مقاصد الاجتماع الأسري

شارك:

جميلة تلوت

المبحث الأول - مقصد الإحصان والعفاف
أولا- التعريف اللغوي
ثانيا- التعريف الاصطلاحي
ثالثا- الأسرة حصن وحضن
المبحث الثاني: مقصد السكن
أولا: مفهوم السكن
ثانيا: الأسرة سكن ومسكن
ثالثا- السكن الأسري والاستقرار المجتمعي
المبحث الثالث- مقصد التراحم
أولا- الأسرة رحِم ورحمة
ثانيا- تجليات الرحمة في العلاقات الأسرية
ثالثا- التراحم وحفظ الاجتماع الأسري والإنساني

تعد الأسرة الجسر الأوحد بين حفظ الإنسان وضبط أحوال العمران، والأصل في الأسرة أنها اجتماع بين أناس تربطهم أواصر الدم والرحم والرحمة، فتحفظ الإنسان من جهة، وترقى بالعمران من جهة أخرى .وبعد أن ذكرنا بعض المقاصد المتعلقة بالإنسان كماهية وانتماء ننتقل إلى الحديث عن بعض المقاصد الكلية المتعلقة بالاجتماع الأسري.

المبحث الأول - مقصد الإحصان والعفاف

أولا- التعريف اللغوي

يشترك كل من الإحصان والعفاف في أصل المنع؛ فإذا نظرنا للمعاجم نجد أن المادة اللغوية ل «حصن» تدل على جملة معانٍ وهي الحفظ والحياطة والحرز1 والمنع، وهذه المعاني استعملت في الحقل الحربي باتخاذ الحصون للوقاية والحفظ للمنع من الأذى.

 كما يرجع أصل كلمة عفاف إلى أصلين صحيحين هما: الكف عن القبيح والدال على قلة الشيء2، وبعد ذلك سيصير معنى العفاف في بعض معاجم اللغة هو الكف عما لا يحل3، ويظهر تأثر المفهوم بالدلالات القرآنية للعفاف، حيث لم يكن مفهوما «الحلال أو الحرام» واردين عند العرب، فقد كان الحديث عن مطلق «الكف»، وسيتجلى هذا الأمر أكثر مع الراغب الأصفهاني إذ قال: «العفة حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، وأصله الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العُفافة»4، وهنا صار للمفهوم مدلول أخص بحسب الاستعمال القرآني الجديد.

وتظل دلالة المنع الجامعة لغيرها من الدلالات الفرعية من إحكام ووقاية وحماية وغيرها، ونرى أن دلالة الإحصان انتقلت للحقل الأخلاقي قبل المرحلة القرآنية، فكان يطلق الإحصان بمعنى العفاف لأنه كان قيمة معتبرة لدى العرب.

ثانيا- التعريف الاصطلاحي

يرتبط تعريف العفة كما جاء في اللغة بالمنع، لذلك نجد في تعاريفها الاصطلاحية ما يشير إلى الامتناع والضبط والتقييد؛ قال الماوردي: «والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة»5، فنجد أن الماوردي لجأ لتقييد التعريف بالعرف لأنها صارت في العصور اللاحقة تعني هذا المعنى إذا أطلق من غير تخصيص.

ويعرفها ابن مسكويه: «وأما العفة فهي فضيلة الحس الشهواني وظهور هذه الفضيلة في الإنسان يكون بأن يصرف شهواته بحسب الرأي أعني أن يوافق التمييز الصحيح حتى لا ينقاد لها ويصير بذلك حرا غير متعبد لشيء من شهواته»6.

وهذا الجاحظ يعرفها بقوله: «ضبط النفس عن الشهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد، ويحفظ صحته، واجتناب السرف في جميع الملذات وقصد الاعتدال»7، وحدّها الراغب الأصفهاني في كتابه الذريعة: «ضبط النفس عن الملاذ الحيوانية، وهي حالة متوسطة من إفراط وهو الشره وتفريط وهو جمود الشهوة»8، وعرفها الجرجاني: «هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة، والخمود الذي هو تفريطها، فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة»9، فكان العفاف درجة وسطى؛ إذ إنه لا يلغي الشهوة الإنسانية، وإنما يوجهها نحو المسلك الشرعي، فكان الإفراط في كبح هذه الشهوات بشتى أنواعها وضروبها مذموما، ولا أدل على ذلك من استحباب الشرع للنكاح وتحريمه الرهبنة باعتبارها نقيضا للحضارة، فهي في العمق طغيان في المجال الإنساني وله نتائج مدمرة على حياة الإنسان، لأنها تصل بصاحبها في نهاية المطاف إلى رفض العالم10.

ثالثا- الأسرة حصن وحضن:

سمى القرآن النكاح إحصانا،  ووسم الأزواج ب«محصنين» بصيغة اسم الفاعل، وسمى الزوجات «محصنات» بصيغة المفعول، فقال جل جلاله: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾[المائدة:5]. وقال سبحانه:﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾[النساء:25]. وأطلق على النساء ذوات الأزواج لقب المحصنات، وقال: «فإذا أحصن» بالبناء للنائب، أي: أحصنهن أزواج11، لذلك كان الإحصان مظنة العفاف حسب الاستعمال القرآني، ويؤيد هذا التأويل ما جاء في البيان النبوي، حيث قال ﷺ: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف»12.

فقد رغّب الشارع في الزواج، وأمر الراغب فيه غير القادر عليه ماديا بالاستعفاف حتى يغنيه الله، ثم توجه الأمر بعدم إكراه الفتيات على الزنا إن أردن تعفذهب إلى ذلك الطبري في جامع البيان، 19/174.13، وإطلاق الإحصان بمعنى العفاف باعتبار المظنة، فمظنة الزواج العفاف، فنزلت المظنة منزلة الغالب.

ومنه، فإن دلالات الإحصان في القرآن تدور حول منع النفس من الفاحشة، والفاحشة هنا تفريغ الشهوة في غير محلها، لذلك أرشد الشارع إلى المحل الصحيح وهو الزواج، فكان الزواج إحصانا، ومن خصائص هذا الحصن الزواجي أنه يعين الزوجين على التعفف، ويمنعهما من الفاحشة.

ويجدر بي الإلماع إلى أن هذا المقصد يجب أن يفهم في ضوء المنظومة المقاصدية الأسرية الكلية والجزئية، فأي فتوى تضخم هذا المقصد على حساب المقاصد الأخرى فإنها تنزل بمفهوم الأسرة من العلو التكريمي الإنساني إلى الدرك البهيمي الحيواني، بل الأخطر من ذلك أنها تشيء الزواج وتصيره مثل عقود الكراء والإجارات المتسمة بالتأقيت، وذلكم نحو الفتاوى التي أباحت للرجل الارتباط بامرأة على سبيل التأقيت لا التأبيد في ظروف طارئة كالسفر الطويل وغيره من أجل قضاء وطره، فجاءت بعض الإجابات ضاربة بمقاصد الأسرة عرض الحائط فأبيح بذلك «الزواج المؤقت» و«الزواج المؤقت دون علم الزوجة» «ونكاح المحلل» «ونكاح المتعة» وغير ذلك من أضرب الأنكحة الفاسدة والباطلة.

فبدل إعطاء هذه الحلول الترقيعية المبيحة لهذا الزواج أو ذاك، كان من الأولى أن يقدم الفقيه أو المفتي حلولا لسد أبواب الشهوات التي عالجها القرآن الكريم في سورة النور نحو الأمر بغض البصر في قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[النور: 30]أو الصيام كما جاء في قوله ﷺ: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء»14، ونحوها من التدابير الإجرائية لحماية الفرد والأسرة، وحتى لا يختزل الزواج في تفريغ الشهوة أو قضاء الوطر دون تأطر بالمقاصد الكلية أو اعتبار بالدور الاستخلافي العمراني لمؤسسة الزواج15.

المبحث الثاني: مقصد السكن

يعدّ السكن أحد مقاصد الاجتماع الأسري، وهذا السكن داخل الأسرة هو ما يحقق الاستقرار في المجتمع، وأي إخلال بشروط الاجتماع الأسري فإنه يخل بالاجتماع الإنساني.

أولا: مفهوم السكن

 السكن إلى شيء هو نقيض التحرك، والسكون ثبوت الشيء بعد تحرك16. ويطلق السكن في القرآن ويراد به السكن المادي تارة، والسكن المعنوي تارة أخرى، فمن الأول قوله تعالى:﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ﴾[الطلاق: 6] ومن الثاني قوله عز وجل:﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ﴾[النحل: 80]؛

ومن المعاني المعنوية قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾[الروم: 21] وقوله جل وعز: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الأعراف: 189]، واللام في الآيتين لام تعليل، فكأن القصد من الزوجية الآدمية السكن البشري.

ثانيا: الأسرة سكن ومسكن

إن تحقيق السكن مقصد سام من مقاصد الزواج، لذلك خلق الله سبحانه الزوجين من نفس واحدة فذلك أدعى للمودة والتآلف وأبعد عن الشقاق والتنافر.

ولتحقيق هذا المقصد كان الأصل في الزواج في الإسلام التأبيد لا التأقيت، ومن ثم فإن جميع الزيجات الأخرى الذي تحدد بزمان محدد ووقت معين ليست من الشرعة الخاتمة في شيء كنكاح المتعة والزواج بنية الطلاق وغيرهما، إذ إن من مقاصد السكن الروحي الاستقرار، ولما كان الاستقرار في السكن الحجري لا يتحقق دون إحساس بالبقاء في المسكن، فأي إحساس بالخروج أو التغيير فإنه مشوش ويوقع في الحرج الدائم مما لا يتحقق معه السكن، ونفس الأمر يقال للسكن البشري، إذ إن الديمومة هي الكفيلة بتحقيق السكن الحقيقي والاطمئنان المعنوي.

وقد ركزت على معطى المسكن بمعناه الحجري المادي أيضا، لأنه صار في وقتنا من المتغيرات التي أصابت جسم الأسرة في الغرب، حيث صار من الممكن أن يعيش الزوجان في مكانين مختلفين حفظا لخصوصية كل واحد منهما! وبدأت بوادر ذلك تظهر عندنا مما يستدعي التركيز على جميع المعطيات «البدهية المسَلَّمة» في عالم متغير.

ثالثا- السكن الأسري والاستقرار المجتمعي:

من مقاصد السكن تحقيق الاستقرار، وسنفهم هذه المسألة أكثر حين نتأمل في الواقع العالمي من حولنا، حيث انفصلت الأسرة عن أداء معانيها، وصار واقع «الأسرة» سائلا، بل صرنا أمام «لا أسرة»، وذلك بالانخراط في المنطق الاستهلاكي، إذ لم يعد الابن يأتي بعد علاقة زواجية بين ذكر وأنثى، وإنما انهدمت المبادئ المؤسسة للأسرة الفطرية، وانفصلت مقاصد الأسرة عن وظائفها.

ومن ثمّ فإن الاستقرار يستلزم الإقرار بالروابط والعلاقات التي تؤسسها الأسرة باعتبارها مركز الاجتماع الإنساني؛ أي علاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الأبوين بالأطفال، وعلاقة الابن بوالديه، بالإضافة إلى شبكة العلاقات الأخرى، والتشابك العلائقي الذي ينتج عن علاقة أسرية يكون صلبًا لا سائلا، وقويا لا هشّا.

إن هذه العلاقات روابط إنسانية، وإذا تأطرت بمقاصدها القرآنية الكلية والجزئية، فإنها ستصير قوة، وقوة الروابط هي التي تعطينا السكن والاستقرار، ومن ثمّ كانت الأسرة هي فضاء التخلق بتعبير طه عبد الرحمن.

فحفظ الاجتماع الأسري حفظ للإنسان، وضمان لشروط وجوده، وترسيخ لأسس اجتماعه المحترم.

المبحث الثالث- مقصد التراحم

أولا- الأسرة رحِم ورحمة:

تتأسس الأسرة على علاقات الرّحم؛ فالرحم هو المحدد البيولوجي لتأسس الأسرة فطريا، كما أن الرحمة هي المحدد القيمي لاستمرار الأسرة أخلاقيا وإنسانيا، فلا يمكن الحديث عن أسرة سويّة فطريا دون التأسس على علاقات الرّحِم.. كما لا يمكن الارتقاء الإنساني بالأسرة دون التخلق بأخلاق التراحم.

والناظر في الآيات المتعلقة بالأسرة في القرآن الكريم سيستخلص مقصدا جامعا وحاكما هو الرحمة؛ وعنه تتفرع بقية المقاصد؛ ومن ثمّ؛ كانت الأسرة كيانا اجتماعيا مرحوما، وهذه الرحمة مؤكدة بالنص وتتعزز بتمثلها سلوكيا، قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، «والرحم مفهوم كليّ في الدين، يقوم عليه عدد كبير من الأحكام الشرعية، التي تنظّم الحياة الزوجية بما يضمن استمرارَ هويتها الإسلامية، وانتسابَها الديني في ذريتها إلى يوم القيامة، فالرحم ليست هي ذلك الغشاء البطني الداخلي الذي يحتضن الجنين في بطن أمه فحسب. ذلك معنى لغوي صرف. وإنما المقصود بالرحم في السياق التشريعي: هو مجموع العلاقات الشرعية التعبدية، التي تنشأ عن الزواج الشرعي، وعما يترتب عنه من نسل17، «ومن هنا فقد قرنها الحق سبحانه وتعالى بأصل التوحيد، الذي هو أصل الأصول في الإسلام»18.

ونلحظ كيف جاء التّـركيز على التقوى في الآية السّابقةِ وربطها بحق الأرحام، وهذه الوثاقة بين التقوى والرحم أكدها الحديث النبوي، حتى صارت صلة الرحم مستوجبةً لرحمة الرحمن؛ قال ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شُجْنَةٌ من الرحمن، فمن وَصَلَها وصله الله ومن قطعها قَطَعَه الله»19. و«تقوى الرحم راجعة إلى حفظ حقوقها الشرعية، وصيانة أحكامها التكليفية المنوطة بها تعبدا لله رب العالمين. فهي إذن شعيرة يعبد الله بها أصالة، باستمرارها يستمر الدين، وبانقطاعها ينقطع»20.

وكلما قويت آصرة الرحم كان الترحم أشد وآكد طلبًا، ويبدأ التراحم من العلاقات الرحمية ليتعداه للعلاقات الإنسانية. ومن ثمّ؛ فإن الاجتماع الأسري في الإسلام يتأسس على الرحم، ويقوم على التراحم، وكلما تخلق المرء بأخلاق الرحمة انعكس ذلك على آصرة الرحم فزادها صلابة وقوة.

ثانيا- تجليات الرحمة في العلاقات الأسرية:

إن الرحمة كلي مقاصدي تتفرع عنه مجموعة من المقاصد الأخرى كالفضل والإحسان والمودة والبر وغيرها، وفيما يأتي بعض تجلياتها:

الرحمة بين الأزواج:

قال عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[الروم: الآية 20].ذلك أن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض...إلخ .

لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتُم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر.. إلخ21.

الرحمة مع الآباء:

من تجليات الرحمة مع الآباء البر والإحسان، ونجد هذا البر إما واردا في صيغ الأمر المباشر:

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) ﴾[الإسراء: 23 - 25] .

كما نجد تمثل هذا الخلق في القصص القرآني؛ إذ  ورد الثناء على الأبناء لالتزامهم خلق البر كما جاء في وصف يحيى بن زكرياء ڽ، ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾[مريم:14]، وقال حكاية عن عيسى ڠ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾[مريم:32].

الرحمة مع الأبناء:

لن نجد في القرآن صيغًا للأمر المباشر بالإحسان إلى الأبناء والرحمة بهم، لأنه من دواعي الفطرة والجبلة، لذلك «يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية؛ فلا يتأكد الطلب تأكد غيره»22، لكننا نجد تمثلات سلوكية لهذا الأمر في القصص القرآني، ومن ذلك:

نوح مع ابنه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾[هود: 42، 43].

أم موسى مع موسى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) ﴾[القصص: 10 - 13].

ومن معاني الآية أن فؤاد أم موسى صار خاليا من كل شيء إلا من فلذة كبدها، فحرم الحق عليه المراضع ورده إلى أمه، ورغم إيمان أم موسى بقول الحق وانصياعها لأمر الوحي، إلا أن ذلك لم يمنعها أن تحزن وتتألم لفراق ابنها، فهذا مما غرس في الطبائع والفطر، ومنه نفهم سبب عدم إكثار القرآن من الأوامر الداعية بالإحسان إلى الأبناء.

الرحمة في العلاقة الأخوية:

يمكن التمثيل لهذا التجلي المرحمي في قصة موسى مع أخيه؛ إذ عاد موسى لقومه غضبان أسفا من عبادتهم العجل،﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأعراف:150]، «ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم»23. فما كان من موسى، ڠ، إلا أن استجاب لنداء أخيه الرحيم، ويطلب من أرحم الراحمين أن يغفر له ولأخيه؛﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[الأعراف:151]، وقد جاء في آية أخرى تأكيد على صفة الرحمة بينهما؛ وذلك في قوله تعالى:﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾[مريم:53]، فالأخوة اشتراك في رحمٍ واحد، وهي رحمةٌ من الله عز وجل، وتستلزم معاملة تراحمية خاصة ترقى بها.

ويتضح الأمر أيضا في علاقة يوسف بأخيه: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾[يوسف:69]. فعبر القرآن عن فعل يوسف بالإيواء، و«أطلق الإيواء هنا مجازا على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى»24، وحكى عن يوسف قوله لأخيه «فلا تبتئس»: «البؤس هو الحزن والكدر... والنهي عن الابتئاس مقتض الكف عنه، أي أزل عنك الحزن واعتض عنه بالسرور»25.

فهذه الصورة القرآنية تعبر عن العلاقة الأخوية في أرقى صورها، في الإدناء والإيواء والطمأنة، فالأصل أن الأخوة أمان.. والأخوة وقاية.. والأخوة رعاية، وهذه بعض معاني الرحمة26.

وتتعدد تجليات الرحمة في العلاقات الأسرية في القرآن الكريم؛ مما يؤكد أن الرحمة هي المقصد الحافظ للاجتماع الأسري والتراحم الأسري هو أساس التراحم الاجتماعي، كما تعد الرحمة كليّا مقاصديا تندرج تحته مقاصد أخرى، فإذا جاز وصف شِرعة الإسلام بوصف جامع فهي شِرعة المرحمة؛ ولا ريب أن جعل الله من خصائص هذه الشرعة أن نسخت شِرعة الإصر والأغلال.

ثالثا- التراحم وحفظ الاجتماع الأسري والإنساني

قال ابن عاشور: «إن المقصد العام من التشريع [...] حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهمين عليه وهو الإنسان»27، فالنظام الذي تقوم عليه الإنسانية هو النظام الفطري الإنساني، وهو الذي يسمح باجتماع سوي، ويرتكز الاجتماع أساسا على الإنسان، لكن الإنسان لا يوجد منفصلا عن مجال؛ وإنما يتحدد ثقافيا بالانتماء؛ وإن أوّل انتماء للإنسان  يفتح عليه الإنسان عينه يتمثل في الأسرة؛ إذ يفترض أن ينشأ المرء في أسرة تحمي وجوده وكينونته، وتجذر إحساسه بالهوية والانتماء، فالأسرة حامية للإنسان وللاجتماع أيضا؛ إذ لا نتصور مجتمعا دون أسرة.

وجعل الله سبحانه وتعالى الأسرة منبع الصلات الاجتماعية الصلبة، فقد قال سبحانه وتعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾[الفرقان: 54] ، فالأسرة ليست مجرد زواج بين ذكر وأنثى، وإنما هي مجموع الصلات المتولدة من هذه العلاقة، ومن ثمّ؛ فإن الأسرة امتداد علائقي متماسك، وهذا التماسك منبعه صلة الدم والرحم التي تتأطر بالمقاصد والأخلاق الضامنة للاستمرار والارتقاء بالفعل الاجتماعي نحو مدارج التأنس وابتعاده عن التوحش، وكما  قال عمر عبيد حسنة: «إن إحكام السيطرة والتحكم على عالم المسلمين يقتضي انحلال الأسرة المسلمة وتفكيكها؛ لأن الشواهد التاريخية دلت ولا تزال على أن التربية الأسرية هي الباقية، وهي القادرة على التجاوز واستئناف الفعل الاجتماعي، وهي القادرة على الاحتفاظ بالخمائر الاجتماعية، وإعادة فرزها في المجتمع في الوقت المناسب»28.

ولا يتحقق الارتقاء في مدارج الأخلاق الإنسانية العالية دون التخلق بأخلاق الرحمة التي تتعمق في التعامل الأسري، ثم تعم بعد ذلك في التعامل الإنساني، ومن ثمّ؛ فإن الرحمة هي أساس المقاصد الحاكم للعلاقات الأسرية، ويتجلى التراحم في جميع العلائق الأسرية على امتدادها؛ إذ إن امتداد الرحم يستلزم مدده بالرحمة. وهذا الامتداد الرّحِمي والمدد المرحَمي يؤول إلى امتداد لهذا المقصد خارج دوائر الأسرة إلى المجتمع، فيغدو الاجتماع الإنساني مرحومًا، ويتأكد أن الأصل في العلاقات الإنسانية الرحمة، ولا يتحقق هذا الأمر دون تأسيسه وتمثله في العلاقة الأسرية الخاصة والممتدة، فهي الأصل، ومنها البدء.

https://al-furqan.com/wp-content/uploads/2020/04/SA0048Ar-ID101129-07_MAQ-No-En-image1-751x1024.png

وعليه؛ فإن هذا المقصد الإنساني «الرحمة»، يشترك في طلبه كل الناس وفق مستويات متباينة، لكن تسليط الضوء عليه من شأنه أن يجعلنا ننظر للعلاقات الأسرية في أفق تعارفي كلّي، فيجذر الإحساس بأهمية العلاقات العائلية الممتدة في سياق عالمي تجتمع وسائله على استنبات ثقافة «قطع الرحم» و«إهلاك الحرث والنسل».

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران، 2017، مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، لندن، ص 69-92.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وأشكال الزَّواج المعاصِرة

محمد نبيل غنايم: أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، مستشار المجلس الأعلى للجماعات. محتويات المقال:أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعيثانيًا: أشكال الزواج المعاصرةثالثًا: مقاصد الشري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المساواة بين المرأة والرجل في ميزان الإسلام

الشيخ أحمد زكي يماني محتويات المقال:الأول: عن وضع المرأة في العهد النبويالثاني: عن دور المرأة المسلمة في العصور الـلاحقةالثـالـث: عن المـرأة في نطاق الزوجية ومقارنتها بالرجلأ – إبرام الزواجب – الحقوق والواجباتجـ – تعدّد ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة: مفهومها وطبيعتها

جميلة تلوت محتويات المقال:أولا: التعريف اللغويثانيا: التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة والامتداد العلائقي لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل1، لكن نجد م...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة وحفظ الإنسان

جميلة تلوت محتويات المقال:المبحث الأول- الحفظ الوجودي والاستمراريأولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوعثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسلالمبحث الثاني- الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكيةالمبحث الثالث: حفظ الانتماء البي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مدونة الأسرة عند الطاهر بن عاشور من خلال كتابه مقاصد الشريعة

أحمد عوض هندي لدينا قانونان ينظّمان الأحوال الشخصية في الفترة الأخيرة: قانون 1 لسنة 2000م لتنظيم بعض إجراءات التقاضي فيما يخص الأحوال الشخصية، الذي أعاد تنظيم إجراءات التقاضي في دعاوى الأحوال الشخصية أمام المحاكم، ولدينا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد أحكام الأسرة عند الطاهر بن عاشور

جابر عبد الهادي الشافعي مقدمة يعتبر محمد الطاهر بن عاشور في نظر كثير من العلماء هو المعلم الثاني لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية بعد الإمام الشاطبي، ويعتبر كتاب ابن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية« بحق من أهم كتب ومراجع مقاص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران

جميلة تِلوت: دكتوراه في مقاصد الشريعة، وباحثة في الفكر الإسلامي محتويات المقال:الفصل الأول: دراسة المفاهيم التأسيسيةالمبحث الأول: الأسرة: مفهومها وطبيعتهاالمبحث الثاني: مقاصد القرآنالمبحث الثالث: مفهوم العمرانالفصل الثان...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top