التأسيس المقاصدي للمشترك الإنساني

شارك:

وائل الحارثي: محاضر بكلية الشريعة بجامعة أم القرى بمكة، وباحث دكتوراة بكلية الشريعة بفاس/جامعة القرويين.

محتويات المقال:
(1) في مفهوم المشترك الإنساني
(2) المشترك الإنساني والمصطلحات أو المفاهيم المقاربة
(3) أصول المشترك الإنساني في نصوص الوحي
(4) مصادر الاشتراك وعوامله
- الفطرة
- العقل السليم/الصريح:
- بقايا الشرائع والأديان السماوية = شرعُ من قبلنا
(5) خصائص ومميزات التأسيس المقاصدي للمشترك الإنساني
(6)
المداخل المقاصدية المؤسسة لمشروعية المشترك الإنساني
1- المدخل الأول: عمارة الأرض
2- المدخل الثاني: المدخل الأخلاقي/ القيم والأخلاق
3- مدخل التعارف والتعاون الإنساني
(7) المشترك الإنساني وتسكين المفهوم في التنظير المقاصدي
1- المشترك الإنساني كمقصد شمولي
2- مفهوم المشترك الإنساني كآلية للكشف عن المقاصد
بعض مراجع البحث

لازالت كثير من المفاهيم المتداولة في الخطاب الثقافي العالمي لم تأخذ حقها من النظر والبحث والتأصيل والمراجعة في الخطاب الإسلامي، خاصة تلك المفاهيم والمعاني ذات الجذور العميقة والمتأصلة في نصوص الوحي.

ولعل مفهوم المشترك الإنساني من تلك المفاهيم كثيرة التداول والتي لاقت رواجا وقبولا لدى مختلف العقلاء والمنظرين والمفكرين في شتى الخطابات الثقافية، حتى تداعى المنظّرون لتقريرها وترويجها وتأصيلها.

ومن هذا المنطلق، وهو تأصيل المعاني الإنسانية المشتركة، تأتي هذه المقاربة المقاصدية التي تظهر شيئا من كمالات دين الإسلام ودرجة استيعابه لمحامد ومكارم المعاني والأخلاق والأفكار والتصورات، وأنه أينما كان الخير والصلاح فثمّة شرع الله.

ولما كانت خاصية المقاربة المقاصدية هي الاستناد للكليات العقلية والفطرة السليمة والوحي الصحيح كانت هي أجدر المناهج لبيان أصالة المفاهيم الإنسانية التي يجتمع عليها العقلاء. ولذلك كان القرآن الحكيم هو المصدر الأول لتأصيل المقاصد الإنسانية المشتركة التي تؤسس لمفهوم المشترك الإنساني.

ومن جهة أخرى؛ فإن البحث في المشتركات الإنسانية يقع في دائرة خصائص رسالة الإسلام لأنها رسالة عالمية، للبشرية جمعاء، لأصل نوع «الإنسان» ذلك المخلوق الذي اختصه الله بالإنعام والتفضيل والتكريم: ﴿ولقد كرمنا بني آدم... وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾ [الإسراء: 70]، لذلك كانت الرسالة الإسلامية رحمة للعالمين: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء: 107].

ولاشك أن هذه الخصائص (التكريم والتفضيل والرحمة وغيرها) لها مستلزمات ومقتضيات ولوازم، منها الاشتغال على المعاني التي تحقق عالمية هذه الرسالة الإسلامية وتبين عن رحمتها بالتواصل والتشارك مع كافة البشر أجمعين المخالفين منهم والموافقين.

(1)

في مفهوم المشترك الإنساني

وصف (الإنساني) هو وصف لمصدر العلاقة ومجال اشتغالها/ أو موضوع علمها وعملها.

وصف (الاشتراك) هو وصف لنوع العلاقة وطبيعة وظيفتها.

مواطن الاشتراك الإنساني

 الاشتراك في الخلق والوجود، كما في قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة﴾[النساء: 1]، وقوله: ﴿وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة﴾[الأنعام: 98]، وقوله: ﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة﴾[الأعراف: 189]. وقوله: ﴿خلقكم من نفس واحدة﴾[الزمر: 6].

 الاشتراك في المصالح.

 الاشتراك في القيم والمبادئ الكلية/العليا.

وبالمفهوم المركّب؛ قيل في بيان المراد بالمشترك الإنساني: إنها «القيم الإنسانية الموجودة في جوهر كل الأديان والحضارات والمدارس الفكرية، التي تلبّي حاجيات الإنسان الفطرية من حيث هو إنسان»1.

 ويمكن القول بأن المشترك الإنساني هو مجموع الأفكار (التصورات، المبادئ، المفاهيم) التي يتفق أو يتوافق ويتواطأ الناس، كلّهم أو جُلّهم إلا ما شذ، على القول بها فطرة وعقلا واجتماعا، ومايترتب عليها من حقوق وواجبات.

(2)

المشترك الإنساني والمصطلحات أو المفاهيم المقاربة

 يمكن الإشارة إلى أن مفهوم المشترك الإنساني قد تداوله عدد من الباحثين والمثقفين في أنساق مختلفة وبمصطلحات متعددة لكن بمعان متقاربة في المضمون.

 ومن تلك المصطلحات والمفاهيم؛ القيم المشتركة، أو المشترك الحضاري البشري، أو الإنسانية المشتركة، أو الأخلاق العالمية أو المشترك الأخلاقي2.

(3)

أصول المشترك الإنساني في نصوص الوحي

اشتملت كثير من نصوص الوحيين على أصول ومعان ومبادئ تنتهي إلى تقرير وتأكيد تلك المساحات المشتركة والمتجذرة في أصل النوع الإنساني، والتي لا يختلف عليها أحد.

ومن تلك الأصول المنصوصة؛

-  أصل الوجود والخلق؛ وهو أُسّ الاشتراك حيث يشترك البشر في أصل الخلقة، حيث يقول الله تعالى: ﴿خلقكم من نفس واحدة﴾[النساء: 1 / الأعراف: 189]، وغيرها كما تقدّم.

-  أصل التكريم والتفضيل المشترك ﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾ [الإسراء: 70]، قال تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم[التين‏: 4]، قال القرطبي: «وإنما التكريم والتفضيل بالعقل»، وقال: «والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكيف، وبه يعرف الله، ويفهم كلامه»3. وقال أبو بكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾، قال: «ليس لله تعالى خلقٌ هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلقه حيًا، عالماً، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا، وهذه صفات الرب»4.

-  أصل التعارف الفكري ﴿يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾[الحجرات: 13]، ولازمه التأثير والتأثر، وأساسه التداخل والتقارب والاشتراك، والاختلاف والتنوع والتعدد سنّة إلهية وقدرٌ كوني، ويبقى الإشكال في تدبيره وإدراته حتى يتحقق به التعارف والتكامل في مساحات المشترك الإنساني.

-  أصل التدافع الإنساني: كما في قوله جلّ وعلا: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾[البقرة: 251]، وقوله تعالى: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبيع ومساجد﴾[الحج: 40].

-  أصل الاستخلاف في عمارة الأرض ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض﴾[فاطر:39] وقوله تعالى: ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم﴾ [الأنعام: 165].

-  أصل الدعوة للدخول في السلم ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلو في السّلم كافّة ولاتتبعوا خطوات الشيطان﴾ [البقرة: 208].

-  أصل الرحمة ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء: 107].

-  أصل التتميم الأخلاقي... لحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»5.

(4)

مصادر الاشتراك وعوامله

الاشتراك قدرٌ كوني وسنّة من سنن الحياة له مصادره وعوامله التي خُلقت وأُسست البشرية عليها أو تطوّر التاريخ البشري من خلالها؛

وأبرز هذه العوامل والمصادر التي سببت هذا الاشتراك:

- الفطرة

وهي العقل الغريزي الذي وهبه الخالق جل وعلا للإنسان، المشتمل على المعارف الضرورية والمباديء الأولية والبدهيات ونحوها من العلوم التي يشترك فيها جميع العقلاء من مبادئ التفكير المركوز في النفوس بلا تعلّم ولا تحصيل، كما أنها هي المعرفة الأساس التي تستند إليها جميع المعارف.

قال ابن القيم في بيان علاقة الشريعة بالفطرة: «الشرائع إنما جاءت بتكميل الفِطَر وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها، فما كان في الفطرة مستحسنا جاءت الشريعة باستحسانه... وماكان في الفطرة مستقبحا جاءت الشريعة باستقباحه...»6.

وعقد ابن عاشور فصلا بيّن فيه أن مبنى المقاصد على الوصف الأعظم للشريعة وهو وصف الفطرة التي هي أصل العقلانية وأساس الاشتراك بين بني الإنسان، فقال: «ابتناء المقاصد على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم؛ وهو الفطرة7.

قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾[الروم: 30]

والفطرة: الخِلقة، أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق... وهي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني سالما من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة»8.

ثم يقول في بيان علاقة الفطرة بالمقصد الشرعي: «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع... نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها»9.

ثم يبيّن ابن عاشور دلالة هذاه الوصف في التأسيس التشريعي: «فوصف الإسلام بأنه الفطرة معناه أنه فطرة عقلية، لأن الإسلام عقائد وتشريعات؛ وكلها أمور عقلية أو جارية على وفق ما يشهد به العقل ويدركه»10.

ويؤكد علّال الفاسي أن الإسلام «اعتبر نفسه دين الفطرة؛ وبمقتضى ذلك قيّد كل نظرة أو اعتبار للنواميس أو مراعاة للمصالح (بالمعروف) من أخلاق الفطرة؛ أي تلك الأسس الأخلاقية التي أقرتها جميع الديانات والمذاهب السابقة على اختلاف نزعاتها وطبيعتها»11.

بل ذهب علال الفاسي إلى القول بأن التشريع الإسلامي خاضع للعرف الإنساني الذي تعارفت عليه الإنسانية منذ نشأتها، ولم يخرج عنه دين من الديانات ولامذهب من المذاهب السليمة12.

- العقل السليم/الصريح:

أو قطعيات العقل وإجماعات العقل الإنساني/الجمعي، وكما قرر العز بن عبدالسلام في قواعده بأن «معظم المصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك معظم الشرائع»13.

والمقصود العقل المكتسب المبني على المقدمات الضرورية وحصيلة مبادئ الفطرة وما نتج عن التجربة واستنبطه العقل بيقين.

 وعقد ابن القيم فصلا قال في صدره: «الشَّرَائِع كلها في أُصولها ‒وإنْ تباينت‒ متفقةٌ مركوزٌ حُسْنها في العقول ولو وقعت على غير مَا هِيَ عَلَيْهِ لَخَرَجت عَن الْحِكْمَة والمصلحة وَالرَّحْمة»14، ثم أبان عن أن أوامر الشرع ترد على وفاق طبائع العقل فقال: «... أَمرهم بالمعروفِ الَّذِي تعرفه العقول وتُقرُّ بحسنه الفِطَر، فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم، ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عُرض على العقول السليمة أنكرته أشدّ الإنكار، كما أن ما أمر به إذا عُرض على العقل السليم قبله أعظم قبول وشهد بحسنه»15.

حتى إن للعقل الإنساني الصحيح سهمٌ في الكشف عن قسم من مقاصد الشريعة، يشير لذلك الطاهر ابن عاشور بقوله: «المقاصد الشرعية نوعان: معان حقيقية ومعان عرفية عامة... فأما المعاني الحقيقية فهي التي لها تحقق في نفسها بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها... إدراكا مستقلّا ألفتها نفوس الجماهير وأدركت حسنها بالتجربة»16.

ويقرر عبدالله ابن بيّه بداهة الاشتراك في المعاني بناء على قاعدة العقل؛ قائلا: «إنه مهما استغرق المرء في مجادلات فكرية حول المبدأ المطلق والنسبي، وتلوّت به النظريات الفلسفية في معارج منعرجات لا نهاية لها، فإن من البديهي أنه توجد قيم مشتركة وأن العقل الذي هو أحسن الأشياء توزيعاً بين الناس كما يقول ديكارت واللغة هما خير برهان على ذلك فكل عقل وكل لغة يعتبر فيها «العدل» كلمة نبيلة حبيبة على النفوس، وكلمة «الصدق»، وكلمة الحرية، التسامح، الوفاء، وغيرها من الألفاظ المحمودة عند كل الأقوام.

وفيها نقيض تلك الألفاظ وهو مذموم لا يقبله أحد مثل: الجور، الظلم، فلو قلت لأشد الناس جورًا إنه جائر لسخط من ذلك وأحب أن يوصف بالعدل، حتى الكذّاب لا يريد أن يوصف بذلك. التعصب، الخيانة، الغدر، إنها صفات مذمومة كريهة إلى النفوس ممقوتة من جميع الأقوام، الفطرة والعقل يمجّانها. أليس ذلك دليلاً عمليًا وبرهانًا ساطعًا على وجود قيم مشتركة»؟17.

- بقايا الشرائع والأديان السماوية = شرعُ من قبلنا

كما قال تعالى: ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾[فاطر24]، وقد اتفقت الرسل على الدعوة إلى أصول الأخلاق وصالح الأعمال.

يقول الطاهر ابن عاشور مشيرا إلى إقرار الشرع لبقايا الشرائع الوضعية والسماوية وما فيها من خير وصلاح وتعزيزها والبناء عليها: «الشريعة في تشريعاتها إنما جاءت لتغيير أحوال الناس، والتحقيق أن للتشريع مقامين:

الأول: تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها، وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾[البقرة: 257].

والثاني: تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس، وهي الأحوال المُعَبَّرُ عنها بالمعروف في قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ﴾[الأعراف: 157]. وأنت إذا افتقدت الأشياء التي انتحاها البشر منذ القدم وأقاموا عليها قواعد المدنية الإنسانية تجدها أمورا كثيرة من الصلاح والخير تُوورثت من نصائح الآباء والمعلمين والمربين والرسل والحكماء والحكام العادلين حتى رسخت في البشر مثل إغاثة الملهوف، ودفع الصائل، وحراسة القبيلة والمدينة، والتجمع في الأعياد... فالنظر إلى اختلاف الأمم والقبائل والأحوال من أهم ما تقصده شريعةٌ عامة...

وليس مرادنا بالتغيير تغييرَ أحوال العرب خاصة، ولا بالتقرير تقرير أحوالهم كذلك، بل مرادُنا تغيير أحوال البشر وتقريرُها سواءً كانوا العرب أم غيرهم. وذلك أن جماعات البشر كانوا غير خالين من أحوال صالحة، هي بقايا الشرائع أو النصائح أو اتفاق العقول السليمة. فقد كان العرب على بقية من الحنيفية، وكانت اليهود على بقية من شريعة عظيمة، وكانت النصارى على بقية منها ومن تعاليم المسيح S. وكان مجموع البشر على بقية من مجموع الشرائع الصالحة نحو شرائع المصريين واليونان والروم، وعلى اتباع ما دلت عليه الفطرة السليمة مثل عدِّ قتل النفس جريمة.

ومن رحمة الشريعة أنها أبقت للأمم معتادها وأحوالها الخاصة، إذا لم يكن فيها استرسال على فساد«18.

ويقول الريسوني في ذات السياق مؤكدا أن «الكتب المنزلة متعددة مختلفة باعتبارات، ومتحدة مشتركة باعتبارات أخرى. الكتب المنزلة ‒والشرائع المبثوثة فيها‒ تتفق في أمور وتختلف في أمور.

وما دام موضوعها هو: الإنسان،في جوهره وطبيعته، في خصائصه ونقائصه، وفي صفاته ومقوماته، في ميوله واحتياجاته الأساسية، في هذه الأمور كلها: الإنسان هو الإنسان، من آدم إلى آخر ولد آدم.

ما دام الأمر كذلك، فلا بد أن تكون هناك أشياء كثيرة يشترك فيها الناس، على الأقل في أصولها وجملتها»19.

(5)

خصائص ومميزات التأسيس المقاصدي للمشترك الإنساني

تمتاز زاوية البحث المقاصدي في تأسيس المفاهيم وتأصيل المعاني المتعلقة بالمشترك الإنساني بميزات؛ منها:

- محورية الإنسان في المسألة المقاصدية، والإنسان في المحور المقاصدي هو مركز المصلحة وليس مركز الكون كما في أطروحة الأنسنة المغالية في المادية والذاتية الفردانية.

ولعل ابن القيم قد وُفّق في صياغة أبرز المحددات المقاصدية للشريعة والتشريع في الإسلام، من خلال عبارته السائرة: «الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، وحكمةٌ كلها، ومصلحةٌ كلها، فكلُّ مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث= فليست من الشريعة؛ وإن أُدخلت فيها بالتأويل»20.

يلاحظ أن ابن القيم وضع محددات إنسانية لمضمون الشريعة وجوهرها، وهي: العدل، الرحمة، المصلحة، الحكمة.

وأبان عن أن طبيعة التشريع الإسلامي تتقصد الإنسان في حياتيه الدنيوية والأخروية.

ويؤكد هذا المعنى علال الفاسي حينما يقول: «الذي لاشك فيه أن الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة المصلحة العامة في كل ما يرجع للمعاملات الإنسانية؛ لأن غايتها هي تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة»21.

وفي هذا المقام يمكن الاستشهاد بأطروحة الدكتور طه عبدالرحمن في توصيفه لموضوع علم المقاصد بأنه «علم الصلاح الإنساني» باعتبار أنه يبحث في وجوه صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة، و«الصلاح قيمة خُلُقية»، لذلك فعلم المقاصد هو علم الأخلاق الإسلامي، أو علم المقاصد هو علم أخلاقي موضوعه الصلاح الإنساني22.

- اشتغال البحث المقاصدي على مستوى الكليات العليا التي هي أساس المشتركات، والمحكمات والثوابت المتعالية على التاريخ والزمان والمكان... والتي لا تقبل النسخ ولا التغيير، وهذه هي الخاصية المحورية لمفهوم المشترك الإنساني.

- من خصائص البحث المقاصدي التأسيس البرهاني/ العقلاني الذي يمثّل الأداة الإنسانية للتفكير الإنساني المشترك، والتي تساهم كذلك في توسيع دائرة الاحتجاج والإقناع، وتقوية موقف الجدل والحوار، ومقاربة مساحة الاختلاف وتعزيز دائرة الائتلاف.

(6)

المداخل المقاصدية المؤسسة لمشروعية المشترك الإنساني

1- المدخل الأول: عمارة الأرض

- باعتبار أنها مهمة مشتركة بين كل الناس، والأمر متوجّه لأصل الإنسان، وهي مُهمّة دنيوية/كونية.

- وباعتبار أنها من مقاصد خلق الإنسان وإيجاده.

ومقصدية عمارة الأرض تثبت من وجهين:كونها من مقاصد الخلق والتكوين، ومن مقاصد التشريع.

والاشتغال على إعمال مقصد الإعمار يكون على مستويين: الإعمار المادي، الإعمار الروحي.

- مقتضيات ومستلزمات عمارة الأرض

إصلاح الإنسان نفسه = المكّلف بإعمار الأرض.

تأسيس المشتركات الإنسانية التي تسمح بتحقيق وإنجاز الإعمار المطلوب.

مطلب التعايش والتساكن والألفة التي تسمح بالأرضيات المشتركة للعمل المشترك، ويترتب على ذلك مقاصديا مراجعة ونقد وتصحيح كل أسباب التنازع والتفرّق والتشرذم ليس بين أبناء الملّة الواحدة فقط بل بين كل الإنسانية بغضّ النظر عن معتقدها ودينها، والمقصود هو البحث عن مساحات التوافق والسّلم قدر الإمكان استجابة لدعوة القرآن العظيم ﴿ادخلوا في السلم كافة﴾، ﴿تعالوا إلى كلمة سواء﴾، ﴿شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾ ونحوها من النصوص المؤسسة لأرضية الاشتراك.

ومن ضوابط البحث عن مساحات المشتركات البحث في حدود (الممكن الشرعي) وهو في المظنونات والفرعيات والتفاصيل الاجتهادية التي لاتعود على الأصول والمحكمات بالنقض والإبطال، مالم تكن هناك ضرورات وحاجات عامّة قد تسوّغ الرخصة المؤقتة!

ومن مقتضيات الاشتراك/ والتعايش المشترك؛ التفاوض والتنازل والقبول بالتسويات والاشتغال باستراتيجيات التعليق والتأجيل في بعض الأحكام والتشريعات أو التعطيل والإلغاء الظرفي كما حصل في أحكام الرقّ وسهم المؤلفة قلوبهم الذي عطّله عمر بن الخطاب، وكذلك مافعله النبي S في صلح الحديبية، وعمل عمر I كذلك في العراق واجتهاده في أرض السواد ونحوها مما ورد العمل بنحوه عند الصحابة وأهل العلم والفقه، مما يظهر مستوى من المرونة والمفاوضة والتسويات التي تعين على إثبات صلاحية الشريعة واستيعابها للظروف والمتغيرات ومختلف الوقائع والبيئات.

2- المدخل الثاني: المدخل الأخلاقي/ القيم والأخلاق

- باعتبار مركزية الأخلاق في الشريعة ومحوريتها في الاعتبار المقاصدي، حتى إنها مثلت غاية الشريعة الكبرى ومقصدها الأول، لحديث «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

يقول الطاهر ابن عاشور مُعلّقا على هذا النص: «فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم... فكما جعل الله رسوله ﷺ على خُلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلّق بالخُلُق العظيم بمنتهى الاستطاعة»23.

وقال الشاطبي: «والشريعة كلها؛ إنما هي تخلّق بمكارم الأخلاق»24.

ويؤكد محمد دراز عناية القرآن العظيم بالمشتركات الأخلاقية للإنسانية، فيقول: «وفي القرآن أكثر من ألف موضع يدعو فيها إلى الفضيلة لما فيها من طُهر وسموّ، وينهى فيها عن الرذيلة لما فيها من فُحش وسقوط؛ بغضّ النظر عن كل اعتبار آخر غير الاعتبار الأخلاقي».25

وعنون علّال الفاسي فصلا في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها» بقوله: «مكارم الأخلاق مقياس كل مصلحة عامة وأساس كل مقصد من مقاصد الإسلام»26، وقرر في ثناياه بأنه: «راعى الإسلام هذه الحقيقة فبيّن للناس أن مقياس كل مصلحة هي الخُلُق المستمد من الفطرة»27، وأن الإسلام «اعتبر نفسه دين الفطرة؛ وبمقتضى ذلك قيّد كل نظرة أو اعتبار للنواميس أو مراعاة للمصالح (بالمعروف) من أخلاق الفطرة؛ أي تلك الأسس الأخلاقية التي أقرتها جميع الديانات والمذاهب السابقة على اختلاف نزعاتها وطبيعتها»28.

ويترتب على ذلك أن سمات إصلاح القيم وتهذيب الأخلاق وتحصيل التزكية أصبحت مقصدا قرآنيا ﴿وإنّك لعلى خُلُق كريم﴾ ومحورا تشريعيا تدور حوله أحكام الشريعة.

وبما أن الفطرة الإنسانية هي مصدر أساس من مصادر تكوين الأخلاق؛ لذلك يشترك الناس في الأخلاق بسبب (فطرية الأخلاق) لأن جميع الناس يشتركون في المعاني والطبائع الفطرية.

وكذلك فجميع الأخلاق الفطرية هي أخلاق قرآنية، لأن القرآن يؤكد على مقتضيات الفطرة وموجباتها.

لذلك؛ فالقيم الأخلاقية القرآنية تصلح أساسا قويا لبناء الأرضيات المشتركة الجامعة بين الناس باعتبارها قيمة فطرية إنسانية، وقد ذهب «محمد عبدالله دراز في دراسته الرائدة حول الأخلاق في القرآن الكريم إلى أن القرآن صريح في القول بأسبقية قانون الضمير (الفطرة)، فالشعور بالخير والشر والعدل والظلم مفطور في النفس البشرية، فما تقوم به الشرائع هو تأكيد هذا القانون الطبيعي وتكميله وتوضيحه»29.

ومن هذا المدخل؛ يمكن استحضار الدعوة التي ظهرت في العقود الأخيرة30 بنحت مفهوم جديد للمشترك الإنساني ينطلق من زاوية الأخلاق وهي الدعوة إلى «الأخلاق العالمية»31 أو «الأخلاق الكونية» وهو موضوع بحث يستحق التعميق والإشادة والتنصيب حتى يأخذ مكانته المؤثرة في ساحة البحث في المشتركات الإنسانية التي يصلح أن تتداعى إليها الأمم ويجتمع عليها العقلاء ويتقارب بها المختلفون.

والعالمية هي نزعة إنسانية وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات، والمقارنة بين الأنساق الفكرية، والتعاون والتعارف بين الأمم والشعوب، بحيث يصبح العالم منتدى حضارات، بينها مساحات كبيرة من المشترك الإنساني العام، ولكل منها هوية ثقافية تتميز بها، ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لا بدَّ من مراعاتها في إطار توازن المصالح32.

والعالمية تقوم على نشر فكرة، أو عقيدة، أو دعوة، وهي بذلك تقابل الخصوصية، وتحيل إلى ما هو كلي وعام.

أما مفهوم الأخلاق العالمية بحسب ما طرحه منظّروه فيقصد به: «الحد الأدنى من التوافق الأساسي لبعض القيم والقواعد والمواقف من أجل تعايش
جدير بالإنسان»33.

«إن الأخلاق العالمية الكونية تمثل: الحد الأدنى الذي تشترك فيه أديان العالم في المجال الأخلاقي، وهو ما يسمى بالأخلاق النحيلة أو النحيفة؛ أي الحد الأدنى الذي يمكن الإجماع عليه في الأخلاق».

أو «الحد الأدنى الضروري من القيم الأخلاقية المشتركة والمواقف الأساسية والمعايير لكل الأمم والمناطق الجغرافية وجماعات المصالح، التي يمكن أن تدعمها، وبعبارة أخرى قيم أخلاقية مشتركة للإنسانية»34.

كما يقاربها المفكر المغربي طه عبد الرحمن بقوله: «عناصر سلوكية كلية مبثوثة في الثقافات بثاً، تهتدي إليها كل منها على حدة من تلقاء ذاتها، وإنْ ألبستها لباساً خاصاً، ونحت بها منحىً متفرداً»35.

ولقد عبّر بعض الباحثين والعلماء المعاصرين عن الأخلاق العالمية بما يقاربها، كالمشترك الإنساني، أو القيم المشتركة، أو المشترك الحضاري البشري، أو الإنسانية المشتركة، أو المشترك الأخلاقي.

و أكثرهم قد قصد بها الأخلاق العالمية، حتى إن كلماتهم دارت حول «الحد الأدنى من مستوى التعاون بين الناس من خلال مجموعة أو منظومة من الأخلاق والقيم المشتركة فيما بينهم»36.

3- مدخل التعارف والتعاون الإنساني

انطلاقا من الأصل والدعوة القرآنية في توجيه الحق تبارك وتعالى: ﴿يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾ [الحجرات: 13].

مع ملاحظة أن الشارع قد أشار للاختلاف وأنه خلقهم هكذا شعوبا وقبائل ثم وجههم لهذا المقصد من التنوع والتعدد؛ وهو طلب التعارف ومستلزماته ومايتبعه من التقارب والبحث في مساحات الاشتراك ووسائله.

ومن الثابت شرعاً أن الباري سبحانه قدَّر كوناً سُنَّة التدافع الإنساني والتراكم المعرفي الحضاري، حيث تأسَّست الطِّباع على أن تكون مدنيَّة مستفيدة بفطرتها، ويشهد لذلك عموم القول الإلهي: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنَّ الله ذو فضلٍ على العالمين﴾ [البقرة: 251].

فالتأثير والتأثر سنة قدريّة طبيعية، وعادةٌ جارية لا يمكن أن ينفك عنها الإنسان بطبعه، وبذلك تقوم الإنسانية جمعاء بحضارتها، وتبني أفكارها، وتنتظم معيشتها، حيث لا حواجز بين العصور، ولا بين أفكار البشر التي تتعرّض لأشكال التسرُّب والتشكُّل والتأقلم والنقد والتصفية.

كما أنه لا يمكن إنكار ظاهرة التشابك الحضاري والانفعال الفكري التي تنشأ في ظل السيرورة الحضارية المعتادة، وإن اختلفت الأصول وحدود التفاعل.

ثم إن التعارف الفكري هو أحد أشكال التعارف الإنساني الذي قدّره الباري جل وعلا حينما خلق البشرية شعوباً وقبائل، لا يمكن أن يقع على شخوص مجردة من غير معرفةِ عقولها وأفكارها وأمزجتها وعاداتها. ويتحرَّر محل التحدِّي في التمييز والتصفية والبناء من أجل إحداث حالة «استقلال فكري».

والفكر الإسلامي بما فيه من أصول وتراث يحمل في طيَّاته القدرة على التواصل والتفاعل الواعي مع كافة الحضارات السابقة والمجاورة، كما أن الأمة لا تستطيع أن تتشكل معالمها الحضارية في غيبة عن التفـاعل مع بـاقي الحضارات الأخرى.

يشير ابن عاشور لفطرية النشوء الحضاري والتلاقح الفكري مما يدل على أحقية الجميع للتشارك في المنتج الفكري/العقلي: «والحضارة الحق من الفطرة؛ لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة؛ لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها، والمخترعات من الفطرة؛ لأنها متولدة عن التفكير، وفي الفطرة حب ظهور ما تولد عن الخلقة»37.

هذه المقدمة تفيد في رفع الصورة السلبية عن حركة التأثير والتأثُّر، والتي تُصوَّر بأنها تساوي التبعيَّة وتعني الذَّوبان، وتهدم الأصالة وتنافي الاستقلال. وهذه الصورة بهذه الكيفية مُنتقَدة مرفوضة إذا كان المآل الناتج عن التأثُّر على هذا النحو، لكن الواقع أن التأثير والتأثر قضية لا يمكن الانفكاك عنها وجوداً وعدماً، كما أن وجود التأثير لا يعني بالضرورة التبعيَّة والتقليد خاصةً في مجال الحركة التفاعلية الواعية التي تُرشِّح المفيد وتبني عليه، كما تستقل بجملة من الأصول كما هو الحال في الفكر الإسلامي، فعناصر التأثير في الوسط الإسلامي ونحوه من الأوساط المشُبَّعة بثقافة خاصة وأصول مستقلة؛ لا تجول في فضاء فارغ أو في عقول خالية، فلا يمكنها أن تتمكن على وجه يفرض التقليد والاستنساخ غير المرُشَّد، بل ستواجه جملة من المعايير والمُرشِّحات والأصول الصالحة لبناء تركيبة خاصة تتلاءم مع الرؤية الإجمالية للبيئة التي تَفِد عليها، وهذا ما يمكن وصفه: «بالتفاعل الواعي الرشيد».

كما أن استئناف الإبداع والإضافة المعرفية لا تتوقف على الممانعة، والتصدِّي لمنتجات الآخر، ولابتهمة الذات والقطيعة مع التراث، بل في الاستقبال الواعي الواثق الذي يتضمن النقد والترشيح والتطوير بموازاة الإنتاج الأصيل المُستقل. حتى مع وجود جدل الممانعة، بأي صيغةٍ كان، فإنه سيعطي مزيداً من الترشيد، ويعني مزيداً من التحرير في معايير الفحص المعرفي، وضمانات الجودة في استقبال علوم الآخر.

(7)

المشترك الإنساني وتسكين المفهوم في التنظير المقاصدي

يمكن الاشتغال على مفهوم المشترك الإنساني وإدماجه أو توطينه في نظرية المقاصد على مستويين:

1- المشترك الإنساني كمقصد شمولي

يستوعب مجموعة المعاني والأخلاق والمبادئ المشتركة والتي تجتمع وتندرج تحت هذا المفهوم، ويترتب على ذلك العمل على تفعيل مقاصد المشترك الإنساني من حيث؛ الوجود والعدم:

  • من حيث الوجود؛ في إيجاد وتوفير وتحصيل كل ما يحقق المشتركات الإنسانية والتأصيلات المعززة لها علميا وعمليا ومحليا وعالميا.
  • من حيث العدم؛ في إبطال ونقد كل مايعرقل أو ينقض أو يناقض المشترك الإنساني.

 2- مفهوم المشترك الإنساني كآلية للكشف عن المقاصد

باعتبار مصادر هذا الاشتراك المؤسسة لهذا المفهوم.

 فالأصل أن العقل الإنساني بمجموعه/ أو إجماعه، وبما هو مركّب فيه من الفطرة السليمة والعقل الصريح/الصحيح، والعقل الجمعي/الفطري، مؤهلٌ لإدراك المصالح والمحامد والمحاسن والمفاسد والرذائل، وإنما جاءت نصوص الوحي متمّمة له ومسدّدة للنقص الذي قد يعتريه والوهم الذي قد يعرض له والخطأ والهوى الذي قد يصرفه عن مدرك الحق.

وتقدّمت جملة من النقولات عن أهل العلم التي تشهد لهذا المعنى، كما في قول العز بن عبدالسلام في قواعده بأن «معظم المصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك معظم الشرائع»38.

وقول ابن القيم: «الشَّرَائِع كلها في أُصولها ‒وإنْ تباينت‒ متفقةٌ مركوزٌ حُسْنها في العقول ولو وقعت على غير مَا هِيَ عَلَيْهِ لَخَرَجت عَن الْحِكْمَة والمصلحة وَالرَّحْمة»39.

وأما الطاهر ابن عاشور فقد نصّ على أن قسما من المقاصد يكشفه العقل ويدركه؛ كما في قوله: «المقاصد الشرعية نوعان: معان حقيقية ومعان عرفية عامة... فأما المعاني الحقيقية فهي التي لها تحقق في نفسها بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها... إدراكا مستقلّا ألفتها نفوس الجماهير وأدركت حسنها بالتجربة»40.

وهكذا، لازالت العقول وساحات التداول الإنساني والجدل الحضاري والتحوّلات الزمانية والمكانية تدفع بمزيد من الأفكار والمفاهيم والحالات والأحوال التي تحتاج إلى تحرير وتأصيل ونقد وترشيح وفق المرجعيات الأصيلة التي تتشكل منها الذات والهوية، ولعل النظر المقاصدي أليق الأدوات المعيارية الإسلامية وأقدرها لقراءة المفاهيم المتجددة على مختلف العصور التي يفرزها الواقع نظرا للقدرة الاستيعابية لخصائص البحث المقاصدي التي تثبت مدى صلاحية الشريعة الإسلامية وملاءمتها للحياة ومواكبتها للواقع.

بعض مراجع البحث

ــ المستصفى من علم الأصول، الغزالي، تحقيق: محمد الأشقر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1417ھ.

ــ قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد السلام، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية،  القاهرة، 1414ھ/1991م.

ــ شرح تنقيح الفصول، شهاب الدين القرافي، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1393ھ.

ــ مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الرحمن قائد، دار عالم الفوائد، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، جدة، الطبعة الأولى، 1432ھ/2012م.

ــ الموافقات، الشاطبي، دار ابن عفّان، السعودية، الطبعة الأولى، 1417ھ/1997م.

ــ مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، تحقيق ودراسة: محمد طاهر الميساوي، دار النفائس، الأردن، الطبعة الثالثة، 1432ھ/2011م.

ــ التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.

ــ مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علّال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1993م.

ــ النظر الشرعي في بناء الائتلاف وتدبير الاختلاف، محماد بن محمد رفيع، دار السلام، مصر، الطبعة الأولى، 1433ھ/2012م.

ــ الأخلاق العالمية: مداها وحدودها، طه عبد الرحمن، سلسلة ورقات طابة، العدد 1، يونيو 2008م.

ــ تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2007م.

ــ سؤال المنهج: في أُفق التأسيس لأنموذج فكري جديد، طه عبدالرحمن، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، الطبعة الأولى، لبنان، بيروت، 2015م.

ــ الأخلاق العالمية: دراسة نقدية في ضوء الإسلام، أطروحة دكتوراه مسجلة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1438ھ/ 2017م.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد القرآن الكريم (3): مجموعة بحوث، 2018، مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 153-.175 وقد قدم وائل الحارثي هذا البحث في الدورة تعقيبا على بحث الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الكيلاني.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة الإسلاميّة والمحكمة الجنائية الدولية

عوض محمد عوض: أستاذ بكلية الحقوق- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:فكرة المحكمة الجنائية الدولية: نشأتها وتطورهاالجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدوليةالمحكمة الجنائية الدولية في ميزان الشريعة الإسلاميةأولًا:...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد شريعة الإسلام واتفاقيات حظر انتشار الأسلحة النووية

إبراهيم أحمد خليفة : أستاذ ورئيس قسم القانون الدولي العام- كلية الحقوق- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:مكانة شريعة الإسلام في النظام القانوني الدوليمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ومقصد حفظ النفس والمال مكانة شريعة ال...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن الكريم وأثرها في بناء المشترك الإنساني

عبد الرحمن الكيلاني: أستاذ الفقه وأصوله بكلية الشريعة، الجامعة الأردنية محتويات المقال:مقصد إعمار الأرضمقصد بناء القيم الأخلاقيةالمقاصد الضرورية والحاجية والتحسينيةمقصد التعارف الإنسانيالخاتمة والتوصياتقائمة المراجع الحم...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد العدل في القرآن الكريم

محمد سليم العوَّا: مفكر إسلامي وخبير قانوني وهو عضر مجمع اللغة العربية بمصر، والأكاديمية الملكية الأردنية، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي – منظمة لمؤتمر الإسلامي – جدة محتويات المقال:أولا: بين الشاب والشيخثانيًا: ما هو العد...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مَقْصِدُ حِفْظِ اْلَأمْنِ في الْقُرْآنِ الكَرِيمِ

عبد الكريم بن محمد الطاهر حامدي: أستاذ الفقه وأصوله، كلية العلوم الإسلامية، جامعة باتنة، الجزائر محتويات المقال:المبحث الأول: مفهوم حفظ الأمن والأدلة على كونه مقصدا قرآنياالمطلب الأول: مفهوم حفظ الأمنالمطلب الثاني: الأدل...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد العدل وصداه في التشريع الجنائي الإسلامي

عوض محمد عوض محتويات المقال:المقاصد الشرعيةأولا: مبدأ الشرعيةثانيا: مناط المسؤوليةثالثا: العلم شرط لاستحقاق العقابرابعا: شخصية المسؤوليةخامسا: المساواةسادسا: التناسب بين الجرم والعقاب  (1) الأصل في الشرائع كلها أنها...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الرحمة في السنة النبوية: رحمة الرسول ﷺ بأهل الكتاب أنموذجا

أحمد عزيوي: أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتعليم فاس/ مكناس، المملكة المغربية. محتويات المقال:مقدمةإشكالية البحثأهداف البحثمنهج البحثخطة البحثالمبحث الأول: مفهوما الرحمة وأهل الكتابالمطلب الأول: مفهو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الرّحمة وتطبيقاته في السنّة النبوية

عبد المنعم الفقير التمسماني: أستـاذ الحديث والفقه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان. محتويات المقال:مقدمةمدخلأولا: مفهوم المقاصدثانيا: تعريف «الرحمة»ثالثا: مقصدية الرحمةالمبحث الأول: تأصيل مق...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top