وأجناسهم وألوانهم ولغاتهم، ويتعاونون فيه على المتفق عليه من المصالح لجلبها ومن المفاسد لدرئها، ويعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه. مع مراعاة كل أنواع الأخوة الدينية والإنسانية والدموية والوطنية واللغوية، والحرص على تكاملها وتجنب تعارضها وإن حصل روعيت الأولية في الترجيح بينها وفق قوانين ومواثيق وعهود متفق عليها.
ولهذا المقصد تجليات ومظاهر كثيرة تتضح من خلالها معالم ذلكم المجتمع المنشود، ونظرا لكثرتها أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر ومنها:
أولا: ما يتعلق منها باليهود:
1 - اعترافه ﷺ بحقوق اليهود وتمكينهم منها. فقد قبل وجودهم في المدينة على أنهم مواطنون لهم حقوق وعليهم واجبات، وقد نصت على ذلك وثيقة المدينة التي وادعهم الرسول ﷺ فيها، وهي معاهدة بين المؤمنين فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين يهود المدينة من جهة أخرى، ومما جاء فيها مما يخص اليهود:
«أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا مَن ظَلَمَ وأَثَم، فإنه لا يوتِغ - أي يُهلك - إلا نفسه وأهل بيته. وأن لكل يهود المدينة مثل ما ليهود بني عوف، وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة، والبِرَّ دون الإثم.
وأن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة. وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة...»38.
فهذا السلوك الطيب، وهذه المعاملة الحسنة التي تمثلت في اعترافه بحقوقهم وتمكينهم منها، واعتبارهم مواطنين وأمة مع المؤمنين، يتناصحون ويتناصرون ويتعاونون على البر دون الإثم، كل ذلك يعتبر وسائل إلى تحقيق مقصد بناء ذلكم المجتمع المنشود.
2 - العدل معهم وتحريم ظلمهم: العدل خلق عظيم، وهو من مقتضيات الرحمة، وقد جمع رسول الله ﷺ بين الصفتين، لأنه على خلق عظيم. وقد التزم بالعدل مع اليهود رغم سوء أفعالهم، حرصا على العدل معهم لأن الله تعالى حرم الظلم، ولتحقيق الأمن لهم وللمسلمين، ولعلهم يسلمون، وهذا من مقتضيات رحمته بهم.
ولا أدل على عدله مع اليهود مما عاهدهم عليه في وثيقة المدينة، حيث جاء فيها: «وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم»، وما أكده في غيرها بأقواله وأفعاله، ومنها:
ما ورد عن صفوان بن سليم عن عدد من أبناء أصحاب رسول الله ﷺ عن آبائهم، عن رسول الله ﷺ قال: «ألا من ظلم معاهَدَاً، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»39.
وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ﷺ: «من قتل معاهداً لم يرح ـ يشم ـ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»40.
وقد حكم ﷺ بالعدل وإن كان على المسلمين، وذلك فيما ورد عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: «انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي ﷺ، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: «كبر كبر» - وهو أحدث القوم فسكت، فتكلما فقال: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر ؟ ! قال: «فتبرئكم يهود بخمسين»، قالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ ؛ فعقله ـ دفع ديته ـ النبي ﷺ من عنده»41.
فلم يقض النبي ﷺ عليهم بالدية، ولم يعاقبهم على جريمتهم، لامتناع الأنصار عن اليمين ورفضهم لأيمان اليهود ـ وهم كفار ـ لعدم وجود البينة الظاهرة ضدهم. فأعطى النبي ﷺ ديته من بيت مال المسلمين مخافة أن يظلم اليهود. وهذا من مقتضيات رحمته ﷺ بهم.
ولما اختصم الأشعث بن قيس ورجل من اليهود إلى النبي ﷺ في أرض باليمن ولم يكن لعبد الله بيِّنة، قضى فيها لليهودي بيمينه42.
ومن عدله معهم أنه ﷺ منحهم حق التحاكم فيما بينهم إلى قوانين دينهم، ولم يلزمهم بقوانين المسلمين إذا كان طرفا القضية من أتباعهم، إلا إذا ترافعوا إليه وطلبوا منه الحكم بينهم، فكان حينئذ يحاكمهم بالشريعة الإسلامية.
فهذه الأخلاق وهذه الرحمة لا تتصور إلا في رسول بعثه الرحمن الرحيم رحمة للعالمين، أو في مؤمن صالح مصلح تأسى به واقتفى أثره.
3 - حماية غير المحاربين منهم أثناء الحرب:
ومن رحمة رسول الله ﷺ بالناس أجمعين أنه كان حريصا على حياتهم، ولم تكن له رغبة في الاعتداء عليهم أو قتلهم، وإن كانوا محاربين، عملا بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:190]، ولا يلجأ إلى الحرب إلا للضرورة، وذلك حرصا على الأخوة الإنسانية، وحفظا للأنفس لعلها تهتدي، وتحقيقا للأمن والاستقرار...
ولذلك نهى ﷺ عن قتل الولدان، والنساء، والعجزة، والعزل، والأجراء، والأسرى، والرهبان والقسيسين في الصوامع والبيع والصلوات، والمعاهدين، والمستأمنين والرسل... فعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا بعث أميرا على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، وقال: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا»43. وفي رواية أخرى: «ولا تقتلوا وليدًا، فهذا عهدُ رسولِ الله ﷺ وسنتِه فيكم».
وفي رواية أخرى قال: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ولا تمْثُلُوا، ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ»44.
وهذا يدل على أن الرسول ﷺ بعث لينقذ الناس أجمعين من الهلاك لا ليقتلهم إلا من أبى، وليدعوهم لما يحييهم ولما يبقيهم، لا لما يفنيهم فتفوته دعوتهم وإنقاذهم من النار فيخسرون، وهذا من مقتضيات رحمته بهم.
4 - حماية أعراضهم و أموالهم: ويدخل هذا الحق في ما جاء في بنود الوثيقة ـ السالفة الذكرـ وفي ما دل عليه الحديث: «ألا من ظلم معاهَدَاً، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»45.
وفيما استنبطه الفقهاء من هذه النصوص وغيرها من أحكام أهل الذمة ما جاء في قول الإمام القرافي: «إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا، لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا -حمايتنا-، وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله ﷺ ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله ﷺ وذمة دين الإسلام»46. وهذا من مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية، ومن الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة لحفظها.
وذلك لأن حماية ما يحبون وسيلة لتحبيب الإسلام إليهم، واستمالتهم للدخول فيه والاهتداء بهديه فينقذون من النار، وهذا ناتج عن رقة في قلبه بعثت على سوق الخير والنفع إليهم، وإن لم يهتدوا عاشوا آمنين على أعراضهم وأموالهم وهذا من مقتضيات رحمته بهم، ومما يسهم في بناء ذلكم المجتمع الآمن المطمئن.
5 - العفو عن ظالمهم:
لقد كان ﷺ يعفو عمن ظلمه وإن كان كافرا أو مشركا، وهذا من رحمته وكريم أخلاقه. ومن صور ذلك أنه كان ﷺ قبل هدية امرأة يهودية أهدت إليه شاة مسمومة فأكل منها واعترفت بجريمتها ولم يأذن بقتلها انتقاما لنفسه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ امرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِشَاةٍ مَسمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنهَا، فَجيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ - قَالَ: أَوْ قَالَ: عَلَيَّ - قَالَ: قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ: لَا»47.
وفي حديث أبي هريرة في صحيح البخاري أن ذلك كان بعلم من اليهود وأنهم اعترفوا بذلك، ومع ذلك لم يأمر ﷺ بالانتقام لنفسه لا منهم ولا منها. لكنه قتلها بعد ذلك قصاصا لموت الصحابي بشر بن البراء رضي الله عنه، الذي كان معه ﷺ وكان أكل من الشاة المسمومة. ومنها كذلك أنه لما سحره اليهودي لبيد بن الأعصم، وعافاه الله من السحر، لم ينتقم منه ولا أمر بقتله. «ومَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِذَلِكَ اليَهُودِيِّ وَلَا رَآهُ فِي وَجهِهِ قَط»48.
وتروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالُوا: السَّام عَلَيْكُمْ. قالت عائشة: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللعْنَةُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَهْلاً يَا عائشة؛ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْق فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» وفي رواية: «وَإيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟! قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».والسام: الموت. وقد ترك عتابهم لأنه يعلم مكرهم وخداعهم وكذبهم، ولو فعل لادعوا أنهم قالوا: السلام عليكم. ولا يحكم عليهم بعلمه وشهادة زوجه عائشة رضي الله عنها. وأنه لا يرغب في عداوتهم، ويقصد بذلك سيادة خلق العفو والصفح والحلم في المجتمع، وعدم مقابلة السيئة بمثلها.
وأعجب من هذا موقف الرسول ﷺ مع زيد بن سعنة وكان من أحبار اليهود.
قال زيد بن سعنة: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد ﷺ حين نظرتُ إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فكنت أتلطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله.
قال: فخرج رسول الله ﷺ من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدًا، وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث، وأنا أخشى - يا رسول الله - أن يخرجوا من الإسلام طمعًا كما دخلوا فيه طمعًا، فإن رأيت أن تُرسل إليهم من يُغيثهم به فعلت. قال: فنظر رسول الله ﷺ إلى رجلٍ جانبه -أراه عمر- فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله.
قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه، فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: «لاَ يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أَبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلا أُسَمِّي حَائِطَ بني فُلانٍ،» قلت: نعم. فبايَعَنِي ﷺ فأطلقت هِمْيَاني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا. قال: فأعطاها الرجل وقال: «اعْجِلْ عَلَيهِمْ وَأَغِثْهُمْ بِهَا».
قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله ﷺ في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، ونفر من أصحابه، فلما صلَّى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني -يا محمد- حقي؟ فو الله إنكم -يا بني عبد المطلب- قوم مطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم!!
قال: ونظرتُ إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره وقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله ﷺ ما أسمع، وتفعل به ما أرى؟! فو الذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر فَوْتَه لضربت بسيفي هذا عنقك. ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: «يَا عُمَرُ، أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا؛ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ، وتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا رُعْتَهُ». قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعًا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أزيدك مكان ما رُعْتُكَ. فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: نعم، الحبر. قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله ﷺ ما قلت، وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتُها في وجه رسول الله ﷺ حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما، فأُشهدك -يا عمر- أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا، وأشهدك أن شطر مالي -فإني أكثرها مالاً- صدقة على أمة محمد ﷺ. فقال عمر: أو على بعضهم؛ فإنك لا تسعهم كلهم. قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله ﷺ فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله»49.
ما أعظم خلق رسول الله ﷺ، لقد صنع على عين الله حتى صار خلقه القرآن، فكان رحمة مهداة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والصغير والكبير، ولباقي العالمين. فها هو يهودي يختبر أخلاقه فيسيء إليه ويؤذيه بأنواع الأذى، حيث طلب منه حقه قبل حلول أجله، وأخذه بمجامع قميصه، ونظر إليه بوجه غليظ، وناداه باسمه دون لقب ولا كنية، وعيره وعير أسرته بالمطل، وكان كل ذلك في حضرة أصحابه. وقد نجح في هذا الاختبار، حيث واجه ذلك كله برفق ولين ورحمة، وتوجه بابتسامة وترحاب وعتاب لصاحبه عمر على ترويعه إياه، فأمره بقضاء حقه، وأن يزيده عشرين صاعا من تمر عوض ترويعه، وهذا من تجليات مقصد رحمته بالظالمين من اليهود، فلا يقابل السيئة بمثلها، ولا الاعتداء بمثله، بل يعفو ويصفح ويصبر حتى يحقق مقصد الرحمة، وقد حصل بالفعل لما اهتدى وآمن فصار من أهل أولى مراتب رحمته ﷺ فأنقذ من النار وهدي إلى طريق الجنة.
ثانيا: ما يتعلق منها بالنصارى:
من التجليات والمظاهر التي يتجلى فيها مقصد رحمة الرسول ﷺ بالنصارى لبناء ذلكم المجتمع السالف الذكر ما تتفق مع سابقتها، ومنها ما تختلف عنها نظرا لخصوصية النصارى واختلافهم عن اليهود، ومنها ما يلي:
1 - تأمينهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتمكينهم من حق اختيار الدين وعدم إكراههم على الإسلام، واحترام علمائهم وأماكن عبادتهم، وهي نفس الحقوق التي أعطيت لليهود، وخصهما معا بما لم يخص به العرب ـ أهله وعشيرته ـ، حين قبل منهم البقاء على دينهم، ولم يقبل هذا من العرب، حين خيرهم بين الإسلام أو القتال. في حين خير اليهود والنصارى بين الإسلام، أو الجزية، وهي مبلغ يدفعونه، مقابل حماية المسلمين لهم، وأقام العدل بينهم وحرم ظلمهم. وقد نصت على هذا نصوص القرآن والسنةـ وقد بينت ذلك ـ ووثائق المعاهدات كما في قوله ﷺ: «ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وبيعهم ورهبانهم وأساقفتهم وشاهدهم وغائبهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير»50.
وهذه من معالم المجتمعات المتحضرة الراقية وقيمه التي ينشدها كل عاقل. وتتضمن الإحسان إليهم ونفعهم ودفع الضرر عنهم، وتحبيب الدين إليهم، وترغيبهم في الهداية، وهذه عين الرحمة المقصودة وآثارها، وهي من ثمارها كما جاء في تعريفها. وما بقي من تجليات رحمته ﷺ بالنصارى يقال فيه مثل ما قيل في رحمته باليهود وزيادة نظرا لاختلاف الحال، لأن النصارى أصحاب أخلاق وشرف وأقرب مودة للمؤمنين، ولأنها جميعا من آثار رحمته ﷺ بالنصارى المستمدة من رحمة الله تعالى.
2 - عدم مطالبتهم بدم جاهلية ولا يفرض عليهم ربا، ولا قتال مع المقاتلين، ولا يأخذ منهم عشر أموالهـــم ـ حتى لا يجمع عليكم الجزية والزكاة ـ، ولا ينتهك جيش حرمة أرضهم. كما نصت على ذلك الوثيقة. وهذا يدخل فيما يسمى اليوم بحقوق الأقليات أو الجاليات.
3 - عقد الصلح مع اسقف نجران لما جادلوا الرسول ﷺ في عيسى عليه السلام، وأثاروا الشبهات، وتمسكوا بدينهم، ورفضوا الدخول في الإسلام، - كما جاء في بعض الروايات - ومما ورد فيما أثبته منها: «... لا يُغَيَّرُ أُسقفٌ مِنْ أسقفَتِهِ، وَلا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلا سُلْطَانهُمْ، وَلا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا أَصْلَحُوا وَنَصَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ»51. وهذا مما يسهم تحقيق أمن المجتمعات وسلامها ودرء كل أسبا الفتنة والقتال.
4 - استجابة الرسول ﷺ لوفد نجران لما طلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً أمينًا ليأخذ منهم الجزية. فقال رسول الله ﷺ: «لأبْعَثَن معكم رجلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٌ»، فاستشرف لهذه المكانة أصحاب الرسول ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ». فلما قام، قال رسول الله ﷺ: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ»52. وهذا من حقوق الرعية على الراعي، بأن يولي على جمع ما عليهم من المال أمينا غير خائن.
5 ـ حسن استقبال الرسول ﷺ ليُحَنَّة بن رؤبة ملك أَيْلة - قرية أم الرشراش المصرية على ساحل البحر الأحمر، والتي يحتلها اليهود، وسمَّوها: إيلات - وحفظ كرامته، ومصالحتهم على تأمينه لسفن أهل أيلة وسيارتهم في البر والبحر، وتأمين ما يريدون من الماء والطرق في البر والبحر، رغم جدالهم ورفضهم للإسلام، وكونهم هم الذين دعوا للصلح، وذلك لأن احترام كبراء القوم ورؤساءهم مطلوب في كل المجتمعات المتحضرة، لأن إهانته إهانة لشعبه وقومه، و كما تدين تدان، واحترم تحترم.
وهذا نصُّ الصلح: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللهِ، ومُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللهِ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنُهُمْ وَسَيَّارَتُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ.. وَإِنَّهُ طَيِّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ.. وَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلاَ طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْر»53.
6 - فك أسيرهم وإكرامه وتأمينه: أورد ابن هشام في سيرته خبر قدوم عديٍّ، وأَسْرِ أُخْته سَفَّانة، فيذكر عن عدي قوله: «وتخالفني خَيْلٌ لرسول الله «فتصيبُ ابنةَ حاتم فيمن أصابت فَقُدِمَ بها على رسول الله في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله هربي إلى الشام.
قال: فَجُعِلَتْ بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله ﷺ فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلَةً، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد؛ فامنن عليَّ منّ الله عليك.
قال: «ومن وافدك؟» قالت: عدي بن حاتم، قال: «الفارُّ من الله ورسوله؟». قالت: ثم مضى رسول الله وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرَّ بي وقد يئست منه، فأشار إليَّ رجل من خلفه أَنْ قُومِي؛ فكلميه قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد؛ فامنن عليَّ من الله عليك، فقال: «قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك مَنْ يكون لك ثقة؛ حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني... قالت: فجئت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله ! قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني رسول الله ﷺ وحَمَلَني، وأعطاني نفقةً، فخرجت معهم حتى قدمت الشام»54.
إنه لدرس بليغ في الرحمة والكرم والتسامح والمروءة، يقدمه هذا القائد العظيم صاحب الخلق العظيم، حين تستعطفه ابنة حاتم الطائي الأسيرة ليمن عليها، فرق قلبه لحالها فاستجاب لطلبها، ولم يأذن لها بالخروج حتى وجدت من قومها ثقة أمينا يبلغها إلى بلادها، حماية لها وصونا لعرضها وحفظا لمالها، ثم أكرمها فكساها وحملها وأعطاها نفقة.
فليتعلم القادة في العالم اليوم من قصة رسول الله ﷺ مع الأسيرة سفانة بنت حاتم الطائي كيف يتعاملون مع الأسرى-وخاصة إن كن إناثا-، فيحترمونهم ويكرمونهم، ولا يهينونهم ولا يجوعونهم،، ويعطونهم ولا يحرمونهم، ويرحمونهم ولا يعذبونهم، ويؤمنونهم ولا يخيفونهم، ويحفظون أعراضهم ولا ينتهكونها، ويكسونهم ولا يعرونهم، وإذا استعطفوهم منوا عليهم، وإذا أطلقوا سراحهم حملوهم وزودوهم بما يبلغهم إلى بلدانهم ومأمنهم.
فهل من جهة في زماننا - غربية كانت أو شرقية - تفعل مثل هذا أو قريبا منه بأسراها أو سجنائها؟ ألا فليستفد دعاة حقوق الإنسان وحقوق المرأة الدروس والعبر من أخلاق رسول الله ﷺ عامة ومن رحمته خاصة،إنه الرحمة المهداة.
إن عقد مثل هذا الصلح وهذه المعاهدات النافعة - مع من لا تخافه ولا ترجوه - والوفاء بها ليعد من أهم مظاهر رحمة رسول الله ﷺ بالمعاهدين، نظرا لما ينتج عنها من حفظ ضرورياتهم وحاجياتهم، وتحقيق غاياتهم ومآربهم، وهكذا ما ينبغي أن يكون القائمون على المجتمعات الآخذين بزمام أمورها في زماننا وفي كل الأزمنة، ليعيش الناس في أمن وأمان واستقرار مكرمين ومعززين وأحرارا غير مظلومين ولا ظالمين... وذلك كان مقصد رحمته ﷺ باليهود والنصارى فبنى بذلك ذلكم المجتمع السعيد الآمن المطمئن القائم على العدل والرحمة والحكمة ورعاية المصالح ودرء المفاسد...
دواعي الرحمة بالمخالفين وأسبابها:
فما هي دواعي هذه الرحمة بالمخالفين يهودا كانوا أو نصارى أو غيرهم؟ هل هي الضعف والخوف؟ أم الطمع في متاع الدنيا من المال والجاه والسلطان؟ أم هي الخلق العظيم، وابتغاء رضا الله وهداية خلقه ونصرة دينه؟ وهل هذه الرحمة تقتضي السكوت على الظالمين المعتدين؟ أم تقتضي معاقبتهم بما يستحقون لحماية الدين ورحمة المظلومين؟
بعد الوقوف على مقاصد رحمة الرسول باليهود والنصارى وعلى تجلياتها ومظاهرها من رحمة رسول الله ﷺ باليهود والنصارى وبغيرهم من الكفار والمشركين، قد يظن من لا علم له بالدين وبسيرة سيد المرسلين أن رحمته ﷺ بهم هي نتيجة ضعف أو خوف وجبن وخور، أو ذل وهوان، أو طمع في دنيا أو في جاه أو سلطان، وهذا وهم و جهل وضلال وباطل. والحق الحقيق أن مصدر هذه الرحمة الرحمن الرحيم الذي جعلها في قلب نبيه الطاهر الأمين، ليكون رحمة للعالمين، فإذا رحم أحدا ابتغى بذلك رضا ربه، ونصرة دينه، وتحبيب خلقه إليه. ليس طمعا فيما عند المرحوم، ولا خوفا من بطشه. لأنه ﷺ كان يرحم وهو قادر على أن يقسو، ويعفو ويصفح وهو قادر على أن يعاقب بالمثل ويحاسب، ويعطي وهو قادر على المنع...وذلك لأن الله ألانه للناس برحمته، وزكى خلقه. فقد اجتمعت فيه كل الصفات الحميدة التي تفرقت في أفراد المؤمنين، والتي لخصها الحسن البصري في قوله: «مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِ: قُوَّةٌ فِي دِينٍ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَحِلْمٌ فِي عِلْمٍ، وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ، وَإِعْطَاءٌ فِي حَقٍّ، وَقَصْدٌ فِي غِنًى، وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ، وَإِحْسَانٌ فِي قُدْرَةٍ، وَطَاعَةٌ مَعَهَا نَصِيحَةٌ، وَتَوَرُّعٌ فِي رَغْبَةٍ، وَتَعَفُّفٌ فِي جَهْدٍ، وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ، لَا تُرْدِيهِ رَغْبَتُهُ، وَلَا يَبْدُرُهُ لِسَانُهُ، وَلَا يَسْبِقُهُ بَصَرُهُ، وَلَا يَغْلِبُهُ فَرْجُهُ، وَلَا يَمِيلُ هَوَاهُ، وَلَا يَفْضَحُهُ بَطْنُهُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ حِرْصُهُ، وَلَا تَقْصُرُ بِهِ نِيَّتُهُ»55.
وهل يتخلف مقصد الرحمة في السنة حين يأمر الرسول ﷺ بقتل المحاربين أو يقتص من القاتل عمدا، أو يقتل الزاني المحصن، أو حين يعاقب الظالمين المعتدين؟؟
فهذه شبهة قد تلتبس على بعض الناس، فيظنون بأن في ذلك تعارضا وتناقضا، ولا يستسيغون الجمع بين الرحمة والعقاب. وجوابا على ذلك يقول الرازي في دفع شبهة كونه رحمة ومجيئه بالسيف: «فإن قيل: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة. وقال:﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَـاٰرَكاً﴾[ق: 9] ثم قد يكون سبباً للفساد.
وثانيها: أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة...»56.
علما بأنه كان ﷺ لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، لكنه يغضب ويعاقب إذا انتهكت حرمات الله وحرمات المؤمنين، وكان يرى ذلك في وجهه. وقد عاقب أولئك اليهود من بني قينقاع الذين اعتدوا على امرأة مسلمة في السوق وهي عند صائغ، واحتالوا عليها ليكشفوا عورتها57 نكاية بالمسلمين وتشفيا فيهم. وهددوا النبي ﷺ بالقتال، فقالوا: «يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس»58. فأجلاهم النبي ﷺ من المدينة وأراح المؤمنين منهم.
ونفس العقاب أنزله ببني النضير لما تكررت محاولاتهم لقتل النبي ﷺ، ودسوا إلى قريش يحضونهم على غزو المدينة، ويدلونهم على العورة، أمر النبي ﷺ بإجلائهم من المدينة59. وأما يهود بني قريظة فقد قتل النبي ﷺ مقاتلتهم لما غدروا به يوم الأحزاب، وتحالفوا مع قريش والعرب ضد المسلمين، وخانوا العهود معهم، وكان ذلك في العام الهجري الخامس. ولما اشتد أذى كعب بن الأشرف اليهودي للمسلمين، وخاض في أعراضهم، وشبب بنسائهم في شعره، وذهب إلى مكة يحرض زعماء قريش على المسلمين أمر النبي ﷺ بقتله60.
خاتمــة:
بعدما أنهيت هذا البحث المتواضع المتعلق بمقصد الرحمة في السنة النبوية عامة وبمقصد رحمة الرسول باليهود والنصارى خاصة، خلصت فيه إلى الفوائد و النتائج التالية:
بيان حقيقة رحمة الرسول ﷺ ومراتبها باعتبار المرحومين.
تأكيد عموم رحمة الرسول ﷺ التي شملت مخالفيه وأعداءه، كما شملت أصحابه وأتباعه، من خلال النظر في النصوص والصور والمظاهر والتجليات والقصص الدالة على رحمة الرسول ﷺ باليهود والنصارى.
بيان كون الرسول ﷺ رحيما وحكيما، يراعي المقام والزمان والحال والمآل والمقاصد، ليلا تنقلب الرحمة إلى نقمة منهيا عنها، كما في حال إقامة الحدود، حيث نهى الله المؤمنين عن أن تأخذهم بالزاني رأفة ـ وهي أرق الرحمة ـ في دين الله، فلا يمنعوا الحد، ولا يخففوا الضرب من غير إيجاع، ولا يهملوا القصاص -بدعوى الرحمة بالجاني- لأن الله جعل فيه حياة آمنة لأولي الألباب..
حددت مقاصد رحمة الرسول ﷺ باليهود والنصارى وحصرتها في مقصدين اثنين هما:
مقصد هدايتهم وإنقاذهم من النار، وهذا لا يخفى فضله وثوابه عند الله.
ومقصد بناء مجتمع آمن منسجم ومستوعب لكل مكوناته المختلفة، يسوده العدل والرحمة والحكمة والإخاء...
بيان تجليات هذين المقصدين ومظاهرهما الدالة عليهما من خلال الواردة في النصوص والقصص والمعاهدات والرسائل وغيرها.
حاجة المسلمين في زماننا إلى فقه هذا الخلق العظيم - خلق الرحمة - الرفيع، وخاصة خلق الرحمة بالمخالفين عامة وباليهود والنصارى خاصة، فيعلمون كنهه وحقيقته، وصوره ومظاهره، وفضله وآثاره، ويتحلون به، ويحسنون تنزيله في مكانه وزمانه وعلى أهله، والاقتداء في ذلك كله بسيد الخلق الرحمة المهداة رسول الله ﷺ. فيميزون في تعاملهم مع اليهود في زماننا، بين المسالم والمحارب، وبين المحايد والمظاهر، وبين الغاصب للبلاد المذل للعباد والمعاهد الموفي بالعهد، وبين اليهود والصهاينة، وبين الظالم المعتدي والبريء المسالم، وبين من يستحق الرحمة والبر منهم ومن يستحق القتال والجلاء من بلاد المسلمين، كالصهاينة الغاصبين لبلاد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين - فك الله أسره -،ويعلمون أنهم ليسوا سواء. وبنفس المنهج يتعاملون مع غير اليهود من النصارى وغيرهم.
حاجة الأمة الإسلامية إلى وضع تصور سليم وواضح لمجتمع مسلم -أو دولة المسلمة- متحضر قائم على الجمع بين محاسن الشريعة ومالا يتعارض مع مقاصدها من القوانين الوضعية والمواثيق الدولية، ومستوعب لكل مكوناته المختلفة الإسلامية والعلمانية والأقليات اليهودية والنصرانية وغيرها من الذاهب والأحزاب، فتعيش فيه جميعها آمنة مطمئنة متضامنة ومتعاونة على جلب المصالح ودرء المفاسد، ويتمتعون جميعا فيه بالحرية والكرامة والأمن الروحي والمادي، وتحفظ فيه أديانهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم.
حاجة نصارى زماننا إلى من يعرفهم بحقيقة ديننا، وأخلاق نبينا، ورحمته بهم وبغيرهم، حتى يعلموا علم اليقين بأن الإسلام دين الرحمة واللين والرفق، وليس دين الشدة والعنف وترويع الأبرياء الآمنين. وأن أخطاء فرد أو فئة من المسلمين - الجاهلين بحقيقة الدين والمغرر بهم - لا ينبغي أن تنسب إلى الإسلام أو إلى جميع المسلمين. ويعلموا بأن الإرهاب لا دين له، وأنه يوجد في كل الأديان والمذاهب والثقافات. وبهذا العلم والعمل به يزداد التقارب والتعارف بين الشعوب، ويتحقق التواصل والحوار ويتم الجدال بالتي هي أحسن، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، وتحترم الرسالات السماوية وجميع الرسل والأنبياء، ويزول الحقد والعداوة بين الأمم والشعوب، ويتحقق الوئام بين الحضارات وينتفي الصدام، ويسود الأمن والأمان، ويزول الخوف والإرهاب والاقتتال.
تبين لي بأنه مع الجهل بالدين وبأخلاق سيد المرسلين ـ وعلى رأسها الرحمة بالمخالفين ـ يكثر الغلاة والمتطرفون من المسلمين، فيسيئون إلى الأمة وإلى الدين من حيث يظنون أنهم يحسنون، ويفسدون في الأرض ويحسبون أنهم مصلحون. ويجهلون بأنهم يتيحون لأعداء الأمة الفرص الثمينة للانقضاض عليها، واحتلال بلدانها، وسفك دمائها، ونهب أموالها وخيراتها، وتبديل دينها، وتشتيت شملها.
العلم بأن الالتزام بخلق الرحمة وبمقاصده والاقتداء برسول الله فيه يتحقق التعاون مع الغير على الخير والبر والتقوى. ويجمع شمل الأمة، ويتم تقريب الهوة بين مكوناتها، وتحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة، فتقوى الأخوة والمحبة بين كل أفراد الأمة، وحينها تسترجع الأمة المسلمة عافيتها وعزها وكرامتها وخيريتها، وأهليتها للشهادة على الناس، وينصرها الله بنصره، ويحفظها بحفظه.
التوصيات:
1 - عقد ندوة علمية في موضوع: إعمال مقصد الرحمة في سبل تكثير حلفاء الأمة وأنصارها، وتقليل خصومها وأعدائها.
2 - عقد دورة علمية في موضوع: واقع المجتمعات المسلمة الموجودة، ومعالم المجتمعات الإسلامية المنشودة في ضوء مقصد الرحمة في الكتاب والسنة.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم: كتاب الله تعالى.
ابن أبي الدنيا: أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (المتوفى: 281هـ) اليقين، حققه وعلق عليه: ياسين محمد السورس الناشر: دار البشائر الإسلامية.
ابن إسحاق: سيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبتدأ و المبعث و المغازي تقديم محمد الفاسي، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب.
ابن حبان «محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي»: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1414 - 1993.
ابن حجر «أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي»: فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت: دار المعرفة، 1379هـ.
ابن رجب «أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي»: جامع العلوم والحكم، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1408هـ.
ابن كثير «إسماعيل بن عمر»: السيرة النبوية، بيروت: مكتبة المعارف،د.ت.
ابن عطية: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي(542هـ) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز،تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ.
ابن قدامة، موفق الدين المقدسي: المغني على مختصر الخرقي، ضبط وتصحيح: عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية ـ بيروت،1994م.
ابن القيم «محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي»: زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط، بيروت - الكويت: مؤسسة الرسالة - مكتبة المنار الإسلامية -الطبعة الرابعة عشر، 1407 هـ - 1986م.
ابن القيم «محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي»: إغاثة اللهفان، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الثانية، 1395هـ - 1975م.
ابن ماجه «محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني»: سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار الفكر، د.ت.
ابن منظور، محمد بن مكرم الأفريقي المصري: لسان العرب، دار صادر - بيروت، الطبعة الأولى.
ابن هشام المعافري (ت213هـ):السيرة النبوية لابن هشام ط3، تحقيق عمر تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1410هـ - 1990م.
أبو بكر جابر الجزائري: هذا الحبيب محمد رسول الله يا محب، القاهرة: المكتبة التوفيقية، د.ت.
أبو الحسن علي الحسني الندوي: السيرة النبوية، دمشق: دار القلم، الطبعة الثالثة، 1427هـ - 2006م.
أبو حيان الأندلسي: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ)، البحر المحيط في التفسير تحقق: صدقي محمد جميل الناشر: دار الفكر - بيروت الطبعة: 1420 هـ.
أبو داود «سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي»: سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الفكر، د.ت.
أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني: المسند، مؤسسة قرطبة - القاهرة.
أكرم ضياء العمري، «موقف الاستشراق من السنة والسيرة»، بحث منشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة، 1995م.
الألباني «محمد ناصر الدين»: السلسلة الصحيحة،الرياض: مكتبة المعارف، د.ت.
الألباني «محمد ناصر الدين»: صحيح الترغيب والترهيب، الرياض: مكتبة المعارف - الطبعة: الخامسة.
الألباني «محمد ناصر الدين»: صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته، بيروت: المكتب الإسلامي، د. ت.
البخاري «محمد بن إسماعيل»: صحيح البخاري، بيروت: دار ابن كثير، الطبعة الثالثة، 1407هـ - 1987م.
بسيوني، محمود شريف، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، دار الشروق، القاهرة، 2003.
الترمذي «محمد بن عيسى أبو عيسى السلمي»: الجامع الصحيح، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت.
تفسير ابن عطية، عبد الحق بن محمد بن عطية الأندلسي طبعة وزارة الأوقاف القطرية سنة النشر: 1428 هـ - 2007 م رقم الطبعة: الطبعة الثانية عدد 8 أجزاء.
حسين محمد يوسف: سيد الدعاة ﷺ، القاهرة: دار الإنسان، القاهرة ط. 1399هـ.
خالد محمد خالد: رجال حول الرسول، القاهرة: دار المقطم، الطبعة الأولى، 1415هـ - 1994م.
الرازي: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)التفسير الكبير مفاتيح الغيب: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثالثة - 1420 هـ.
الراغب الأصفهاني. مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، 1423 هـ - 2002م.
راغب السرجاني: الرحمة في حياة الرسول ﷺ، الطبعة الأولى، 1430هـ/ 2009م.
راغب السرجاني: فن التعامل النبوي مع غير المسلمين، دار أقلام للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 2011.
رقية طه جابر العلواني: فقه الحوار مع المخالف في ضوء السنة النبوية، الرياض: جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، الطبعة الأولى، 1426هـ- 2005م.
زيد بن عبد الكريم بن عبد الكريم الزيد: التسامح في الإسلام، الرياض: جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، إصدارات الجائزة، 1426هـ.
السعدي: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر، من علماء الحنابلة، (المتوفى عام 1376هـ)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
سعيد حوى: الرسول ﷺ، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية: 1410هـ - 1990م.
السهيلي: الروض الأنف، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل،القاهرة: 1967 م.
الشنقيطي محمد الأمين بن محمد بن المختار الجنكي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.
الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر.
الطبراني «سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم»: المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، القاهرة: دار الحرمين،1415 هـ.
عبد الله نجيب سالم: مواقف إنسانية في السيرة النبوية، بيروت: دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1994م.
علي محمد الصلابي: السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، القاهرة: مؤسسة اقرأ، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م.
عماد الدين خليل: دراسة في السيرة، بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة عشرة، 1422هـ - 2001م.
عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام، الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1412هـ.
. العمادي محمد بن محمد بن مصطفى(ت 982 هـ): إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم.
عياض اليحصبى: القاضي عياض أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض (476-544هـ)- الشفا بتعريف حقوق المصطفى،2ج، تحقيق علي البجاوي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404هـ - 1984م.
فاطمة صالح الجارد: عناية السنة النبوية بحقوق الإنسان، الرياض جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود العالمية، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م.
الماوردي أبو الحسن: النكت والعيون «تفسير الماوردي» تحقيق: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم الناشر: دار الكتب العلمية - مؤسسة الكتب الثقافية.
محمد أحمد باشميل: غزوة بني قريظة، دار الفكر.
محمد الغزالي: فقه السيرة، القاهرة: دار الشروق، الطبعة الثانية، 1424هـ - 2003م.
محمد بن عبد الله السحيم: أعظم إنسان في الكتب السماوية، القاهرة: منشورات مكتبة الخانجي، د.ت.
محمد بن يوسف الشامي الصالحي (ت 943هـ)،: سبل الهدى والرشاد في سير خير العباد، تحقيق: مصطفى عبد الواحد. مصر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، عام 1392هـ - 1972م.
محمد حسام الدين الخطيب: نبي المسلمين، ودين الإسلام، والحضارة الإسلامية، المشاركة الفائزة بالجائزة الثانية بمسابقة موقع الألوكة: «انصر نبيك وكن داعياً»، فرع البحث العلمي، 27/11/2006 م 7/11/1427 هـ.
محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، القاهرة: دار السلام 1419هـ - 1999م.
محمد شريف الشيباني: الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة، د.ط.
محمد عزت الطهطاوي: محمد نبي الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن، القاهرة: مكتبة النور، د. ت.
محمد علي الخطيب: رسول الله ﷺ الرحمة المهداة، البحث الفائز بالجائزة الرابعة بمسابقة موقع الألوكة: «انصر نبيَّك وكن داعياً»، فرع البحث العلمي. 28/11/2006 م - 8/11/1427 هـ.
محمود شيت خطاب: الرسول القائد، بيروت: دار الفكر، الطبعة السادسة، 1422هـ - 2002م.
منير محمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية، المنصورة: الطبعة الخامسة عشرة، 1427هـ - 2006م.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد الشريعة الإسلامية في ضوء السنة النبوية الشريفة (2) (منهجية الكشف عن مقاصد الشريعة من السنة النبوية، وتنزيلها(، 2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 673- 722. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |