الأسرة: مفهومها وطبيعتها

شارك:

جميلة تلوت

محتويات المقال:
أولا: التعريف اللغوي
ثانيا: التعريف الاصطلاحي
ثالثا- الأسرة والامتداد العلائقي

لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل1، لكن نجد مصطلحات قرآنية قد تقترب من المدلول المعاصر نحو مصطلح «الأهل والآل» التي تدل على جماعة الرجل وعشيرته.

 ومن ثمّ؛ فلا يمكن الاستدلال على اهتمام القرآن بالأسرة أو عدم اهتمامه بتكرر «المصطلح» لفظا، وإنما بمدى العناية التشريعية التي أولاها القرآن للأسرة؛ إذ نجد في القرآن تفصيلات تشريعية وقيمية وإرشادية لمختلف مكونات الأسرة، واهتماما بتنظيم علاقاتها وفق منظور تشريعي مقاصدي؛ ببيان حقوق أفرادها وواجباتهم والقيم التي يجب التحلي بها، والمقاصد التي ينبغي التأطر بها، فالآيات القرآنية تروم بيان المنظومة الأخلاقية التي تربط بين أفرادها، لهذا نجد إحدى الباحثات فضلت أن تسمي هذا الضرب من النظر ب «المفردات القرآنية في موضوع الأسرة»، أي المفردات التي تشكل مدلول الأسرة2.

لكن هذا لا يمنع من محاولة تبين الأسرة مفاهيميا قبل الانتقال إلى دراستها مقاصديًّا، باعتبار تداول المصطلح اليوم.

أولا: التعريف اللغوي

لو تأملنا الأصل اللغوي للكلمة، لوجدنا أنها تنحدر من الجذر اللغوي «أسر»، ويدل على الإمساك والقيد، وأسره يأسره أسرا وإسارة: شده بالإسار، والإسار ما شد به وهو القيد، ومنه الأسير، وفي القرآن الكريم: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾[الإنسان:28]، أي شددنا خلقهم: وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم، والأسرة أيضا الدرع الحصينة3.

ومعاني الشد والإمساك والأسر تحيل إلى معاني سلبية وإيجابية؛ إذ يفهم منها أن «الأسرة» إسر وقيد، ومن ثم تحيل الدلالة إلى أن اختيار الأسرة أنموذجا للاجتماع بين الرجل والمرأة  تقييد لحرية الفرد، وهذا المعنى  قد يكون صحيحا جزئيا؛ إلا أن المعنى الإيجابي لهذا الأصل اللغوي يدل أيضا على أن الأسرة يشد بعضها بعضا، وتربطهم أواصر قوية تجعل علاقتهم صلبة، فالأسرة هي الدرع الحصينة لأنها تحمي أفرادها داخل حِصنها المنيع، كما أنها حصن للإنسان بتثبيت مصدر وجوده وتكوينه وتنشئته، وهذا المعنى هو الذي نجده مثلا عند أبي حيان التوحيدي: «وفلان ذو أسرة كريمة؛ أي أهل بيت، كأن أسرة الرجل ما هو مأسور به، أي مشدود به، لأن الرحم والقرابة يضمان على الإنسان ويشدانه»4 ،5 وربما يلخص أبو حيان في كلامه هذا المعنى اللغوي والاصطلاحي للمفهوم، إذ الرحم رباط قوي يورث صلابة وشدة في العلاقة والروابط.


ثانيا: التعريف الاصطلاحي

لم يرد مصطلح «الأسرة» في القرآن الكريم، كما سبق بيانه، لكنه كان اصطلاحا معروفا عند العرب يدل على جماعة الرجل، وتطلق العرب كلمة الأسرة للدلالة على قدر من التجمع البشري، وقد وردت الأسرة في نص طويل لابن حجر العسقلاني في تعديد مراتب الأنساب، وذكر جملة من التقسيمات من بينها الأسرة6 باعتبارها شكلا من أشكال التجمع الإنساني.

وحين نرجع إلى مفهوم الأسرة في أدبيات التداول الإسلامي7، فإننا نجد محدداث ثابتة في البنية المفهومية لا يمكن إزالتها أو تغييرها، وهي: محدد الاختلاف الجنسي، ذكر وأنثى، ومحدد الأولاد، بالإضافة إلى المحدد الشرعي؛ وهو النشوء عن العلاقة الزواجية8.

ولو تأملنا بعض التعاريف المعاصرة للأسرة في التداول الإسلامي9، لتبين لنا أنها تقوم في جملتها على أساس الرابطة.

ومن ثم؛ فأركان الأسرة من المنظور الإسلامي تتمثل في:

  • ترابط بين رجل وامرأة (اختلاف جنسي) تنتفي بينهما موانع التحريم بميثاق شرعي.
  • قيام الرابطة على قصد التأبيد لا التأقيت.
  • الرغبة في المكاثرة الكمية والكيفية بأبناء الصلب.

ثالثا- الأسرة والامتداد العلائقي:

إذا تأملنا القرآن الكريم فإننا نجده لا يفرض نمطا معينا للأسرة «نووية أو ممتدة»، وإنما يحرص على بيان الحدود والقيم التي تؤطر العلاقات الناتجة عن الزواج المشروع، الأمر الذي يجعل العلاقات مركبة ومتشابكة، تتداخل فيها العلاقة الزوجية بعلاقة المصاهرة والنسب، ولا أدل على ذلك من تشريعات الميراث المضبوطة والمتشعبة، والانضباط بهذه الحدود الشرعية والضوابط الأخلاقية يحفظ هذا التشابك الأسري وينمى هذا التآصر العائلي بين مختلف محددات الأسرة الكبيرة (الممتدة) أو الصغيرة (النووية).

ومن ثم، فإن بوصلة الأسرة في القرآن موجهة دائما نحو قبلة الأمة القطب، بغية النهوض والشهود، لذلك فإنه من بين المقاصد القرآنية العليا تحديد جماعة الأسرة بدءا من الزوجين ومرورا بالأبناء وما يترتب عن ذلك من علاقات النسب والمصاهرة في تشريع دقيق محدد ومنضبط، حتى تتميز الجماعة الأسرية عن غيرها من جهة، وحتى تكون هذه الجماعة اللبنة الأولى في تشكيل المجتمع من جهة أخرى، فدون جماعة سوية لا يمكن الحديث عن مجتمع راشد، فيلزم من صلاح الأولى صلاح الثاني.

وعليه؛ فإن الاعتناء التشريعي بالأسرة كان من أجل تثبيت ماهيتها، وتجلية المساحات العلائقية وحدودها، والتركيز على أنها امتداد واتساع نحو أمة الرسالة والبلاغ والشهود. لذلك لم يكن غريبا أن جعل الإسلام لكل دائرة من دوائرها المبثوثة أحكاما وتشريعات دقيقة تحكم بناءها وتربطها بسابقتها وتصوبها نحو الدائرة الكبرى (الأمة) والرسالة الأسمى، وهي أمانة الاستخلاف وإعمار الأرض كدحا نحو الله تعالى وملاقاته10.

 فهذه الدوائر مترابطة ومتداخلة فيما بينها، فلا يمكن أن ننظر لدائرة بمعزل عن الدوائر الأخرى، وتظل الدائرة المركز (دائرة الزوجين) أهم الدوائر، لأن القيم التي تسودها تؤثر على باقي الدوائر تربية وتنمية (بنين وحفدة) وتعاملا وإحسانا (نسبا وصهرا) وعمرانا واستخلافا (أمة).

111

وبالنظر إلى الرؤية الاستخلافية العمرانية يمكن القول إن الزوجية هي النواة الرئيسية لتكوين الأمة القائمة الناهضة الراشدة (الأمة القطب)، ولا تكتمل هذه الزوجية دون تشابكها في إطار أواصر القرابة والنسب التي تندرج ضمن مسمى «الأهل».. ومجموع الأهالي هو الذي يكون الأمة.

فلا تتكون الأسرة من زوجين وأبناء تحدّهم أربعة جدران وتفرقهم عن غيرهم، بل الأسرة وإن افترقت مكانا، فإن آصرة الرّحم تمدّها إنسانا، وعليه، فإنّ الاجتماع الأسري نظامٌ تتفاعل في داخله كلُّ القيم مجتمعةً، فليس كلّ مجال أسري بوحدةٍ منغلقةٍ، أو جزيرةٍ منفصلةٍ عن الأخرى، بل هي علاقاتٌ أخلاقيةٌ متفاعلةٌ تتكامل فيها أخلاق الزّوجيّة بأخلاق الأبوة والبنوة والأخوة والقرابة وغيرها.

لذلك، فإن كون الأسرة صغيرة/نواة لا يلغي كونها جزءا من أسرة أكبر هي «العائلة/الأسرة الممتدة» بل كونها جزءا من جماعة أكبر وهي أمة الإسلام والإنسان.

 وعليه، فإن لكل دائرة من هذه الدوائر مقاصدها وقيمها الداخلية التي تحول دون تفككها، وقيمها الخارجية التي تشد من أواصرها، ومنه نفهم التفصيل التشريعي القرآني الخاص بالعلاقات الزوجية وما ينجم عنها من علاقات قرابية سواء على مستوى الوفاق، زواجا، أو الخلاف، إصلاحا وتدبيرا، أو الافتراق، طلاقا أو وفاة، وذلك بتحديد آليات كل مستوى على حدة؛ فيظل الزواج هو الرابطة المقدسة والميثاق الغليظ الذي ينبغي حشد جميع الوسائل من أجل تيسر سبله وتوطيد أركانه.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 19-28.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وأشكال الزَّواج المعاصِرة

محمد نبيل غنايم: أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، مستشار المجلس الأعلى للجماعات. محتويات المقال:أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعيثانيًا: أشكال الزواج المعاصرةثالثًا: مقاصد الشري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المساواة بين المرأة والرجل في ميزان الإسلام

الشيخ أحمد زكي يماني محتويات المقال:الأول: عن وضع المرأة في العهد النبويالثاني: عن دور المرأة المسلمة في العصور الـلاحقةالثـالـث: عن المـرأة في نطاق الزوجية ومقارنتها بالرجلأ – إبرام الزواجب – الحقوق والواجباتجـ – تعدّد ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة وحفظ الإنسان

جميلة تلوت محتويات المقال:المبحث الأول- الحفظ الوجودي والاستمراريأولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوعثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسلالمبحث الثاني- الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكيةالمبحث الثالث: حفظ الانتماء البي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الاجتماع الأسري

جميلة تلوت المبحث الأول - مقصد الإحصان والعفافأولا- التعريف اللغويثانيا- التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة حصن وحضنالمبحث الثاني: مقصد السكنأولا: مفهوم السكنثانيا: الأسرة سكن ومسكنثالثا- السكن الأسري والاستقرار المجتمعيالمب...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مدونة الأسرة عند الطاهر بن عاشور من خلال كتابه مقاصد الشريعة

أحمد عوض هندي لدينا قانونان ينظّمان الأحوال الشخصية في الفترة الأخيرة: قانون 1 لسنة 2000م لتنظيم بعض إجراءات التقاضي فيما يخص الأحوال الشخصية، الذي أعاد تنظيم إجراءات التقاضي في دعاوى الأحوال الشخصية أمام المحاكم، ولدينا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد أحكام الأسرة عند الطاهر بن عاشور

جابر عبد الهادي الشافعي مقدمة يعتبر محمد الطاهر بن عاشور في نظر كثير من العلماء هو المعلم الثاني لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية بعد الإمام الشاطبي، ويعتبر كتاب ابن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية« بحق من أهم كتب ومراجع مقاص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران

جميلة تِلوت: دكتوراه في مقاصد الشريعة، وباحثة في الفكر الإسلامي محتويات المقال:الفصل الأول: دراسة المفاهيم التأسيسيةالمبحث الأول: الأسرة: مفهومها وطبيعتهاالمبحث الثاني: مقاصد القرآنالمبحث الثالث: مفهوم العمرانالفصل الثان...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top