أحمد زكي يماني
بــرز دور المرأة المسلمة أكثر وضوحاً في مشـــاركتها الـــرجل فـــي الحياة العامة، وذلك في الســـنوات التـــي تلت وفاته عليه الصلاة والسلام، وكذلك في العهد الأموي واستمر في ازدهاره. ثم بـــدأ المجـــتمع الإســــلامي، بعـــد القرن الخامس الهجري، يدخـــل تدريجياً مرحلة التقهقر، ولكن بدرجـــات متفاوتة، وفي مناطق مختلفة. ولم يمنع ذلـــك الـــتقهقر ظهـــور شخصيات نسائية بارزة أضـــاءت ظلام الجهل والتخلف الذي بدأ يسود في بعض أنحاء العالم الإسلامي.
فــي الجهاد مثلاً، ذكرنا، فيما سبق، أمثلة لجهاد بعض الصحابيات بعد وفاته عليه الصلاة والســـلام، واستمر ذلك وبشكل أكبر حجماً وأبلغ أثـــراً. ففي بعــــض المعارك الكبرى، كاليرموك والقادســية، وصـــل عـــدد النسوة المجاهدات إلى بضعة آلاف امرأة. وكان لهن، ولا شك، أبلغ الأثر فــي تحقــيق النصر. فهذه أسماء بنت أبي بكر، بصــــحبة زوجهـــا الزبير بن العوام، في معركة اليرموك بقيادة خالد بن الوليد، تحارب على فرسها وبســـيفها تصــــول وتجول، إلى جانب أنها تخطــــب فب الرجال تحثهم على القتال1. وخولة بنـــت الأزور شاركت في معركة اليرموك وفتح مصر، وقاتلت الروم وهي ملثمة لا يظهر منها إلاَّ حـــدق عينها. وكان خالد بن الوليد يعجب من ذلك الفـــارس الذي يضرب ذات اليمين وذات الشمال، ويخـــترق صفوف الروم، ويختفي ثم يعود مرة أخــــرى إلـــى صـــفوف المسلمين. ولمــــا أزاح الفــــارس لـــثامه، دهـــــش الجمــــيع من أنها امرأة وأعجبوا بشجاعتها2. وهذه أم حكيم في المعركة نفسها مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وكان على قيادة فيلق ني طبه الدفاع عن قنطرة ومنع الرومان مـــن عبوره، فأصابه سهم قاتل، فاستشهد. وأراد الـــرومان مباغــتة المسلمين وعبولر القنطرة التي تفصل بين الجيشين، انتهازاً منهم لاستشهاد القائد عكـــرمة، فاندفعت أم حكيم وأخذت سلاح زوجها القتـــيل ومعهـــا فريق من نساء الصحابة، فقاتلن الرومان علـــى القنطرة، وردوهم على أعقابهم؛ فكرمها خالد بن الوليد وأطلق اسمها على القنطرة التـــي لا تزال تحمل اسمها حتى اليوم في فلسطين المحتلة3.
وكانت النسوة يمارسن أدواراً أخرى في المعارك. ففي معركة اليرموك، مثلاً، وضع خـــالد بـن الوليد النسوة على ربوة خلف الجيش، وأمرهـــنَّ بمـــنع المتراجعين بحثهم على العودة للقـــتال؛ فكـــنّ يضــــربن مــن يتراجع بالحصى والتراب، ويخطبن فيهم: "إلى أين تنهزمون يا أهل الإســـلام عن الأمهات والأخوات والبنين والبنات؟ أتريدون أن تسلوننا إلى أعـلاج الروم؟"4. فكنّ بذلـــك يلقنّ المتخاذلين دروسا في الثبات والإقدام. وهذه هند بنت عتبة، تضرب وجه حصان زوجها أبي سفيان، وهو يتراجع بفرسه تحت ضغط جنود الـــرومان، قائلة: "إلى أين يا أبا صخر ارجع إلى القـــتال وابذل مهجتك حتى تمحص ما سلف من تحريــضـــك علـــى رسول الله ﷺ. قال الزبير بن العوام: فلما سمعت كلام هند لأبي سفيـــان ذكـرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله ﷺ "5. ويذكر المؤرخون أن النساء، من شدّتهن على المتراجعين الذين ولوا الأدبار في تلك المعركة، جرحن خمسة مــنهم، وقتلن واحداً، وذلك بأعمدة الخيام. ويروي الواقـــدي علـــى لســــان مـــنهال الدوســـي – أحد المجاهديـــن في معركة اليرموك – قوله: " كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم"6.
ولا أظن أن التاريخ البشري قد سجل معركة كبيرة خاضها جيش من النساء ضد جيش كله من الـــرجال إلاّ فـــي معــــركة الرملة بفلسطين، التي خاضـــتها نساء المسلمين ضد جيش الرومان وانتصـــرن عليهم. فقد علم قائد جيش الرومان في مصـــر أن جيش عمرو بن العاص قد ترك تموينه والكثـــير مـــن عدة الحرب في الرملة، وأن الذي يحرسها فريق من النساء؛ فركب الأسطول، ونزل على الشاطئ، وحاصر النساء في الليل، وهو يعتقد أنـــه على وشك تحقيق غنيمة سهلة. ولكنه فوجئ بالنســـاء يبادرون إلى سلاحهن ويصرخن كالنمور، وكانت معركة ضاربة بين نساء المسلمين وجيش الـــرومان، مـــع الفارق في العدة والعدد والعتاد، انتهت بهزيمة جيش الرومان الذي تراجع مهزوماً مخلفــــاً وراءه أسرى وجرحى. وقد جُرحت خولة بنت الأزور في تلك المعركة، وسقطت أسيرة في أيدي الرومان حتى استنقذها عمرو بن العاص7.
لـــم يكـــن دور المرأة المسلمة مقصوراً على الجهـــاد، وهو، ولا شك، أهم نشاط في المجتمع يُظهـــر بجلاء قدر المرأة في أمر يظن البعض أنه مـــن اختصـــاص الرجل وحده، إذ برزت المرأة المسلمة في مجالات أخرى تُظهر أهميتها وعظيم قدرهـــا. والأمـثلة على ذلك لا عد لها ولا حصر، ولكـنــي سأقتصـــر على إيراد بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، وهي المصـــحف الشريف حين جمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه وضع عند أم المؤمنين حفصة، رضي الله عــنها، وبقيت نسخته الوحيدة عندها طوال خلافة أبـــي بكــــر وخـــلافـــة عمر رضي الله عنهما8. والقـــرآن هـــو أقدس مقدساتنا وأهم ما يبنى عليه وجود الإسلام وتنبثق منه شريعته.
وفـــي مجال الممارسة السياسية فإن المرأة المســــلمة خاضـــت مجالات السياسة بكافة أنواع الممارســـات، فقد قادت أم المؤمنين عائشة جيشاً، لـتعـــبر عــن رأيها السيـــاسي في اغتيال الخليفة عـــثمان بــــن عفـــان رضي الله عنه . وكـــان كثير من النساء يمارسن نشاطاً سياسياً خطابياً ضد معاوية بن أبي ســـفيان، ونصــرة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكـتـــب الــتاريخ مليئة بقصصهن في جدلهن مع معاوية عندما استقر لـــه الأمر وآلت إليه الخلافة. ومنهـــن ســـودة بنـــت عمارة بن الأشتر، وبكارة الهلالــية، والزرقاء بنت عدي بن غالب بن قيس الهمذانـــية، وعكرشــــة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمـــية الحجونية، وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب. ولا حاجة لذكر ما دار بينهن فرادى وبين معاويـــة مــــن نقاش يظهر فصاحتهن وبلاغتهن، ويعـــبر بوضــــوح عن قوة الشخصيـــة من جهة والبراعة السياسية من جهة أخرى9.
وهند بنت زيد الأنصارية، فتحت دارها في العــراق ليكون نادياً سياسياً لاجتمعات معارضي معاويـــة؛ حيـــث كان الرجال يرتادونه للتشاور. وكانــت هند امرأة بليغة قوية الحجة والبيان، أتى ابــن جريـــر علـى ذكـــرها ووصف نشاطها وبلاغــتها10.
وتأتــي في مقدمة النساء المسلمات ممن قمن بنشاط سياسي مؤثر وقوي أم كلثوم بنت علي بن أبــي طـالب رضي الله عنه التي صاحبت علي بن الحسين بن علـــي إلـــى الكوفـــة سنة 61هـــــ. وكانت خطبها السياسية قوية المفعول والأثر في نفوس سامعيها، حـــتى وصــفها الإمام حذيم الأسدي قائلاً: "لم أر خفـــرةً والله أنطق منها كأنما تنزع عن لسان أمير المؤمنين علي. وأومأت إلى الناس أن اسكتوا فـــارتدت الأنفــــاس وسكنت الأجراس وتكلمت فانهالت دموعهم على لحاهم"11.
في حقل العلم والأدب، كانت المرأة المسلمة ذات بـــاع طويل. فهناك سكينة بنت الحسين12، الأديـــبة الناقدة، التي كانت تتذوق الشعر، وتفتح دارهــــا للشـــعراء والأدباء، وتجالس الأجلاّء من قـــريش فـــي المديـــنة المنورة، إلى جانب ولعلها بالموسيقى.
وهـــناك مــــن الشاعرات المسلمات الكثيرات ممن ورد ذكرهن في كتب الأدب العربي، منهن: ولادة بنت المستكفي، وعليّة بنت المهدي، وحمرة بنت زيادة، وعائشة الباعونية، والخنساء، وعائشة بنـــت طلحة بن عبيد الله، التي كانت أدبية فصيحة اللســــان عالمة بأخبار العرب، تستقبل الرجال ولا تحتجـــب عنهم. وعندما قال لها أنس بن مالك: إن القوم يريدون أن يدخلوا عليك قالت: "أفلا قلت لي فألبس أحسن ثيابي"13.
في علوم الدين ورواية الحديث فقد اشتهر مـن النســــاء الكثيرات. يقول الحافظ الذهبي في كتابه (مـيزان الاعــــتدال): إنه لا يعلم امرأة اتهمت في روايـــتها للحديــــث، ولا من تركها المحدثون14. ونبدأ بميمونة بنت سعد، مولاة رسول الله ﷺ التي قال عنها ابن الأثير: إن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه تلقى الحديـــث عنها15، وذكر الذهبي أن أبا بكـــر الخطيب البغدادي قرأ (البخاري) بمكة على كـــريمة المروزية16، التي كانت من المحدثات، وأن الحافظ بن عساكر كـان يقرأ الحديث عن بضع وثمانيـــن امـــرأة من راوياته17. ومحمد بن أبي شـــامة المـــؤرخ، قرأ (البخاري) على أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب18. وفاطمة بنت عباس، كانت عالمة فقهية زاهدة واعظة، لها أثرها العظيم فـــي نساء مصر ودمشق19. وأخت المزني كانت تحضر مجلس الشافعي20؛ وقد نقل عنها الرافعي في الزكاة. ونفيسة بنت الحسن بن زيـد بـن الحسن ابن علي بن أبي طالب كان الشافعي يصلي بها في رمضـــان، وقد صلّت هي على جنازته حين مات، بعد أن طلبت إدخال الجنازة في بيتها21. وفاطمة بنـــت عبد الرحمن الحرانية الصوفية، سمعت عن أبـــيها الحديث، وروى عنها ابن أخيها 22. وكانت الســـيدة شُـــهدة، التي لقبت بـ (فخر النساء) في القــــرن الخـــامس الهجري، تلقي في مسجد بغداد دروســـاً في الأدب، كمـــا كانت تدرس التاريخ اللإسلامي، وكان يحضر دروسها كثير من العلماء الأفاضـل23. والسيدة عائشة بنت أحمد بن قادم الأندلســــية، لــــم يكن في زمنها من يماثلها علماً وفضـلاً، كما كانت تجيد كتابة المصاحف24. والفقهية الحنبلية ست الملوك فاطمة بنت علي بن الحسـين بـن حمزة، التي أجازت بعض علماء عصرها في قراءة سنن الدارمي25.
خصـــص المؤرخ المكي الفاسي، فـي كتابه (العقـــد الثميــــن في تاريخ البلد الأمين) فصلاً عن النساء اللاتي درس عليهن، وترجم لهن، وحوى مائتين وخمسين ترجمةلأولئك العالمات والشيخات الفاضلات من نساء مكة أو ممن وفدن إليها وأقمن بها 26.
ترجم عمر بن فهد الهاشمي المكي في كتابه (الــدر الكميــــن بذيل العقد الثمين في تاريخ البلد الأميــــن) لمائتيـــن وست وثمانين عالمة مكية من اللواتــــي أُجزن واسـتُجزن. كما ترجم الشيخ محمد ابــــن عــــبد الله بــــن حميد، مفتي الحنابلة في مكة المكرمة، لسبع وثلاثين من عالمات الحنابلة، لعل مـــــن أبرزهــــن العالمـــة الشهيرة فاطمة بنت حمد الفُضَــــيْلي الحنبلـــي الزبـــيريـــة، والمعروفة بـــــ (الشـيخة الفضـــيليــة) بضـــم الفاء وفتح الضاد وإســـكان الــياء. وهــــي من أهل القصيم، ولدت بالزبير ودرست فيها، ثم انتقلت إلى مكة المكرمة فأصـبحت من كبار عالماتها، وكتبت كتباً كثيرة في فــنون شـتى، وجمعت كتباً جليلة في سائر العلوم، وكــان يــتردد عليها غالب علماء مكة، يُسمعونها ويَسمعون منها؛ وقد أجازتهم وأجازوها؛ وتوفيت، رحمها الله، ودفنت بمكة المكرمة. وانتقلت مكتبتها إلـــى المديــنة المنورة، وضاع أثرها بالرغم من اهـــتمام الشيخ ابن حميد بها، الذي لم يليق لديه من تلك المكتبة إلا القليل. وقد ترجم لها وذكر وفاتها سنة 1247 هــ27.
وقد أحسن الأستاذ إبراهيم بن حمود المشيقح، مـــن جامعــة الإمـــام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، في كتابه (تاريخ أم القرى ومكانة المرأة العلمية فيها من خـلال الدر الكمين لابن فهد)، حيث ذكر في إيضاح المكانة العلمية لنساء مكة العـالمات اللواتي درسـن وبرزن، وكن نبراساً يضيء عقول علمـــاء مكة المكرمة بما وهبهن الله عز وجل من العلم والديــن فـــي القـــرن التاسع الهجري، حين كانت أوربا تعيش تحت سحب الجهل الدكنة 28.
والحديث عن دور المرأة المكية في التدريس، وعــــن المراكـــز المرموقة التي تبوأنها، موضوع يحتاج إلى مؤلَف منفرد، ليس هذا الكتاب موضعه. تاريخ الإسلام مليء بالمسلمات اللاتي تبوأن الحكم أو مارسن العمل الإداري. منهن السيدة لبنى التي عينها الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الناصر على رئاسة ديوانه، وكانت تتولى كتابه رسائله إلى الــولاة والمســؤولين، إلـــى جانب كتمان أسراره وإدارة أعمالــه، وقـــد اشتهرت بالبلاغة والشعر والعلـــوم والـفــنون29. والملكة أروى بنت أحمد، زوج الملــك الأكــرم، التي امتد حكمها في اليمن نحــواً مـــن ألربعين سنة في أواخر القرن الخامس الهجري30. وقد أُلـفت عنها الكتب وأعدت رسائل جامعــــية تبحـــث في إنجازاتها العلمية والإدارية والسياســـية. والســـيدة ضيفة خاتون، التي تولت الحكم في حلب سنة 634هـــ بعد وفاة أبيها الملك العزيـــز، وهـــي ابـــنة أخ السلطان صلاح الدين الأيوبـــي، وظلت في الحكم ست سنين31. وفاطمة بنت الحسن بن محمد علي ملكة صنعاء في اليمن، التـــي اســـتولت على صعدة ونجران32. وصفوة الدين باديشاه بنت قطب الدين، سادس ملوك الدولة التطفيلية، ملكة كرمان33. وهناك ملكتان في الهند تولتا الحكم في أثناء الحكم الإسلامي، هما سكندر بــيكم وشاه جيهان34. والإمبراطورة نور جهان، حكمـــت شـــمال الهند سنة 1620م، وكان اسمها منقوشـــاً علـــى النقود الهندية، واشتهرت بحزمها ورجاحـــة عقلهـــا وحســــن إدارتها لشؤون دولتها السياســـية والعســـكرية35. وفي إندونيسيا تولت الحكم عدة نسوة بين عام 1641م وعام 1688م، منهـــن صفـيـــة الدين تاج العالم36، ونقيـــة شاه، وعنايـــت شاه، وكمالت شاه37.
خلاصة القول: إن الكتابة عن دور المرأة في العصــور اللاحقـــة للعصر النبوي تستغرق حيزاً ضخماً لو أردنا أن نوفي الموضوع حقه. وما سبق أن أوردنـــا من أمثلة تعطي القارئ صورة حقيقية تصـــد هجمة الذين يريدون أن تبقى المرأة حبيسة دارها، محـــرومة من أداء دورها الذي أراده الله لها.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الإسلام والمرأة_ النسخة العربية، 2004م، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص57-78. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |