محمد نبيل غنايم: أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، مستشار المجلس الأعلى للجماعات.
محتويات المقال: أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعي ثانيًا: أشكال الزواج المعاصرة ثالثًا: مقاصد الشريعة في أشكال الزواج المعاصرة |
أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعي
تعلمون أن الزواج هو اقتران بين ذكر وأنثى لإشباع الغريزة الجنسية لكل منهما، وطلب التناسل المشروع، وإقامة حياة مستقرة بينهما قائمة على المودة والرحمة والسكينة، وهذا هو الأسلوب الشرعي الذي ارتضاه الله تعالى منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، قال الله تعالى: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: 35].
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1].
وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وقال: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ [النحل: 72].
وفي تعريف الزواج الشامل لمقاصده يقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله: «إذا كانت تعريفات الفقهاء القديمة لا تكشف عن المقصود من هذا العقد في نظر الشارع الإسلامي، فإنه يجب تعريفه بتعريف كاشف عن حقيقته، والمقصود منه عند الشارع الحكيم، ولعل التعريف الموضح لذلك أن تقول: إنه عقد يفيد حِلَّ العِشْرة بين الرجل والمرأة، وتعاونهما، ويحدد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات»1.
ومن هذا نعلم أن مقاصد الشريعة من الزواج الشرعية تتمثل في ثلاثة أمور: أولها: إشباع الرغبة الجنسية، ويتفرع عنه تحقيق العفة والحياء. وثانيها: تحقيق التناسل الشرعي، ويتفرع عنه إشباع غريزة الأبوة والأمومة والرحم والقرابة، وعمارة الأرض، وعبادة الله. وثالثها: إقامة حياة طيبة مَبْنيَّة على السَّكينة والمودة والرحمة، ويتفرع عنها التواصل والتراحم والتعاون بين الناس وخاصة الأقارب. وبهذا يصلح المجتمع وتستقيم الحياة.
وفي ذلك يقول الطاهر بن عاشور- رحمه الله- تحت عنوان «مقاصد أحكام العائلة»: «انتظام أمر العائلات في الأمة أساس حضارتها وانتظام جماعتها، فلذلك كان الاعتناء بضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع البشرية كلها، وكان ذلك من أول ما عُني به الإنسان المدني في إقامة أصول مدنيته، بإلهام إلهي رُوعي فيه حفظ الأنساب من الشك في انتسابها، أعني أن يثبت المرء انتساب نسله إليه... ولم تزل الشرائع تُعنَى بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى، المعبَّر عنه بالزواج أو النكاح؛ فإنه أصل تكوين النسل وتفريع القرابة بفروعها وأصولها، واستتبع ذلك ضبط نظام الصهر، فلم يلبث أن كان لذلك الأثر الجليل في تكوين نظام العشيرة فالقبيلة فالأمة، فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنوة، ومن هذا تتكون الأخوة وما دونها من صور العَصَبة، ومن امتزاج رابطة النكاح برابطة النَّسَب والعصابة تحدث رابطة الصهر، وجاءت شريعة الإسلام مهيمنة على شرائع الحق، فكانت الأحكام التي شرعتها للعائلة أعدل الأحكام وأوثقها وأجلَّها، ولا جَرَمَ أن الأصل الأصيل في تشريع أمر العائلة هو إحكام آصِرة النكاح، ثم إحكام آصِرة القرابة، ثم إحكام آصِرة الصهر، ثم إحكام كيفية انحلال ما يقبل الانحلال من هذه الأواصر الثلاث،...
ثم يقول عن جموع هذه المقاصد: «وقد ميَّز الله تعالى نوع الإنسان بالاهتداء إلى الفضائل، والكرامات، واستخلاصها من بين سائر ما يحف بها من شريف الخصال ورذيل الفعال، وجعل له العقل الذي يعتبر الأعمال باعتبار غايتها ومقارناتها، وأخذه منها لبابها كيفما اتفق، فبينما كان قضاء شهوة الذكور مع الإناث اندفاعًا طبيعيًّا محضًا، لم يلبث الإنسان منذ النشأة الموفقة أن اعتبر ببواعثه وغاياتها ومقارنتها، في مجموع ذلك حقًّا وودًّا ولطفًا ورحمة وتعاونًا وتناسلًا واتحادًا، وإقامة لنظام العائلة ثم لنظام القبيلة ثم الأمة، وفي خلال تلك المعاني كلها معانٍ كثيرة من الخير والصلاح والعلم والحضارة...»2.
ثم يقول عن بيان المقاصد الفرعية: إن صورة التعاقد في تكوين صلة النكاح على الوجه الأكمل صورة عرضت من الحرص في تحقيق معنى رضا المرأة وأهلها بذلك الاجتماع، وفي تحقيق حسن قصْد الرجل معها من دوام المعاشرة وإخلاص المحبة... وقد استقريت ما يستخلص منه مقصد الشريعة في أحكام النكاح الأساسية والتفريعية فوجدته يرجع إلى أصلين:
الأول: اتِّضاح مخالفة صورة عقده لبقية صور ما يتفق من اقتران الرجل بالمرأة.
الثاني: ألا يكون مدخولًا فيه على التوقيت والتأجيل..
ثانيًا: أشكال الزواج المعاصرة
أما الأصل الأول فقوامه يحصل بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يتولى عقد المرأة وليّ لها خاص أو عام، ليظهر أن المرأة لم تتولَّ الرُّكون إلى الرجل وَحْدَها دون علم ذويها؛ لأن ذلك أول الفروق بين النكاح وبين الزنى والمخادَنة والبِغاء والاستبضاع؛ فإنها لا ترضى بها الأولياء في عُرْف الناس الغالب عليهم، ولأن تولّي الولي عقد مولاته يهيئه إلى أن يكون عونًا على حراسة حالها وحصانتها، وأن تكون عشيرته وأنصاره وجيرته عونًا له في الذَّبِّ عن ذلك. واشتراط الولي في عقد النكاح هو قول جمهور الفقهاء. أما الولي العام فهو القاضي إن لم يكن للمرأة ولي من العَصَبة.
