أحمد زكي يماني
كانت المرأة في الجاهلية قبل الإسلام مهانة وضعية، وكان العربي يعتبرها مصدر ذل وعار، يَسْودّ وجهه إذا بُشّر بمولود أنثى، ويحتار بين أن يمسكها على هون أم يدسها في التراب، حيث وصفهم الحق عز وجل بقولــه: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾1.
وكانـــت المرحلة المكية بعد البعثة النبوية وقبل الهجرة، دعوة إلى التوحيد في مجتمع وثنــي، وإلــى المسـاواة في بيئة تؤمن بالفوارق الطبقــية والحســب والنسب. لم يكن العهد الكي مـــرجعاً لأحكام المعاملات التي تحدد أهلية المرأة ومركـــزها في المجتمع مقارناً بالرجل. ومع ذلك فقد أبلــى النســـاء بلاءً حسناً في الدعوة إلى الله والصـــبر علـــى أذى المشركين، فكانت خديجة، رضـي الله عنها، أول من آمن بالرسالة، وكانت ســــمية بنت خياط، أمّ عمار بن ياسر، أول شهيدة فـــي الإسلام. وشاركت النسوة الرجال في الهجرة إلى الحبشة. وكان مِن بين مَن بايع رسول الله ﷺ في بيعة العقبة الثانية اثنتان من نساء الأنصار.
ثم جاء العهد المدني حيث أقيمت أول دولة إســـلامية، وأول مجتمع مسلم؛ فحدثت أول ثورة قانـــونية واجتماعية جعلت للمرأة مكانة لم يعرفها العـــرب مـــن قبل، فكانت للرجل نداً، وفي الحياة الاجتماعـــية شـــريكاً. وما كان سهلاً على المكي القرشي الذي هاجر إلى المدينة، أن يتقبل الوضع الجـديد للمرأة، لولا الإيمان بالله، والطاعة المطلقة لأوامـــره. ومما أسهم في تقبل هذا التغير أن نساء الأنصـــار كن يحظين بعلاقة مع أزواجهن تمكنهن مـــن النقاش والجدل؛ فبدأت المهاجرات يفلعن فعل نساء الأنصار.
والـــنماذج المختلفة التي سوف أستعرضها فـــيمــا بعد، كان من الواجب أن تكون مؤشراً لأحكـــام يمكــــن التوسع فيها في الظروف الحالية، التــــي تغـــيرت تغيراَ جذريـــاً عن بيئة المدينة وأوضــــاعها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. أما أن يحــــدث العكـــس في بعض بلادنا الإســـلامية؛ فـــتُفرض علــــى المــــرأة قيود تنبثق من التقاليد الاجتماعـــية والقبلـــية، بعـــد أن يُخلع عليها رداءٌ إسلامي ينسب إلى الشريعة وهي منها براء، فذلك تصــــرف سوف يؤدي إلى انفجــــار قد يبعدنا حتى عــــن المعايـــير الإســــلامية والمفاهيم الشرعية. فطوفـــان العولمــــة ووســــائلها مــــن الفضـــائيات والإنترنــــت، لــــن يحمينا منه إلاّ التطبيق الواعي لـــروح الشــــريعة، متحرريـــن من مفاهيمنا التي توارثناها من الماضي في عهود التخلف الإسلامي والجمود الفكري.
إن العهد النبوي المدني لم يعرف شيئاً اسمه منع مشاركة النساء الرجال، مثله مثل العهود التي تلته في عصور النهضة الإسلامية. فكل ما حرّمه الإسلام هو الخلوة غير الشرعية، بأن يكون الرجل مـع المرأة الأجنبية في مكان لا يراهما فيه أحد، ولا يكون معهما ثالث. فقد نهى رسول الله ﷺ أن يدخل رجل على مُغيبة التي غاب عنها زوجها بقولــــه: لا يدخلن رجل بعد يــــومي هذا على مغيـــبة إلا ومعـــه رجل أو اثنان2، فزيارة اثنيــــن أو أكثر لزوجة غاب عنها زوجها هو، ولا شك، نوع من أنواع الاختلاط المحتشم، مثله مثل ارتـــياد النساء للمساجد، وحضور صلاة الأعياد، ومشاركتهن الرجال في سماع خطبه عليه الصلاة والســــلام. بل كان من النساء في المدينة في العهد النـــبوي مـــــن تفتح دارها للضيفان، فينزل عليها المهاجرون من الصحابة. وهذه أم شريك يصفها علــــيه الصــــلاة والســـلام بأنـــهــا امرأة كثيرة الضيفان3حين أرادت فاطمة بنت قيس أن تعتد فـــي بيتها المليء بالرجال. وكانت النسوة يخرجن إلــــى الأسواق لقضاء حاجاتهن وشراء ما يرغبن، وطُـــبق ذلك حتى على أمهات المؤمنين بعد أن فــــرض عليهن الحجاب. والدليل على ذلك أن ابن الخطاب رضي الله عنه حين اعترض على أم المؤمنبن سودة بنــــت زمعـــة، لمّا رآها في الطريق إلى السوق، فعادت وأخبرت رسول الله ﷺ، فقال لها عليه الصــــلاة الســــلام: إنه قد أُذِن لكُنّ أن تخرجن لحاجتـكن4. فكيف بنساء المؤمنين اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب ؟
وقد وصل دور المرأة في المجتمع المدني إلى أعلى المستويات، حين ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشـــفاء بنــــت عـــبد الله المخزوميــــة على حسبة الســوق5. والحســــبة، فـــي رأينا، تحمل الصفة القضــــائية والتنفـــيذية معاً، كما هي تجسيد لـلأمر بالمعـــروف والنهي عن المنكر. والسوق بمعاييرنا المعاصــــرة هو المركز الرئيس للنشاط التجاري، فكيف تمارس المرأة المسلمة ذلك النشاط المهم لو كانت حبيسة الدار؟
كمـــا أعطى ابن الخطاب رضي الله عنه سمراء بنت نهـــيك الأســـدية، التي تولت المنصب نفسه على سوق مكة، سوطا به من يغش في البيع أو الكـــيل6، وهـــي بذلك قد جمعت بين ما يشبه السُّلطة القضائية وما يشبه السُّلطة التنفيدية.
كانت المرأة في العهد المدني النبوي جزءاً لا يـــتجزأ من المجتمع، تشارك الرجل في جميع مـــرافق الحـــياة الاجتماعية، فإذا التقيا سلّم الرجل على المرأة، وسلّمت المرأة على الرجل. وقد أورد الـــبخاري، تحت باب (تسليم الرجال على النساء والنســــاء على الرجال)، من الأحاديث ما يُرد به علـــى من قال بأن المرأة لا تُسلّم على الرجل إذا التقــــيا. والأحـــاديـــث في هذا المضمـــار كثيرة ومتعدّدة.
وكانت المرأة تلبي الدعوة لاجتماع عام، فإذا نادى المنادي (الصلاة جامعة) هرعت إلى المسجد لمشـــاركة الرجال في ذلك الاجتماع، ومثال ذلك جديـــث فاطمــــة بنت قيس التي لبت نداء المنادي للصلاة جامعة7.
كمـــا كانـــت المرأة تفتح عيادة للتمريض تــــداوي فــــيها المرضـــى، مــــثل خيمة بني غفار لصاحبتها رفيدة الأسلمية، التي أقامتها عند مسجد رسول الله ﷺ تداوي فيها الجـرحى8.
وكــــان المســـــجد مكانــــاً للعـبادة تعتكف فيه المـــرأة مثلها مثل الرجـل9، كما كان صرحاً للعلم حيــــث تشــــترك المــــرأة مــــع الـــرجل في تلقيه. والأحـاديــــث الدالـــة على ذلـــك كثيرة جداً في الصحيحين، ولا داعي لاستقصائها أو ضرب أمثلة علـــيها. وكان المسجد منتدىً اجتماعيا تمارس فيه ضــــروب الترفــــيه المباح كرقص الأحباش، الذي شــــاهدته أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنهــــا، وقــــد فُــــرض علـــيهـــا الحجاب، وكـــان عليه الصــــلاة والســــلام يسترها بردائه10. وقد ورد في (فــتـح الـــباري) تـحت عنوان (الرد على من أنكر اللعب في المسجد)11.
وامتد نشاط المرأة في عهد الرسالة ليشمل الـــزراعة والـــتجارة . والأحاديـــث في هذا الصدد كثـــيرة، منها حديــــث أم مبشر الأنصارية صاحبة مــــزرعة النخل12، وحديث خالة جابر بن عبد الله الذي زجرها حين أرادت الخروج لتجدّ نخلها وهي في عدتها، فلما جاءته عليه الصلاة السلام أذن لها، وقال: بل فجدّي نخلك فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً.13.
لم تكن المرأة حبيسة النقاب إلاّ من اتخذته مـنهن عادةً، وكن من النوادر. وقد حُرّم النقاب في الصـــلاة والحج والعمرة، بل كانت المرأة تتجمل للخُطّاب إذا رغبت في الزواج، مثل ســــبيعة بنت الحارث، التي تجملت للخُطّاب، فسألها أبو السنابل: مالـــي أراك تجملـــت للخُطّــــاب ترجين النكاح؟ فخطبها فأبت أن تنكحه14، فخطبها رجـلان: شاب وكهل، فخطبت إلى الشاب15.
إن مــن أهم الأدوار التي أدتها المرأة في العهـــد النبوي الجهاد مع رسول ﷺ، ولم يكن الجهاد فرضاً عليهن كالرجال، ولكنه كان رخصة فـــي الغزوات إلاّ إذا كانت حرباً دفاعية، فحينذاك يصبح الجهاد واجباً عليها.
وكان دور المرأة في الجهاد آنذاك ينحصر في التمريض وسُقيا المجاهدين العطشى، وما إلى ذلــك. ولكنها كانت تمارس الحرب الحقيقية شأنها شـــأن الرجل إذا دعت الحاجة لذلك، والأمثلة على ذلــك كثيرة، من أهمها أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصـــارية المازنية، التي شهدت أحداً والحديبية وخيبرَ وحنيناً وعمرة القضاء ويوم اليمامة. وروى عمـــر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال:ما التــفــت يمـيــناً ولا شمالاً يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني16. وكانت، رضي الله عنها، مع أم أيمـــن وأم سليم، ولما رأين تفوق المشركين تركن سقاية الجرحى ومداواتهم، وألقين بالدلاء، وأخذن الســـلاح من القتلى، ووقفن مع الصحابة يذدن عن رسول الله ﷺ. ويذكر الواقدي: قـاتـلتْ يوم أحد وجُرحتْ اثنتي عشرة جراحة، وداوت جراحاً في عـــنقها سنة 17. وخرجت في خلافة أبي بكر في الـــردة، فباشـــرت الحرب بنفسها حتى قتل مسيلمة، ورجعت وبها عشر جراحات من طعنة وضربة18.
وروى ابـــن سعد في (الطبقات) أن أم سليط شـــهدت خيــبرَ وحنيـــناً19. وروى مســــلم فــــي صـــحيـــحه عـــن أنس رضي الله عنه :أن أم سليم اتخذت خـــنجراً يـــوم حنيـــن فقالت: إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه20.
ومــــن أبطال يوم أحد من النساء أم أيمن التي رأت أحــــد المشركين يسدد سهماً نحوه عليه الصلاة والسلام فانطلقت تخميه بجسدها، فأصابها السهم في عاتقها21. وفي غزوة خيبر أبلت السيدة أمية بنت قيس الغفارية أحسن البلاء في قتال اليهود، فقلدها الرسول ﷺ قلادة، مثل الأوسمة الحربية التي تعلق على صدور القادة والأبطال.
واستمـــرت المرأة تمارس القتــــال الحقيقي بعـــد عهد المصطفى ﷺ22. فهذه أسماء بنت يزيد ابـــن السكن بنت عم مهاذ رضي الله عنه قتلت يوم اليرموك تســــعة من الروم بعمود فسطاطها23. وشهدت أم موســــى اللخمية، زوج نصير اللخمي والد موسى ابـــن نصير، معركة اليرموك فقتلت حينئذِ علجاً وأخذت سلبه 24.
وقصـــة أم حرام التي دعا لها رسول الله ﷺ أن تكون ممن يركب البحر يجاهد في سبيل الله، فاستجاب الله دعاءه؛ وركبت البحر إلى قبرص في عهــــد عــــثمان بـــن عفان رضي الله عنه، واستشهدت هناك، وقبرها معروف في لارنكا25.
والأمـــثلة علـــى بطولات المرأة المسلمة في الحـــرب كثيرة لا مجال للاسترسال فيها. فقد برزت منهــــن مــــن لا تقل عن الرجال الصناديد في الشدة والقـــتال والضرب بالسيف، أمثال: أسماء بنت أبي بكـــر رضـــي الله عنهما، وخولة بنت الأزوم ، وأم حكيم زوج عكرمة بن أبي جهل.
ومـــا أردت أن أرمي إليه هو أنه إذا لم يكن القـــتال بالســــلاح فرضاً على المرأة، كما هو على الـــرجل، فهو مباح إذا أرادت أن تمارسه. ولا مانع شــــرعاً أن تكون المرأة اليوم من المجندات في شتى الأســــلحة الـــبرية والبحرية والجوية، إذا روعي ما تفرضـــه الشـــريعة، حماية واحتراماً لها، وليس انتفاضاً من قدرها أو تقليلاً من أهميتها.
والصــحابيات اللواتي روين عن رسول الله ﷺ كثـــيرات، وهن معروفات لا داعي للاسترسال في ذكرهن، وذكر مراكزهن العلمية. وقد ثبت كيف أن الصـــحابة سعوا إليهن لأخذ آرائهن، وفي مقدمتهن أمهات المؤمنين، رضوان الله عليهن.
ولقد شاركت المرأة المسلمة في عهده ﷺ في النشاط السياسي كالبيعة والهجرة والمشورة. ويحاول بعض الذين ينتقصون من قدر المراة القول بأن بيعة النســــاء تنصب على عدم السرقة وعدم الزنا، ونسوا قـــول الله تعالى: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ ﴾26 ويدّعـــون أن الهجرة ليست عملاً سياسياً، وهي، ولا شــك، قمـــة فـــي العمل السياسي، لم يُستثن منه إلا المستضـــعفون مـــن الـــرجال والنساء. ومشورة أم ســـلمة، رضـــي الله عـــنها، للرسول ﷺ في صلح الحديبـــية أحســـن مثال نضربه في هذا الصدد، إذ عـــبّرت عـــن عمق فهمها وحسِّها السياسي في حل مشــــكلة عـــدم انصياع بعض الصحابة لأمره عليه الصلاة والسلام بالتحلل من الإحرام.
نكتفــــي بهذا القدر من النماذج التي تحكي حياة المـــرأة في العهد النبوي ومشاركتها الرجل في شتى ميادين الحياة، ولو شئنا الاستطراد لوجدنا من الأمثلة أضعاف ما قد ذكرنا، ولكنا نرجو أن نكون قد وُفقنا فـــي إيضــــاح الصورة الحقيقة التي تختلف عما هو ســـائد في بعض أقطارنا الإسلامية، أو ما هو معتمد عند بعض علمائنا.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الإسلام والمرأة_ النسخة العربية، 2004م. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص13-36. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |