مقصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران

شارك:

جميلة تِلوت: دكتوراه في مقاصد الشريعة، وباحثة في الفكر الإسلامي

محتويات المقال:
الفصل الأول: دراسة المفاهيم التأسيسية
المبحث الأول: الأسرة: مفهومها وطبيعتها
المبحث الثاني: مقاصد القرآن
المبحث الثالث: مفهوم العمران
الفصل الثاني: الأسرة وحفظ الإنسان
المبحث الأول: الحفظ الوجودي والاستمراري:
المبحث الثاني: الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكية
المبحث الثالث: حفظ الانتماء البيولوجي أو حفظ الانتساب
الفصل الثالث: مقاصد الاجتماع الأسري
المبحث الأول: مقصد الإحصان والعفاف
المبحث الثاني: مقصد السكن
المبحث الثالث: مقصد التراحم
الفصل الرابع: حفظ الاجتماع الإنساني
المبحث الأول: حفظ الفطرة
المبحث الثاني: مقصد التعارف

عرفت الأسرة اهتماما كبيرا من مختلفات التشريعات السماوية والوضعية قديما؛ فقد أولتها الحضارات القديمة عناية كبرى لدورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، مما يؤكد إجماع العقلاء على أهمية الأسرة ومركزيتها في الاجتماع الإنساني، لكن مستويات الاهتمام ومعالم التصور تختلف بحسب جملة محددات.

وقد اعتنى القرآن الكريم بالأسرة، ولا أدلّ على ذلك من الآيات التي خصّها بها؛ إذ حرص الشّارع الحكيم على تنظيم العلاقة بين أفراد الأسرة، سواءً على المستوى التشريعي أو السلوكي والأخلاقي، وفصّل في شأنها القرآن تفصيلا دقيقًا، ولم يترك مجالا كبيرا للبيان النبوي أو النظر الاجتهادي، ذلك أن حفظ الأسرة حفظ للدين والإنسان وتوجيه لمسار العمران، وفي هذا يقول فريد الأنصاري V: «إن هذا الصنيع الرباني في حد ذاته خطاب منهجي؛ لمن فكر في تجديد العمران. ولقد شهد التاريخ أن الدين في بعض البلاد الإسلامية، التي ابتليت بسيطرة الإلحاد على المستوى الرسمي للدولة؛ لم تحفظه لا هيئة كبار العلماء، ولا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا الجمعيات والجماعات الإسلامية، القديمة والحديثة. وإنما حفظه الله بالأسرة1».

وتجدر الإشارة إلى كثرة الدراسات والكتابات التي ناقشت موضوع المقاصد الأسرية على وجه العموم؛ لكن تقل تلكم الدراسات التي رامت تخصيص القرآن بالبحث والنظر؛

فمن الكتب هناك «الأسرة بين العدل والفضل» للدكتور فريد شكري، و«الأسرة في مقاصد الشريعة: قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا»، لزينب العلواني، و«الأسرة في التصور القرآني» للباحثة، لكن هذه الكتابات انطلقت من منظور تشريعي يجمع بين الكليات والجزئيات دون تخصيص البحث بمقاصد القرآن.

كما نجد عددا من المقالات التي حاولت ملامسة الموضوع بالاقتصار على القرآن الكريم، نقتصر منها على المقالات الآتية:

مقاصد الأسرة في القرآن الكريم،لهدية غازي علي غازي2، أسهبت الدراسة في بيان بعض الأمور المنهجية بعيدا عن التمثيل بقضايا الأسرة نحو: قراءة النص في سياقه الموضوعي، واستصحاب مقاصد الدين العامة في الفهم، والتفريق بين البعدين التشريعي والبشري في شخصية الرسول ﷺ، ثم تحديد الثوابت والمتغيرات في الأحكام الشرعية، لتتطرق بعد ذلك باقتضاب شديد للمقاصد الثابتة للأسرة في القرآن الكريم وهي: الفطرة وإصلاح الاعتقاد، وركزت على الأحكام المرتبطة بهذين المقصدين.

المقاصد الشرعية لبناء الأسرة المسلمة في الرؤية القرآنية،لرشيد كهوس3، وتتلخص المقاصد المذكورة في: تنظيم العلاقة بين الذكر والأنثى، وحفظ النسل الإنساني لاستمرار الحياة وعمارة الأرض، وحفظ الأنساب، والإحصان والعفاف، والاستقرار النفسي والتكامل الزوجي، وبناء الإنسان الصالح أو حفظ التدين في الأسرة، التواصل الاجتماعي والتعارف الإنساني، وسلامة المجتمع وتماسكه واستقراره.

مقاصد الأسرة وأسس بنائها في الرؤية الإسلامية، لماهر حسين حصوة4، وأشار الأستاذ إلى بعض المقاصد وهي: حفظ النوع البشري ومقصد الإفضاء، التماسك الاجتماعي. لكن الدراسة أسهبت في الحديث عن أسس بناء الأسرة في الإسلام نحو تفصيل القول في أسس اختيار الرجل للمرأة والعكس، ومقدمات عقد الزواج، وحقوق أفراد الأسرة وواجباتهم.

فنلحظ من خلال هذه الدراسات أنها ارتكزت على إيراد بعض المقاصد الأسرية التي ذكرها المتقدمون، وإضافة بعض المقاصد دون اعتبار منهجي واضح، ومن غير ربط قوي بين آي القرآن وروح العمران.

لذلك تساءلت عند بداية البحث، ماذا يمكن أن أضيف لهذا الموضوع؛ وقد سبق وبحثت فيه، كما كتبت فيه دراسات جمّة، فهل سأكرر ما قيل؟

لكن عند النظر تبين لي أن الاعتبار المنهجي أمر أساس في معالجة الموضوع وبناء معالمه، إذ يلزم دراسة مقاصد القرآن في ضوء أحوال العمران أيضا؛ فلتنزيل مقاصد القرآن يلزم النظر في الاجتماع الإنساني وقضاياه، جمعا بين مقتضيات النظر في الكتاب المسطور والكتاب المنظور، لنعرف الواجب في النص والواقع، إيمانا مني أن التصورات القرآنية الكلية تناسب كل السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

لذلك فإن هذه الدراسة تسعى إلى بحث مقاصد الأسرة انطلاقا من القرآن الكريم أساسا؛ فقد تقرر أن الكتاب، كما قال الشاطبي: «كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك؛ لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظرا وعملا، لا اقتصارا على أحدهما5»، مع الإشارة إلى الحديث النبوي الشريف في بعض المواطن التفصيلية، وكذا إيراد أقوال السلف والخلف المدعمة للتصورات القرآنية الكلية.

ولتقسيم هذه المقاصد منهجيا؛ فقد كنت أمام مجموعة من الخيارات لمعالجة موضوع البحث؛

إما النظر للمقاصد باعتبارها الإطار المنهجي المركزي وفي ضوئه نبحث موضوع الأسرة، فننطلق من نفس التقسيمات المنهجية المعلومة؛ وهي في الغالب تتأرجح بين المقاصد العامة والخاصة، أو المقاصد الكلية والجزئية...وهذا التقسيم قد لا يكون مسعفا في التعرف على الخصوصيات المقاصدية للموضوع محل الدراسة.

أو النظر باعتبار الموضوع المدروس واعتباره المركز، ثم تحدد المقاصد في ضوء متعلقاته؛ وفي حالتنا هذه، نقسم المقاصد باعتبار العلاقات الأسرية؛ فيكون التقسيم كالآتي: مقاصد الزوجية ومقاصد البنوة ومقاصد الأبوة ومقاصد الوالدية ومقاصد العمومة والخؤولة وغيرها، لكن رغم جودة التقسيم إلا أنه سيشتت المقصود.

لذلك ارتأيت في هذه الدراسة النظر في المقاصد الأسرية وفق منظور يجمع بين حفظ الإنسان والاجتماع، بالتركيز على المقاصد الكلية، وإعادة ترتيبها ونظمها في هذا الإطار المنهجي باعتباره الأنسب لمقتضيات العمران المعاصر، فجاء عنوان هذه الدراسة: مقاصد الأسرة في القرآن من الإنسان إلى العمران، باعتبار أن الأسرة مصنع الإنسان الأول، والعمران هو التجلي للعمل الإنساني على الأرض، وارتقاء العمران مرتهن بصلاح الإنسان، وصلاح الإنسان مرتبط وجودا وعدما بأخلاق الأسرة وصلاحها.

 وقد جاء هذا البحث في مقدمة وأربعة فصول ثم خاتمة؛

عالجت في الفصل الأول المفاهيم التأسيسية للبحث، على رأسها مفهوم الأسرة ببحث دلالاتها، مع الإشارة إلى طبيعة الأسرة في المنظور القرآني، ثم دراسة مفهوم مقاصد القرآن، ومفهوم العمران.

وبينت في الفصل الثاني المقاصد المتعلقة بحفظ الإنسان؛ نظرا لكون الأسرة المحضن الأساس لحفظ الإنسان؛ ومن ثم عرضت لمقاصد وجوده التكويني بالتركيز على حفظ النوع وحفظ النسل، ووجوده الأخلاقي بحفظ التزكية، ووجوده الانتمائي بحفظ النسب، وهي نفس المقاصد المعروفة إلا أني سعيت إلى ربطها بآيات الأسرة.

وعالجت في الثالث مقاصد الاجتماع الأسري؛ إذ الأسرة تتأسس على جماعة تبدأ من الزوج وتمتد في العلاقات والأواصر، ومن المقاصد المذكورة: الإحصان والعفاف والسكن والتراحم.

وآخر فصول البحث رام بيان المقاصد المتعلقة بالاجتماع الإنساني، إذ الأسرة مركز الاجتماع ونواته، ومن ثمّ؛ فإننا نجد مجموعة من المقاصد الأسرية التي تنسحب آثارها على المجتمع على رأس ذلك: حفظ الفطرة والتعارف الإنساني، مع التأكيد على أن منظومة المقاصد المذكورة في الفصلين السابقين تندرج ضمن هذا الفصل سواءً بالأصالة أو التبع.

الفصل الأول: دراسة المفاهيم التأسيسية

إن بيان دلالات المفاهيم المؤسسة لعنوان البحث من شأنه أن يجلي المسار العلمي للدراسة وأطرها المنهجية؛ إذ إن كلا من مصطلحات «الأسرة» و«مقاصد القرآن» مركزية، كما أنها مفاتيح منهجية للبحث.

المبحث الأول: الأسرة: مفهومها وطبيعتها

لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل6، لكن نجد مصطلحات قرآنية قد تقترب من المدلول المعاصر نحو مصطلح «الأهل والآل» التي تدل على جماعة الرجل وعشيرته.

ومن ثمّ؛ فلا يمكن الاستدلال على اهتمام القرآن بالأسرة أو عدم اهتمامه بتكرر «المصطلح» لفظا، وإنما بمدى العناية التشريعية التي أولاها القرآن للأسرة؛ إذ نجد في القرآن تفصيلات تشريعية وقيمية وإرشادية لمختلف مكونات الأسرة، واهتماما بتنظيم علاقاتها وفق منظور تشريعي مقاصدي؛ ببيان حقوق أفرادها وواجباتهم والقيم التي يجب التحلي بها، والمقاصد التي ينبغي التأطر بها، فالآيات القرآنية تروم بيان المنظومة الأخلاقية التي تربط بين أفرادها، لهذا نجد إحدى الباحثات فضلت أن تسمي هذا الضرب من النظر ب «المفردات القرآنية في موضوع الأسرة»، أي المفردات التي تشكل مدلول الأسرة7.

لكن هذا لا يمنع من محاولة تبين الأسرة مفاهيميا قبل الانتقال إلى دراستها مقاصديًّا، باعتبار تداول المصطلح اليوم.

أولا:التعريف اللغوي

لو تأملنا الأصل اللغوي للكلمة، لوجدنا أنها تنحدر من الجذر اللغوي «أسر»، ويدل على الإمساك والقيد، وأسره يأسره أسرا وإسارة: شده بالإسار، والإسار ما شد به وهو القيد، ومنه الأسير، وفي القرآن الكريم: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾[الإنسان:28]، أي شددنا خلقهم: وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم، والأسرة أيضا الدرع الحصينة8.

ومعاني الشد والإمساك والأسر تحيل إلى معاني سلبية وإيجابية؛ إذ يفهم منها أن «الأسرة» إسر وقيد، ومن ثم تحيل الدلالة إلى أن اختيار الأسرة أنموذجا للاجتماع بين الرجل والمرأة تقييد لحرية الفرد، وهذا المعنى قد يكون صحيحا جزئيا؛ إلا أن المعنى الإيجابي لهذا الأصل اللغوي يدل أيضا على أن الأسرة يشد بعضها بعضا، وتربطهم أواصر قوية تجعل علاقتهم صلبة، فالأسرة هي الدرع الحصينة لأنها تحمي أفرادها داخل حِصنها المنيع، كما أنها حصن للإنسان بتثبيت مصدر وجوده وتكوينه وتنشئته، وهذا المعنى هو الذي نجده مثلا عند أبي حيان التوحيدي: «وفلان ذو أسرة كريمة؛ أي أهل بيت، كأن أسرة الرجل ما هو مأسور به، أي مشدود به، لأن الرحم والقرابة يضمان على الإنسان ويشدانه9»،10 وربما يلخص أبو حيان في كلامه هذا المعنى اللغوي والاصطلاحي للمفهوم، إذ الرحم رباط قوي يورث صلابة وشدة في العلاقة والروابط.

ثانيا: التعريف الاصطلاحي

لم يرد مصطلح «الأسرة» في القرآن الكريم، كما سبق بيانه، لكنه كان اصطلاحا معروفا عند العرب يدل على جماعة الرجل، وتطلق العرب كلمة الأسرة للدلالة على قدر من التجمع البشري، وقد وردت الأسرة في نص طويل لابن حجر العسقلاني في تعديد مراتب الأنساب، وذكر جملة من التقسيمات من بينها الأسرة11 باعتبارها شكلا من أشكال التجمع الإنساني.

وحين نرجع إلى مفهوم الأسرة في أدبيات التداول الإسلامي12، فإننا نجد محدداث ثابتة في البنية المفهومية لا يمكن إزالتها أو تغييرها، وهي: محدد الاختلاف الجنسي، ذكر وأنثى، ومحدد الأولاد، بالإضافة إلى المحدد الشرعي؛ وهو النشوء عن العلاقة الزواجية13.

ولو تأملنا بعض التعاريف المعاصرة للأسرة في التداول الإسلامي14، لتبين لنا أنها تقوم في جملتها على أساس الرابطة.

ومن ثم؛ فأركان الأسرة من المنظور الإسلامي تتمثل في:

  • ترابط بين رجل وامرأة (اختلاف جنسي) تنتفي بينهما موانع التحريم بميثاق شرعي.
  • قيام الرابطة على قصد التأبيد لا التأقيت.
  • الرغبة في المكاثرة الكمية والكيفية بأبناء الصلب.

ثالثا: الأسرة والامتداد العلائقي:

إذا تأملنا القرآن الكريم فإننا نجده لا يفرض نمطا معينا للأسرة «نووية أو ممتدة»، وإنما يحرص على بيان الحدود والقيم التي تؤطر العلاقات الناتجة عن الزواج المشروع، الأمر الذي يجعل العلاقات مركبة ومتشابكة، تتداخل فيها العلاقة الزوجية بعلاقة المصاهرة والنسب، ولا أدل على ذلك من تشريعات الميراث المضبوطة والمتشعبة، والانضباط بهذه الحدود الشرعية والضوابط الأخلاقية يحفظ هذا التشابك الأسري وينمى هذا التآصر العائلي بين مختلف محددات الأسرة الكبيرة (الممتدة) أو الصغيرة (النووية).

ومن ثم، فإن بوصلة الأسرة في القرآن موجهة دائما نحو قبلة الأمة القطب، بغية النهوض والشهود، لذلك فإنه من بين المقاصد القرآنية العليا تحديد جماعة الأسرة بدءا من الزوجين ومرورا بالأبناء وما يترتب عن ذلك من علاقات النسب والمصاهرة في تشريع دقيق محدد ومنضبط، حتى تتميز الجماعة الأسرية عن غيرها من جهة، وحتى تكون هذه الجماعة اللبنة الأولى في تشكيل المجتمع من جهة أخرى، فدون جماعة سوية لا يمكن الحديث عن مجتمع راشد، فيلزم من صلاح الأولى صلاح الثاني.

وعليه؛ فإن الاعتناء التشريعي بالأسرة كان من أجل تثبيت ماهيتها، وتجلية المساحات العلائقية وحدودها، والتركيز على أنها امتداد واتساع نحو أمة الرسالة والبلاغ والشهود. لذلك لم يكن غريبا أن جعل الإسلام لكل دائرة من دوائرها المبثوثة أحكاما وتشريعات دقيقة تحكم بناءها وتربطها بسابقتها وتصوبها نحو الدائرة الكبرى (الأمة) والرسالة الأسمى، وهي أمانة الاستخلاف وإعمار الأرض كدحا نحو الله تعالى وملاقاته15.

 فهذه الدوائر مترابطة ومتداخلة فيما بينها، فلا يمكن أن ننظر لدائرة بمعزل عن الدوائر الأخرى، وتظل الدائرة المركز (دائرة الزوجين) أهم الدوائر، لأن القيم التي تسودها تؤثر على باقي الدوائر تربية وتنمية (بنين وحفدة) وتعاملا وإحسانا (نسبا وصهرا) وعمرانا واستخلافا (أمة).

وبالنظر إلى الرؤية الاستخلافية العمرانية يمكن القول إن الزوجية هي النواة الرئيسية لتكوين الأمة القائمة الناهضة الراشدة (الأمة القطب)، ولا تكتمل هذه الزوجية دون تشابكها في إطار أواصر القرابة والنسب التي تندرج ضمن مسمى «الأهل».. ومجموع الأهالي هو الذي يكون الأمة.

فلا تتكون الأسرة من زوجين وأبناء تحدّهم أربعة جدران وتفرقهم عن غيرهم، بل الأسرة وإن افترقت مكانا، فإن آصرة الرّحم تمدّها إنسانا، وعليه، فإنّ الاجتماع الأسري نظامٌ تتفاعل في داخله كلُّ القيم مجتمعةً، فليس كلّ مجال أسري بوحدةٍ منغلقةٍ، أو جزيرةٍ منفصلةٍ عن الأخرى، بل هي علاقاتٌ أخلاقيةٌ متفاعلةٌ تتكامل فيها أخلاق الزّوجيّة بأخلاق الأبوة والبنوة والأخوة والقرابة وغيرها.

لذلك، فإن كون الأسرة صغيرة/نواة لا يلغي كونها جزءا من أسرة أكبر هي «العائلة/الأسرة الممتدة» بل كونها جزءا من جماعة أكبر وهي أمة الإسلام والإنسان.

 وعليه، فإن لكل دائرة من هذه الدوائر مقاصدها وقيمها الداخلية التي تحول دون تفككها، وقيمها الخارجية التي تشد من أواصرها، ومنه نفهم التفصيل التشريعي القرآني الخاص بالعلاقات الزوجية وما ينجم عنها من علاقات قرابية سواء على مستوى الوفاق، زواجا، أو الخلاف، إصلاحا وتدبيرا، أو الافتراق، طلاقا أو وفاة، وذلك بتحديد آليات كل مستوى على حدة؛ فيظل الزواج هو الرابطة المقدسة والميثاق الغليظ الذي ينبغي حشد جميع الوسائل من أجل تيسر سبله وتوطيد أركانه.

المبحث الثاني: مقاصد القرآن

لم يلق هذا الموضوع اهتماما كافيا من الباحثين المعاصرين16، نظرا لهيمنة مقاصد الشريعة على التوجه البحثي المعاصر، وهذا لا يمنع من التنويه بجهود مؤسسة الفرقان في تعميق النظر لمقاصد القرآن من خلال دَوراتها المتميزة، بالإضافة إلى تخصيص مجلة الترتيل ثالث أعدادها لهذا الموضوع.

وما يعنينا في هذا المقام الإشارة إلى مفهوم مقاصد القرآن، فإذا كان مدلول المقاصد يحيل على معنى المصالح والنيات والغايات، فإن دلالة المركب ستحيل على المصالح الظاهرة والمستنبطة من مجموع الآيات، وهذا جوهر الفرق بين المقاصد التشريعية والمقاصد القرآنية؛ فإذا كانت المصالح التشريعية تستشف من آيات الأحكام، فإن مقاصد القرآن تؤخذ من كل الآيات فكانت بذلك أعم وأشمل.

ويظل هناك تداخل وثيق بين مقاصد القرآن ومقاصد الشريعة، إلا أن بينهما عموما وخصوصا من وجهين كما تبين؛ فمقاصد القرآن أعم من الثاني مجالا لأن المقاصد القرآنية لا تقتصر على المسائل التشريعية وإنما تتعداها للمقاصد العقدية والتكوينية والعمرانية... ومقاصد الشريعة أعم استمدادا؛ حيث إنها
لا تقتصر على القرآن الكريم، وإنما تتعداه إلى المصدر التشريعي الثاني وهو
السنة النبوية.

ومنه؛ فليس كل مقصد قرآني مقصدا تشريعيا والعكس صحيح، فالعلاقة بينهما تداخلية. ويعرف عبد الكريم حامدي المقاصد العامة للقرآن بقوله: «الغايات الملحوظة في جميع القران أو معظمه17».

ومقاصد القرآن على درجات، فهناك مقاصد الآيات، ومقاصد السور، والمقاصد العامة للقرآن18، والذي يعنينا في هذا البحث، هو النظر في مجموع المصالح والأسرار والغايات الظاهرة والخفية للآيات القرآنية.

وسيظهر أثر هذا النظر الكلي في بيان مقاصد الأسرة، إذ يستلزم ذلك بحث الآيات المتعلقة بالأسرة سواء التشريعية أو العقدية أو الأخلاقية؛ إذ إن المقاصد لا تستشف فقط من آيات الأحكام والتشريع، وإنما نجد مقاصد قرآنية كلية وجزئية، عامة وخاصة في القصص والأمثال كما سيتبين.

المبحث الثالث: مفهوم العمران

أولا- التعريف اللغوي

العمران من عمر يعمر، والعِمَارَةُ: نقيض الخراب: يقال: عَمَرَ أرضَهُ: يَعْمُرُهَا عِمَارَةً، وأَعْمَرْتُهُ الأرضَ واسْتَعْمَرْتُهُ: إذا فوّضت إليه العِمَارَةُ19، وعمرت الخراب أعمره عمارة، فهو عامر أي معمور، مثل دافق أي مدفوق، وعيشة راضية أي مرضية. وعمر الرجل ماله وبيته يعمره عمارة وعمورا وعمرانا: لزمه20.

ثانيا- التعريف الاصطلاحي

يدل العمران في اللغة على معنى ضد الفراغ، والعمارة نقيض الخراب، وقد عدّ طه جابر العلواني العمران من المقاصد الحاكمة، معتبرًا إياه «حق الأرض التي كانت الملائكة تخشى عليها من خلافة من يفسد فيها ويسفك الدماء فيعمها الخراب بدل العمران21».

وقد وردت مشتقات كلمة «العمران» بكثرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى:

﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾[هود: 61].

﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[التوبة: 18].

﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾[الروم: 9].

فالعمران امتلاء روحي وحجري، ولا يتحقق الثاني حقيقة –أي العمران الحجري- دون الأول، لذلك فيمكن القول إن تحقق الجانب الثاني وحده دون الأول يعطينا عمارة حجرية وليس عمرانا استخلافيا جامعا، لأن العمران يدل على الملء والامتلاء، وهذا الامتلاء يستلزم وجود مكونات الفعل العمراني وزيادة، وأولى هذه المكونات رسوخ الجانب المعنوي الروحي الإيماني؛ قال تعـالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[التوبة: 18]، فأولى خطوات العمران الراشد الإيمان الجازم بالله واليوم الآخر، ويترتب عليه إعمار بيوت الله، وعمارتها تستلزم إيجادها والحفاظ عليها، لذلك كان الإيمان بشتى تجلياته اعتقادا قلبيا، وفعلا عمرانيا، يبني الأفكار، ويؤسس البنيان.

والعمران يقتضي النظر للواقع والسياق المتغير وفقه موازين الصلاح والفساد على الأرض، ومنه نفهم كثرة ورود الأرض وما يتعلق بها في آيات العمران، إذ «الأرض» محدد رئيس في المعادلة العمرانية؛ ولا يستقيم فقه العمران بالاقتصار على فقه النص دون العروج على الواقع؛ سواءً الواقع الحقيقي أو الواقع المعرفي الإنساني؛ قال ابن القيم: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين
من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله22».

فقه الخطاب الشرعي
فقه الواقع (السير في الأرض)
فقه العمران

لذلك فإن إقامة مؤسسة الأسرة ينبغي أن يتم من منظور عمراني بالجمع بين مقتضيات الخطاب والواقع؛ بل هي في حد ذاتها عمران إنساني واجتماعي، وهي المرتكز الذي يقوم عليه العمران وأساسه، ولا سبيل إلى الارتقاء في مدارج التأنس دون معرفة المقاصد والوسائل المعينة على ذلك، وتجنب التوحش والسبل الموصلة إليه؛ وفي هذا قال ابن خلدون: «اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال...23».

ويحدثنا الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين» عن منهج النظر في العملية العمرانية، وعناصر القيام على عمارة الأرض وصلاحها وضرورة إصلاحها معللا ذلك بأن «من صلحت حاله مع فساد الدنيا واختلال أمورها، لن يعدم أن يتعدى إليه فسادها؛ ويقدح فيه اختلالها، لأن منها يستمد ولها يستعد، ومن فسدت حاله مع صلاح الدنيا وانتظام أمورها، لم يجد لصلاحها لذة، ولا لاستقامتها أثرا24».

 كما أن «مقتضى النظر في أمور الدنيا مراعاة أحوال تنميتها وعمرانها‏، فالواجب ستر أحوالها‏، والكشف عن جهة انتظامها واختلالها‏، لنعلم أسباب صلاحها وفسادها ومواد عمرانها وخرابها‏، لتنتفي عن أهلها شُبَه الحيرة‏، وتتجلي لهم أسباب الخِيَرة‏، فيقصدوا الأمور من أبوابها،‏ ويعتمدوا على صلاح قواعدها وأسبابها‏25».

فالتحدي الذي يعيشه بنو آدم، هو السعي إلى الرجوع إلى الجنة في الأرض قبل السماء، وهم في سعيهم ذلك بالخلافة الصالحة والعمران الناجع يسارعون الخطى نحو جنان الخلد، فكانت بذلك الآخرة حافزا دنيويا للعمارة ولم تكن مثبطا مسكنا للرهبنة والدروشة.

لذلك فإننا نحتاج إلى تفعيل المقاصد العمرانية في الحياة عموما والأسرة خصوصا وتفعيل هذه المنطلقات المقاصدية الكلية بحيث تصير الأسرة فضاء للعبادة والعمران، بالاشتغال على الإنسان/الخليفة تربية وتنمية ضمن عناصر ناظمة تجعل الاجتهاد عملية متسقة تشد بعضها بعضا.

ومن ثم، فإن تحصين الأسرة وتفعيل مقاصدها، وغرس قيمها هو الكفيل بتحقيق العمران البشري والتعمير الحجري بخلفية استخلافية وقبلة ربّانية، وأي خراب في مؤسسة الأسرة فهو منذر ومؤذن بخراب العمران، وتقهقر الحضارات، وضياع الإنسان/الخليفة فينطبق على الإنسان رأي الملائكة في الكائن الآدمي ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾[البقرة: 30].

وكما يقول الفاروقي: «إن من المقطوع به أن قدر الحضارة والأسرة هو أن تنهضا معا أو تسقطا معا26».

الفصل الثاني:الأسرة وحفظ الإنسان

يعد الاهتمام بالأسرة اليوم أساس الاهتمام بالإنسان، فبعد المحاولات الحثيثة لهدم «الأسرة»، انتقلنا اليوم للحديث عن هدم الإنسان، وذلك بترسيخ فلسفة ما بعد الإنسانية التي بدأت تنشر سرادقها اليوم27.

ولو تأملنا السياق المعاصر لظهر لنا أن التطور المعرفي المتسارع اليوم لم يكن تماما لصالح الإنسان كما توهمنا، فرغم القول بمركزية الإنسانية وتسخير الكون لخدمته، وما خلفته هذه الفلسفية المركزية من آثار كارثية على البيئة والإنسان، انتقلنا للحديث عن انتهاء النوع البشري وخطره على الكون.

وعليه؛ فإن الناظر لهذا السياق المتغير، والسائر نحو العدمية والتلاشي، يتشبث بأكثر الأنساق المعرفية ثباتا وإحكاما، وهذا الثبات يتأتى من التشبث بمصدر متعالٍ وهو المصدر الإلهي، فالحديث اليوم عن حفظ الإنسان ضرورة إنسانية ومعرفية؛ إذ إننا لأول مرة في التاريخ صرنا نناقش ما بعد الإنسانية كنتيجة طبيعية وحتمية لفلسفة «نهاية الإنسان»، وتصاعد هيمنة الآلة، وتركيز الدراسات أن العالم سيكون أفضل إذا انعدم البشر من على الكوكب؛ هكذا تبشر الدراسات بالحديث عن ما بعد الإنسان، في إطار استمرار فلسفة «النهايات» و«المابعد»، ومن ثم؛ فإن الحديث عن حفظ الإنسان ضرورة علمية واقعية، ولو تأملنا هذا الإنسان لوجدنا أن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الصلبة التي تحفظ الإنسان عن طريق ثلاثة أنواع من الحفظ:

 حفظ الوجود البيولوجي والاستمراري للإنسان بحفظ النوع وحفظ النسل.

حفظ الانتماء البيولوجي بمعرفة الفرع انتسابه لأصل، بحفظ النسب.

وحفظ الوجود القِيمي والأخلاقي بالتزكية؛ ذلكم أن ماهية الإنسان تتشكل من الوجود البيولوجي والتخلق القِيمي؛ فالإنسان خَلق وخُلق.

وهذه المقاصد معلومة، لكن ارتأيت إعادة ذكرها بالتأكيد أنها مقاصد لحفظ الإنسان أساسا، وتتجلى أهميتها خصوصا بالنظر للسياق المعاصر. ومن ثم؛ فإن إيرادها في هذا المقام ليس تكرارا ولا اجترارا لما سبق ذكره في أدبيات الدرس الأصولي والمقاصدي، وإنما هو تجديد مضموني يرتكز على الجمع بين المقاصد الكلية المعروفة وإعادة نظمها في دوائر ومجالات وفق تصور قرآني كلي. وارتكزت هنا على الأسرة باعتبارها موضوعا مركزيا في النسق القرآني.

المبحث الأول: الحفظ الوجودي والاستمراري:

أولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوع

من المقاصد المقررة في الفكر المقاصدي قديما وحديثا «حفظ النوع الإنساني»، ولم يكن الحديث ملحّا عن هذا المقصد قديما كما هو اليوم، إلا أن النظر المآلي والاستشرافي يحتم الاستفاضة في شرح هذا المقصد في ضوء التحديات العالمية باعتباره ضرورة دينية وإنسانية.

ويعد الزواج الآلية التشريعية الأبرز لحفظ النوع؛ قال تعالى:﴿يا أيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكُم الذي خلقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَها وبثّ منهما رجالاً كثيرا ونساءً﴾[النساء: 1]، فالزواج ضرورة إنسانية لحفظ النوع الآدمي، وتحقيق الاستمرار البشري، وضرورة حضارية لتعمير الأرض والتمكين من الخلافة البشرية النافعة، وتظهر عُمرانية الزواج إذا قارنّاه بمقابله، وهو الرهبنة؛ فلئن كانت «الرهبنة حالة نقيض للحضارة، هي طغيان في المجال الإنساني له نتائج مدمرة على حياة الإنسان تشبه في نتائجها ما يقع زمن الحضارة. فلأن كانت الرهبنة تصل بصاحبها في نهاية المطاف إلى رفض العالم ورفض حتى الاهتمام بذلك الرفض، ثم رفض الإضافة فيه حيث تعانق القداسة رفض الزواج نفسه28»، ولا يكون حفظ النوع إلا بالتناسل.

ثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسل

يعد حب الأبناء غريزة مركوزة ومغروسة في الفطر السوية، لما في ذلك من معاني الامتداد المادي والمعنوي، فالأبناء زينة الحياة الدنيا كما قال الحق: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف: 46]، وزينة الأبناء تكمل بأن تقر بهم الأعين ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[الفرقان: 74] ومنه، كان الحث على الإنجاب مقصدا من مقاصد الإسلام في الزواج، قال سبحانه: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾[البقرة: 223]، (حرث لكم) أي: مزرع ومنبت للولد29.

ولذلك نجد علماءنا أولوا هذا المقصد عناية كبرى؛ يقول الشاطبي: «النكاح مشروع للتناسل بالقصد الأول30»، ويقول في موضع آخر: «والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع؛ من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني31»، والعلة في ذلك، كما يقول ابن قيم الجوزية، هي «دوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم32».

ومن الآليات التشريعية لحفظ هذا المقصد:

أ- النهي عما يعطل النسل اختيارا:

وأقصد بذلك الموانع الاختيارية لا الاضطرارية، ولو بقصد التقرب إلى الله سبحانه والاجتهاد في العبادة، نحو الإخصاء والتبتل وغير ذلك من موانع التناسل الإرادية الاختيارية الدائمة، فقد ورد في النهي عن الاختصاء ما ذكره الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، : «رد النبي ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا33».

مع العلم أن القصد كان سليما وهو التقرب من الله عز وجل، وليس مغالاة في الشهوة، أو رفضا لسنن الطبيعة البشرية، ومع ذلك رفض الفعل لمخالفته سنة الله في خلقه، ومباينته لمقتضيات الطبائع التي غرسها الله في عباده، فأي خروج عن مقتضى الجبلة فهو ضرب لهذه السنن الخلقية بعرض حائط الأهواء والشهوات، فالأنبياء، وهم أتقى الناس، لم يحيدوا عن هذه السنة، وأثبت القرآن هذه الحقيقة بقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾[الرعد:39]، فكانت «طريقة الأنبياء ۏ التي ارتضاها الله للناس هي إصلاح الطبيعة ودفع اعوجاجها لا سلخها عن مقتضياتها34»، ومنه كانت كثرة النسل وسيلة لتحقيق المصلحة المدنية والمِلية، بتعبير الدهلوي35.

وفي نفس السياق نفهم حديث النفر الثلاثة الذي جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله ﷺ فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سني فليس مني36». فجعل النكاح سنة والرغبة عنه، ولو بعلة التفرغ للعبادة والتقرب إلى الله، ابتعادا عن السنة وابتداعا في الدين.

فالأبناء جعل إلهي وهبة ربانية ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾[النحل:72]، وكل قصد يقصي النسل والتناسل الطيب المبارك من الزواج فإنه مخالف لمقتضيات الجعل الرباني.

ب- النهي عن العلاقات الشاذة:

معلوم في الشريعة الخاتمة تحريم اللواط والسحاق، وذلك لمقاصد كثيرة وحكم عديدة منها عدم تحقيق التكاثر عن طريق الإنجاب، فنجد القرآن شدد النكير على قوم لوط لأنهم خالفوا مقتضيات الفطر السليمة، قال جلّ جلاله: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)[الأعراف: 80-81]، وقال سبحانه: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾[العنكبوت: 28-29]، يعني: «تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد من النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع37»، «فالاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات يقطع النسل38».

ونجد في القرآن إنكار هذا السلوك/الفاحشة في أكثر من موضع، لأنه خروج عن سنن الله في خلقه، ومخالفة للشارع في قصده، فهو تلبية لداعي الشهوة في غير محلها.

كما أن هذا السلوك يضرب بأسس العمران الإنساني القائم على الاختلاف لأن «ثراء الاجتماع البشري وغنى الحياة ناتج عن التنوع والاختلاف والتمايز وليس العكس، إن الاختلاف التنوعي والتمايز ينتظم في علاقة التجاذب والتكامل والتزاوج، في حين أن التطابق والتماثل والتشابه ينتج عنه التنافر والتباعد والتصارع39».

ج- تحريم التبني

يذكر دومًا منع التبني بالنظر إلى حفظ النسب، ولا يذكر بالنظر إلى حفظ الإنسان من حيث تكاثرُه، لكن في السياق المعاصر نرى أن هذا الحكم يرتبط بشكل كبير بحفظ النسل، إذ تشير الإحصائيات في فرنسا إلى أن هنالك حوالي ثلاثمائة ألف طفل متبنى في «أسرة وحيدة الجنس40»، فصار الحديث اليوم عن حفظ النوع؛ أي ضمان الوجود البيولوجي للإنسان ضرورة بشرية في عالم تطبّع مع المِثلية ونَظّر لما بعد الإنسانية، أو «نهاية الإنسان».

وقد كان التبني فعلا مشروعا في الجاهلية، وبقي الأمر مسكوتا عنه في بداية الإسلام، حتى إن النبي ﷺ كان متبنيا لزيد بن حارثة ، فنزلت آيات تحريم التبني: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الأحزاب: 4-5]. ومن ثم، صار التبني فعلا محرما تحريما قاطعا، وألزم الإسلام الانتساب إلى الآباء الأصليين في تعبير واضح لا لبس فيه.

ويعزز هذا التحريم ما روي عن أبي ذر أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ليس من رجل ادعي لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله41، ومن ادعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار42».

وفي ختام هذا المقصد يتأكد لنا أن حفظ النوع الإنساني هنا بمعناه العام الشامل وليس بمعناه الجزئي الكمي العددي، وقد أحاط الشرع هذا الضروري بجملة وسائل من أجل تحقيقه وجودا بالأمر بما يحققه ويوجده، وحفظه عدما بالنهي عن الوسائل التي تتعارض مع هذا المقصد وتحريمها.

المبحث الثاني: الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكية

إن التزكية المقصودة في هذا المقام ذات دلالة شاملة43؛ تشمل التربية الصالحة والإعداد النافع للنشء بالتركيز على ترسيخ الإيمان وتنمية المهارات العقلية وغرس المعاني الرسالية، فتجتمع معاني العلم والمعرفة يزكيهما الإيمان ويوجههما، والتزكية مصطلح قرآني أصيل وهو أخص من مفهوم التربية من وجه؛ إذ إنها خاصة في التربية على مقتضى أحكام الدين وأخلاقه، وهذا ما قرره طه عبد الرحمن حيث قرر أن «هذا المفهوم أدل على المقصود ب«التربية على مقتضى تعاليم الدين» من مصطلح «التربية» الذي شاع وذاع مع أنه في السياق القرآني أقرب إلى إفادة معنى «رعاية» الفرد في صباه منها إلى إفادة معنى «تنمية» كامل قواه44».

وأرى أن تحديد طه عبد الرحمن هنا تمّ بالنظر إلى الاستعمال الحالي، أما بالنظر إلى الاستعمال القرآني، سنجد أن التزكية جزء من التربية، وإن كان بينهما عموم وخصوص، فقد جاء في الآية ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[الإسراء:24]، فأنيط دعاء الأبناء لآبائهم على الكبر بتربية الآباء لهم في الصغر، فالتربية هنا لا يقصد بها مجرد الأكل والشرب وغيره لأن هذه أمور تشترك فيها المخلوقات، وإنما تكمن خصوصية التربية الإسلامية في التركيز على الأبعاد الأخلاقية، خصوصا التزكوية، لذلك كانت التزكية جوهر التربية الإسلامية.

فالتزكية من مقاصد بعثة الأنبياء؛ وقد جاء في دعوة إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 129]، لذلك كان من أهم أهداف الإسلام تحقيق وإيجاد 'إنسان التزكية' القادر على تحقيق التوحيد، وإقامة العمران45، والتزكية لا تتحقق دون التوحيد، ولا تظهر دون فعل عمراني ينبه إلى الأبعاد الفكرية والعقدية والنفسية والعقلية للإنسان الذي قام به.

وقد جاء في الخطاب القرآني وصف الابن بالزكي، حيث جاء على لسان جبريل مخاطبا مريم P: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا[مريم: 19]،فوصفُ الابن بالزكي له دلالته وخصوصيته؛ فكانت أنجع أضرب التزكية تلكم التي تكون منذ الصغر حتى يرتقي الإنسان في مدارج الإيمان بخلفية توحيدية ورؤية عمرانية تنمو مع مرور الأيام، فتخرج التزكية من الجانب النفسي الوجداني إلى الجانب الفعلي العملي، متعدية الفرد إلى المجتمع، فتكون التزكية بذلك فعلا إنمائيا وعملا بنائيا؛ يبني الإنسان وينمي الحضارات، ولا بناء للإنسان خارج مؤسسة الأسرة باعتبارها المحضن الأساس للتربية الصالحة، التي تكون نجاحا في الدنيا، وفلاحا في الآخرة، فهي سبب للارتقاء في الدرجات العلى، ودخول جنات عدن خالدين فيها أبدا ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾[طه: 75-76].

ونلحظ في أدعية الأنبياء الواردة في القرآن بخصوص الأبناء، أنها لا تقتصر على طلب «الذرية» وحسب، أي ذرية كيفما كانت، بل نجدهم يدعون الله سبحانه بأن يهبهم «ذرية صالحة» و«ذرية طيبة»، دون التشديد على عددها أو تعيين جنسها، وإنما أن تكون صالحة وطيبة وحسب؛ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يدعو ربه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]. وللصلاح دلالة قرآنية متميزة، تدل على الفعل والعمل؛ فهو ليس مفهوما سكونيا كما ترسخ عند كثيرين بحيث تكون صورة العبد الصالح في الأذهان لذلكم الرجل الزاهد المتفرغ للشعائر الذي لا يؤذي أحدا ولا يحرك ساكنا، وهي صورة تظل في أحسن أحوالها مثالية وأقل فاعلية، فضلا عن مخالفتها للمطلوب القرآني من الإنسان﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[التوبة:105].

لذلك فنحن إذا تأملنا معنى الصلاح في القرآن سنجده مفهوما حركيا، بحيث إن الإنسان الصالح يتغيى تحسين أوضاع المجتمع وجعل العالم مكانا أفضل للعيش..

وهذا زكريا عليه الصلاة والسلام يدعو ربه:﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[آل عمران:38]، والطيب في اللغة نقيض الخبيث، ويقال الأرض الطيبة التي تصلح للنبات46، ومعاني الإنبات تدل على معنى الإثمار، وقد جاء قريبا من هذا المعنى ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾[آل عمران: 37]، فهذه إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، ولكي ينبث ويثمر يجب الاعتناء به من وقت أن كان بذرة بتعهّده، والاعتناء به في كل مراحل نموه، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، فينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية والعناية، وذلك بتعهده منذ طفولته ومتابعته في كل مراحل رشده إلى أن يصير إنسانا طيبا معمرا.

فحين نتحدث عن ذرية طيبة فإننا نتحدث بالدرجة الأولى عن إنسان فاعل مثمر، إنسان مغير مصلح، يترك أثر إصلاحه وثمرة وجوده على الأرض لتدل عليه، فيكون كالنبات الحسن، أينما حل فهو يفيد..﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ[الرعد: 17]. ومن النماذج القرآنية للذرية الطيبة إسماعيل S باعتباره من خيرة الصالحين، رفع قواعد الإيمان مع أبيه إبراهيم R ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة: 127] فكان صلاح إسماعيل S عملا عمرانيا يتغيى الرفعة، وهي رفعة منطلقة من القاعدة تنظر إلى السماء..

وهذه الأوصاف «الصلاح» و«الطيبة» لا تتحقق دون جهد تزكوي تربوي من الآباء نحو الأبناء ابتداء حتى يكونوا زهرة الحياة الدنيا، وتقر بهم الأعين انتهاء، فيتحقق الامتداد الأبوي المنشود، ولا امتداد زمنيا دون صلاح إنساني يتعدى الإنسان نفسه إلى مجتمعه، ويتأكد هذا المعنى بما جاء في الحديث النبوي: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنْتفَع به، أو ولد صالح يدعو له47»، فاقتران الولد بالصلاح هنا متمم ومؤكد لما ورد في الكتاب المجيد.

ومنه، فإن الفعل التزكوي هو الذي يرقى بالإنسان، كما يرقى بمؤسسة الأسرة بكل تشعباتها وامتداداتها، فتعود على قيم البنوة والأخوة وغيرها بالصلاح والفلاح، فتصير كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ومن ثمّ؛ فإن وجود الإنسان حقّا لا يتحقق فقط بالإنجاب البيولوجي، وإنما التزكية هي أساس حفظ الإنسان كَمَّا وكيفا، فلا يمكن الحديث عن الثاني دون الأول والعكس، لذلك فإن الحديث عن ضرورة «حفظ النوع» و«حفظ النسل» بالتركيز عن الجانب الكمي العددي وإهمال الجانب الكيفي التزكوي ليصير الزواج عملا تكاثريا، والكثرة في حد ذاتها ليست محلا للمباهاة ولا للمفاخرة، بل تصير الكثرة الكمية الخالية من «الإنسان الزكي» غثائية لا يؤبه بها، وضررها أكثر من نفعها، كما جاء في الحديث: «يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها» فقال قائل: «ومن قلة نحن يومئذٍ؟» قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٍ كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة لكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن قال: حب الدنيا وكراهية الموت48». فالفعل التزكوي هو الذي يرقى بمؤسسة الأسرة فتصير كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

والتركيز على التزكية في الحفظ الأخلاقي للإنسان هو ما يمكن اعتباره بتفعيل «المقصد الإيماني» و«المعيار الإلهي» في الحياة، فهو الذي يوحد القيم ويضبط الأفعال ويوجه السلوك الأسري نحو الغاية الأسمى وهي «العبادة»، مصداقا لقوله تعالى﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، وكل عمل معوج الوجهة، أو بلا قبلة، فلا يندرج ضمن التصرفات التوحيدية.

المبحث الثالث: حفظ الانتماء البيولوجي أو حفظ الانتساب

 يعد حفظ النسب المستوى الثالث من مستويات حفظ الإنسان؛ إذ «إن النسب آصرة متينة من أواصر البشر، ألهمهم الله تعالى العناية بها والدفاع عنها وتعزيزها، لحكمة إلهية تعلقت بها إرادته لبقاء النوع الإنساني49»، ويعتبر النسب من حقوق الأبناء، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾[الفرقان:54]، وقال سبحانه: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الأحزاب:5]، وقال ﷺ: «الولد للفراش50»؛ أي الزواج.

وقد تفشّت بعض الظواهر في المجتمعات الحداثية نحو «الطفل الطبيعي» و«المراهقة الحامل» و«الأم العازبة»، وسبب ذلك ترسيخ الفصل بين الزواج والعلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، وفشوّ العلاقات الحرة، وعدم تجريم هذه الأخيرة بعيدا عن مؤسسة الزوجية المدنية أو الشرعية، ومن الطبيعي أن يظهر عندنا طفل لا يعلم له نسب بيولوجي، ومن ثمّ، صار هذا الطفل في مفترق الطرق نحو التيه والضياع، وكما يقول أوليفي تيوكوكريف: «لا يمكن بأي حال من الأحوال خلق عالم جدير بالأطفال خارج إطار الأسرة51»، فإذا كان هذا شأن الطفل في بيئة لا تولي اعتباراً كبيرا للنسب، فكيف سيكون شأنه في عالم يعتبر فيه النسب مكونا من مكوناته الدينية والثقافية والاجتماعية؟ !

أولا- مقاصدية حفظ النسب

إنّ حفظَ النسب مقصدٌ تكويني وتشريعي في آن واحد؛

فهو مقصد تكويني لأن حاجةَ الإنسانِ إلى الانتساب إلى أصلٍ معلومٍ فطريّةٌ بالأساس، وجُبلَ عليها البشرُ منذ الأزل كيفما كانت ديانتهم وقوميتهم؛ وفي هذا المعنى يقول شاه وليّ الله الدّهلوي: «اعلم أن النسب أحد الأمور التي جبل على محافظتها البشر، فلن ترى إنسانا في إقليم من الأقاليم الصالحة لنشء الناس إلا وهو يُحِبُّ أن ينسب إلى أبيه وجده، ويكره أن يقدح في نسبته إليهما، اللهم إلا لعارض من دناءة النسب أو غرض من دفع ضر أو جلب نفع ونحو ذلك، ويجب أيضا أن يكون له أولاد ينسبون إليه ويقومون بعده مقامه، فربما اجتهدوا أشد الاجتهاد، وبذلوا طاقاتهم في طلب الولد، فما اتفق طوائف الناس على هذه الخصلة إلا لمعنى في جبلتهم، ومبنى شرائع الله على إبقاء هذه المقاصد التي تجري بجري الجبلة، وتجري فيها المناقشة والمشاحة والاستيفاء لكل ذي حق حقه منها والنهي عن التظالم فيها، فلذلك وجب أن يبحث الشارع عن النسب52»، والحاجة إلى الانتساب لا تقتصر على الطفل، وإنما تتعداه للأب، فهي حاجة فطرية متبادلة بين الولد ووالده.

كما أن حفظ النسب مقصد تشريعي؛ فقد سُنَّت مجموعة من التشريعات لمنع أن يدخل فيه ما ليس منه، أو يخرج منه ما هو فيه، إذ تترتب على النسب أحكام شرعية يبلغ بعضها درجة الكبائر نحو «عقوق الوالدين»، بالإضافة إلى عدد من الأحكام الأخرى المختصة بالزواج والنفقة والميراث وسقوط القصاص والولاية والحضانة والرعاية وغيرها53.

وقد عمل أهل الأصول والمقاصد على بيان مقاصدية حفظ النسب، واختلفوا في رتبته ودرجته ضمن سلم المقاصد بين رأي يقول إنه يندرج في «المقاصد الضرورية»، وآخر يراه ضمن «المقاصد الحاجية54»، ويلخص ابن عاشور الخلاف قائلا: «وأما حفظ الأنساب، ويعبَّر عنه بحفظ النسل، فقد أطلقه العلماء، ولم يبينوا المقصود منه، ونحن نفصل القول فيه، وذلك إن أريد به حفظ الأنساب: أي النسل من التعطيل، فظاهر عدّه من الضروري؛ لأن النسل هو خِلقة أفراد النوع، فلو تعطل يؤول تعطيله إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾[العنكبوت:29]. على أحد التفسيرين، فبهذا المعنى، لا شبهة في عده من الكليات؛ لأنه يعادل حفظ النفوس...أما إن أريد بحفظ النسب: حفظ انتساب النسل إلى أصله، وهو الذي لأجله شرعت قاعدة الأنكحة، وحرم الزنا، وفرض له الحد، فقد يقال: إن عدّه من الضروريات غير واضح، إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيداً هو ابن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم[...].

فيكون حفظ النسب بهذا المعنى، بالنظر إلى مجموع جوانبه، من قبيل الحاجي، ولكنه لما كانت لفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب، عواقب كثيرة سيئة، يضطرب لها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دعامة العائلة، اعتبر علماؤنا حفظ النسب في الضروري؛ لما ورد في الشريعة من التغليظ في حد الزنا، وما ورد عن بعض العلماء من التغليظ في نكاح السر، والنكاح بدون ولي وبدون إشهاد55»، وفي مقالة ابن عاشور حول «النسب» ذكر أن حفظ النسب «عند التحقيق من قبيل الحاجي ولكنه شبيه بالضروري، وإلى ذلك الأصل ترجع الأحكام الشرعية الحائلة حول حياطته من الانخرام والشك في واقعيته، مثل تشريع الزواجر على الاعتداء عليه كحد الزنى وتعزير الاغتصاب، وشرع عدة الوفاة، وإيجاب الإشهاد على النكاح عند العقد أو قبل البناء (على الخلاف). وقد تقرر من قواعد الفقه أن الشارع متشوف للحاق النسب56».

وعليه؛ فإن الانتساب مقصد شرعي، فهو ضرورة من ضرورات حفظ النسل، بل هو «ضرورة من ضرورات حفظ المجتمع؛ إذ بالإضافة إلى ما لجهالة النسب واختلاطه من أثر في انحلال الرابطة الأسرية بانحلال عواطف الأبوة والبنوة، فإن علم النفس أصبح يثبت على وجه اليقين ما لجهالة النسب من تأثير نفسي مدمر على شخصية المجهول نسبه57».

لذلك كان من معاني حفظ النسل حفظ النسب، وذلك بأن تكون نسبة الابن معلومة لأبيه بالضوابط الشرعية، التي لا تكون إلا عن طريق الزواج، وكل تلفيق للنسب خارج الأسرة فإنه يكون مدعاة للتنقيص، فباستقراء مقصد الشريعة في النسب يتبين لنا أنها تقصد إلى نسب لا شك فيه ولا محيد به عن طريق النكاح58، ومن شأن هذا أن يعزز الكرامة الإنسانية بحيث يرجع كل فرع إلى أصله الحقيقي، وهذا مدعاة لئلا تختلط الأنساب وتشتبك الأعراض، فحفظ النسب «الراجع إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائق النسل إلى البر بأصله، والأصل إلى الرأفة والحنو على نسله –سوقا جبليا وليس أمرا وهميا، فحرص الشريعة على حفظ النسب وتحقيقه ورفع الشك عنه نظر إلى معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي علاوة على ما فيه ظاهره من إقرار نظام العائلة ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن الغيرة المجبولة عليها النفوس، وعن تطرق الشك من الأصول في انتساب النسل إليها والعكس59».

ثانيا- الآليات التشريعية الحِفظية:

حرص الشارع على حفظ «الانتساب» من جهة الوجود بإقامة أركانه وتثبيت قواعده، وهو ما يمكن وسمه ب«الحفظ الوجودي»، وذلك عن طريق:

أ- الزواج:واعتباره المدخل الشرعي للنسل الشرعي، ومن ثمّ النسب الشرعي.

ب- تشريع العدة:وقد حدد الشارع مدد العدة بثلاث مقاييس زمنية اختلفت باختلاف أصناف النساء: عدة الأقراء، وعدة الأشهر، وعدة الحبل60.

كما عمل الشارع على حفظه من جهة العدم بأن درأ عنه الاختلال الواقع أو المتوقّعَ فيه، وهو ما يمكن تسميته ب«الحفظ العدمي»، وذلك عن طريق:

أ- تحريم التبني:التبني هو نسبة الطفل لغير أبيه، وهو أمر محرم في الإسلام. لقوله تعالى:﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[الأحزاب:5]

ب- تحريم نسبة المرأة لزوجها من تعلم أنه ليس ابنه:قال ﷺ: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته61».

ج- النهي عن نفي النسب كذبا وزورا:قال ﷺ: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه به على رؤوس الخلائق بين الأولين والآخرين62».

د- النهي عن الانتساب إلى الأب كذبا وزورا:قال ﷺ: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام63»، «ولعل الحكمة في ذلك أن انتساب الولد إلى غير أبيه عقوق للأب وإساءة إليه، وترك لشكر نعمته64».

ھ- تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضِّمَاد65.

فالانتساب جزء من منظومة تشريعية متكاملة لحفظ الأسرة، «فالسكن والمودة والرحمة لا تتحقق في العلاقات العشوائية الجنسية بين الطرفين، فهي علاقات سرعان ما تنتهي بسبب انبنائها على الشهوة، وتوصيفها الصحيح أنها علاقة مؤقتة تخالف وتنقض ما جاء به الشرع من الديمومة القاصدة إلى كمال شمولية الإطار التراحمي وما جاء به من حسن العشرة والمعروف والحنان والأمان المتواصل بين الطرفين والارتقاء به أدبيا وأخلاقيا واجتماعيا66»، والحفاظ على الأسرة حفظ للأمة.

فالنسب إذن جزء من نسق كلي، يشترك فيه القصد التكويني المرتبط بالفطرة الإنسانية بالقصد التشريعي المؤطر للأمة الإسلامية، ولا سبيل إلى هذا الحفظ من غير تثبيت أركان الأسرة، فهي«المحل الذي يتعلق فيها الإنسان بغيره تعلق نسَب ويتخلق فيها بحسب هذا التعلق67».

ثالثا: الانتساب في واقع سائل

إن الناظر في أحوال العمران في السياق المعاصر لا يخفى عليه أنّ مشكلة «النسب تعبر عن أزمةٍ أخلاقيةٍ أكثر تركيبًا وأشدّ خطورةً، وهي أزمة هشاشة العلاقات الإنسانية، وعلى رأسها الزواج، فمن الآثار السلبية للحداثة على المجتمعات الإنسانية أن صارت العلاقات مبنية على تكريس فكرة «الرغبة» ونيل «الشهوة» بأسرع الطرّق وأقلها تكلفةً، ومن ثمّ، كان فك الارتباط بين الزواج وتحقيق الشهوة اللحظية والمتعة الفورية، مما نتج عنه بالضرورة الفصل بين الالتزام والرغبة، فإذا كان الدين شرّع تحقيق الشهوة في إطارها الشرعي، وهو الزواج، فإن المجتمعات السائلة اليوم صارت تكرس فكرة تحقيق الشهوة بأقل تكلفةٍ وفي أقصر أمدٍ وفق منهج استهلاكي سريع يحقق المتعة اللحظية من غير الدخول في علاقة أبدية والتزامات إنسانية، وهذا ما عبر عنه عالم الاجتماع البولندي «زيجمونت باومنZygmunt Bauman» بالحب السائل فتمّ «الانتقال من عصر «الزواج» إلى عصر «المعاشرة» بكل ما يصاحب ذلك من مواقف وتبعات استراتيجية، بما في ذلك افتراض الطبيعة المؤقتة للمعاشرة، وإمكانية انتهاء العلاقة في أيّة لحظة ولأيّ سبب ما إن انقضت الحاجة أو انطفأت الرغبة68»، وتغدو العلاقات ذات طبيعة مؤقتة غرضها إشباع الذات، فلم تعد «الروابط الإنسانية، مثل كل الموضوعات الاستهلاكية الأخرى، شيئا يتحقق عبر الجهد الطويل والتضحية من حين إلى آخر، بل شيئا يتوقع المرء منه أن يحقق الإشباع الفوري، في الحال69»، وهكذا انقلب حال الأسرة، كما قال طه عبد الرحمن، فصارت «محلًّا للهناء لا محلًّا للبقاء كما كان الشأن في الأسرة التقليدية، إذ كانت أدوار الأفراد وأوضاعهم في هذه الأخيرة محددة سلفًا من أجل حفظ الوجود الجماعي، ترسيخا لتراثه وتخليدا لنسَبِه70».

وتجدر الإشارة إلى أن الانتساب صار استثناء في بعض المناطق في أمريكا إلى حدود أواخر القرن العشرين؛ ففي عام 1993 بلغت نسبة الأطفال غير الشرعيين للأمريكان من أصول إفريقية إلى 68.7 بالمئة، حتى قيل إن وجود أب هو زوج أم الطفل اعتبر شيئا نادرا في بعض المناطق الفقيرة جدا71، ولا تشكل أمريكا حالة غريبة؛ فقد شهدت جميع الدول المتقدمة صناعيا؛ باستثناء اليابان والبلدان الكاثوليكية مثل إيطاليا وإسبانيا أيضا، زيادة سريعة جدا في معدلات الأطفال غير الشرعيين72، وعند النظر في الإحصاءات نجد دوما أن نسبة هؤلاء في البلدان ذات الأكثرية الكاثوليكية منخفضة، مما يؤكد أهمية الدين في ترسيخ سبل الأسرة، إذ تشترك الأديان في التركيز على أهمية الأسرة وضمان صلابة علائقها؛ لذلك جاءت الحداثة لتعوض الفكرة الدينية وتخاصمها جهرًا أو سرّا.

كما تكرست النظرة الوظيفية للأب، وحصر دوره في توفير الدخل المادي وإمكانية إسهام المرأة في تحقيق هذا الأمر، وصرف النظر عن الوظائف المعنوية المهمة والرئيسة المنوطة بالأب، على رأسها كونه عماد الأسرة، إلى جانب الأم، ومصدر القوة والهوية للطفل، ومن ثمّ؛ فإن خروج المرأة للعمل وتحقيقها للاكتفاء المادي لم يجعلها مستغنية عن الأب؛ وإنما جعلت الحاجة مزدوجة ومضاعفة ليصير أكثر حضورا في التكوين الاجتماعي للطفل وتربيته، خصوصا مع تقلص امتداد الأسرة73.

لذلك ينبغي دراسة فقدان النسب باعتباره ظاهرة تعبر عن تفكّك الروابط الإنسانية وتبرئ المرء من كل ما قد يصير هذه العلاقة أشبه بالارتباط على رأس ذلك «الأطفال»، ومن هنا يفرق «باومن» بين أنواع المعاشرة إذ قال: «الحياة المشتركة في إطار المعاشرة من دون زواج والحياة المشتركة في إطار النسب يمثلان عالمين مختلفين ومتباعدين، ولكل منهما قانونه ومنطقه الخاص74».

الفصل الثالث: مقاصد الاجتماع الأسري

تعد الأسرة الجسر الأوحد بين حفظ الإنسان وضبط أحوال العمران، والأصل في الأسرة أنها اجتماع بين أناس تربطهم أواصر الدم والرحم والرحمة، فتحفظ الإنسان من جهة، وترقى بالعمران من جهة أخرى.

وبعد أن ذكرنا بعض المقاصد المتعلقة بالإنسان كماهية وانتماء ننتقل إلى الحديث عن بعض المقاصد الكلية المتعلقة بالاجتماع الأسري.

المبحث الأول: مقصد الإحصان والعفاف

أولا: التعريف اللغوي

يشترك كل من الإحصان والعفاف في أصل المنع؛ فإذا نظرنا للمعاجم نجد أن المادة اللغوية ل «حصن» تدل على جملة معانٍ وهي الحفظ والحياطة والحرز75 والمنع، وهذه المعاني استعملت في الحقل الحربي باتخاذ الحصون للوقاية والحفظ للمنع من الأذى.

 كما يرجع أصل كلمة عفاف إلى أصلين صحيحين هما: الكف عن القبيح والدال على قلة الشيء76، وبعد ذلك سيصير معنى العفاف في بعض معاجم اللغة هو الكف عما لا يحل77، ويظهر تأثر المفهوم بالدلالات القرآنية للعفاف، حيث لم يكن مفهوما «الحلال أو الحرام» واردين عند العرب، فقد كان الحديث عن مطلق «الكف»، وسيتجلى هذا الأمر أكثر مع الراغب الأصفهاني إذ قال: «العفة حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، وأصله الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العُفافة78»، وهنا صار للمفهوم مدلول أخص بحسب الاستعمال القرآني الجديد.

وتظل دلالة المنع الجامعة لغيرها من الدلالات الفرعية من إحكام ووقاية وحماية وغيرها، ونرى أن دلالة الإحصان انتقلت للحقل الأخلاقي قبل المرحلة القرآنية، فكان يطلق الإحصان بمعنى العفاف لأنه كان قيمة معتبرة لدى العرب.

ثانيا: التعريف الاصطلاحي

يرتبط تعريف العفة كما جاء في اللغة بالمنع، لذلك نجد في تعاريفها الاصطلاحية ما يشير إلى الامتناع والضبط والتقييد؛ قال الماوردي: «والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة79»، فنجد أن الماوردي لجأ لتقييد التعريف بالعرف لأنها صارت في العصور اللاحقة تعني هذا المعنى إذا أطلق من غير تخصيص.

ويعرفها ابن مسكويه: «وأما العفة فهي فضيلة الحس الشهواني وظهور هذه الفضيلة في الإنسان يكون بأن يصرف شهواته بحسب الرأي أعني أن يوافق التمييز الصحيح حتى لا ينقاد لها ويصير بذلك حرا غير متعبد لشيء من شهواته80».

وهذا الجاحظ يعرفها بقوله: «ضبط النفس عن الشهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد، ويحفظ صحته، واجتناب السرف في جميع الملذات وقصد الاعتدال81»، وحدّها الراغب الأصفهاني في كتابه الذريعة: «ضبط النفس عن الملاذ الحيوانية، وهي حالة متوسطة من إفراط وهو الشره وتفريط وهو جمود الشهوة82»، وعرفها الجرجاني: «هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة، والخمود الذي هو تفريطها، فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة83»، فكان العفاف درجة وسطى؛ إذ إنه لا يلغي الشهوة الإنسانية، وإنما يوجهها نحو المسلك الشرعي، فكان الإفراط في كبح هذه الشهوات بشتى أنواعها وضروبها مذموما، ولا أدل على ذلك من استحباب الشرع للنكاح وتحريمه الرهبنة باعتبارها نقيضا للحضارة، فهي في العمق طغيان في المجال الإنساني وله نتائج مدمرة على حياة الإنسان، لأنها تصل بصاحبها في نهاية المطاف إلى رفض العالم84.

ثالثا: الأسرة حصن وحضن

سمى القرآن النكاح إحصانا، ووسم الأزواج بـ «محصنين» بصيغة اسم الفاعل، وسمى الزوجات «محصنات» بصيغة المفعول، فقال جل جلاله: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾[المائدة: 5]. وقال سبحانه: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾[النساء: 25]. وأطلق على النساء ذوات الأزواج لقب المحصنات، وقال: «فإذا أحصن» بالبناء للنائب، أي: أحصنهن أزواج85، لذلك كان الإحصان مظنة العفاف حسب الاستعمال القرآني، ويؤيد هذا التأويل ما جاء في البيان النبوي، حيث قال ﷺ: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف86».

فقد رغّب الشارع في الزواج، وأمر الراغب فيه غير القادر عليه ماديا بالاستعفاف حتى يغنيه الله، ثم توجه الأمر بعدم إكراه الفتيات على الزنا إن أردن تعففا87، وإطلاق الإحصان بمعنى العفاف باعتبار المظنة، فمظنة الزواج العفاف، فنزلت المظنة منزلة الغالب.

ومنه، فإن دلالات الإحصان في القرآن تدور حول منع النفس من الفاحشة، والفاحشة هنا تفريغ الشهوة في غير محلها، لذلك أرشد الشارع إلى المحل الصحيح وهو الزواج، فكان الزواج إحصانا، ومن خصائص هذا الحصن الزواجي أنه يعين الزوجين على التعفف، ويمنعهما من الفاحشة.

ويجدر بي الإلماع إلى أن هذا المقصد يجب أن يفهم في ضوء المنظومة المقاصدية الأسرية الكلية والجزئية، فأي فتوى تضخم هذا المقصد على حساب المقاصد الأخرى فإنها تنزل بمفهوم الأسرة من العلو التكريمي الإنساني إلى الدرك البهيمي الحيواني، بل الأخطر من ذلك أنها تشيء الزواج وتصيره مثل عقود الكراء والإجارات المتسمة بالتأقيت، وذلكم نحو الفتاوى التي أباحت للرجل الارتباط بامرأة على سبيل التأقيت لا التأبيد في ظروف طارئة كالسفر الطويل وغيره من أجل قضاء وطره، فجاءت بعض الإجابات ضاربة بمقاصد الأسرة عرض الحائط فأبيح بذلك «الزواج المؤقت» و«الزواج المؤقت دون علم الزوجة» «ونكاح المحلل» «ونكاح المتعة» وغير ذلك من أضرب الأنكحة الفاسدة والباطلة.

فبدل إعطاء هذه الحلول الترقيعية المبيحة لهذا الزواج أو ذاك، كان من الأولى أن يقدم الفقيه أو المفتي حلولا لسد أبواب الشهوات التي عالجها القرآن الكريم في سورة النور نحو الأمر بغض البصر في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[النور: 30] أو الصيام كما جاء في قوله ﷺ: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء88»، ونحوها من التدابير الإجرائية لحماية الفرد والأسرة، وحتى لا يختزل الزواج في تفريغ الشهوة أو قضاء الوطر دون تأطر بالمقاصد الكلية أو اعتبار بالدور الاستخلافي العمراني لمؤسسة الزواج89.

المبحث الثاني: مقصد السكن

يعدّ السكن أحد مقاصد الاجتماع الأسري، وهذا السكن داخل الأسرة هو ما يحقق الاستقرار في المجتمع، وأي إخلال بشروط الاجتماع الأسري فإنه يخل بالاجتماع الإنساني.

أولا: مفهوم السكن

 السكن إلى شيء هو نقيض التحرك، والسكون ثبوت الشيء بعد تحرك90. ويطلق السكن في القرآن ويراد به السكن المادي تارة، والسكن المعنوي تارة أخرى، فمن الأول قوله تعالى:﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾[الطلاق: 6] ومن الثاني قوله عز وجل:﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾[النحل: 80]؛

ومن المعاني المعنوية قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم: 21] وقوله جل وعز: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الأعراف: 189]، واللام في الآيتين لام تعليل، فكأن القصد من الزوجية الآدمية السكن البشري.

ثانيا: الأسرة سكن ومسكن

إن تحقيق السكن مقصد سام من مقاصد الزواج، لذلك خلق الله سبحانه الزوجين من نفس واحدة فذلك أدعى للمودة والتآلف وأبعد عن الشقاق والتنافر.

ولتحقيق هذا المقصد كان الأصل في الزواج في الإسلام التأبيد لا التأقيت، ومن ثم فإن جميع الزيجات الأخرى الذي تحدد بزمان محدد ووقت معين ليست من الشرعة الخاتمة في شيء كنكاح المتعة والزواج بنية الطلاق وغيرهما، إذ إن من مقاصد السكن الروحي الاستقرار، ولما كان الاستقرار في السكن الحجري لا يتحقق دون إحساس بالبقاء في المسكن، فأي إحساس بالخروج أو التغيير فإنه مشوش ويوقع في الحرج الدائم مما لا يتحقق معه السكن، ونفس الأمر يقال للسكن البشري، إذ إن الديمومة هي الكفيلة بتحقيق السكن الحقيقي والاطمئنان المعنوي.

وقد ركزت على معطى المسكن بمعناه الحجري المادي أيضا، لأنه صار في وقتنا من المتغيرات التي أصابت جسم الأسرة في الغرب، حيث صار من الممكن أن يعيش الزوجان في مكانين مختلفين حفظا لخصوصية كل واحد منهما! وبدأت بوادر ذلك تظهر عندنا مما يستدعي التركيز على جميع المعطيات «البدهية المسَلَّمة» في عالم متغير.

ثالثا: السكن الأسري والاستقرار المجتمعي

من مقاصد السكن تحقيق الاستقرار، وسنفهم هذه المسألة أكثر حين نتأمل في الواقع العالمي من حولنا، حيث انفصلت الأسرة عن أداء معانيها، وصار واقع «الأسرة» سائلا، بل صرنا أمام «لا أسرة»، وذلك بالانخراط في المنطق الاستهلاكي، إذ لم يعد الابن يأتي بعد علاقة زواجية بين ذكر وأنثى، وإنما انهدمت المبادئ المؤسسة للأسرة الفطرية، وانفصلت مقاصد الأسرة عن وظائفها.

ومن ثمّ فإن الاستقرار يستلزم الإقرار بالروابط والعلاقات التي تؤسسها الأسرة باعتبارها مركز الاجتماع الإنساني؛ أي علاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الأبوين بالأطفال، وعلاقة الابن بوالديه، بالإضافة إلى شبكة العلاقات الأخرى، والتشابك العلائقي الذي ينتج عن علاقة أسرية يكون صلبًا لا سائلا، وقويا لا هشّا.

إن هذه العلاقات روابط إنسانية، وإذا تأطرت بمقاصدها القرآنية الكلية والجزئية، فإنها ستصير قوة، وقوة الروابط هي التي تعطينا السكن والاستقرار، ومن ثمّ كانت الأسرة هي فضاء التخلق بتعبير طه عبد الرحمن.

فحفظ الاجتماع الأسري حفظ للإنسان، وضمان لشروط وجوده، وترسيخ لأسس اجتماعه المحترم.

المبحث الثالث: مقصد التراحم

أولا: الأسرة رحِم ورحمة

تتأسس الأسرة على علاقات الرّحم؛ فالرحم هو المحدد البيولوجي لتأسس الأسرة فطريا، كما أن الرحمة هي المحدد القيمي لاستمرار الأسرة أخلاقيا وإنسانيا، فلا يمكن الحديث عن أسرة سويّة فطريا دون التأسس على علاقات الرّحِم.. كما لا يمكن الارتقاء الإنساني بالأسرة دون التخلق بأخلاق التراحم.

والناظر في الآيات المتعلقة بالأسرة في القرآن الكريم سيستخلص مقصدا جامعا وحاكما هو الرحمة؛ وعنه تتفرع بقية المقاصد؛ ومن ثمّ؛ كانت الأسرة كيانا اجتماعيا مرحوما، وهذه الرحمة مؤكدة بالنص وتتعزز بتمثلها سلوكيا، قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1]، «والرحم مفهوم كليّ في الدين، يقوم عليه عدد كبير من الأحكام الشرعية، التي تنظّم الحياة الزوجية بما يضمن استمرارَ هويتها الإسلامية، وانتسابَها الديني في ذريتها إلى يوم القيامة، فالرحم ليست هي ذلك الغشاء البطني الداخلي الذي يحتضن الجنين في بطن أمه فحسب. ذلك معنى لغوي صرف. وإنما المقصود بالرحم في السياق التشريعي: هو مجموع العلاقات الشرعية التعبدية، التي تنشأ عن الزواج الشرعي، وعما يترتب عنه من نسل91، «ومن هنا فقد قرنها الحق سبحانه وتعالى بأصل التوحيد، الذي هو أصل الأصول في الإسلام92».

ونلحظ كيف جاء التّـركيز على التقوى في الآية السّابقةِ وربطها بحق الأرحام، وهذه الوثاقة بين التقوى والرحم أكدها الحديث النبوي، حتى صارت صلة الرحم مستوجبةً لرحمة الرحمن؛ قال ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شُجْنَةٌ من الرحمن، فمن وَصَلَها وصله الله ومن قطعها قَطَعَه الله93». و«تقوى الرحم راجعة إلى حفظ حقوقها الشرعية، وصيانة أحكامها التكليفية المنوطة بها تعبدا لله رب العالمين. فهي إذن شعيرة يعبد الله بها أصالة، باستمرارها يستمر الدين، وبانقطاعها ينقطع94».

وكلما قويت آصرة الرحم كان الترحم أشد وآكد طلبًا، ويبدأ التراحم من العلاقات الرحمية ليتعداه للعلاقات الإنسانية. ومن ثمّ؛ فإن الاجتماع الأسري في الإسلام يتأسس على الرحم، ويقوم على التراحم، وكلما تخلق المرء بأخلاق الرحمة انعكس ذلك على آصرة الرحم فزادها صلابة وقوة.

ثانيا: تجليات الرحمة في العلاقات الأسرية

إن الرحمة كلي مقاصدي تتفرع عنه مجموعة من المقاصد الأخرى كالفضل والإحسان والمودة والبر وغيرها، وفيما يأتي بعض تجلياتها:

  •  الرحمة بين الأزواج

قال عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 20].ذلك أن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض...إلخ .

لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتُم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر.. إلخ95.

  •  الرحمة مع الآباء

من تجليات الرحمة مع الآباء البر والإحسان، ونجد هذا البر إما واردا في صيغ الأمر المباشر:

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[الإسراء: 23-25] .

كما نجد تمثل هذا الخلق في القصص القرآني؛ إذ ورد الثناء على الأبناء لالتزامهم خلق البر كما جاء في وصف يحيى بن زكرياء S: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾[مريم: 14]، وقال حكاية عن عيسىS: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾[مريم: 32].

  • الرحمة مع الأبناء

لن نجد في القرآن صيغًا للأمر المباشر بالإحسان إلى الأبناء والرحمة بهم، لأنه من دواعي الفطرة والجبلة، لذلك «يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية؛ فلا يتأكد الطلب تأكد غيره96»، لكننا نجد تمثلات سلوكية لهذا الأمر في القصص القرآني، ومن ذلك:

نوح مع ابنه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾[هود: 42-43].

أم موسى مع موسى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[القصص: 10-13].

ومن معاني الآية أن فؤاد أم موسى صار خاليا من كل شيء إلا من فلذة كبدها، فحرم الحق عليه المراضع ورده إلى أمه، ورغم إيمان أم موسى بقول الحق وانصياعها لأمر الوحي، إلا أن ذلك لم يمنعها أن تحزن وتتألم لفراق ابنها، فهذا مما غرس في الطبائع والفطر، ومنه نفهم سبب عدم إكثار القرآن من الأوامر الداعية بالإحسان إلى الأبناء.

  •  الرحمة في العلاقة الأخوية

يمكن التمثيل لهذا التجلي المرحمي في قصة موسى مع أخيه؛ إذ عاد موسى لقومه غضبان أسفا من عبادتهم العجل،﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأعراف: 150]، «ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم97». فما كان من موسى S إلا أن استجاب لنداء أخيه الرحيم، ويطلب من أرحم الراحمين أن يغفر له ولأخيه؛﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 151]، وقد جاء في آية أخرى تأكيد على صفة الرحمة بينهما؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾[مريم: 53]، فالأخوة اشتراك في رحمٍ واحد، وهي رحمةٌ من الله عز وجل، وتستلزم معاملة تراحمية خاصة ترقى بها.

ويتضح الأمر أيضا في علاقة يوسف بأخيه: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾[يوسف: 69]. فعبر القرآن عن فعل يوسف بالإيواء، و«أطلق الإيواء هنا مجازا على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى98»، وحكى عن يوسف قوله لأخيه «فلا تبتئس»: «البؤس هو الحزن والكدر... والنهي عن الابتئاس مقتض الكف عنه، أي أزل عنك الحزن واعتض عنه بالسرور99».

فهذه الصورة القرآنية تعبر عن العلاقة الأخوية في أرقى صورها، في الإدناء والإيواء والطمأنة، فالأصل أن الأخوة أمان.. والأخوة وقاية.. والأخوة رعاية، وهذه بعض معاني الرحمة100.

وتتعدد تجليات الرحمة في العلاقات الأسرية في القرآن الكريم؛ مما يؤكد أن الرحمة هي المقصد الحافظ للاجتماع الأسري والتراحم الأسري هو أساس التراحم الاجتماعي، كما تعد الرحمة كليّا مقاصديا تندرج تحته مقاصد أخرى، فإذا جاز وصف شِرعة الإسلام بوصف جامع فهي شِرعة المرحمة؛ ولا ريب أن جعل الله من خصائص هذه الشرعة أن نسخت شِرعة الإصر والأغلال.

ثالثا: التراحم وحفظ الاجتماع الأسري والإنساني

قال ابن عاشور: «إن المقصد العام من التشريع [...] حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهمين عليه وهو الإنسان101»، فالنظام الذي تقوم عليه الإنسانية هو النظام الفطري الإنساني، وهو الذي يسمح باجتماع سوي، ويرتكز الاجتماع أساسا على الإنسان، لكن الإنسان لا يوجد منفصلا عن مجال؛ وإنما يتحدد ثقافيا بالانتماء؛ وإن أوّل انتماء للإنسان يفتح عليه الإنسان عينه يتمثل في الأسرة؛ إذ يفترض أن ينشأ المرء في أسرة تحمي وجوده وكينونته، وتجذر إحساسه بالهوية والانتماء، فالأسرة حامية للإنسان وللاجتماع أيضا؛ إذ لا نتصور مجتمعا
دون أسرة.

وجعل الله سبحانه وتعالى الأسرة منبع الصلات الاجتماعية الصلبة، فقد قال سبحانه وتعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾[الفرقان: 54]، فالأسرة ليست مجرد زواج بين ذكر وأنثى، وإنما هي مجموع الصلات المتولدة من هذه العلاقة، ومن ثمّ؛ فإن الأسرة امتداد علائقي متماسك، وهذا التماسك منبعه صلة الدم والرحم التي تتأطر بالمقاصد والأخلاق الضامنة للاستمرار والارتقاء بالفعل الاجتماعي نحو مدارج التأنس وابتعاده عن التوحش، وكما قال عمر عبيد حسنة: «إن إحكام السيطرة والتحكم على عالم المسلمين يقتضي انحلال الأسرة المسلمة وتفكيكها؛ لأن الشواهد التاريخية دلت ولا تزال على أن التربية الأسرية هي الباقية، وهي القادرة على التجاوز واستئناف الفعل الاجتماعي، وهي القادرة على الاحتفاظ بالخمائر الاجتماعية، وإعادة فرزها في المجتمع في الوقت المناسب102».

ولا يتحقق الارتقاء في مدارج الأخلاق الإنسانية العالية دون التخلق بأخلاق الرحمة التي تتعمق في التعامل الأسري، ثم تعم بعد ذلك في التعامل الإنساني، ومن ثمّ؛ فإن الرحمة هي أساس المقاصد الحاكم للعلاقات الأسرية، ويتجلى التراحم في جميع العلائق الأسرية على امتدادها؛ إذ إن امتداد الرحم يستلزم مدده بالرحمة. وهذا الامتداد الرّحِمي والمدد المرحَمي يؤول إلى امتداد لهذا المقصد خارج دوائر الأسرة إلى المجتمع، فيغدو الاجتماع الإنساني مرحومًا، ويتأكد أن الأصل في العلاقات الإنسانية الرحمة، ولا يتحقق هذا الأمر دون تأسيسه وتمثله في العلاقة الأسرية الخاصة والممتدة، فهي الأصل، ومنها البدء.

وعليه؛ فإن هذا المقصد الإنساني «الرحمة»، يشترك في طلبه كل الناس وفق مستويات متباينة، لكن تسليط الضوء عليه من شأنه أن يجعلنا ننظر للعلاقات الأسرية في أفق تعارفي كلّي، فيجذر الإحساس بأهمية العلاقات العائلية الممتدة في سياق عالمي تجتمع وسائله على استنبات ثقافة «قطع الرحم» و«إهلاك الحرث والنسل».

الفصل الرابع: حفظ الاجتماع الإنساني

إن الأسرة هي الوحدة الاجتماعية المؤهلة لعمران الأرض، فإذا كانت الخلافة نيطت بالإنسان، فإن من شروط الاستخلاف أن تتم تنشئة الإنسان في ظروف اجتماعية إنسانية؛ ومن ثمّ؛ كانت الأسرة هي الحِصن الحامي للاستخلاف والضامن للعمران، وذلك بترسيخ التأنس والابتعاد عن التوحش، إذ نجد القرآن الكريم ربط بين إهلاك الحرث والنسل ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾[البقرة: 205]، فإفساد النسل يستلزم بالضرورة فساد الحرث، ولا يستقيم الاجتماع الإنساني على الأرض دون سلامة الشرط البيئي «الحرث» والإنساني «النسل»، وأي ضرر بالنسل سيعود على العمران، وكما يقول الفاروقي: «إن من المقطوع به أن قدر الحضارة والأسرة هو أن تنهضا معا أو تسقطا معا103».

لذلك فالأسرة تحفظ الإنسان، كما سبق بيانه، كما تحفظ الحسّ الإنساني المشترك، أي الفطرة، وهي الضامنة للشرط الإنساني في الاجتماع، بالإضافة إلى تحقيقها السكن وهو المحدد النفسي في الاجتماع الأسري، ثم التعارف وهو المحدد الاجتماعي.

المبحث الأول: حفظ الفطرة

من مقاصد الدين عموما حفظ الفطرة الإنسانية؛ فالفطرة من روح الله المغروسة داخل الإنسان، لذلك نسبت الفطرة إلى الله عز وجل: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الروم: 30]، والفطرة، كما قال ابن عاشور هي: «النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق104»، و«الأصول الفطرية هي التي خلق الله عليها الإنسان المخلوق لعمران العالم، وهي إذن الصالحة لانتظام هذا العالم على أكمل وجه105».

 ولو تأملنا الواقع لوجدنا أن كثيرا من الفلسفات والطروحات تسعى ل «تبديل خلق الله» وتغيير «فطرة الله التي فطر الناس عليها»؛ ومن ثمّ؛ كان الحديث عن الأسرة أساسا مركزيا لحفظ الفطرة التي تبقي على خلق الله ولا تغيره، إذ إن الناظر للتشريعات الأسرية يتأكد له أنها تشترك في الحرص على حفظ الفطرة، وتتجلى لنا معالم هذا الحفظ في ضوء السياق المعاصر الذي انفصلت فيه الوظائف الأسرية عن مقاصدها فاختل التوازن الإنساني، ومن ثمّ الناموس الفطري.

فالفطرة هنا مقصد تكويني يعم في الإنسان ويؤطر فهم الشريعة؛ إذ «إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس سهل عليها قبولها106»، «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها. ولعل ما أفضى إلى خرق عظيم فيها يعد في الشرع محذورا وممنوعا، وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبا107».

كما أنها معيار تصحيحي لترشيد واقع الإنسانية، «لذا فإننا في قلب الأزمات سنحتاج إلى مفهوم الفطرة في الكشف عما يصيب النفس الإنسانية في حال التأنس والتوحش، وكيف يمكن استنقاذ الفطرة حين يسود التوحش كي يمكن رد الإنسان الفرد والجماعة إلى التأنس مرة أخرى، وإحياء الفطرة السوية لتعلو فوق النزعات اللاإنسانية في وقت الصدام، وإدراك أن قواعد الشرع المنظمة لذلك غايتها ليس فقط حفظ المقاصد الكلية بل كذلك حفظ الفطرة الإنسانية من السقوط وقت الحروب والتناحر108».

ومن ركائز هذا الحفظ على المستوى الأسري:

أولا: حفظ الزوجية

1-  مفهوم الزوجية

يدل الجذر اللغوي «ز وج» على مقارنَة شيءٍ لشيء109، والزَّوْجُ خلاف الفَرْدِ110، والمقارنة تستلزم الاختلاف، ومن ثم كان عمق معنى الزوجية يحيل إلى الاختلاف لا التشابه، ومن سمات هذا الاختلاف الأولي التعدد المادي، حيث إن الزوج خلاف الفرد كما ذهب إلى ذلك ابن منظور.

«فالزوجان في العربية ليسا ثنائية أصلها تعدد الواحد، وإنما شيئان متكاملان يكونان شيئا واحدا، فلا معنى لأحدهما من دون الآخر، ولا يمكن أن يستمر النوع البشري بزوج واحد؛ يعني بواحد من الزوجين111»، إذ إن «الاستمرار منطلقه من حقيقة أن الوحدة البشرية قائمة على الزوجية يؤسس ويرسخ هذه النظرة التي لا تفصل بين جزأين متكاملين لتحدث بينهما خصومة أو صراعًا أو تضادّا. ومن أحدث ذلك التضاد أو تسبب فيه فقد تسبب في إفساد نظام الكون، وذلك من اختصاص الشيطان حين قال:﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 118]. وخلق الله على الشكل الذي هو عليه هو الفطرة، أي: الفطرة التي فطر عليها الكون، أي: الكيفية التي أراد الله أن يسير عليها الكون، وهي الدين أيضا:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 29]112.

وقد ذكرت الصيغة الفعلية للزوج خمس مرات في القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾[الأحزاب: 37]، ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: 54]، ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾[الطور:20]،﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا﴾ [الشورى: 50]، ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: 7]، والملاحظ من هذه الآيات القرآنية أن فعل «التزويج» لم ينسب لبشر قط، وإنما كان دائم النسبة لله سبحانه وتعالى، وحتى في آية التكوير، لما ذكر الفعل بصيغة المجهول فلأن الفاعل معلوم وهو الله سبحانه وتعالى، ومن ثَم فكل عملية تزويج فهي استمرار رباني لأصل المزاوجة الأزلي سواء بين آدم وحواء من البشر أو غيرهم من الكائنات، وأي معارضة لهذا النهج فهي معارضة للنهج الرباني وحياد عن السنن الإلهي في الأساس.

أما مادة «زوج» بالصيغة الاسمية فقد وردت بالصيغة المفردة «زوج» سبع عشرة مرة، وذكرت بصيغة المثنى سبع مرات، وبصيغة الجمع «أزواج» اثنين وخمسين مرة. فمجموع ورود اللفظة بشتى الصيغ الصرفية: إحدى وثمانون مرة113.

ويطلق الزوج في القرآن ويراد به: الزوج الآدمي سواء كان ذكرا أو أنثى، كما في قوله ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾[النساء: 20]، كما يطلق ويراد به الزوج النباتي﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾[لقمان: 10]، أو الحيواني أو غيرهما من أصناف الأزواج ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[هود: 40].

وقد جعل الله سبحانه الخلق كافة من زوجين ليخالفوا بذلك مقتضيات الألوهية المبنية على الواحدية والتوحيد المجرد المطلق، قال عز وجل:﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾[الذاريات: 49]، مما يدل أن الزوجية ناموس كوني يعم في المخلوقات جمعاء، وهذا يستلزم التوحيد والواحدية المطلقة لله جل في علاه فهو﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[الشورى: 11]، لذلك فمن «أراد الخروج عن الزوجية فإنه لم يشذ فقط عن السنة الكونية وإنما تأله. وحينئذ يصبح الأمر انحرافا عقديا ولا يعود مجرد انحراف تصوري أو سلوكي114».

2: محددات الزوجية في القرآن

من هذه المحددات:

  •  وحدة الأصل واشتراك النفس

تنشأ الزوجية بين الجنسين المنتميين لنفس النوع115؛ النباتات مع بعضها، والبشر مع بعضهم، والحيوانات مع بعضها، وأي خروج عن هذا المهيع شذوذ كوني116. ولذلك نجد الحق تبارك وتعالى يؤكد هذا المعنى في آيات كثيرة نحو قوله سبحانه: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾[الزمر: 6]، وقوله جل وعلا: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الذاريات: 49]، وقوله تعالى: ﴿فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾[المؤمنون: 27]، وقوله عز وجل: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾[النبأ: 8]، وانطلاقا من هذه الآيات يتأكد لنا أن الزوجية «خلق رباني» و«جعل إلهي»، وهذه المسألة ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة. فقد خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى، وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما. وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة، ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد دون الحاجة إلى علم غزير. ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها، ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير117.

والملحوظ أن التأكيد على الزوجية الآدمية ورد في سياق التأكيد على وحدة النفس، الأمر الذي يجنبنا أي نقاش حول طبيعة المرأة وأصل خِلقتها، وإلحاقها بالجن أو الشيطان كما هو الحال في بعض الثقافات، والتي انسحب أثرها على العمل التفسيري أحيانا، إما عن طريق تسرب الإسرائيليات أو هيمنة الأعراف والعادات التي جاء الشارع لإبطالها ونسفها، مما أدى إلى تساؤل بعض المفسرين عن أحقية المرأة بالتكليف وهل هي أهل لذلك؟!، فكان هناك شطط في الفهم الخارج عن السياق القرآني والبعيد عن التصور الشرعي118.

فقد ترسخ عندنا أنه لا فضل لذكر على أنثى إلا بالتقوى، وكل فكرة عدا ذلك باطلة، ويؤكد الحق سبحانه هذا المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1] »119. فالنفس الواحدة هي النفس الآدمية ثم وقع التزاوج وتفرعت عنها بقية النفوس هكذا إلى يوم القيامة، ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾[التكوير: 7]، وفي ذلك لطيفة ذكرها الشيخ الشعراوي: «لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس، وهي مؤنثة، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير، ولكن 'التذكير' هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث. إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا 'نفس' وهي كلمة مؤنثة، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاما آخر عن الخلق قال: ﴿يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13120، ويضيف أيضا: «ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه عندما يُردّ الشيء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة»121.

فالملاحظ على هذه التوصيفات والمعاني أنها تحمل دلالات إيجابية، فهي تعبير عن سنة الله في خلقه، ولا يصح التسليم بشرع الله إلا عن طريق التسليم بسنته في خلقه، ومن ثم، فإن معنى الزوجية كوني سنني بثه الله في خلقه وفي تشريعه: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾[الأعراف: 54].

وأشير إلى أن الأمر بالتزام سنة الله في خلقه لا تقتصر على المسلمين دون غيرهم، فهي سنة كونية إنسانية ملزمة، عقلا وطبعا وشرعا، وأي حياد عنها فهو تسفل في درجات الإنسانية، وعلو في دركات البهيمية، وأي عاقل إذا أحسن استخدام عقله، وحافظ على فطرته، فإنه سيوافق في سلوكه سنة الله في خلقه.

  • الاختلاف الجنسي

حين تطلق الزوجية فإنه يراد بها دوما تلكم العلاقة والرابطة بين جنسين مختلفين؛ ذكر وأنثى، يقول عز وجل: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾
[النجم: 45]، وهذا الاختلاف الجنسي الفيزيولوجي له تبعات ومقتضيات، وهي في جملتها عبارة عن اختلاف مميزات وطباع وخصائص تتكامل فيما بينها وتتوافق عن طريق عملية الزواج المشروعة من أجل تأسيس أسرة.

فالخطاب القرآني كان واضحا فيما يخص أصل الجنسين دون تمييز لجنس الذكر على الأنثى أو العكس، ففكرة الاشتراك على مستوى الأصل/النفس كفيلة بضرب كل الطروحات القائمة على التمركز حول الجنس، ذكرا كان أو أنثى، والتي تؤكد الفكر الصراعي بدل التكاملي بين الجنسين، لأن «ثراء الاجتماع البشري وغنى الحياة ناتج عن التنوع والاختلاف والتمايز وليس العكس، إن الاختلاف التنوعي والتمايز ينتظم في علاقة التجاذب والتكامل والتزاوج، في حين أن التطابق والتماثل والتشابه ينتج عنه التنافر والتباعد والتصارع122».

 وعليه، فإن كل علاقة بين نفس الجنس لا تمت لمفهوم الزوجية بصلة، إذ أنها لم تنبن على أولى خطوات الاختلاف الجنسي المعتبر، لذلك نجد التعنيف القرآني للذين خالفوا هذا المقتضى، كما هو شأن قوم لوط إذ قال الحق بشأنهم ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾[الشعراء: 165-166] فسمى الحق سبحانه فعلهم هذا بالعدوان والاعتداء الصريح، والذي يعني مجاوزة الحق وتجاوز السنن الكونية التي خلق الحق عليها الخلق.

وهذه المعاني المذكورة آنفا تنسحب على جميع أصناف الأزواج، والزوج الآدمي أسمى هذه الأصناف وأكرمها﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[الإسراء: 70]؛ فكانت بذلك هذه السمات والمميزات تتماهى والزوجية الآدمية وغيرها من أضرب الزوجية.

وقد جاءت مجموعة من التشريعات التي تحفظ هذا المبدأ منها مثلا منع العلاقات الشاذة؛ فمعلوم في الشريعة الخاتمة تحريم اللواط والسحاق، وذلك لمقاصد كثيرة وحكم عديدة على رأسها مخالفة الفطرة الإنسانية؛ إذ تخرج هذه السلوكات الشاذة عن الحد الطبيعي لتلبية داعي الغريزة، لأنه خروج عن سنن الله في خلقه، ومخالفة للشارع في قصده، فهو تلبية لداعي الشهوة في غير محلها.

وضبط موازين الفطرة هو أساس حفظ الإنسان وضابط حفظ نظام العالم والاجتماع الإنساني، وإذا اختلت الموازين اختل الاجتماع الإنساني وآذن بالخراب.

المبحث الثاني: مقصد التعارف

أولا: مفهوم التعارف

التعارف لغةً مصدر تعارف يتعارف، وتعارف القوم أي عرف بعضهم بعضا، وعرَفه يعرِفه عِرفةً وعِرفانا وعَرفانا أي علِم123، قال الراغب: المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، فهي أخص من العلم، وتستعمل المعْرِفَةُ في العلم القاصر المتوصّل به بتفكّر، ويضادّ العلم الجهل ويضاد المَعْرِفَةُ الإنكار؛ قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها﴾[النحل: 83]124.

ومقاصديا يفيد التعارف تبادل المعارف والتعاون بين الناس للارتقاء والنهوض، ويقابله التناكر الذي يؤدي إلى الخصام والتناحر.

ثانيا: التعارف الإنساني والترابط الأسري والاجتماعي

قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13]، وجعلت علة جعل الله إياهم شعوبا وقبائل، وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا.

والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائر، والعمائر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها125». وقال أيضا: «وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم126».

 فيمكن القول إنه من بين مقاصد الزواج بين الذكر والأنثى التعارف الذي يعتبر آلية مهمة لترسيخ الترابط الاجتماعي والحد من الصراع المجتمعي بتوثيق الأواصر بين الأسر والأهالي، وتحقيق الاندماج داخل الجماعة والمجتمع، فينمو الإحساس بالأخوة الإيمانية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات: 10]،المبنية على الاعتصام بالله الواحد الأحد، ونبذ كل ما من شأنه أن يؤدي إلى التفرق والتشرذم ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران: 103]، فيصير «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا127».

والتعارف من المقاصد الأسرية غير المنصوص عليها في السياقات القرآنية الأسرية، لكن عدم النص عليه لا يلغي كونه مقصدا؛ فالمقصد منه منصوص عليه أو مشار إليه، ومنه ما علم بدليل آخر ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص.

 وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطلبه وإدامته، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف، الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل؛ فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا، كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبًا لشرف النسب، ومواصلة أرفع البيوتات، وما أشبه ذلك؛ فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ، وأن قصد التسبب له حسن128»، ومن ثمّ؛ فإن التعارف من المقاصد الأسرية؛ لأنه يمد العلاقات الاجتماعية بين الأهالي ويقوي الأواصر بين الناس على تباعد أمكنتهم وتباين ثقافتهم.

كما أن التعارف هنا يتعدى الجانب الاجتماعي إلى الجانب الثقافي والديني، وفي إطار هذا المقصد التعارفي نفهم إباحة الحق سبحانه الزواج من الكتابية بناء على الأصل، خصوصا في إطار وجود مشترك أخلاقي يتمثل في الإحصان والعفة، حيث تم تقييد النكاح بالكتابية بقيد قيمي كما جاء في قوله سبحانه: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾[المائدة: 5] قال ابن كثير: «والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا، كما في الآية الأخرى: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾[النساء: 25]129»،كما أن هذا الزواج سيمكن من تحقيق الحوار بين ثقافات مختلفة وشرائع متعددة، مما يجعل تحقيق هذا القصد التعارفي المؤسس على المشترك الأخلاقي والقيمي.

ولحفظ هذا المقصد نجد الحق سبحانه حث على صلة الأرحام كما دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة.

كما حرم الحق سبحانه كل علاقة من شأنها أن توقع في الشقاق والتنافر، بدل المودة والتعارف، كالزنا مثلا، بل جعل زنا المحصن أشد لأن المحصن مرتبط بعلاقة زوجية أخرى.

وهذا القصد إذا تم تعميقه فإنه سيكون آلية مهمة لتجذير العمران الاجتماعي والارتباط الإنساني بين مكونات المجتمع.

على سبيل الختم

إن حصر المقاصد الأسرية في القرآن الكريم أمر عسير في هذه الدراسة، لكن حسبي أني سعيت إلى إعادة ترتيب المقاصد باعتبار الغايات الكبرى التي ينشدها الاجتماع الأسري، وربطها بمقتضيات الإنسان وأحوال العمران، ومراعاة السياق العالمي المعاصر ومآلاته على السياق العربي الإسلامي.

وقد جاء الحديث عن الأسرة في هذا البحث يرنو الارتقاء نحو التعالي الذي يضع الثوابت، ويحدد المقاصد، وينظر للعصر المتغير، وينشد تحقيق هذه المقاصد وتنزيلها في هذا الواقع الزئبقي، إذ إن ما يبقي على بصيص الإنسانية في العالم السائر نحو الجنون ما هو إلا الأنوار الإلهية والمحمدية التي ترشد السائرين في طريق الله.

فالعقلانية الحديثة لا تشِي دومًا بالإيجابيات، والإشكالات الغربية لسنا بمعزل عنها إن لم نجابهها بروح القرآن وفهم العصر، فلو تأملنا لوجدنا أن حفظ الأسرة مقصد المقاصد؛ إذ يحفظ الإنسان أولا ويحفظ الاجتماع الإنساني ثانيا، لذلك تأتي فلسفة «السيولة» لتفكك الاجتماع وتهدم الإنسان.

 وتجدر الإشارة إلى أن «السيولة» كما هي حاصلة في عدد من المجتمعات لم تقع جملة واحدة، وإنما أتت من بعد تنظيرات ثقافية جرّبت في الإنسان نظرياتها القاتلة رغبة في تخفيف ما رأته إصرا وأغلالا، وتكريسا لثقافة المتعة محل الشهوة، «إن العقلانية الحديثة السائلة توصي بالعباءات الخفيفة، وتدين الأغلفة الفولاذية130»، إذ «يرى العقل الحديث السائل في الالتزامات الدائمة ظلمًا وغما، وفي الارتباط المتين تبعية وتقييدا. فذلك العقل ينكر الحق في الالتزام والارتباط المكاني أو الزماني، فلا حاجة ولا منفعة لهما يمكن للعقلانية الحديثة السائلة الاستهلاكية أن تبررهما. فالالتزام والارتباط يعكران صفو العلاقات البشرية، مثلما يعكران صفو أي فعل من أفعال الاستهلاك الذي يقوم على الإشباع الفوري للرغبة والتقادم الفوري للمادة المستهلكة131».

فالحياة السائلة هي حياة استهلاكية وكل شيء فيها قابل للاستهلاك، وهذا ما أدى إلى انقلاب في الموازين وتعيير المصالح بمعيار الاستهلاك والسرعة واللذة، بعيدا عن أية التزامات أخلاقية، وأحسب أن المنظرين لهذا الضرب من الحياة لم يخطر على بالهم الخسارة الإنسانية التي ستؤول إليها بشارتهم، «وبالطبع لا طائل من مقارنة كرب الماضي وغمة الحاضر حتى نعلم أيهما أشد وطأة، فكل كرب يؤذي ويعذب في أوانه وبطريقته».

وأود أن أؤكد في الختام أن واقع الأسرة اليوم يشهد تحديات جديدة، ورهانات لا سابق لنا بها، وهذا ما يستلزم أن نعي اختلاف الأسئلة، وتغير السياقات وتركبها، والجمع بين كل المنظورات التي تعالج الظاهرة، والحرص على تقصيد الأسس القرآنية الكلية وإبصار روح العصر بفهم كلي، إيمانا بدور الدين في تدبير شؤون الاجتماع، خصوصا في هذه المرحلة الانعطافية، وكما يقول مصطفى المرابط: «إن تاريخ هذه الحضارة يعلمنا أن عند كل أزمة انعطافية يتعرض فيها ثابت من الثوابت للخطر إلا وتعمل هذه المنظومة على إيجاد منفذ أو إطار يستوعب ويمتص التحولات الحاصلة، فيضحى بالعارض من أجل إنقاذ الثابت، ويلتف على الخطاب المنطوق، وهو الوعاء الذي تتمظهر فيه تلك التحولات، ليحتمي بخطاب غير منطوق أو مسكوت عنه132».

فالعالم يشهد منعطفا تتجلى معالمه على الإنسان والاجتماع، والنظر للأسرة وفق أفق مقاصدي إنساني من شأنه أن يجعلنا نسائل كل المنظورات الفلسفية التي رسخت ثقافة الاستهلاك والاستمتاع منفصلة عن أي اعتبار قيمي وأخلاقي ومقاصدي، وأحسب أن المعالجة المقاصدية القرآنية للأسرة بالنظر للإنسان من جهة وللعمران من جهة أخرى يمكن أن يشكل لبنة في هذا الصرح الحضاري الجديد، والله الهادي سواء السبيل.


لائحة المصادر والمراجع

ــ إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1997م.

ــ أبو الحسن القشيري مسلم، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ــ أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، أدب الدنيا والدين، اعتنى به وخرج أحاديثه، محمد أبو الخير السيد؛ محمد الشرفاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2004.

ــ أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، النكت والعيون، دار الكتب العلمية، بيروت.

ــ أبو الفضل أحمد ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379ھ.

ــ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار القلم، بيروت، ط3.

ــ أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420ھ.

ــ أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، دار صادر، بيروت.

ــ أبو زيد المقرئ الإدريسي، العلاقات الزوجية في القرآن والسنة: منطلقات ومقاصد، ضمن أشغال الملتقى الوطني الأول للأسرة «دورة زينب النفزاوية» مراكش أيام 1-2-3 مايو 2009، منشورات جمعية الحضن، ط1، 2011م.

ــ أحمد الريسوني، جهود الأمة في مقاصد القرآن الكريم، منشور ضمن أعمال المؤتمر العالمي الأول للباحثين في القرآن الكريم وعلومه، الجزء الرابع.

ــ أحمد بن الحسين البييهقي، السنن الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2003.

ــ أحمد حمد، موضوع النسب في الشريعة والقانون، دار القلم، الكويت، ط1، 1983.

ــ إسماعيل راجي الفاروقي، التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة: السيد عمر، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط2، 2014.

ــ أمينة الجابر؛ صالح إبراهيم الصنيع؛ الشيخة العنود بنت ثامر آل ثاني، التفكك الأسري الأسباب والحلول المقترحة، تقديم عمر عبيد حسنة، سلسلة كتاب الأمة، الدوحة، العدد83، أغسطس 2001.

ــ أوليفي تيوكوكريف، معاهدة حقوق الطفل ودور الأسرة، ضمن أعمال: أزمة القيم ودور الأسرة في تطور المجتمع المعاصر، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 2002.

ــ بدران أبو العينين بدران، حقوق الأولاد في الشريعة الإسلامية والقانون، مؤسسة شباب الجامعة، إسكندرية، 1981.

ــ ابن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000.

ــ ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الفكر، القاهرة، 1979، د.ر.ط.

ــ ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1991.

ــ ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، مؤسسة الرسالة، بيروت؛ مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط27، 1994.

ــ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1999.

ــ ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، تح: ابن الخطيب، مكتبة الثقافة الدينية، ط1.

ــ ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1998، د.ر.ط.

ــ جميلة تِلوت، أخلاق الأخوة في القرآن الكريم: دراسة في القصص القرآني، منشور ضمن أعمال الندوة الدولية: القيم الأسرية في القرآن الكريم –ج1-، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الدار البيضاء، ط1، 2017.

ــ جميلة تِلوت، الأسرة في التصور القرآني، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الدار البيضاء، ط1، 2014.

ــ جميلة تِلوت، مقصد حفظ النسب وآثاره النفسية والاجتماعية، مجلة الأمة الوسط، ملف العدد: تفعيل المقاصد في المجال الأسري، ع7، 2016.

ــ خديجة كرار، الأسرة في الغرب: أسباب تغيير مفاهيمها ووظيفتها، دار الفكر، دمشق، 2009.

ــ الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق ودراسة: أبو اليزيد أبو زيد العجمي، دار السلام، القاهرة، ط1، 2007.

ــ الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، راجعه وقدم له: وائل أحمد عبد الرحمن، المكتبة التوقيفية، القاهرة.

ــ رشا عمر دسوقي، الصحة الإنجابية في ميزان المقاصد الشرعية، مجلة المسلم المعاصر، س36، ع144، أبريل-ماي-يونيو 2012.

ــ رشيد كهوس، المقاصد الشرعية بناء الأسرة المسلمة في الرؤية القرآنية، منشور ضمن أشغال الندوة الدولية: التصور القرآني للأسرة، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الدار البيضاء، ط1، 2016.

ــ رولا محمود الحيت، المفردات القرآنية في موضوع الأسرة: دلالاتها الفقهية وامتدادها الاجتماعي، ضمن أعمال: الأسرة المسلمة في ظل التغيرات المعاصرة، تحرير: رائد جميل عكاشة، منذر عرفات زيتون. دار الفتح، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط1، 2015.

ــ زيجمونت باومن، الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة: حجاج أبو جبر، تقديم: هبة رءوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت؛ منتدى الفقه الاستراتيجي، القاهرة، ط1، 2016.

ــ زيجمونت باومن، الحداثة السائلة، ترجمة: حجاج أبو جبر، تقديم: هبة رءوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت؛ منتدى الفقه الاستراتيجي، القاهرة، ط1، 2016.

ــ زينب العلواني، الأسرة في مقاصد الشريعة: قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط1، 2012.

ــ سليمان بن الأشعث أبو داود، سنن أبي داود، تحقيق: شعيب الأرنؤوط؛ محمد كامل قرة بللي، دار الرسالة العالمية، بيروت، ط1، 2009.

ــ سمير بودينار، منظومة قيم الأسرة: من القرآن إلى العمران، منشور ضمن أشغال الندوة الدولية: التصور القرآني للأسرة، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الدار البيضاء، ط1، 2016.

ــ سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط 17، 1412ھ.

ــ شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة، تحقيق: السيد سابق، دار الجيل، بيروت، ط1، 2005.

ــ الشاهد البوشيخي، نظرات في المسألة النسائية في القرآن الكريم، السلسلة القرآنية 6، مطبعة آنفو-برانت، فاس.

طه جابر العلواني، التوحيد والتزكية والعمران: محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، دار الهادي، بيروت، ط1، 2003.

ــ طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، بيروت: المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2006.

ــ طه عبد الرحمن، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، ط1، 2016.

ــ عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: أبو عبد الرحمن عادل بن سعد، الدار الذهبية، القاهرة، د.ت.ر.ط.

ــ عبد الكريم الحامدي، مقاصد القرآن من تشريع الأحكام، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 2008.

ــ عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 2008.

ــ عبد المحسن حمادي، مدخل على أصول التربية، الكويت، ط4، 1995.

ــ علاء الدين الكاساني، بدائع الصنائع، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982.

ــ علي بن محمد أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، دار الفكر، بيروت، ط1، 2002.

ــ فخر الدين محمد بن عمر الرازي، مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000.

ــ فرانسس فوكوياما، التصدع العظيم: الفطرة الإنسانية وإعادة تشكيل النظام الاجتماعي، ترجمة: عزة حسين كبة، بيت الحكمة، بغداد، ط1، 2004.

ــ فريد الأنصاري، الفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، دار السلام، القاهرة، ط1، 2009.

ــ فريد شكري، الأسرة بين العدل والفضل، روافد، الكويت، ط1، 2014.

ــ ماهر حسين حصوة، مقاصد الأسرة وأسس بنائها في الرؤية الإسلامية، منشور ضمن أعمال: الأسرة المسلمة في ظل التغيرات المعاصرة، تحرير: رائد جميل عكاشة، منذر عرفات زيتون. دار الفتح، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط1، 2015.

ــ محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984.

ــ محمد الطاهر ابن عاشور، جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، جمعها وقرأها ووثقها: محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، الأردن، ط1، 2015.

ــ محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق: الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 2004.

ــ محمد المنتار، مقاصد القرآن: قراءة معرفية وتقويمية، مجلة الترتيل، ع3، شتنبر 2016.

ــ محمَّد بن إسماعيل البخاري، الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه، دار الشعب، القاهرة، ط1، 1987.

ــ محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر؛ محمد فؤاد عبد الباقي؛ إبراهيم عطوة عوض، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1975.

ــ محمد مومن، ظاهرة أطفال الشوارع بالمغرب: دراسة ميدانية بالرباط وسلا، طوب بريس، الرباط، ط1، نونبر 2007.

ــ محمد يوسف موسى، النسب وآثاره، دار المعرفة، القاهرة، ط2، 1967.

ــ مصطفى المرابط، صناعة الأنوثة في الحداثة الغربية، مجلة موازين، الكتاب الحادي عشر.

ــ مصطفى فوضيل، مصطلح الأسرة: قراءة في ضوء القرآن الكريم، منشور ضمن أشغال الندوة الدولية: التصور القرآني للأسرة، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الدار البيضاء، ط1، 2016.

ــ ناجي بن الحاج الطاهر، الإنسان والقيم العليا: رؤية معرفية، منشور ضمن أعمال ندوة سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، ط1، 2012.

ــ هبة رءوف عزت، نحو عمران جديد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت؛ منتدى الفقه الاستراتيجي، القاهرة، ط1، 2015.

ــ هدية غازي علي غازي، مقاصد الأسرة في القرآن الكريم، منشور ضمن أشغال الندوة الدولية: التصور القرآني للأسرة، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الدار البيضاء، ط1، 2016.

ــ وهبة الزحيلي، الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2000.

ــ   Larousse: Dictionnaire etymologique et historique du Français، Editions Larousse 2011.

ــ   http://www.larousse.fr/encyclopedie/divers/famille/51139.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد القرآن الكريم (3): مجموعة بحوث، 2018، مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 253-327.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها)

أحمد زكي يماني محتويات المقال:نسبها ونشأتها في الجاهليةزواجها بالرسول ﷺالسيدة خديجة، رضي الله عنها ودورها في نصرة الرسول ﷺفضل السيدة خديجة، رضي الله عـنها، من شواهد السُنة النبويةأهم الأحداث والوقائع التي حدثت بدار السيد...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المساواة بين المرأة والرجل في ميزان الإسلام

الشيخ أحمد زكي يماني محتويات المقال:الأول: عن وضع المرأة في العهد النبويالثاني: عن دور المرأة المسلمة في العصور الـلاحقةالثـالـث: عن المـرأة في نطاق الزوجية ومقارنتها بالرجلأ – إبرام الزواجب – الحقوق والواجباتجـ – تعدّد ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأحكام العامة للمرأة المسـلمة

أحمد زكي يماني الحمد لله الذي خلقنا من ذكر وأنثى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ ﴾ (سـورة الحجرات، الآية 13)، وجعل للرجال المسلمين وللنساء المسلمات ولاية على بـــعضهم البـــعض ﴿وَالْمُؤْم...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

وضع المرأة في العهد النبوي

أحمد زكي يماني كانت المرأة في الجاهلية قبل الإسلام مهانة وضعية، وكان العربي يعتبرها مصدر ذل وعار، يَسْودّ وجهه إذا بُشّر بمولود أنثى، ويحتار بين أن يمسكها على هون أم يدسها في التراب، حيث وصفهم الحق عز وجل بقولــه: ﴿وَإِذ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

دور المـرأة المسلمـة في العصــور اللاحـقــة

أحمد زكي يماني بــرز دور المرأة المسلمة أكثر وضوحاً في مشـــاركتها الـــرجل فـــي الحياة العامة، وذلك في الســـنوات التـــي تلت وفاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك في العهد الأموي واستمر في ازدهاره. ثم بـــدأ المجـــتمع الإ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وأشكال الزَّواج المعاصِرة

محمد نبيل غنايم: أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، مستشار المجلس الأعلى للجماعات. محتويات المقال:أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعيثانيًا: أشكال الزواج المعاصرةثالثًا: مقاصد الشري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المساواة بين المرأة والرجل في ميزان الإسلام

الشيخ أحمد زكي يماني محتويات المقال:الأول: عن وضع المرأة في العهد النبويالثاني: عن دور المرأة المسلمة في العصور الـلاحقةالثـالـث: عن المـرأة في نطاق الزوجية ومقارنتها بالرجلأ – إبرام الزواجب – الحقوق والواجباتجـ – تعدّد ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة: مفهومها وطبيعتها

جميلة تلوت محتويات المقال:أولا: التعريف اللغويثانيا: التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة والامتداد العلائقي لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل1، لكن نجد م...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة وحفظ الإنسان

جميلة تلوت محتويات المقال:المبحث الأول- الحفظ الوجودي والاستمراريأولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوعثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسلالمبحث الثاني- الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكيةالمبحث الثالث: حفظ الانتماء البي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الاجتماع الأسري

جميلة تلوت المبحث الأول - مقصد الإحصان والعفافأولا- التعريف اللغويثانيا- التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة حصن وحضنالمبحث الثاني: مقصد السكنأولا: مفهوم السكنثانيا: الأسرة سكن ومسكنثالثا- السكن الأسري والاستقرار المجتمعيالمب...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مدونة الأسرة عند الطاهر بن عاشور من خلال كتابه مقاصد الشريعة

أحمد عوض هندي لدينا قانونان ينظّمان الأحوال الشخصية في الفترة الأخيرة: قانون 1 لسنة 2000م لتنظيم بعض إجراءات التقاضي فيما يخص الأحوال الشخصية، الذي أعاد تنظيم إجراءات التقاضي في دعاوى الأحوال الشخصية أمام المحاكم، ولدينا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد أحكام الأسرة عند الطاهر بن عاشور

جابر عبد الهادي الشافعي مقدمة يعتبر محمد الطاهر بن عاشور في نظر كثير من العلماء هو المعلم الثاني لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية بعد الإمام الشاطبي، ويعتبر كتاب ابن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية« بحق من أهم كتب ومراجع مقاص...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top