الأمر الثاني: أن يكون ذلك بمهر يبذله الزوج للزوجة؛ فإن المهر شعار النكاح وفارق بينه وبين الزنا والمخادنة، ولذلك سماه الله تعالى نِحْلة فقال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: 4]. ومن أجل هذا حُرِّم نكاح الشِّغار؛ لخلوه عن المهر...
الأمر الثالث: الشهرة (الإشهار)؛ لأن الإسرار بالنكاح يقرِّبه من الزنى، ولأن الإسرار به يحول بين الناس وبين الذَّبَِ عنه واختراقه، ويُعرِّض النَّسْل إلى اشتباه أمره، وينتقص من معنى حصانة المرأة...
وأما الأصل الثاني فإن الدخول في عقدة النكاح على التوقيت والتأجيل يقرِّبه من عقود الإجارات، ويخلع عنه ذلك المعنى المقدس الذي ينبعث في نفس الزوجين من نية كليهما أن يكون قرينًا للآخر ما صلح الحال بينهما...
ولما استقام معنى قداسة عقدة النكاح في نظر الشرع، أمر الزوجين بحسن المعاشرة بالقِوامة على النساء، وجعل الإضرار باختلال ذلك مفضيًا إلى فسخ عقدة النكاح بحكم الحاكم بالطلاق إذا ثبت الضرر، فقد ورد في محكم التنزيل: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].
ثم يضيف الشيخ ابن عاشور من مقاصد الشريعة في الزواج إلى ما سبق مما ذكره، مقاصدها في آصرة القرابة التي تتفرع من مقاصد الزواج، فيقول: تبتدئ آصرة القرابة بنسبة البنوة والأبوة، والنسل المعتبر شرعًا هو الناشئ عن اتصال الزوجين بواسطة عقدة النكاح المنتفي عنها الشك في النَّسب... وحفظ النسب الراجح إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائق النسل إلى البر بأصله، والأصل إلى الرأفة والحنو على نسله سوقًا جليًّا وليس أمرًا وهميًّا... ثم نشأ عن قداسة آصرة القرابة إكساؤها إهابَ الحرمة والوقار، فقررت الشريعة معنى المـَحْرَميَّة بالنسب وهو تحريم الأصول والفروع في النكاح...»3.
وهكذا أجمل لنا ابن عاشور- رحمه الله- مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعي في إقامة الأسرة على المودة والرحمة والسَّكينة، والاستمتاع والتناسل والأبوة والأمومة وفروع القرابة والمصاهرة، ونمو العلاقات الطيبة بين الأصول والفروع والحواشي؛ لتحقيق آية الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
ويؤكد الشيخ أبو زهرة- رحمه الله- هذه المعاني بقوله: «إن الغرض من الزواج في الإسلام ليس هو قضاء الوطَر الجنسي، بل الغرض أسمى من ذلك»، ولهذه اعتبره النبي (صلى الله عليه وسلم) سنة الإسلام فقال: «وإن من سنتنا النكاح»4. وما كان الزواج سنة الإسلام لأن فيه قضاء الطبع الجنسي فقط، بل لمعانٍ اجتماعية ونفسية ودينية منها:
1) أن الزواج هو عماد الأسرة الثابتة التي تلتقي الحقوق والواجبات فيها بتقديس ديني يَشْعر الشخصُ فيه بأن الزواج رابطة مقدسة تعلو بها إنسانيته، فهو علاقة روحية نفسية تليق برقيِّ الإنسان وتسمو به عن دركة الحيوانية... وإذا ارتقتِ العلاقة إلى ذلك النحو من السموِّ، كان في الزواج ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر، وكما قال الغزالي في فوائده: «فيه راحة للقلب وتقوية على العبادة»، فإن النفس مَلولٌ، وهي من الحق نَفور؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كفتِ المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت وثارت، وإذا رُوِّحت باللَّذاتِ في بعض قويت ونشطت، وفي الاستئناس بالنساء من الراحة ما يزيل الكرب ويُروِّح عن القلب، وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات، قال تعالى في شأن الزوجة: ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189]5.
2) والزواج هو العماد الأول للأسرة، والأسرة هي الوحدة الأولى لبناء المجتمع، فهي الخلية التي تتربى فيها أنواع النُّزوع الاجتماعي في الإنسان عند أول استقباله للدنيا، ففيها يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وفيها تتكون مشاعر الألفة والأخوة والإنسانية، وتبذر بذرة الإيثار فتنمو أو تخبو بما يصادفها من أجواء في الحياة العامة.
وفي الجملة: إن المجتمع القوي إنما يتكون من أسرة قوية؛ لأنها وحدة البناء فيه.
3) أن حفظ النوع الإنساني كاملًا يسير في مدارج الرقيِّ إنما يكون بالزواج؛ فإن المساندة6 لا تحفظ النوع من الخفاء، وإن حفظته لا تحفظه كاملًا يحيا حياة إنسانية رفيعة7. وقد بينت البحوث والدراسات والمقارنات العلمية أن الزواج الشرعي يؤدي إلى التكاثر والتناسل الصحيح، وأن العلاقات الأخرى تؤدي إلى قلة التناسل وتناقص الأعداد، فضلًا عن فارق النمو والتربية بين نسل الزواج والتناسل الآخر.
4) والزواج هو الرحمة الحقيقية للرجل والمرأة على السواء؛ إذ عن المرأة تجد فيه من يكفل لها الرزق فتعكف على البيت ترعاه وعلى الأولاد ترأمهم، وفي ذلك ما يتفق مع طبعها، وكذلك الزوج بعد لَأْواء الحياة ومتاعبها يجد في بيت الزوجية جنة الحياة، وكأن البيت واحة في وسط صحراء الدنيا ومتاعبها، ولولا الزواج لكان أفاقًا لا مأوى له ولا مستقر، هذا هو الغالب والقاعدة، وقد يحدث- في النادر الأقل- خلافُ ذلك مما يؤدي إلى الفُرْقة التي شرعها الله عز وجل.
5) الشعور بالمسؤولية والقيام بحملها وتحمُّلها عن رضا وحب، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: »إن من فوائد الزواج مجاهدة النفس، ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحق الأهل، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن والقيام بتربية الأولاد، فكل هذه الأعمال عظيمة الفضل، فإنها رعاية وولاية، والأهل والولد رعيَّة، وفضل الرعاية عظيم»8.
ولهذه المعاني والمقاصد حثَّ الإسلام عليه ودعا الشباب إليه، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم): «ا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة- القدرة والأعباء- فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»9، أي: وقاية من الفساد.
وهذا الذي ذكره كل من ابن عاشور وأبي زهرة ومن قبلهم الغزالي وغيره- رحمهم الله- محلُّ اتفاقٍ بين العلماء في الماضي والحاضر10. ولتحقيق هذه المقاصد الشرعية والغايات النبيلة، جعل الإسلام الزواج تكليفًا يتردد بين الأحكام التكليفية الخمسة؛ من الوجوب إلى الندب إلى الإباحة إلى الكراهة إلى التحريم، واختلاف الحكم لاختلاف ما يترتب عليه من الآثار الشرعية ومقاصد الشريعة، فبقَدْر ما تتحقق هذه المقاصد والغايات يكون الحكم الشرعي التكليفي.
ولذلك أيضًا وضع الشارع للزواج من القيود والضوابط ما جعله متميزًا على سائر عقود المعاملات11، وما ذاك إلا لأن كل شرط أو ركن أو ضابط يسهم بقدر ما في تحقيق المقاصد الشرعية والغايات الإسلامية، فكان لا بد للزواج من صيغة هي «الإيجاب والقبول» بشروط خاصة بكل منهما، حتى يتحقق التراضي التام والوفاق الكامل، وكان لا بد عند جمهور العلماء من ولي للمرأة بضوابط معينة وشروط محددة، وكان لا بد من الإشهاد على هذا العقد وإشهاره؛ ضمانًا للحقوق وإبرازًا للواجبات، وكان لا بد من مهر تكريمًا للمرأة وصيانة لها عن المهانة والابتذال، وكان لا بد من صلاحية المرأة للعقد عليها فليست من المحرمات مؤبدًا؛ من نسب أو رضاع أو مصاهرة، وليست من المحرمات مؤقتًا لأسباب معينة؛ لما في العقد على المحرمات لأي سبب من مخالفة مقاصد الشريعة أو عدم تحقيقها بل تحقيق عكسها أو ضدِّها.
وإذا تم العقد صحيحًا بتلك الأركان والشروط والضوابط، ترتبت عليه الآثار الشرعية من الحقوق والواجبات لكل من الزوجين، سواء كانت حقوقًا وواجبات مشتركة بينهما وهي: المعاشرة بالمعروف، وحق التوارث، وحرمة المصاهرة، وثبوت النسب، وحق الاستمتاع. أو كانت حقوقًا للمرأة واجبات على الزوج، كالمهر والنفقة، والحماية والعدل. أو كانت حقوقًا للرجل واجبات على الزوجة، كالطاعة في غير معصية الله، والقرار في البيت، والقوامة، وكل حق أو واجب أو شرط أو ركن يسهم في تحقيق تلك المقاصد الشرعية التي أشرنا إليها، في حين يسهم غيابه في تخلف تحقيق المقاصد الشرعية أو بعضها.
من هنا كان الزواج الشرعي الذي ارتضاه الله تعالى لعباده وأنبيائه ورسله هو الطريق الوحيد لتحقيق مقاصد الشريعة من العلاقة بين الذكور والإناث من لدن آدم إلى قيام الساعة، وصدق الله العظيم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد: 38].
وبهذا نكون قد انتهينا من الفقرة الأولى عن «مقاصد الشريعة في الزواج الشرعي»، فلننتقل إلى الفقرة الثانية عن «أشكال الزواج المعاصرة» لنبينها، ثم نبين موقف الشريعة ومقاصدها منها.
***
لم يكن معروفًا إلى فترة قريبة جدًا إلا الزواج الشرعي وأشكال محدودة من الزواج غير الشرعي، وهي نكاح المتعة ونكاح المحلل، والبغاء، ثم وفدت إلى بلادنا ثقافات دخيلة ومعها أشكال من الزواج غير شرعية، ما زالت تنتشر في أوساط الشباب الجامعي وغيره انتشار النار في الهشيم، وقد أحصيت من هذه الأشكال نحوًا من ثلاثين نوعًا، أليكم تعريفًا بها وبياناتها، ومن خلال ذلك سيظهر مدى بعدها عن مقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج الشرعي، ومخالفتها لها، وقربها من مقاصد الشيطان وحزبه، كما سيتضح في الفقرة الثالثة. ولنبدأ بالأشكال القديمة ثم الحديثة:
1) زواج المتعة12: وهو كما يبدو من اسمه وصفته عبارة عن الزواج لإشباع الغريزة الجنسية وتحقيق المتعة في فترة محددة، قد تكون يومًا أو أقل أو أكثر، في مقابل أجر معلوم، وقد يكون العقد بصيغة المتعة أو بصيغة التوقيت بالمدة، فيقول الرجل للمرأة مثلًا: تزوجتك متعة بكذا، أو لمدة كذا. فتقول المرأة: قَبِلْتُ.
2) زواج المحلّل13: وهو عبارة عن اقتران رجل بامرأة طلقها زوجها ثلاثًا وبانت منه بينونة كبرى وأصبحت محرمة عليه، ولا تحل له إلا بعد أن تتزوج رجلًا آخر، فتتفق الأطراف على أن يقوم الرجل الآخر بزواج هذه المرأة زواجًا شكليًّا- أي على الورق- ودون معاشرة، أو بمعاشرة لكن بشرط الطلاق فورًا، ويتم ذلك، ويظن الزوج الأول أنها بذلك قد حلت له فيتزوجها من جديد، ويظنون أنهم بذلك قد حققوا قول الله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، أي الثالثة- ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾، أي الزوج الثاني المحلل ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 230].
أما عن الصور الحديثة فهي:
3) الزواج العرفي14: وهو الزواج دون ولي ولا إشهار، وقد يكون أيضًا دون مهر ولا توثيق، وكثيرًا ما يكون سريًّا، خوفًا من الرفض أو حرصًا على الاستمرار في صرف معاش الزوج المتوفى، أو لإشباع غريزة أو نزوة طائشة.
4) زواج الكاسيت أو السي دي15: وهو عبارة عن اتفاق شابٍّ مع فتاة فيقول الشاب للفتاة: أريد أن أتزوجك. فترد عليه بالقبول بتزويج نفسها له، ويتم تسجيل هذا القول البسيط للزواج على شريط كاسيت أو سي دي، وبعد ذلك يمارس الاثنان العلاقة الحميمة بالمعاشرة التي تتم شرعًا بين الزوجين الشرعيين.
5) زواج الوَشْم16: وهو عبارة عن رسم أو كتابة بمادة خضراء أو زرقاء تختلط بالجلد والدم، فتصبح ثابتة في موضع من مواضع الجسم. والوشم معروف في الجاهلية والإسلام، وقد لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاعليه، وخاصة النساء؛ لما فيه من تغيير خلق الله، فقال (صلى الله عليه وسلم): «لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، الراغبات في الحسن المغيرات خلق الله»17.
ثم أصبح هذا الوشم أسلوبًا من أساليب الزواج العر بين الشباب، حيث يقوم الشاب والفتاة بالذهاب إلى أحد مراكز الوشم ويقومان باختيار رسم معين يرسمانه على ذراعيهما أو على أي مكان آخر يختارانه من جسميهما، ويكون هذا الوشم بمثابة عقد الزواج بينهما، وبموجب هذا الوشم يتحول الشابُّ إلى زوج وزوجة لهما الحق في ممارسة العلاقة الزوجية.
6) زواج الطوابع18: وهو عبارة عن اتفاق الشابِّ والفتاة على الاقتران عن طريق شراء طابع بريد عادي، ويقوم الشاب بلصق الطابع على جبينه، وبعد عدة دقائق ينزع الطابع ويعطيه للفتاة فتقوم بدورها بلصق الطابع على جبينها، وبهذا تنتهي مراسم عقد الزواج كما يقولون، ويتحول بعدها الشاب إلى زوج، وتتحول الفتاة إلى زوجة وسط تهنئة وفرحة الزملاء والأصدقاء، والذين يساعدونهما على تحمل تكاليف الزواج من توفير مكان لهما ليلتقيا فيه بخصوصية، وليمارسا علاقتهما الزوجية بدفء وخصوصية بعيدًا عن العيون المتربصة.
7) زواج الإنترنت19: وهو ما يكون بين الفتى والفتاة من اتصالات ودردشة تنتهي بقول الفتاة لمن يحادثها من الشباب: قبلْتُكَ زوجًا، ويقول لها: قبلْتُكِ زوجة، وبعد ذلك ينكشف كل منهما على الآخر ويطلع على عورته، ويمارسان الأعمال المنافية للآداب على اعتبار أنهما زوجان.
8) زواج الدم20: وهو عبارة عن قيام الشابين الفتى والفتاة اللذين يريدان الزواج بخلط بعض دمائهما ببعض، ويتم ذلك عن طريق قيام كل منهما بجرح إبهامه- الإصبع الكبرى في يديهما- بدبوس إبرة فيسيل الدم من إصبع كل منهما ثم يتلامس الإبهامان فتختلط الدماء، فيكون ذلك في نظرهما زواجًا يترتب عليه العلاقة الزوجية ويعلنان ذلك.
9) زواج السِّر21: وهو الزواج الذي يتم إخفاؤه لعدم اكتمال أركانه وشروطه؛ فلا ولي فيه ولا شهود، ولا إشهار ولا توثيق.
10) الزواج الأبيض22: وهو الزواج الصوري على الورق لتحقيق مصالح أخرى، أو الزواج المؤقت ممن لا تنطبق عليه شروط الزواج الشرعي، ومن ذلك ما يقوم به بعض الشباب أو الفتيات العرب من الراغبين في العمل في البلاد الغربية والحصول على الإقامة ثم الجنسية، ولما كانت قوانين هذه البلاد تتطلب أن يكون طالب ذلك زوجًا أو زوجة، فيتفق الشباب العرب مع الغربيين أو الغربيات على الزواج صوريًا لتقديم هذه الأوراق إلى الجهات الإدارية على أنهما زوجان، وذلك مقابل مبلغ مالي، فإذا ما تم الإجراء القانوني والمالي انصرف كل منهما إلى حاله بعد أن يكون قد حدث بين الطرفين مخالفات شرعية عديدة؛ من خلوة ومعاشرة وتزوير وغش ورشوة.
11) زواج الأنس والطرب23: وهو نوع من الزواج الباطل الذي اخترعه الذكور والإناث لإشباع رغباتهم الجنسية بأسلوب حرام، فهو كما يبدو من اسمه الأنس والطرب، لهو ولعب وقضاء وقت محرم في متعة حرام، حيث يجتمع النوعان ويتعاقدون على الزواج لإباحة العلاقة غير الشرعية بينهما، وبعد قضاء المتعة أو الحفلة أو الليلة ينصرفون ليجتمعوا مرة أخرة أو مرات مع هؤلاء الأشخاص أو مع غيرهم، ولهم في عقد هذه الاجتماعات سماسرة وأعوان، كما سمعنا وقرأنا عن حفلات ممارسة الجنس الجماعي وتبادل الزوجات.
12) زواج الهبة24: ومعناه قول الفتاة أو المرأة لأحد الشباب: وهبتك نفسي، أو وهبت لك نفسي. فيقول الشابُّ أو الرجل: قَبِلْتُكِ زوجة لي، ثم يتم الزواج بينهما بناء على ذلك، ويمارسان العلاقة الزوجية كأي زوجين شرعيين دون أي مواثيق أو إعلان أو شهود أو ولي.
13) زواج الونس25: وهو عبارة عن زواج الكبار من الرجال والنساء الذين فقد كل منهم شريك حياته في أخريات عمره، إما بالوفاة أو بالطلاق، فيبقى هذا الشريك وحيدًا في بيته حيث تزوج أبناؤه أو بناته بعيدًا عنه أو قريبًا، لكنهم مشغولون ببيوتهم وشؤونهم، أو سافروا للعمل في الخارج، أو هاجروا لبلاد أخرى، أو عجزوا عن خدمة آبائهم أو أمهاتهم فألحقوهم بدار المسنين، وهناك يتعارفون وقد يرغبون في الزواج؛ لا لشهوة ولا تناسل ولكن للأنس والونس والشعور بالأمن، فتتمم الإدارة لهم ذلك.
14) زواج الخطيفة (المخطوفة)26: وهي الفتاة أو الأنثى التي يحبها رجل وتحبه، ويتقدم لأهلها فيرفضون لسبب أو لآخر، فيتفق معها على الهروب إلى مكان غير معروف وهناك يتزوجان ويضعان الأهل أمام الأمر الواقع، فتكون النتيجة إما قتلهما، أو قتل أحدهما، أو التبرؤ منهما ومقاطعتهما إلى ما شاء الله.
15) زواج الفصيلة27: وهي نسبة إلى الفصل وإنهاء النزاعات والفصل في الخصومات بين عائلتين أو عشيرتين أو قبيلتين، وذلك بالتبرع بامرأة أو أكثر من القبيلة أو العائلة التي اعتدى أفرادها على فرد من عشيرة أخرى، فتقوم العشيرة المعتدية بتقديم إحدى بناتها للزواج من أحد أفراد العشيرة المعتدى عليها كهدية للفصل في المنازعة وإنهاء الخصومة، ويتم ذلك دون استشارة الفتاة أو استئذانها أو معرفة رأيها، فتكون الفتاة كبش فداء للترضية.
16) زواج التجربة28: وهو عبارة عن قيام الفتى والفتاة المتحابَّيْن بتجربة المعاشرة الزوجية بينهما قبل الزواج الرسمي، فإن أعجبتهما أتمَّا باقي الإجراءات وأعلنا الزواج رسميًّا، وإن لم تعجبهما افترقا وأعرضا عن إتمام الزواج، وقد يبقيان صديقين ويكتفيان بعلاقة الصداقة، وقد يتباعدان.
17) زواج الرمل29: وهو من البدع الحديثة التي اخترعها هواة المتعة الحرام والرغبة الجنسية من مرتادي الشواطئ والسباحة والمصايف، حيث يلتقي الذكور والإناث وينامون على الرمال ويكشفون من أجسامهم ومفاتنهم أكثر مما يسترون، وحينئذ يتبادلون الرغبات ويكتبون أسماءهم على الرمال متجاورين كأنهما زوجان، وبهذا يختلي كل منهما بالآخر ويمارسان العلاقات الزوجية الآثمة، ومن حين لآخر يترددان على الشاطئ، فإن بقيت أسماؤهما بقيت العلاقة، وإذا طمست أسماؤهما أو انتهت عُطْلتهما كان ذلك انفصالًا بينهما وطلاقًا ونهاية للعلاقة التي كانت بينهما.
18) الزواج عند ضريح الحسين30: وهو عبارة عن ذَهاب شخصين ذكر وأنثى إلى ضريح الحسين، وهناك كتب الذكر ورقة يقول فيها: اشهد يا حسين أنني قد تزوجت فلانة- وهي المرأة التي صاحبته إلى الضريح- وأنها قد أصبحت زوجتي، وتأخذ المرأة الورقة ثم يقبِّلان ضريح الحسين، وبذلك تكون مراسم عقد الزواج قد تمت في نظرهما، فيذهبان إلى ممارسة العلاقة الخاصة على أنهما زوجان، وتتم المعاشرة والمتعة في أي مكان كما يفعل الأزواج الشرعيون.
19) زواج المطيار31: ومعناه الزواج بين الطيارين وأطقم الضيافة الجوية في أثناء- أو مدة- رحلة الطائرة والترانزيت بين رحلة الذَّهاب ورحلة العودة، وفي هذه الفترة تتم العلاقة بين الذكور والإناث كأنهم أزواج، ثم ينتهي هذا الزواج بالعودة إلى الأرض والحياة اليومية، وقد يتم بين غير الطيارين والمضيفين، حيث يتعارف بعض الركاب ويعقدون زواجًا بينهما فترة الرحلة والإجازة ولحين العودة إلى البلد الأصلي، وحينئذ ينتهي الزواج.
20) زواج الخميس32: وهو عبارة عن اتفاق بين رجل وامرأة على الزواج، على ألَّا يأتيها ولا يبيت عندها إل يوم الخميس أو أي يوم آخر، أمَّا باقي الأيام والليالي فيكون عند زوجته الأولى، وهذا الزواج قد يكون شرعيًّا إذا استكمل أركانه وشروطه مع التنازل عن حق المرأة في القسْم والعدل، وقد يكون غير شرعي إذا لم يستكمل الأركان والشروط الشرعية.
21) زواج المحجاج33: وهو عبارة عن اتفاق بين رجل وامرأة تريد الحج- وليس لها محرم- ورجل يرغب في أداء فريضة الحج، فتدفع تلك المرأة تكاليف الحج وتتزوجه ليكون محرمًا لها في أثناء الحج، وبعد انتهاء فريضة الحج والعودة إلى الوطن يتم الانفصال والطلاق.
22) زواج المسياق34(السائق): وهو شكل يتم بين المعلمات أو الموظفات اللائي يعملن في مناطق نائية عن أوطانهن، ويسافرن بصورة يومية أكثر من مسافة القصر، فتتزوج إحدى هؤلاء العاملات بالسائق الذي ينقلهن يوميًّا، ليكون بالزواج مَحْرمًا لإحداهن، فيكون السفر بهن مع وجود المحرم جائزًا، ولا يعترف بهذا الزواج إلا داخل الحافلة فقط، ولا يقع ذلك إلا بين الفئات المتعصِّبات مع أن الرُّفقة من النساء تجعلهن في أمان.
23) زواج الوثيقة الإدارية35: وهذا النوع ظهر بالمغرب العربي، حيث تقبل بعض الأسر أن تتزوج بناتها بدون مأذون شرعي عن طريق التراضي وإقامة حفل زفاف فقط، وفي هذا الزواج يتفق الطرفان على توقيع وثيقة إدارية لا يشير فيها الزوجان إلى أنهما تزوجا ولكن يثبتان فيها أن الزوج قد اقترض من أسرة الفتاة مبلغًا معينًا قد يتعدى ثلاثة ملايين، فإن خطر بباله طلاق ابنتهم تقدموا بهذه الوثيقة للسلطات الإدارية، فتخيره بين دفع المبلغ أو السجن، ويعرف هذا الشكل باسم (الكونترا أو الراهن).
24) زواج المقراض: وهو عبارة عن الاقتران بإحدى النساء العاملات العوانس ذوات الرواتب الكبيرة التي تخوِّل لها القروض الحسنة أو الميسَّرة من البنك العقاري، فيقترن بها رجل لا لحاجة إلى الزواج ولكن لحاجة إلى المال، وهي تقبل بذلك لحاجتها إلى الزواج والتخلص من العنوسة، فتتنازل عن بعض حقوقها أو عنها كلها في النفقة والمبيت، وتساعد الزوج بالحصول على القرض الحسن بضمان راتبها، وقد يكون ذلك عن طريق الولي والشهود والمأذون.
25) زواج البصمة: وهو عبارة عن قيام كل من الذكر والأنثى الراغبين في إقامة علاقة جنسية بينهما بوضع بصمة كل منهما على ورقة، وبهذا يصبحان- في تصورهما- زوجين، ويمارسان العلاقة الزوجية الحميمة.
26) زواج القرعة36: وهو عبارة عن اجتماع عدد من الذكور والإناث من غير المتزوجين لإجراء القرعة بين الفتيات المجتمِعات على عريس أو أكثر، وذلك بحضور العوائل، بهدف التشجيع على الزواج والقضاء على العنوسة، فمن ظهرت قرعتها لشخص أو ظهرت قرعته لفتاة فقد تعين كل منهما للآخر، فإن كان ذلك بموافقة الذكور والإناث ثم تممت الأمور الشرعية الأخرى من أركان وشروط كان زواجًا شرعيًّا، وإذا كان إكراهًا لأي من الطرفين، أو فقد الأركان والشروط أو بعضها، كان باطلًا.
27) زواج الشفاه37: وهو عبارة عن التقاء ذكر وأنثى في خلوة يتبادلان فيها القبلات الحارة من الشفاه ويَعُدان ذلك بديلًا لعقد الزواج، ويقيمان حياة زوجية كاملة بلا عقد ولا أركان ولا شروط.
28) زواج المصحف: وهو عبارة عن عقد قران بين الأنثى والمصحف بحيث تنقطع لقراءة القرآن وتعلمه وترفض كل من يتقدم إليها من الرجال، وبإعلان هذا الزواج عن طريق الأهل والأقارب والجيران، لا يحل لأحد من الرجال أن يتقدم إليها، ولا يجوز لها أن تنفصل، ولا يكون لها ميراث لأن ذلك من خصائص الرجال، وتصبح شخصًا مقدسًا يزوره الآخرون للتبرك والادعاء والاستشفاء.
29) زواج المحمول بالرسائل38: وهو عبارة عن إعجاب رجل بفتاة فيأخذ رقمها ويرسل لها رسالة مضمونها الحب والإعجاب والرغبة في الزواج، فترد عليه الفتاة: «زوجتك نفسي أو قبلت الزواج منك». ثم يقوم كل منهما باطلاع صديقين من أصدقائه على ذلك، ويسجلان على المحمول شهادتهما وأرقام بطاقة كل منهما، وبذلك يكون قد تم توثيق الزواج وتسجيله، فيمارسان العلاقة الزوجية دون ولي أو إشهار أو غيرهما.
30) الزواج الجماعي39: وهو عبارة عن اجتماع عدد من الرجال والنساء ويعقدون إيجابًا وقبولًا جماعيًّا، بحيث تكون كل امرأة لكل الرجال الحاضرين، ويكون كل رجل لجميع النساء الحاضرات، ويتم التناوب والتبادل بينهم حسب الاتفاق.
31) زواج البنطال (البنطلون)40:وهو في أصله زواج شرعي استوفى الأركان والشروط، ثم يترك الزوج زوجته ويترك عندها بنطلونه أو غيره من ملابسه ويسافر للعمل في بلد آخر ويغيب هناك عدة سنوات، فإذا أقامت زوجته علاقة آثمة وأنجبت فإن أولادها ينسبون إلى الزوج الحقيقي الغائب أكثر من عام، وعندما يعلم ذلك يفرح ويُقِرُّه؛ لأن رجال الدين في بلدهم يفتون بذلك، استنادًا للحديث: «الولد للفراش»41.
32) الزواج السياحي أو الصيفي: وهو ذلك النوع من الزواج الذي يتم بين رجل وامرأة، ويستند إلى مقومات الزواج الأساسية، من حيث سلامة العقد والمهر وموافقة الأهل، إلا أنه مؤقت بفترة الصيف أو السياحة أو السفر، وبذلك يفقد الغاية الأساسية للزواج السليم، المتمثلة في تكوين أسرة آمنة ومستقرة42. وفيه تُبَيَّتُ النية على الطلاق في نهاية الصيف أو السياحة، وقد يُفْصَح عن هذه النية43، واجتمع جمهور العلماء على تحريم الزواج بنية الطلاق أو التصريح بها؛ لأنه حينئذ يكون متعة ونكاحًا مؤقتًا.
33) الزواج المدني44: وهو الاقتران بين ذكر وأنثى في ضوء القانون، ولا يخضع لعقيدة أو جنس أو لون، فالدولة هي التي تتولى تنظيمه بواسطة القانون، وهي التي تتولى الفصل في المنازعات التي تقع بينهما، وهو بذلك زواج علماني تطبيقًا لمبدأ «فصْل الدِّين عن الدولة»، وبذلك تتزوج المسلمة مسيحيًّا أو يهوديًّا، ويتزوج المسلم شيوعية أو ملْحِدة، وهكذا مما يخالف شرع الله سبحانه وتعالى، فهو زواج باطل شرعًا، وهذا الزواج لا يتم إلا أمام موظف الدولة المختص، وليس فيه مهر؛ لأن القانون يَعُدُّ ذلك امتهانًا للمرأة.
34) زواج الفرند (الأصدقاء): وهو الزواج الذي تتنازل فيه المرأة عن حقها مؤقتًا في المبيت والنفقة والسكنى من غير أن يُنَصَّ على ذلك في العقد، بمعنى أن الذكر والأنثى ليس لهما سكن إلا بيت العائلة وليس لهما قدرة على النفقة؛ لأنهما طالبان، فيبقى كل منهما عند أهله ولكنهما يمارسان الحياة الزوجية والعلاقة الجنسية حينما يلتقيان هنا أو هناك إلى أن يغنيهما الله من فضله، ونظرًا لأن هذا الزواج يستوفي الأركان والشروط فإنه يثبت النسب والمصاهرة والميراث، وهذا النوع من الأشكال المعاصرة إلا انه في نظر كثير من العلماء زواج صحيح وشرعي مع التنازلات المؤقتة عن حق المرأة في النفقة والسكنى، ونحوها، وخالف في جوازه آخرون45.
ثالثًا: مقاصد الشريعة في أشكال الزواج المعاصرة
بعد أن تعرفنا في الفقرة الأولى على مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعي، وبعد أن تعرفنا على نماذج الزواج المعاصر وأشكاله، نستطيع أن نقول: إن هذه الأشكال المعاصرة لا تَمُتُّ إلى مقاصد الشريعة في الزواج الشرعي بصلة، بل إن هذه الأشكال تناقض تلك المقاصد الشرعية وتهدمها. فقد رأينا معظم تلك الأشكال تتم بصيغ غير صيغ الإيجاب والقَبول الشرعيين.
ووجدنا معظمها يتم بلا ولي، وقد بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه «لا نكاح إلا بولي»46، وأن النكاح بدون ولي باطل، بل إن النكاح بدون ولي زنًى كما جاء في الحديثين اللذين روتهما السيدة عائشة (رضي الله عنها): «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل»47، وأن الزانية التي تنكح نفسها بغير إذن وليها، وإنما كان ذلك لأن النكاح بدون ولي يضعف منزلة المرأة ويضيع حقها، ويجعل الولي يمتنع عن عونها وحمايتها بل وربما يقتلها أو يقاطعها ويتبرأ منها.
ورأينا معظم هذه الأشكال تتم بلا شهود عدول أو شهود غير عدول، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين»48.
ووجدنا معظم هذه الأشكال تتم بلا إشهار، وهو الذي يحصّن المرأة ويحفظ حقوقها ومنزلتها، ولذلك حثَّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: «أعلنوا النكاح ولو بالدف»49، ونهى عن نكاح السِّر وحرَّمه، ورأينا معظم هذه الأشكال بلا مهر، فهي من نكاح الشِّغار50 الذي أبطله الإسلام ونهى عنه.
ورأينا بعض هذه الأشكال مما حرمه الإسلام وأجمع أهل السُّنة على تحريمه، كنكاح المتعة ونكاح المحلَّل، والنكاح المؤقت51. ورأينا بعض هذه الأشكال صوريًّا، لتحقيق مصلحة مالية وليس للسكينة والمودة، كالزواج الأبيض، وزواج المقراض، وزواج الوثيقة الإدارية.
ورأينا بعض هذه الأشكال يتم بالإكراه الذي حرمه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كزواج القرعة والفصلية والخطيفة. ورأينا بعض هذه الأشكال مؤقتًا فهو زواج متعة كالمطيار والمسياق والمحجاج.
ورأينا من هذه الأشكال ما يقر الحرام ويُحلِّله ويُدْخِل في النَّسب ما ليس منه كزواج البنطال، وقال الله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: 5]. فأين هذه الأشكال من مقاصد الشريعة في الزواج الشرعي من السكينة والمودة والرحمة؟
وأين هذه الأشكال من مقاصد الشريعة في حماية النسل وتكاثره بطريق مشروع؟
وأين هذه الأشكال من إقامة الأسرة وحمايتها وهي النواة الأولى للمجتمع؟
وأين هذه الأشكال من غضِّ البصر وتحصين الفرج وتحقيق الحياء والعفة وإحصان المرأة وعزتها.
وأين هذه الأشكال من تحقيق التكامل والتعاون والتلاحم والتراحم في قوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187]، وقوله: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]؟
وأين هذا من تحقيق التعارف في قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
وحاصل ما تقدم أن:
مقاصد الشريعة الأصلية والتبعية غير موجودة في هذه الأشكال المعاصرة من الزواج، بل المقاصد الموجودة فيها أضداد المقاصد الشرعية، فالمقصود الأصلي من النكاح هو النسل إيجادًا وبقاءً، وأن أعضاء التناسل ما هي إلا آلات خلقها الله لتكون أسبابًا لمسبَّبات ووسيلة إلى تحقيق المقصود الأصلي، ولم يخالف أحد من علماء الشريعة في هذا؛ لأنهم أجمعوا على أن المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية الخمسة وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال؛ والمقاصد التبعية أربعة هي:
1) التحصُّن من الشيطان..... وقد رأينا أن هذه الأشكال المعاصرة من أعمال الشيطان وليست من أعمال الشريعة.
2) الترويح عن النفس وإيناسها، وهذا وإن كان موجودًا في معظم الأشكال المعاصرة إلا أنه ترويح بما حرم الله وليس بما شرع الله، ترويح وباطنه شقاء وعقاب أليم.
3) ومن المقاصد التبعية تفريغ القلب عن مشاغل تدبير المنزل... وبعبارة أخرى توزيع المسؤولية بين الزوجين، وهذا غير موجود في الأشكال المعاصرة التي تقوم على اللهو واللعب والمتعة الحرام دون مسؤوليات.
4) ومن المقاصد التبعية في الزواج الشرعي مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية، والقيام بحقوق الزوجة والصبر عليها، وهذا لا يتحقق في الأشكال المعاصرة المحدودة بأيام وربما ساعات فقط52، ورأينا الزواج المدني الذي يعارض أحكام الشريعة ولا يعبأ بمقاصدها وآثارها.
وعن موقفها من هذه الأشكال المعاصرة للزواج تقول د. عيدة سيف العازمي في رسالتها للدكتوراه ما يؤكد منافاة هذه الأشكال لمقاصد الشريعة، حيث قالت: «إن الأصل في الأبضاع التحريم، وذلك بإجماع العلماء، فإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تستباح إلا بما دل الدليل على حِلِّها، وأين الدليل على إباحة الزواج بالطرق الحديثة السابقة التي ابتلينا بها في الوقت المعاصر؟ وإذا كان بعضها قد توافرت فيه الشروط والأركان مما قد يجعله صحيحًا أمام الناس، فإنه لن يكون حلالًا بيننا وبين الله، فمثل هذه الأشكال لا يحبها الله ولا يرضاها؛ لمنافاتها مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج، ولما فيها من الغش والخداع والمفاسد العظيمة، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم ما كانت مفسدته أعظم من مصلحته، وقد ثبتت مفسدة هذا النوع من الزواج بما لا يدع مجالًا للتردد في تحريمه؛ لأن الشريعة جاءت بسدِّ الذرائع، والفرق شاسع بين الزواج الشرعي المعتاد الذي يحقق مقاصد الشريعة من حصول الأولاد، وإكثار النسل، وحفظ الأنساب، والسكن، والمودة والرحمة. وهذه الأشكال التي لا تحقق ذلك ولا معظمه وإن حققت القليل منه، فضلًا عن أن الزواج بهذه الطرق الحديثة فيه محرمات أخرى من الغش والخداع وظلم المرأة وإهانة أوليائها، وقد حرم الله كل ذلك، كما أن الزواج بالطرق الحديثة فيه ذريعة إلى ترك الزواج الشرعي حيث هو الأسهل، ولا توجد فيه أعباء ولا مسؤوليات، فبذلك يكون صدًّا عن سبيل الله ومحاربة تشريعه، وفيه ضياع للأبناء إن وجدوا، واختلاط للأنساب، وقد يؤدي مع مرور الوقت إلى نكاح المحارم، فهي أشكال كلها مظالم ومخاطر...»53.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد الشريعة والإتفاقيات الدولية (مجموعة بحوث)، 2013 مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 417-444. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |