مدونة الأسرة عند الطاهر بن عاشور من خلال كتابه مقاصد الشريعة

شارك:

أحمد عوض هندي

لدينا قانونان ينظّمان الأحوال الشخصية في الفترة الأخيرة: قانون 1 لسنة 2000م لتنظيم بعض إجراءات التقاضي فيما يخص الأحوال الشخصية، الذي أعاد تنظيم إجراءات التقاضي في دعاوى الأحوال الشخصية أمام المحاكم، ولدينا قانون 10 لسنة 2004م، وهو قانون محاكم الأسرة الذي أنشأ محاكم الأسرة وجمع قضايا الأسرة كلها في محكمة متخصصة، حلت محل المحاكم الشخصية التي كانت شرعية، والمحاكم الابتدائية التي كانت تأخذ جزءًا من الدعاوى، والمحاكم الجزئية والتي كانت تأخذ جزءًا آخر حتى عام 2004م.

فقد تم إنشاء محاكم متخصصة تفصل في منازعات الأحوال الشخصية، وجاء بتنظيم شامل لهذه المحاكم، وأصبحت القضايا بين الزوجين تنظر في محكمة واحدة أمام دائرة واحدة محددة، وهذا فيه نوع من التخصص، ويخفف الكثير على الأزواج، وسنأخذ ملامح هذين القانونين ونناقش مدى فائدة محاكم وقوانين الأحوال الشخصية.

قانون 1 لسنة 2000م نظم الإجراءات، وقانون 10 لسنة 2004م أنشأ محاكم الأسرة، فلدينا الآن من الناحية الإجرائية قانون كامل ينظم الإجراءات التي يجب اتباعها في محاكم الأسرة، ولدينا محاكم متخصصة لا تنظر سوى دعاوى الأسرة، وتؤلف من دوائر ابتدائية كلها، والاستئنافية أيضًا تتبعها، تتكون من ثلاثة قضاة أو مستشارين، والتنفيذ يتبع محاكم الأسرة، وتنفيذ هذه الأحكام والأوامر على العرائض تنظر في محاكم الأسرة.

ومن المعروف أن التخصص مطلوب حتى في العمل القضائي، فعندما يعمل القاضي طوال عمره في الجنائي يكون أفضل، ولكنه لم يعمل به في مصر لقلة العدد، وفي مشاكل مادية معينة. ويمكن أن يكون لاعتبارات أخرى سياسية؛ لإشغال القضاة في أمور متعددة، وهذا يقلل قدرة القاضي على الفصل.

فمحاكم الأسرة نوع من أنواع التخصص، وهذا يحسب لهذه القوانين. ولكن ماذا فعل هذان القانونان، وهل بهما مزايا أم عيوب؟

بداية قلنا: إنها محاكم متخصصة تنظر جميع الدعاوى، فلم يعد يمكن رفع دعوى أحوال شخصية في غير محاكم الأسرة، وإذا رفعت في مكان آخر يحكم بعدم الاختصاص، فأصبحت دعاوى الأسرة كلها من طبقة واحدة، ولم يعد هناك دعاوى تذهب للجزئي، وأخرى للابتدائي، جميع الأحوال الشخصية، والولاية على النفس، والولاية على المال، أصبحت دعاوى الأسرة التي لها تشكيل واحد فقط من دوائر من ثلاثة قضاة.

وأصبح هناك نيابة متخصصة، هي نيابة شئون الأسرة، وكانت موجودة قديمًا، وتسمى النيابة الحزبية التي كانت تشرف على شئون القصر، ولكنه طور فيها فجعلها نيابة متخصصة وتابعة لمحاكم الأسرة وهي التي تنظر في مختلف الأمور.

ومعروف أن النيابة العامة في القضايا الجنائية هي التي ترفع الدعوى، والمدني نادرًا أن ترفع الدعاوى، ففي الأحوال الشخصية جعلت لها نيابة خاصة لشئون الأسرة لترفع الدعاوى، وهذا نوع منالتخصص ولها اختصاصات عديدة، وهذا من مزايا هذا القانون أن نيابة شئون الأسرة أصبحت متخصصة في مسائل الأحوال الشخصية وأوسع لها اختصاصاتها، فلها أن ترفع دعاوى عديدة، دعاوى حماية القصر، دعاوى عديمي الأهلية، دعاوى الحجر، ومتابعتهم، وليس مجرد رفع الدعاوى فقط، ولها أن تتدخل في دعاوى أخرى لم ترفعها، والتدخل يكون لإبداء الرأي، ففي مسألة قانونية ما القاضي يصدر الحك، والنيابة تصدر مذكرة برأيها يساعد القاضي في إصدار الحكم باعتبارها من معاوني القضاء، وللنيابة أن تقدم طلبات ودفوعًا، ولو صدر الحكم ضدها فإنها تستأنفه، وإذا صدر لمصلحتها تطالب بتنفيذه، ولا تستطيع التنازل عن القضية؛ لأنها لا تمثل مصلحتها وإنما تمثل المجتمع وعديمي الأهلية.

هذا إذا كانت مدعية فلها كافة حقوق الأسرة، وإذا كانت متدخلة فإذا كانت الدعوى من الزوج على الزوجة أو العكس، ترسل عضو نيابة يمثلها في محكمة الأسرة، ويكون عضوًا دائمًا، وتعطي في جميع الأحوال رأيها في الدعوى وماذا تقترح على المحكمة، هل ستحكم على نحو معين؟ أم تعطيها تفسيرًا لنص محدد، أو مشروع قرار في النزاع المعروض، فلابد أن تعطي رأيها في مذكرة مكتوبة.

والدعاوى التي تتدخل النيابة فيها، على قلم الكتاب بمحكمة الأسرة أن يخطر النيابة للتدخل، وإن لم يخطرها فإن الحكم الصادر يكون باطلًا، ويجب على النيابة التدخل ليبدي عضو النيابة رأيه القانوني للمحكمة بمذكرة مكتوبة.

أما غير هاتين الحالتين فلا ترفع دعوى أنها تتدخل ويجب أن تتابع قلم كتاب محكمة الأسرة أن به مشاكل كثيرة في قيد الدعاوى، ومستندات ناقصة وأوراقًا مطلوبة، والمادة 55 التي عدلت عام 1995م بأن قلم الكتاب إذا وجد المستندات غير مرفقة، أو البيانات غير كاملة، فله أن يمتنع عن قيد الدعوى، ويعرض الأمر على قاضي الأمور الوقتية.

إن الميزة في محاكم الأسرة أنه يوجد إشراف للمحكمة، والنيابة ترفع الدعاوى وتتدخل في بعضها وتتابع أقلام الكتاب، وهذه ميزة، ويمكنها استعجال قلم الكتاب وتخطر قاضي الأمور الوقتية.

فلا شك أن من المزايا وجود محاكم متخصصة ونيابة متخصصة لرفع الدعاوى، فلها أن تتدخل وتبدي رأيها بمذكرة مكتوبة، وتشرف على أقلام الكتاب، وتتلقى بلاغات القصر، وتركات الأشخاص المتوفين، وبعض الأشخاص الضعاف الذين لا يستطيعون التصرف، تتلقى هذه البلاغات، أو خطر على مصالح جنين أو طفل، أو شخص ناقص الأهلية أودع مستشفى نفسية، يجب أن تبلغ النيابة حتى تقوم بواجبها وترفع دعوى لترعى مصالحه، فمدير أي مستشفى مسئول عليه أن يبلغ عن مثل هذه الحالات وإلا فإنه يعاقب جنائيًا.

من ملامح هذين القانونين وجود مكتب تسوية المنازعات الأسرية، وهذا يختلف فيه البعض، ومعروف أن أغلب الدعاوى التي ترفع بين الزوجين كلها أو أغلبها كيدية، فالمشرع إدراكًا منه لهذه المسألة أنشأ هذا المكتب ليتدخل في الصلح.

إن أغلب دعاوى الأحوال الشخصية يجب أن سبقها تسوية عن طريق مكتب تسوية المنازعات الأسرية، ويجب على الزوجين تقديم طلب في مكتب تسوية المنازعات الأسرية في محكمة الأسرة، وإذا رفعت الدعوى من دون مرورها على هذا المكتب يحكم فيها بعدم القبول، أو تحكم المحكمة بالإحالة لمكتب تسوية المنازعات، وأغلب القضاة يحكم بعدم القبول. وعلى رافع الدعوى أن يرجع لهذا المكتب إجباريًا، خاصة في دعاوى الخلع والانفصال.

ومكتب تسوية المنازعات يبذل جهده ليصل بالقضية إلى الصلح بدلًا من عرض الأمر على محكمة الأسرة، ويتكون هذا المكتب من خبراء نفسيين واجتماعيين وأخصائيين، وكل مكتب من هذه المكاتب له رئيس. وإذا انتهى الأمر بالصلح يُعمل محضر يوقع عليه الطرفان، ويكون سندًا تنفيذيًا في حالة امتناع الزوج مثلًا عن دفع نفقة معينة تم الاتفاق عليها في هذا المحضر، فقدم الزوجة هذا المحضر للمحضر لينفذ به. وهذا أيضًا من مزايا القانونين المذكورين آنفًا.

وفكرة الصلح فكرة مبتكرة ومفيدة، وكثير من القضايا تحل بهذه الطريقة، وإن لم تحل خلال خمسة عشر يومًا ترفع القضية للمحكمة لتنظر في الدعوى، وقد تكون المشكلة في هذا المكتب أن المطلوب من هيئة المكتب أن تكون أكثر فاعلية، فحتى الآن يدخل في تشكيل هذا المكتب الوساطة، فمطلوب حسن اختيار عناصر هذا المكتب وتأهيلهم؛ لأنها فكرة جيدة جدًا توفر عبئًا كبيرًا وجهدًا على القضاة والمحاكم، ويعمل سند تنفيذ كأنه قاضٍ يصدر حكمًا، فلابد من حسن اختيار أعضاء هذا المكتب وتدريبهم والرقابة عليهم، والنيابة تشرف على هذا المكتب.

ومن مزايا قانوني الأسرة أن بهما صندوق تمويل الأسرة، وهو تابع لبنك ناصر، وهو من الأشياء الممتازة، فأغلب المشكل تأتي في النفقة، فإذا صدر للزوجة حكم فلا شأن لها بالمحكمة ولا الزوج، فهي تأخذ الحكم وتذهب به إلى بنك ناصر لتأخذ أموالها من البنك على اعتبار أن هذا الصندوق تابع له، ثم يرجع البنك بعد ذلك إلى الزوج. وهذه فكرة جيدة.

وهذا الصندوق له تمويل عن طريق عقود الميلاد وعقود الزواج، وله مصادر من الدولة فهي تدعمه، كما أن له تبرعات، والبنك بعد ذلك يرجع على الزوج بنظام الحجز الإداري، فيخصم للموظف أو العامل من راتبه، فيخصم من مرتب الموظف ويودع في بنك ناصر، ولو كان الزوج غير موظف يتم الحجز الإداري على الزوج، ولكن يطلبون منه أولًا الدفع وإلا يتم الحجز الإداري عليه.

ولكن من السلبيات أن المبلغ يكون في حدود 300 جنيه، حتى لو كان المبلغ المحكوم به ألف جنيه مثلًا، وهذا من أوجه النقص الموجهة للنظام نفسه، فكان لابد من دفع المبلغ كاملًا؛ لأنه مبلغ غير كافٍ.

والشيء الآخر أنه عندما يخصم من الزوج ينظر لإجمالي راتبه وليس إجمالي دخله، فيمكن أن يكون راتبه 500 جنيه فيخصم نصف الراتب 250 جنيه، وله دخل آخر بالآلاف، فكان لابد للمشرع أن ينظر إلى الإجمالي وليس للمرتب فقط.

وحتى لا نأخذ العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة كراهية أو تفاضل أيهما أفضل، ولكننا لابد أن ننظر لكل فرد فنعرف حقوقه والتزاماته، وعلى ضوء ما جاءت به الشريعة الإسلامية، فمعروف أ، الزوج ملزم بالإنفاق على زوجته حتى لو كانت تعمل، وألا يأخذ من راتبها شيئًا، وهو ملزم أن يأتي لها بخادمة ومرضعة، وإذا عملت المرأة فهو من سبيل الفضل وليس الإجبار.

فهناك أناس يهاجمون قانون الخلع، وقانون حق الرؤية، ويهاجمون محاكم الأسرة ويقولون: إن الرجال قد ضاعت حقوقهم. ويقولن: كيف لا يكون للزوجة طاعة وتطلبها في بيت الطاعة، وينفذ عليها حكم جبرا؟ وهذا ليس منطقيًا أن تغصب زوجة على الرجوع لبيت زوجها جبرًا، ولا ينفق مع الشريعة الإسلامية، والخلع أصله في الشريعة الإسلامية، فليس من المنطقي ولا من الشريعة أن تجلس زوجة مع زوجها دون إرادتها غصبًا وجبرًا.

فليست المرأة هي التي وضعت القوانين ولا الرجل، فهناك نساء كثيرات المشاكل، وهناك رجال أكثر مشاكل، فالحكم على هذه الأمور ليس من منطلق الانحياز للرجل أو المرأة، إنما يحكمنا روح الشريعة الإسلامية، ومبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، ولا شك أن الرجال قوامون على النساء في أمور معينة، ولكنهم سواسية في الدين وأمام القانون وأمام المحاكم.

ومن الأشياء الجيدة التي فعلها القانون، والذي يمشي من الاتجاهات الحديثة والذي نأمل أن تكون موجودة في قوانين المرافعات تحديدًا عندما يقول: إن محكمة الأسرة عليها واجب تبصرة الخصوم بما يتفق مع حسن سير العدالة. وهذا من المبادئ الحديثة في القوانين الجديدة كلها، وياليت المشرع فعلها في قانون المرافعات والجنائي، فنحن يحكمنا أن الخصوم ملك الخصوم في المدني والتجاري والأحوال الشخصية، يسيرونها حسبما شاءوا، يوقفونها، يعطلونها، يتركونها، يتنازلون... إلخ. فالقاضي يدير الخصومة ولا يوجهها، والقاضي على الحياد.

فالمفترض أن القاضي يعلم القانون، بينما الوقائع مهمة الخصوم، والقاضي ينزل حكم القانون على هذه الوقائع، ولكن ليس له أن يلفت نظر الخصوم إلى واقعة، وليس له أن يطلب منهم التمسك بنص معين، أو إثابة واقعة معينة، هنا المفهوم الموجود في القضاء المدني والجنائي والتجاري.

لكن محاكم الأسرة، أو قاضي محكمة الأسرة، يبصر الأطراف أو الخصوم بما يتفق مع حسن سير العدالة، ولكن لم يفرض واجبًا، وأعطى القاضي دورًا إيجابيًا أكثر، حيث يلفت نظره إلى وقائع أو يسأل عن وقائع، ولا يستطيع القاضي المدني فعل ذلك إلا الثابت بالأوراق، ولكن بمحاكم الأسرة يمكن ذلك، ولتكون الحقيقة واضحة أما القاضي، فالخصوم أحيانًا يكونون قاصدين عمدا أو سهوا، ويمكن أيضًا للقاضي أن يبصر الخصوم على نصوص قانون، أو يوجههم إلى دفع معين، والقاضي ليس له الحق أن يفعله من تلقاء نفسه، والقاضي الدني لا يستطيع فعل ذلك التبصير بالقوانين، أو إرشاد الخصوم للدفع بعدم الاختصاص، أو أي إجراء آخر، ولكن قاضي الأحوال الشخصية يستطيع ذلك، لأنه لو حكم بسند من نص أو واقعة حدثت ولم يشر إليها الخصوم بالأوراق الخاصة بهم يكون الحكم باطًلا، ويكون قد قضى بعلمه الشخصي، وهذا ممنوع.

ولكن يؤخذ على هذه النقطة أن المشرع لم يقل: يجب على القاضي. وهذه ترجع للسياسة التشريعية؛ لأنه لو قال المشرع: يجب وحكم القاضي دون أن يبصر الخصوم يكون الحكم باطًلا. ولكنها خطوة جيدة كبداية لتشريع أفضل.

ومن الأشياء الجيدة التي وضعها المشرع أن المحكمة تسترشد بمصالح الطفل. فلو كان هناك نزاع بين الأب والأم في الأطفال فتقوم المحكمة بعمل ما هو مصلحة للأطفال ولا ينظر إلى مصلحة الخصوم، وإذا كانت المصلحة مع الأم فيكونون معها، أو كانت مصلحتهم مع الأب فيكونون معه، وكأن المشرع جعل القاضي ولي مصلحة الأطفال.

وصدر قانون الطفل، وكان هدفه الأساسي أن يرعى مصالح الصغار، ولكن الغريب فيه أن الطفل في هذا القانون يصل إلى سن 18 سنة! وهل هو في سن 17 سنة يعتبر طفلًا؟!

ففي القانون أن من بلغ سنه 15 سنة له أن يرفع دعاوى، وله أهلية خاصة في التصرفات الأهلية، ومن بلغ 16 سنة من البنات يمكن أن تتزوج، ومن بلغ 18 من الأولاد يمكن أن يتزوج، فكيف يكون طفلًا ويتزوج في قانون الطفل؟!!

فالاسترشاد بمصالح الأطفال هذا يعطي للمحكوم فرصة أن تصدر حكمًا أكثر عدلًا.

ومن سمات هذا القانون، ومن الحماية التي أعطاها، أن جعل دعاوى النفقات من دون رسوم قضائية تخفيفًا على الزوجة، أما إذا رفعت دعوى لإسقاط النفقة سيرفعها الزوج فإنه يدفع لها رسوم.

ومن طبيعة الأحوال الشخصية أن بها طرفًا ضعيفًا، وأنه دائمًا ينظر للزوجة أنها الطرف الضعيف في الخصومة في الأحوال الشخصية، وهناك من يفسر ذلك أنه انحياز للزوجة.

وهناك أيضًا دعوات ترفعها الزوجة من دون توقيع محام، ووجود المحامي ضروري، كما في القانون: كل طلب دعوى قيمته أكثر من 50 جنيه لابد من توقيع محام، وهذه مسألة بديهية، فلابد من وجود محام لحماية الخصوم، ولكتابة الدعوى بشكل صحيح، والحكومة عملت مكتب مساعدة ليوكل لها محامياً، حتى لا تكتب الدعوى خطأ ويضيع حقها لجهلها بالقوانين والصيغ القانونية  .هذه بعض المزايا مع بعض العيوب.

وجاء قانون سنة 2000م في المادة 20 بالخلع، وهناك من يرى أن به مزايا، ويقول البعض: إنه عيب وهدم للأسرة. والقاضي يكون له سلطة تقديرية وحكم لا يطعن فيه. ويرى البعض أن كل هذا تفكيك لكيان الأسرة.

هذا القانون كان يفكر فيه رجال الشريعة الإسلامية، وكان مسألة خلافية، ومن ضمن الآراء الاستناد إلى الحديث المشهور في المرأة التي جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها، وأنها لا تعيب على زوجها لا في خلق ولا في دين، ولكن لا تطيق العيش معه فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟1«. فاستند على ذلك أن الزوجة إذا لم تطق الحياة مع زوجها يمكنها أن تخلعه.

والخلع مأخوذ من الشريعة، لكن التسهيل الذي أتى به المشرع في الخلع في حد ذاته، فهو لم يأخذه من الشريعة كما هو، وكنا نظن بعد صدور قانون الخلع أنه سترفع حوالي 50 أو 60 ألف قضية في عشر سنوات، ولكن تبين أن السنة الواحدة ترفع حوالي 50 أف قضية خلع، يعني نصف مليون قضية في عشر سنوات وفي تزايد، والمشرع لما عالجها عام 2000م لم يكن قانون محاكم الأسرة قد صدر، وكانت الزوجة عندما تختلف مع زوجها يمكنها رفع دعوى تطليق تأخذ سنة أو اثنتين أمام المحاكم الابتدائية، وسنة أو اثنتين أمام الاستئناف، ولا تتزوج حتى تفصل محكمة النقض التي متوسطها في الحكم 5 سنوات، وكان يقال: طالما أخذت الزوجة حكمًا نهائيًا بالتطليق تقوم بالزواج، طبعًا لا؛ لأنه يمكن أن تقوم محكمة النقض بإلغاء الحكم حتى لا تصبح على ذمة اثنين، أو يكون لديها أولاد من الزوج الثاني!! فما تكييف هذا الزواج وهؤلاء الأولاد!! فقيل: لا تتزوج حتى تفصل محكمة النقض في الطعن.

فمنع المشرع الاستئناف في الخلع حتى لا يكون هناك نقض. ويختلف الخلع عن التطليق؛ فالتطليق بإرادة الزوج، والخلع بإرادة الزوجة، كأن يريد أن يكون هناك توازن بين الزوج والزوجة، فكما له الحق في التطليق فلها الحق في الخلع.

والزوجة عندما تريد رفع قضية خلع تذهب لمكتب فض المنازعات الأسرية وتقول الجملة المعروفة: «أخشى ألا أقيم حدود الله«. وبعد خمسة عشر يومًا إذا لم يأت مكتب فض المنازعات بنتيجة بالصلح أو الاتفاق، يتم تحويلها لمحكمة الأسرة؛ فمحكمة الأسرة تقوم بالصلح، وتقوم بالتحكيم، فإن أصرت الزوجة على موقفها وجب عليها أن تقضي بالخلع.

والعيب في هذا الخلع أن المشرع جعله بإرادة المرأة وحدها، حتى لو أراد الزوج الصلح والتراجع، والقاضي ليس له سلطة تقديرية، ففي المادة 20 أنا لزوجة إذا أصرت على موقفها في مكتب المنازعات وفي المحكمة، وردت كل شيء لزوجها، يجب على المحكمة أن تجيبها لطلبها، وهو حكم لا طعن فيه بالاستئناف، وبالتالي لا يوجد به نقض. ويمكنها الزواج بعد انقضاء عدتها.

والخلع ليس مخالفًا للشريعة، ولكن به تيسيرات عديدة، منها مطلق إرادة الزوجة، وأنها لا تأتي بشهود، ولا تفصح عن سبب خشيتها ألا تقوم بحدود الله، وليس للقاضي أي سلطة تقديرية، ولا يوجد طعن ولا نقض، يعني أن الزوجة تأخذ موقفًا واحدًا منفردة تهدم به الأسرة كلها.

وهناك من الأزواج عندما يرفع عليه دعوى خلع يعتبر هذا طعنًا في كرامته وشرفه، فيقوم برميها بالزنى أمام المحكمة، وينكر نسبه للأولاد، ويبدأ في عمل تحاليل (DNA) وهو تحليل مكلف جدًا، لو عمله في معامل خاصة، وإذا حلل في جهات حكومية يأخذ سنة أو سنتين، ويهرب من التحاليل، وتدخل الأسرة في مشاكل لا حصر لها بسبب الخلع.

ولا يجوز عرض قضية الخلع مباشرة على المحكمة، بل لابد من عرضها أولًا على مكتب فض المنازعات؛ لأن المحكمة ستحكم بعدم القبول أو إحالتها لمكتب فض المنازعات، فيقوم المكتب بمحاولاته، وإذا نجح يتم عمل محضر بذلك، وينتهي الموضوع، وإذا أخفق تحيلها للمحكمة، والمحكمة أيضًا تسعى في إجراء صلح وتحكيم.

وإذا أصرت الزوجة تقوم برد كل شيء وترد المهر وتذكر ذلك في صحيفة الدعوى وتقول أمام المحكمة، وقبل أن يصدر الحكم تكون ردت عليه ما دفعه إليها، أما الهدايا فغالبًا لا ترد؛ لأنها تكون ملكية، ومن أسباب نقل الملكية الهبة، فالشبكة والهدايا تعتبر هبة من الزوج لزوجته. أما المنقولات فلو كان الزوج اشتراها فعليها أن ترجعها لزوجها، ولو كانت الزوجة التي اشترتها لا تردها، والمهر يرد كما هو مكتوب في عقد الزواج، وإذا كان دفع غير مكتوب يمكنه إثبات ذلك بورق إذا كان مكتوبًا عنده، أو بشهود، أو بطلب يمين، ويطلب إحالة الدعوى للتحقيق ليثبت قيمة المهر الذي دفعه، والقاضي ليس له سلطة تقديرية. والحكم يصدر بعد شهرين أو ثلاثة، وهو حكم نهائي لا استئناف له ولا نقض فيه.

ومن الأشياء التي عملها القانون أنه يسر الزواج وأعطى أهلية للطفل إذا بلغ 15 سنة أن يرفع دعاوى، وأعطى له أهلية رغم صغر سنه، وقال: إذا كان سن الزوجة أقل من 16 أو الزوج أقل من 18 لحظة رفع الدعوى لا تقبل.

أما الآن فقد رفعها إلى 18 سنة للزوجة، وأصبحت 18 للاثنين، وهذه بها مجموعة متناقضات، فقديمًا كان سن زواج البنت 14 سنة في الأربعينات، ثم تم رفعها لسن 16، ثم الآن لسن 18. وبعض الشرعيين يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة عائشة رضي الله عنها وسنها تسع سنوات2. فالمشرع يحتار بين أمور كثيرة، فهو يريد أن تكون المرأة لديها نضج عقلي وعاطفي، والمرأة هي التي تحمل هم الحمل والوضع والرضاعة وتربية الأولاد، وترعى البيت وترعى الزوج، والزوج ينفق فقط على البيت، والبيوت معظمها تخرب عندما تموت الأم. فهناك أماكن في القرى تزوج البنت عندما تبلغ 14 سنة، وأحيانًا أو نادرًا في المدن الكبرى، فلابد من نضج للبنت حتى تقوم الحياة وتستمر، وحالات الطلاق حديثًا وصلت لنسب عالية جدًا. وبعض الناس يقوم بالتحايل على القانون، ويقوم بتسنينها حتى يتم التزويج أقل من 18 سنة.

أما سن الرجل 18 فهو معقول، ولكن بالنسبة للبنت فليس معقولًا، و18 سنة ليست كافية لنضج البنت.

وإذا رفع أحد الزوجين دعوى على الآخر – متزوجين أقل من 18 – ولحظة رفع الدعوى، كان سنهم أقل من 18 سنة تكون الدعوى غير مقبولة. غير الزواج العرفي الذي لا يسمح إذا أنكر أحد الزوجين، أما إن لم ينكر أحد الزوجين الزواج فتكون الدعوى مقبولة.

الزواج العرفي من الأوضاع الغريبة، فتكون مأساة؛ لأن الشباب يلجأ إليه لعدم وجود عمل، وشقق، ... إلخ فيتم هذا الزواج، فلابد للأهل والبنت أن يتساهلوا مع الشاب، أما شرعيته فيقول البعض: إن هذا الزواج حلال، لكن لابد أن يكون هناك تنظيم للأمر لحماية المرأة والأولاد.

فالمشرع قال: تسمع دعوى الزوجية عند الإنكار، يعني أجاز الطلاق ولم يجز الزواج، فهو مخرج معقول للخروج من هذا الوضع الذي تضيع فيه حقوق الزوجة، وتضيع الأنساب.

أما الطلاق، فالمشرع أكد أن مراجعة الزوجة لابد أن تكون مكتوبة بورقة تعلن للزوجة، وهذه مسألة لا خلاف عليها، وهي مطلوبة؛ لأن الزوج كان يطلق زوجته ويتركها وبعد أن تتزوج يقول لها: إنه راجعها. دون أن تعلم.

الإشهاد على الطلاق

قضت المحكمة بعدم دستوريته عام 2006م، وقضت أن الزوج يطلق زوجته ويقع الطلاق دون إشهاد حتى لو لم يثبته، أو ذهب للمأذون وثقه يقع، ولكن الرجعة تكتب، وقيل: إنه لا يوجد للإشهاد أساس قوي في الشريعة الإسلامية، إنما في بعض الروايات أن سيدنا علي بن أبي طالب أوجب الإشهاد على الطلاق، وهذه ميزتها حفظ حقوق المرأة والأنساب والأعراض لمعرفة هل طلقت أم لا3؟

ومن الأشياء التي جاء بها قانون الأحوال الشخصية عام 2004م أنه حظر الطعن بالنقض في جميع أحكام الشخصية، وهناك الكثير ممن انتقد هذا الأمر؛ لأن هذه الأحكام في غاية الأهمية؛ سواء الزواج، أو الطلاق، أو الخلع، أو الحجر، أو الحضانة، إلخ، فقالوا: كان لابد من السير في الترتيب الطبيعي باستئنافها ثم الطعن، وأسباب النقض معروفة، وهي ثلاثة أسباب: مخالفة القانون في تطبيقه وتفسيره، بطلان الحكم وبناؤه على إجراءات باطلة، تناقض الأحكام.

أما غير الاستئناف فإن أسبابه ليست محصورة، ومحكمة النقض لا تنظر في النزاع إنما تنظر في أحكام القانون والحكم هل خالفه أم سايره؟

فالمشرع يريد أن يوفر الطريق على الزوجة، وعلى جميع من يصدر لهم حكم أحوال لشخصية، وذلك بأن يتم الحكم دون الطعن عليه والانتظار سنوات من خمس إلى سبع سنوات، ويقلل الضغط على محكمة النقض، ويحفظ مراكز الناس، ولا يوجد طعن إلا لمصلحة القانون ويقوم به النائب العام، حتى لا تقلد المحاكم الأخرى حكمًا صدر مخالفًا للقانون، ولا يستفيد منه الخصوم، وحتى تستقر مراكز الخصوم ولا تتأثر بهذا الحكم، فإذا صدر الحكم بحضانة الأم، وأصدرت محكمة النقض حكمًا لمصلحة القانون، فإنه يستمر الحكم بحضانة الأم كما هو، وكذلك الطلاق... إلخ.

ولعل المشرع كان يريد اختصار كثير من الإجراءات، لكن رجال الفقه يقولون: يجب أن يستأنف ويطعن عليه لتوحيد المبادئ.

وإذا بحثت في أحكام الأحوال الشخصية لن تجد أي حكم لمحكمة النقض. وهذا من أوجه النقض لقوانين الأحوال الشخصية.

تلخيص ما سبق:
تنفيذ الأحكام تم تيسيره، مثل حكم النفقة الذي ينفذ من بنك ناصر، ويحجز على الشخص ربع مرتبه إذا كان عليه دين، عدا الزوجة التي من حقها حجز نصف راتب الزوج تنفيذًا لأحكام النفقات.

ويوجد أيضًا حبس الزوج الممتنع عن النفقة؛ لأن الزوج يمكنه التحايل والمماطلة، فيمنع حق الزوجة في النفقة، فقانون 1 لسنة 2000م لم يكن به حبس الزوج، وبعد شهرين وُضِع نص مكمل للقانون بحبس الزوج الممتنع عن دفع النفقة، والشخص لا يحبس في دين مدني، هذا الأصل. ولكن جعلها المشرع في أضيق الحدود، وجعلها في النفقة، ولابد أن يكون الزوج موسرًا قادرًا على الدفع، ويرفض الدفع، وتعرض عليه المحكمة التقسيط فيرفض، فإذا تعنت فإنه يصدر حكم نهائي لذلك، وهذا مأخوذ من الشريعة للحديث النبوي: «مطل الغني ظلم«4.

الأحكام الصادرة للنفقة نفاذها عاجل حتمي بقوة القانون، لا يشترط تأييده من الاستئناف، وأيضًا الحكم الصادر بضم الصغير ينفذ بقوة القانون فورًا.

أما نقطة الإشكال في التنفيذ فمعروف أن الإشكال يوقف التنفيذ طبقًا للمادة 312 مرافعات: يوقف التنفيذ حتى يفصل في الإشكال، عدا أحكام النفقة، حتى لو استشكل الزوج فيه لا يوقف الحكم. هذا هو الاستثناء الوحيد.

هذا ملخص ما فعله المشرع لحماية حقوق الأسرة.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الشريعة عند الطاهر بن عاشور: مجموعة بحوث، 2013، مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، لندن، ص 111-130.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وأشكال الزَّواج المعاصِرة

محمد نبيل غنايم: أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، مستشار المجلس الأعلى للجماعات. محتويات المقال:أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعيثانيًا: أشكال الزواج المعاصرةثالثًا: مقاصد الشري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المساواة بين المرأة والرجل في ميزان الإسلام

الشيخ أحمد زكي يماني محتويات المقال:الأول: عن وضع المرأة في العهد النبويالثاني: عن دور المرأة المسلمة في العصور الـلاحقةالثـالـث: عن المـرأة في نطاق الزوجية ومقارنتها بالرجلأ – إبرام الزواجب – الحقوق والواجباتجـ – تعدّد ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة: مفهومها وطبيعتها

جميلة تلوت محتويات المقال:أولا: التعريف اللغويثانيا: التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة والامتداد العلائقي لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل1، لكن نجد م...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة وحفظ الإنسان

جميلة تلوت محتويات المقال:المبحث الأول- الحفظ الوجودي والاستمراريأولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوعثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسلالمبحث الثاني- الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكيةالمبحث الثالث: حفظ الانتماء البي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الاجتماع الأسري

جميلة تلوت المبحث الأول - مقصد الإحصان والعفافأولا- التعريف اللغويثانيا- التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة حصن وحضنالمبحث الثاني: مقصد السكنأولا: مفهوم السكنثانيا: الأسرة سكن ومسكنثالثا- السكن الأسري والاستقرار المجتمعيالمب...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد أحكام الأسرة عند الطاهر بن عاشور

جابر عبد الهادي الشافعي مقدمة يعتبر محمد الطاهر بن عاشور في نظر كثير من العلماء هو المعلم الثاني لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية بعد الإمام الشاطبي، ويعتبر كتاب ابن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية« بحق من أهم كتب ومراجع مقاص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران

جميلة تِلوت: دكتوراه في مقاصد الشريعة، وباحثة في الفكر الإسلامي محتويات المقال:الفصل الأول: دراسة المفاهيم التأسيسيةالمبحث الأول: الأسرة: مفهومها وطبيعتهاالمبحث الثاني: مقاصد القرآنالمبحث الثالث: مفهوم العمرانالفصل الثان...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top