عبد الكريم بن محمد الطاهر حامدي: أستاذ الفقه وأصوله، كلية العلوم الإسلامية، جامعة باتنة، الجزائر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وبعد: يقول الله تعالى في كتابه: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:٣-٤]، هاتان آيتان من عشرات الآيات التي يأمر فيها الله تعالى عباده بعبادته، ممتنّا عليهم بنعمتي الإطعام من الجوع، والأمن من الخوف، وهذا تنبيه للمسلمين وغيرهم في أقطار المعمورة؛ للتفكّر والتدبّر في مقصد مهمّ من مقاصد القرآن، وهو مقصد حفظ الأمن.
من هنا تتبادر إلى الأذهان التّساؤلات الآتية: ما حقيقة الأمن في القرآن؟ وما قيمته ومنزلته من سائر المقاصد وكلّيات القرآن؟ وما هي الأدلّة والبراهين
الدالة على أنّ حفظ الأمن من مقاصد القرآن؟ وما هي صور الأمن، والوسائل الحافظة له؟
هذه الأسئلة، هي التي يجيب عنها هذا البحث، مقسّما إلى المباحث الآتية:
المبحث الأول: مفهوم حفظ الأمن والأدلة على كونه مقصدا قرآنيا
المطلب الأول: مفهوم حفظ الأمن
المطلب الثاني: الأدلة على كون حفظ الأمن مقصدا قرآنيا
المطلب الثالث: ضرورة حفظ الأمن
المبحث الثاني: صور حفظ الأمن ووسائله في القرآن
المطلب الأول: حفظ الأمن الدّيني
المطلب الثاني: حفظ الأمن الفكري
المطلب الثالث: حفظ الأمن النفسي
المطلب الرابع: حفظ الأمن الاجتماعي
المطلب الخامس: حفظ الأمن الوطني والعالمي
المبحث الأول: مفهوم حفظ الأمن والأدلّة على كونه مقصدا قرآنيا
في هذا المبحث، سأتحدّث عن حقيقة الأمن في اللغة والاصطلاح، والمراد بحفظ الأمن، والأدلة على كونه من مقاصد القرآن، ضمن المطالب الآتية:
المطلب الأول: حقيقة الأمن في اللغة والاصطلاح
الفرع الأول: الأمن لغة
الأمن: ضدّ الخوف، مشتقّ من الفعل «أمِن»، كفرِح، أمْنا وأمَانًا بفتحهما، وأمْنًا وأمَنَةً محركتين. والأمَنَةُ بالتحريك: الأمْن، ومنه قوله عزّ وجل: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [آل عمران:١٥٤]1. فالأمن في لغة العرب: طمأنينةُ النفس، وذهابُ الخوف، يقال: «رجل أمَنةٌ: يأمَن كل أحد، وقيل: يأمَنُه الناس، ولا يخافون غائلته...ورجل أمَنةٌ أيضا، إذا كان يطمئنّ إلى كل واحد، ويثق بكل أحد2.
الفرع الثاني: الأمْن اصطلاحا
الأمْنُ في لغة الفقهاء: الطّمأنينة وسكون القلب، يقال: «أمِن زيدٌ الأسدَ أمْنًا، وأمِنَ منه، مثل: سَلِمَ منه، وزْنا ومعْنى، والأصل أن يستعمل في سكُون القلب، يتعدّى بنفسه وبالحرف، ويتعَدّى إلى ثان بالهمزة، فيقال: آمنتُه منه، وأمِنتُه عليه بالكسر، وائتمنتُه عليه، فهو أمِين. وأمِنَ البلدُ: اطمأنَّ به أهلُه، فهو آمِنٌ وأمينٌ، وهو مَأمُون الغائلة، أي ليس له غور، ولا مكْر يخشى، وآمنت الأسير: بالمدِّ أعطيته الأمان فأمِن، هو بالكسر، وآمنت بالله إيمانا: أسلمت له، وأمِن بالكسر أمانة، فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازا، فقيل: الوديعة أمانة ونحوه3». والأمنُ: «عدم توقع مكروه في الزمان الآتي4»، وأصله: «طمأنينة النفس وزوال الخوف5»، فقوله تعالى: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [النساء:١٠٣]، أي سكنت قلوبكم من الخوف6. والأمْن يأتي في مقابلة الخوف مطلقا، لا في مقابلة خوف العدوّ بخصوصه7. أي يعمّ جميع أسبابه، كالأمن من الفقْر، والقتل، والجوع، والجور، وسائر أنواع المكاره.
وحقيقة الخوف: الرّوع8، والرّعب9، والفزع10،وهو لا يقتصر على توقّع حصول مكروه، بل يترتّب على فوات مرغوب، أو محبوب، فهو: «توقّع حلول مكروه أو فوات محبوب11».، وعرّفة ابن عاشور رحمه الله بقوله: «الأمن حالة اطمئنان النفس وراحة البال، وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصّحّة والرزق، ونحو ذلك12».
ويمكن تعريف الأمن بأنه: «شعور الإنسان فردا أو جماعة، في الوطن وخارجه، بطمأنينة الحياة والعيش، وانتفاء أسباب الخوف».
تحليل التعريف
- الأمن: شعور باطني، قبل أن يكون سلوكا ظاهريا، يسكُن شغاف القلب، وأحضان النفس.
- هو طمأنينةٌ وسكينةٌ من الفزعِ، والرّعبِ، والرّهبةِ، والذّعرِ، التي تعكِّر صفْو حياة الإنسان وعيشه.
- شامل للفرد والجماعة، والوطن والعالم.
- لا يتحقّق إلا بانتفاء أسبابه عن محيط الإنسان.
الفرع الثالث: حقيقة حفظ الأمن
يأتي الحفظ بمعنى الرعاية، والحراسة، والحرص، يقال: «حفِظ المالَ والسِّرَّ حفْظا، أي: رعاهُ13»، والمحافظةُ: «المواظبة على الأمر... وحافظ على الأمر والعمل: ثابر عليه وحرِص... وحفظتُ الشيء حفْظا، أي حرستُه... والمحافظةُ: المراقبة... والمحافظة والحفاظ: الذبُّ عن المحارم، والمنع لها عند الحروب... وأهل الحفائظ: أهل الحفاظ، وهم المحامون على عوراتهم، الذّابون عنها14».
من هذه التعاريف للحفظ ومشتقّاته، يتبيّن أن حفظ الأمن معناه: تعاهدُه، ورعايتُه، وحراستُه، مع الحرص والمثابرة، والذّبّ عنه. ونقيضُ حفْظِه: الغفلةُ عنه، وضياعُه، وزوالُه.
المطلب الثاني: الأدلة على كون حفظ الأمن مقصدا قرآنيا
جاءت نصوص القرآن حافلة بتعظيم شأن الأمْن، وتنوّعت أساليب الدلالة على أهميته في حياة الإنسان، ومن ذلك امتنانه تعالى على المسلمين بنعمة الأمن في البلد الحرام: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة:١٢٥]، أي: «يأمن به كل أحد، حتىّ الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار15». ودعا إبراهيم عليه السلام ربّه، أن يجعل البلد الحرام آمنا، ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا﴾ [البقرة:١٢٦]، أي: «أن يكون محفوظا من الأعداء الذين يقصدونه بالسّوء16». وامتنّ على قريش بهذه النِّعمة: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت:٦٧]، أي: «يأمن فيه ساكنه من الغارة، والقتل، والسبي، والنهب، فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيره من العرب، فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها17». كما امتنّ الله على القوم الغابرين بأمْن القرى والبلدان، كامتنانه على أهل مصر في عهد يوسف بالأمن: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ﴾ [يوسف:٩٩]، أي: «من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارّة، وزال عنهم النّصب ونكد المعيشة، وحصل السّرور والبهجة18».ومن ذلك أمْنُ الطّرقات والسّير فيها ليلا من غير خوف: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ﴾ [سبأ:١٨]، أي: «لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا19». وكذلك أمْنُ المعَاش: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:١١٢]، وهذه القرية هي: «مكّة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد... وكانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسّر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان20». كما أشار القرآن إلى أمْنِ القبيلة والجماعة في قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:٣-٤]، والمراد هنا قريش، وفي الآية دليل على أن «رغد الرزق والأمن من المخاوف، من أكبر النعم الدنيوية، الموجبة لشكر الله تعالى21». وكذلك أمْنُ العمران من بناء الدُّور، وإقامة الحدائق، واستثمار الزرع، والثمر، وغيرها من المرافق: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ [الشعراء:١٤٦- ١٤٨]، وفي هذا: «تنبيه على نعمة عظيمة لا يدل عليها اسم الإشارة؛ لأنها لا يشار إليها وهي نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم ولا يتذوق طعم النِّعم الأخرى إلا بها22». كما أشار القرآن إلى الأمن في المعاملات بين الناس، كترْك توثيق الدّيون بالكتابة، والإشهاد، والرّهن، عندما يأمَنُ الناس بعضهم بعضا، فقال: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة:٢٨٣]، أي: «إن أمِنَ كل من المتداينين الآخر، أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن... والأمانة: مصدر آمنه، إذا جعله آمنا، والأمن: اطمئنان النفس وسلامتها مما تخافه23». وامتنّ الله على المؤمنين بالأمَنَة من العدوِّ أثناء الحرب: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ [آل عمران:١٥٤]، يعني: «أمْنا، والأمْن الأمنة بمعنى واحد، وقيل: الأمن يكون مع زوال سبب الخوف، والأمَنَة مع بقاء سبب الخوف وكان سبب الخوف هنا قائما»24.
هذه بعض النصوص الصّريحة الدلالة في أهمية الأمْن في حياة الإنسان، ومعاشه، وعمرانه، في سلْمِه وحرْبِه، مما يدل دلالة واضحة أنّ حفظ الأمن في الدنيا مقصود شرعا.
المطلب الثالث: ضرورة حفظ الأمن
وإتماما لهذا المقصد وتكميلا، لا بأس أن نورد ما ذكره أئمّتنا من أن الأمن ضرورة لا قيام للعمران ولا للتمدّن إلا به، يقول الماوردي: «اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، هي قواعدها وإن تفرعت، وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن، وخصب دارّ، وأمل فسيح25». فجعل الأمن أحد القواعد الكبرى التي تصلح بها الدنيا، فإذا فات آل أمرها إلى الفساد. ثم يشرح هذه القاعدة فيقول: «فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتتيسر فيه الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس فيه الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيس والعدل أقوى جيش؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب الموادّ التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم26»،ويجعل الجويني الأمن والعافية، من أهمّ النعم على الإنسان، فيقول: «لا تصفو نعمة من الأقذار، ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار.. فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، ولا يهنأ بشيء من دونها27». فمقصد حفظ الأمن يأتي في مقدّمة مقاصد الدّين، فبحفظه يأمن الناس على دينهم، وعباداتهم، وأنفسهم، وأعراضهم، ومعاشهم، وحرياتهم، وغير ذلك مما يتعلق بالحياة. يقول الغزالي: «إن نظام الدِّين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدِّين بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحّة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة، والمسكن، والأقوات، والأمْن»، إلى أن يقول: «فلا ينتظم الدِّين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمّات الضروريات28».
المبحث الثاني: صور حفظ الأمن ووسائله في القرآن
لما كان حفظ الأمن مقصودا شرعا، فإنه لا يتحقّق إلا إذا كان شاملا لمظاهر الحياة، ولما كان الإنسان لا يحيا الحياة الآمنة من غير دين متّبع، وعقل سليم مفكّر، ونفس مطمئنة، وعيش كاف، آمنا على أسرته، وفي مجتمعه، في وطن وعالم آمن من مظاهر القلق والرّعب والخوف29، فإن المقصود من الأمن لا يتحقّق إلا برعايته وحفظ صوره. فما هي صور الأمن، ووسائل حفظه في القرآن؟
المطلب الأول: حفظ الأمن الدِّيني
إنّ من نعم الله على الإنسانية أن أكرمهم بدين الإسلام، فأمرهم باتباعه، ونهاهم عن تركه والإعراض عنه، أو استبدال دين آخر به، فقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:٨٥]؛ لذا فالأمْنُ من الخسران في الدنيا وفي الآخرة، يكون باتباع دينه، والعمل به، ولزوم طاعته تعالى وطاعة رسوله ﷺ. وما القلق والاضطراب، وكثرة الانتحار، وازدياد نموّ الجريمة المروِّع إلا نتاج لترك الدّين والإعراض عنه. وعليه فالاعتصام بالدِّين من أكثر الأسباب الموجبة للأمن، قال تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة:٣٨]، ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه:١٢٣]، ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨]، فاتباع الدِّين من أكثر أسباب رفع الخوف عن الإنسان في حياته؛ إذ يملأ قلبه طمأنينة وسكينة، ويشحن نفسه قوّة وإرادة، ويفسح له باب الأمل والرجاء، ويقطع أسباب اليأس والقنوط. كما يعصمه الدّين من الضّلالة والغواية، المؤدّية إلى الشّقاء، والمعيشة الضّنك، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه:١٢٤]، أي: «ضيقة شديدة... ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا، أنه شديد الحرص على الدنيا، متهالك على ازديادها خائف
من انتقاصها، غالب عليه الشحّ بها، حيث لا غرض له سواها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة30».
وإذا كان حفظ الدّين موجبا لحفظ الأمن، فإن الخوف على ضياع الدّين وذهابه، أو تحريفه وتبديله، هاجس يعتري أتباعه وينغّص حياتهم، ومن ثم أضحى حفظ أمْن الدّين من ضرورات قيام الحياة وبقائها وأمْنها؛ لذا كانت فتنة الناس عن دينهم بإلقاء الشّبة، أو التّأويل الفاسد، أو الصّدّ لأتباعه عنه، أعظم خطرا على الدّين من القتل، قال تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:١٩١]، والمراد من الفتنة: «إلقاء الخوف واختلال نظام العيش31»، والمراد من الآية: «إن فتنتهم إيّاكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، أشدّ قبحا من القتل؛ إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه واضطهاده، وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره32». لذا أمر الله تعالى بالتعريف بالدّين ونشره، والدّعوة إليه بالحكمة والجدال بالحسنى، وبيان أحكامه، والنّفير من أجل التفقّه فيها، وإقامة شعائره الظّاهرة جماعيا، وحفظها من التّغيير والتّبديل، والتّشويه والابتداع، والردّ على الشّبه، وسنّ العقوبات الزاجرة والرادعة لمن عطّلها، أو تهاون في أدائها، أو ارتدّ عن الدّين، كما أوجب قتال من حاربه، وجعل غايته دفع الفتنة عن أتباعه، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[البقرة:١٩٣]، أي: «حتى لا تكون لهم قوّة يفتنونكم بها ويؤذونكم؛ لأجل الدّين، ويمنعونكم من إظهاره أو الدّعوة إليه... ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن لصدّه عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى الدهان والمداراة، أو الاستخفاء أو المحاباة»33. وعليه، فلا قيام للحياة، ولا أمْن فيها إلا بإقامة الدّين واتباعه على الوجه الحقّ. ولما كان قيام الدنيا لا يتم إلا بالدِّين، كان حفظ أمْن الدّين من أوكد الواجبات على أولياء الأمور، يقول الجويني عن واجب الإمام نحو الدِّين: «حفظ الدّين بأقصى الوسع على المؤمنين، ودفع شبهات الزائغين، ودعاء الجاحدين والكافرين إلى التزام الحقّ المبين34». وهذا الحفظ ضروري؛ لأنّ بالدّين تقام الحياة الدنيا، وبفقدانه تتعطّل مصالحها، وتؤول إلى الفساد والتهارج وفوت الحياة في الأولى، والخسران المبين في الآخرة35. ويقرر الماوردي أن الملك يقوم على ثلاثة أسس، هي: الدِّين، والقوّة، والثروة، وأن أساس الدين، أثبتها قاعدة، وأدومها مدة، وأخلصها طاعة36.
المطلب الثاني: حفظ الأمن الفكري
والمراد به حفظ العقل من أسباب اختلاله أو زواله، كالمسكرات والمخدّرات والمفترات، وغيرها مما يمنع قيام العقل بوظيفته المنوطة به شرعا. ولا يخفى على عاقل ما للعقل من دور في قيام الحياة، والتّكليف، والنشاط العمراني، والنهضة العلمية والفكريه، والاجتهاد والتّجديد في شتى الميادين الدّينية، والثقافية، والفنّية، مما يعود على البشرية بالصلاح والخير. فلا حياة من غير عقل، أو مع عقل مريض معتلّ، أو مع عقل مكبّل بأغلال القمع والقهر. من هنا فإن المراد من حفظ أمْن العقل، حفظ ذاته مما يؤول به إلى العدم أو النقص، كالأمراض والمسكرات، وحفظ وظيفته من التّجهيل، والتعطيل، والتقليد، وحفظه أيضا من المعتقدات الفاسدة، والتصوّرات الخاطئة، والأوهام والظّنون. ونصوص القرآن طافحة بمدح العقل وتمجيده، والحثّ على استخدامه في البحث والنظر في ملكوت السماوات والأرض، والنّعي على المعطّلين لعقولهم، المقلّدين لغيرهم، العابثين بعقولهم فيما لا ينفع من الاعتقاد الفاسد، والتفكير الضّالّ. من هنا يتجلّى الخوف على العقل، ليس من ذهابه وفواته، بل من تعطيله، أو من استخدامه في غير ما خلق له.
فتجهيل العقل بترك تعليمه، أو حبسه عن معين العلم، من أكثر الأضرار المخوفة للعقل، المؤدية إلى الفساد في الدّين، كالشِّرك، وعبادة غير الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوني أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر:٦٤]، أي: «هذا الأمر صدر من جهلكم، وإلا فلو كان لكم علم بأن الله تعالى الكامل من جميع الوجوه، مسدي جميع النعم، هو المستحق للعبادة، دون من كان ناقصا من كل وجه، لا ينفع ولا يضر، لم تأمروني بذلك37». وقال ابن عاشور: «والجهل هنا ضدّ العلم؛ لأنهم جهلوا دلالة الدلائل المتقدمة فلم تفد منهم شيئا، فعموا عن دلائل الوحدانية التي هي بمرأى منهم ومسمع، فجهلوا دلالتها على الصانع الواحد، ولم يكفهم هذا الحظ من الجهل حتى تدلوا إلى حضيض عبادة أجسام من الصخر الأصم38».
ومعلوم أن الشّرع دعا إلى تنمية العقل البشري بالعلم39، واستثمار قدراته في كسب المعارف المختلفة باختلاف المقاصد والحاجات، بل ارتقى بالعلم فجعله الطّريق الموصل إلى الجنّة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «من سلك طريقا يلتمس به علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة40»، والعلم جاء منكّرا في الحديث، للدّلالة على تنوّع العلوم والمعارف، وأنها ليست منحصرة في علوم الدّين، ويفهم منه أيضا الرّحلة والسّفر في طلب العلم. وبالعلم يقاس مقدار تقدّم الأمم، وعلوّ مكانتها وسؤددها، وبجفافه وقحطه تنحدر، كما هو حال أمّتنا في القرون المتأخّرة، التي أصبحت فيها عالة على غيرها في الزراعة، والصناعة، والتجارة، والخبرات، وهو ما يشكِّل هاجسا من هواجس الخوف على الأمن الفكري. ومن آثار الجهل وعواقبه الوخيمة، إتيان الفواحش، وسفاهة الرأي، والمجون، قال تعالى: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل:٥٥]، أي: «تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك، أو يجهلون العاقبة، أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون، أي بل أنتم قوم سفهاء ماجنون41».
أمّا تعطيل العقل عن مهامِّه، والحجر عليه، طوعا أو كرها، فهو أمر مذموم مخوف؛ لأنه مؤذن بهلاك الأمة، بضعف عمرانها، وتأخّر اقتصادها، وطمع أعدائها فيها، وغلبة التقليد المفضي إلى التّبعية الفكرية، والاقتصادية. وقد ذمّ الله سبحانه التّبعية في الاعتقاد والعبادة والتشريع، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾[البقرة:١٧٠]، فالآية تشنِّع على التقليد والمقلّدين، فهم في مرتبة من لا يعقل، قال الشيخ محمد عبده: «ولو كان للمقلّدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية بأسلوبها لتنفيرهم من التقليد، فإنهم في كل ملة وجيل يرغبون عن اتباع ما أنزل الله استئناسا بما ألِفوه مما ألْفوا آباءهم عليه، وحسبك بهذا شناعة؛ إذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس وإن كبر عقله وحسن سيره؛ إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره42».
والاستبداد من أهمّ معوّقات انطلاق العقل في البحث والتفكير والإبداع، فحرّية العقل من قيوده أمر ضروري لسلامة العقل وصحته وعافيته، ولا معنى لوجود عقل مسجون، أو مقيّد بالأغلال، أو محجور عليه، أو موجّه لخدمة أغراض خاصّة. ففي هذه الأحوال يفقد العقل قيمته الفكرية، وخاصيته في التجرّد والإخلاص، وتوخّي الحقّ والحقيقة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٤٢]، نهاهم القرآن عن شيئين: «خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم، تمييز الحقّ، وإظهار الحق؛ ليهتدي بذلك المهتدون، ويرجع الضالّون، وتقوم الحجّة على المعاندين43». فلبس الحقّ لباس الباطل، وكتمان الحق والحقيقة، قد يكون طوعا مقابل عوض مادي زائل من الزعماء والكبراء، أو تحت القهر والإكراه.
ويدخل في حفظ الأمن الفكري، أمن المعتقدات من الزيادات، كالتأويل الباطل، والتقوّل في صفات الله بغير علم، وخلط العبادات بالبدع والمحدثات، وتفسير النصوص بالتشهّي والهوى، وغير ذلك من المخاوف المحدقة بالمنظومة العقدية والتشريعية. يقول الشيخ محمد رشيد رضا: «ومن اللبس أيضا ما يفتريه الرؤساء والأحبار، فيكون صادّا لهم عن سبيل الله، وعن الإيمان بنبيّه عن ضلال وجهل، وهو لبس أصول الدين بالمحدثات والتقاليد التي زادوها على الكتب المنزلة بضروب من التأويل، والاستنباط من كلام بعض المتقدمين وأفعالهم44».
وقد وقع في تراثنا هذا اللّبس والخلط، فأدخلت الإسرائيليات في التفسير، والمرويات الموضوعة في الحديث، والتأويل الباطل في العقائد، مما أدّى إلى نشوء الفرق الضالّة. يقول ابن عاشور: «وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة: إننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعده، وهذا نقض لجامعة الملّة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله...وقد فعل ذلك النّاقمون على عثمان فلبّسوا بأمور زينوها للعامة... وقد قالت الخوارج: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حقّ أريد بها باطل. وحرّف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن، وزعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا، فكان من ذلك لبس كثير، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب الرسائل الملقبين بإخوان الصفاء، ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة، فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيِّدها ويعارضها45».
إنّ ممّا يهدّد أمْن منظومتنا الفكرية، العقدية والتشريعية، والتّاريخية، الفكر الاستشراقي والحداثي الذي واصل على نفس النّهج في التّحريف، والتزييف، والتأويل الباطل، بأدوات وأساليب حديثة، طاعنا من وراء ذلك في التّراث والقيم والأخلاق، متذرّعا بالنّقد، وحرية التفكير، والتجديد، وغيرها من العناوين البرّاقة المخادعة؛ لذا كان التصدّي لتخليض المنظومة التراثية مما علق بها من الركام أمرا واجبا على العلماء والمفكّرين، وكذا ردّ شبهات الطّاعنين، والمرجفين من الحداثيين. وهذا الجهد لا يتعارض مع فتح باب الاجتهاد والتجديد في تفسير النص وتأويله، أو تقصيده والقياس عليه، في حدود الضوابط الشرعية عند الأصوليين.
ويدخل في حفظ الأمن الفكري، الحذر من الغزو الإعلامي والثقافي الرّهيب، الذي يهدف إلى طمس معالم الشخصية الدينية والثقافية، والحضارية للأمة الإسلامية في عصر العولمة، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تنقل الأخبار، والأفكار، وتبثّ السّموم،وتنشر الصّور، في أسرع من البرق، مما يحتّم على الأسر، والمجتمع المدني، والعلماء، وأرباب الفكر والثقافة، تحصين المجتمعات من هذا الشرّ المستطير، وعلى أولياء الأمر تنفيذ العقوبات الزاجرة من هذا الخطر الدّاهم.
المطلب الثالث: حفظ الأمن النّفسي
والمراد به حفظ النّفس المعصومة من أسباب الهلاك المادّي والمعنوي46، فيؤول الأمر إلى حفظ الأمْنين معا. حفظ الأمن المادِّي للنفس: والمراد به الأمْن من الهلاك المادّي، ويتعلّق بكل ما يضعف النفس عن أداء واجباتها الدّينية والدّنيوية، من جوع، وعطش، ومرض، أو يتلف النّفس كلِّية، كالقتل المؤدّي إلى مفارقة الحياة. والقرآن مليء بالنّصوص الداعية إلى الحفظ المادّي للنفس، كإباحة الأكل من الطيبات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة:١٧٢]، و الغاية حفظ النفس من أضرار الجوع، ونهى عن حرمان النفس من طيبات المآكل والمشارب؛ لأنه مؤذن بهلاكها، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة:٨٧]، أي: «لا تحرّموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمّدوا ترك التمتع بها تنسّكا وتقرّبا إليه تعالى، ولا تعتدوا فيها بتجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف الضارّ بالجسد، كالزيادة على الشبع والريّ فهو تفريط47». ونهى عن الإسراف: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:٣١]، فالإسراف في الأكل والشرب مضرّ، ويكون إما «بالزيادة على القدر الكافي، والشّره في المأكولات الذي يضرّ بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفّه في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام48». وامتنّ على عباده بما في الأنعام من منافع اللّحم، والصّوف والوبر والشعر، يصنع منه اللباس والفراش والغطاء؛ لحفظ الجسم، فقال: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ [النحل:٥]، وقال: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل:٨٠]، ونهى عن تناول الخبائث، كالميتة، ولحم الخنزير، والدم المسفوح، فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة:٣]، والغاية من التّحريم حفظ النفس من الهلاك، ونهى عن شرب المسكرات كالخمر؛ لأنها مضرّة بالصحّة، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:٩٠]، كما رخّص حالَ المجاعة في الأكل مما حرّم؛ لدفع الهلاك عن النفس، فقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة:٣]، والمراد بالمخمصة المجاعة، وفي هذه الحال يباح له الأكل بقدر ما يدفع عن نفسه الهلاك، من غير توسّع49. والمقصد من إباحة الله تعالى في حال الاضطرار ما حرّمه في حال الاختيار هو دفع الضّرر المتوقّع على النفس من الجوع50.
ومما يحفظ أمْن النّفس المادّي، حفظها من العدوان المؤدّي للقتل، وذلك بتشريع العقوبات التعزيرية، الذي تردع المجرمين، وتحفظ الأمن في الطّرقات، والأزقة والشّوارع، والأسواق، وفي البيوت والمنازل، حيث يجتمع الناس ويلتقون. وكذا إقامة العدل في القضاء بتسليط العقاب على المجرمين، من الأسباب الدافعة لاستتباب الأمن في المجتمع، بخلاف ما نراه اليوم من التهاون، وعدم الحزم، وغياب الرّدع، وانفلات المجرمين، مما أدّى إلى غياب الأمن، وانتشار ظاهرة الخوف. وأخيرا إذا وصل الأمر إلى القتل، فإنه لا مناص من تنفيذ القصاص من غير استخفاف، أو تعطيل، أو تبديل، فهو السبيل الوحيد لحفظ الأمن من ظاهرة القتل التي تفشّت في المجتمعات، وانتشرت لتشكِّل هاجسا أمْنيا مخيفا، انتقل خطره إلى الأسر، والمدارس، والشوارع. وما ظاهرة قتل الفروع للأصول، واختطاف الأطفال، إلا دليل على ما نقول، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٩]، أي: «في القصاص حياة لكم، أي لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشدّ ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفّا بالعقوبات51». إنه لا غنى عن القصاص؛ للحفاظ على الأمن، وقد جرّبت وسائل أخرى بدلا منه، فلم تجد نفعا، ولا حفظت أمْنًا.
حفظ الأمن المعنوي للنفس: والمراد منه ما يسمو بالنفس لبلوغ الكمال الرّوحي، والتشبّه بالعالم الملائكي، أي تزكية النفس من الرذائل، كالشّره، والظلم، والحسد، والبخل، والكبر، والرياء، والغرور، وغيرها من أمراض النفس التي تمنعها من الاستقامة52، والتحلّي بالفضائل، كالكرم، والجود، والإحسان، والصبر، والعفو، والإيثار، والصّدق، والتواضع، وحسن الظنّ، والمجاهدة، وغير ذلك مما يزكّي النّفس، ويمنعها من التشبّه بالبهائم. وقد علّق القرآن فلاح النفس على تزكيتها وتهذيبها، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ [الأعلى:١٤]، أي: «قد فاز وربح من طهّر نفسه ونقّاها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق»53، وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:٩]، أي: «طهّر نفسه من الذنوب، ونقّاها من العيوب، ورقّاها بطاعة الله، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح»54. فالذّنوب والمعاصي من المهلكات التي تسلب النّفس عافيتها وطمأنينتها، وتجعلها تعيش حائرة غير آمنة في هذه الحياة، في جوّ من القلق والاضطراب، والتدافع نحو تحقيق المآرب السّخيفة. هذا على المستوى الباطني، أما على المستوى الخارجي، فإن النفس الأمّارة بالسّوء، لا تلبث أن تعيث في الأرض فسادا، وتملأ الأرض جورا، وتسعى لإهلاك الحرث والنّسل، حتىّ يسود الرّعب والهلع في المجتمع، ويرتفع الأمْن. وما التّغالب والصّراع، والتّحاسد والتباغض، والتظالم والبغي، والتهارج والتقاتل، إلا مظهر من مظاهر فوات الأمْن الرّوحي، وسكينة النفس. وما قيمة الأمن المادّي للإنسان، إذا فات أمْنه الروحي، وسكينته القلبية، وأيّ معنى للعيش في القصور الفاخرة، والأكل الرّغيد، والشراب اللذيذ، مع فقدان أمْن النفس من الخوف، والشعور بالحزن والألم.
ومما يدخل في حفظ النّفس المعنوي، حفظ كرامتها من الإهانة والإذلال، وحفظ عرضها من السبّ والقذف والشتم، فالنفس كريمة عند الله تعالى، كرّمها في الدنيا، وفضّلها على كثير ممن خلق: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:٧٠]، «والتكريم: جعله كريما، أي نفيسا غير مبذول، ولا ذليلا في صورته، ولا في حركة مشيه وفي بشرته، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس، ولا ترفيه المضجع والمأكل، ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب، ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره، ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته55».
ومن مظاهر التكريم الإلهي للنفس، أن خلقها في أحسن صورة، وزوّدها بالعقل القادر على التفكير والنّظر والاستدلال، ومكّنها من وسائل الإدراك الحسية، كالسمع، والبصر، والنطق، وأوجد فيها جملة من المشاعر والعواطف النبيلة لتكتمل إنسانيتها، وشرع لها من العبادات ما يعلو بها نحو الملإ الأعلى، ويزيد من فضلها وكرمها عند الله تعالى، فلا يجوز والحال هذه أن تعامل النفس بالاحتقار، والإذلال، والاستعباد. من هنا كان حفظ الأمْن المعنوي للنفس مقصدا ضروريا،56 كالحفظ المادّي تماما.
المطلب الرابع: حفظ الأمْن الاجتماعي
المجتمع، هو ما يتشكّل من تلاقي الأفراد واجتماعهم، الذين تربطهم روابط مصلحية مختلفة، من زواج، وتجارة، وعلم، وخدمة، وغير ذلك من المصالح التي تضطرّ الناس إلى اللقاء والاجتماع. ولما كان عيْش الفرد وحده متعذّرا، أو شاقّا؛ لاستحالة الانفراد بتحقيق مصالحه، والخوف عليه، كان وجود المجتمع ظاهرة مدنية حضارية، تهدف إلى تحقيق التعاون بين الأفراد، والتواصل في تبادل المنافع وقضاء الحاجات. فالإنسان في مأكله، وملبسه، ومشربه، وصناعته، وتجارته، وتعلّمه، والدفاع عن نفسه، في حاجة إلى غيره. وقد أكّد ابن خلدون هذه الحقيقة، وهي أن الاجتماع الإنساني ضروري، وأن الإنسان مدني بالطبع، أي لا بدّ له من الاجتماع داخل المدينة، ويراد به العمران57.
ولما اقتضت إرادة الله تعالى قيام العمران، وإقامة الاستخلاف في الأرض، أوجد أسباب قيام المجتمعات، وروافد العيش، من أراض، وأنهار ووديان ومروج، وبحار، وحيوان، وجبال، وسهّل للأفراد والجماعات الحركة والاجتماع لتحصيلها لإقامة عيشهم وعمرانهم. وفي هذا الاجتماع البشري، تنشأ الصّلات الاجتماعية من زواج، وبيع، وشراء، وإيجار للمنافع، مما يؤدّي إلى المزيد من الاختلاط، المفضي أحيانا إلى تضارب المصالح، فينشأ عنه التّغالب، المؤدّي إلى الخصام والبغي، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص:٢٤]، ويرجع ذلك إلى طغيان الشهوات والأهواء على الحكمة والبصيرة، يقول ابن عاشور: «والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذّات الدنيا كثيرة، والمشي مع الهوى محبوب، ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع، فالإنسان محفوف بجواذب السيئات، وأما دواعي الحق والكمال فهو الدّين والحكمة، وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات، وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني، وأعرض عن الداعي الشهواني، فذلك هو العلّة في هذا الحكم بالقلّة58». لذا كان حفظ الأمن الاجتماعي من أسباب التهالك والتّظالم، من ضرورات الحياة الاجتماعية؛ لقيامها واستمرار بقائها، مؤدّية لمقاصدها وأغراضها. ويتعلّق حفظ أمْن المجتمع بحفظ الأسرة؛ لأنها اللبنة الأولى لقيام المجتمعات، ثم المجتمع.
حفظ الأمْن الأسري:لما كانت الأسرة هي الخلية الأولى لبناء المجتمع، إذا صلحت صلح المجتمع وإذا فسدت فسد المجتمع، كانت العناية بأمْنها من أهم أنواع الأمْن؛ لذا أولاها القرآن أهمية بالغة؛ من أجل الحفاظ على وجودها، واستمرار عطائها، وأداء وظيفتها في بناء النسل، وتكوين النشء الصالح، المنوط به الاستخلاف، وعمارة الأرض. ويتعلق أمْنُ الأسرة بالحفاظ على النسل من جهة الوجود، والبقاء، وصحّة الانتساب، وسلامة النشء، ويكون من الجانبين المادِّي والمعنوي.
الحفظ المادّي للنّسل: والمراد منه حفظ الذّات الإنسانية من الانقطاع الكلّي أو الجزئي؛ ذلك أن الله تعالى خلق الإنسان واستخلفه لعمارة الكون، ولا يتم ذلك إلا ببقائه واستمراره. وحفظ أمْن النسل يكون قبل الإنجاب وبعده.
أما قبل الإنجاب، فيؤمَّن النّسل مما يقطعه كليّا أو جزئيا، فالقطع الكلّي للنسل محرّم في الشرع؛ لغير ضرورة؛ لتنافيه مع المقصد من خلق الإنسان، وهو التكاثر والتناسل لعمارة الكون؛ لذا حثّ الله تعالى على الزواج، وأرشد إلى اختيار الولود، ونهى عن الخصاء والتبتّل، ومنع من الإجهاض، وشرّع الغرّة عند إسقاط الجنين، وجوّز للحامل الفطر في رمضان من أجل الولد. أما القطع الجزئي للنسل فمعناه تحديد النسل بولد أو اثنين لا غير، وهذا أيضا مناف للغرض من الزواج وهو التناسل والتكاثر؛ إذ قد يؤدِّي ذلك التحديد إلى الانقراض التدريجي، وهو ما نلاحظه في المجتمعات الأوروبية، التي دبّ فيها الشِّيب والهرم، وقلّ فيها عنصر الفتوّة والشباب. وكذلك يؤمّن النّسل من وضعه في غير ما شرع له، كالزنا، والبغاء، وغير ذلك، مما يؤدّي إلى العزوف عن الزواج، فيتعطّل النسل، أو ينشأ النسل مجهول النسب غير معلوم، أو ذا نسب خليط، ومن ثم كان تشريع الزواج وتحريم ما عداه تأمينا للنّسب من الاختلاط، أو الانتساب المجهول، أو الإلحاق غير المشروع كالتبنيّ.
أما بعد الإنجاب، فيؤمّن النّسل من أسباب ضعفه، أو موته؛ لذا أمر الله تعالى الأمهات بإرضاع أولادهنّ حولين كاملين، وأباح لهن الاسترضاع، وجوّز لهن الفطر في رمضان من أجل الولد، ونهى عن الوأد الذي كان متفشّيا في الجاهلية خوف العار أو الفقر. وكذا تأمين النّسل من الأمراض التي تضعف بنيته، أو تودي بحياته إلى الموت، وكذا العناية بصحّته، وغذائه، ونظافته، وغير ذلك مما يدخل في أمْنه.
الحفظ المعنوي للنّسل: إن حفظ أمْن النّسل لا يقتصر على الجانب المادِّي فحسب، بل يتجاوزه إلى الحفظ المعنوي، وهو المقصد الأعظم؛ لأن الغاية من التناسل ليست الإنجاب وتكثير الولد، فهذه الغاية تشترك فيها جميع الكائنات، من حيوان، ونبات، وإنس، وجنّ، أما الإنسان فالغاية فوق ذلك، وهي عمارة الأرض بالخير والصّلاح، وإقامة الدّين، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود:٦١]، أي: «استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنّعم الظاهرة والباطنة، ومكّنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها59». وقال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣]، أي: «التفرّق بين الأمة بالإيمان بالرسول، والكفر به، أي لا تختلفوا على أنبيائكم، ويشمل التفرق بين الذين آمنوا بأن يكونوا نحلا وأحزابا، وذلك اختلاف الأمة في أمور دينها، أي في أصوله وقواعده ومقاصده، فإن الاختلاف في الأصول يفضي إلى تعطيل بعضها فينخرم بعض أساس الدين60».
هذا هو الغرض الأسمى من إيجاد الخلق واستخلافهم، منذ خلق آدم عليه السلام، وفي جميع الرسالات، من عهد نوح إلى آخر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسّلام، إقامة الدّين بأصوله وفروعه. ولا يتمّ ذلك إلا إذا تربىّ النّسل التربية الصالحة التي تؤهّله لهذه المقاصد الجليلة، ويكون ذلك منذ الصّغر؛ لذا حثّ الشارع الأبوين على العناية بالولد، باختيار اسمه، وتعليمه الصّلاة، وتحفيظه القرآن، وتربيته على الفضائل منذ الصّغر حتى يشبّ على الاستقامة، قال رسول الله ﷺ: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع61»، وقال للغلام: «يا غلام سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك62».
ومما يدخل في الحفظ المعنوي للنّسل، العناية بتعليمه العلوم والمعارف، والحرف والصّناعات؛ ليقوم بشؤون العمران. فلا قيمة للنّسل ولو كثر، العاجز عن تدبير شؤون بلده وأمّته، المفتقر إلى غيره، المتسوّل على موائد الآخرين، فعن ثوبان مولى رسول الله ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها». قال: قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: «أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن». قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: «حبّ الحياة وكراهية الموت63». إنّ الغثائية هي التي تنشأ من نسل كثير العدد، لكن من غير فائدة ولا جدوى؛ لذا كانت القلّة المؤمنة خيرا من الكثرة الكافرة، وهذا معلوم من نصوص القرآن، كقوله: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:٢٤٩]، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦]، ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران:١٢٣]، ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة:٢٥]، وغيرها من النصوص الدالة على أن الكثرة ليست مقصودة لذاتها، بل العبرة يما تحمله من مشروع إيماني، وفكري، وعمراني.
حفظ أمْن المجتمع:ويعني: حفظُه من الجانبين المعنوي، والمادي.
الحفظ المعنوي لأمْنِ المجتمع:والمراد به حفظ الأواصر الاجتماعية من التفكّك والتصدّع، المؤدّي إلى هلاك المجتمع. ومعلوم أنّ اجتماع الناس وتلاقيهم سنّة كونية، وظاهرة مدنية، وغاية إنسانية، وحاجة فطرية، وضرورة اجتماعية؛ لتعذّر عيش الفرد وحده، وقضاء حاجاته ومصالحه بمفرده. ولما كان الاجتماع لا مفرّ منه ولا محيص عنه، وكانت النفوس متباينة في السّلوك والمناقب، مختلفة في الطبائع والرغائب، متهافتة على المصالح والمنافع، كانت عرضة للتنازع والتظالم، مما ينشأ عنه الخصام والشّجار المؤدّي في الغالب إلى التّنافر والانقسام، وغير ذلك مما يتنافى ومقاصد الاجتماع. من هنا كان حفظ أمْن الكيان الاجتماعي64 من التفكّك والانحلال، من المقاصد الدّينية الكلّية التي جاء القرآن بتأمينها إيجادا وإبقاء، وتكون محفوظة بحفظ الأواصر الاجتماعية، كآصرة النكاح، وآصرة القرابة، وآصرة الصّهر65، وآصرة الأخوّة الدينية66.
أمّا آصرة النكاح، فإنها من أقدس الأواصر الاجتماعية في الدّين، شرع لها القرآن ما يجمعها، ويقوّي لحمتها، كالنكاح القائم على المودّة والرحمة، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:٢١]، وإيتاء الصداق لهنّ نحلة: ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء:٤]، «وسميت الصدقات نحلة إبعادا للصدقات عن أنواع الأعواض، وتقريبا بها إلى الهدية، إذ ليس الصداق عوضا عن منافع المرأة عند التحقيق، فإن النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة، وإيجاد آصرة عظيمة، وتبادل حقوق بين الزوجين، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي67». واعتبر كلا من الزوجين سكنا للآخر: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة:١٨٧]، أي: «هنّ سكن لكم وأنتم سكن لهنّ68»، وأمر بالإنفاق على الزوجات، وحسن المعاشرة مع الصّبر عليهنّ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء:١٩]، والعدل بينهنّ، والتدرج في إصلاحهنّ عند النشوز، من الوعظ، إلى الهجر في الفراش، إلى الضّرب غير المبرح، إلى التّحكيم عند الخوف من الشقاق، إلى الفراق بالمعروف؛ من أجل حفظ أمن العلاقة الزوجية من أسباب الشقاق والفراق المؤذن بخراب العائلة، ودمار النسل.
أما آصرة القرابة،فأقامها على الودّ، والإحسان، والتّعاون بين الفروع والأصول والحواشي، فأمر بالإحسان إلى الوالدين والأقرباء: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت:٨]، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة:٨٣]، ﴿وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء:٢٦]، ونهى عن الزواج بالأم، وبالبنت، وبالأخت، وبالعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، تأمينا للعلاقة بين الأقرباء من التشاحن والتباغض. ونهى عن إيذاء الوالدين بالتأفّف وما في معناه، وأمر بخفض الجناح لهما، وأن يقول لهما قولا معروفا، والدّعاء لهما. ودعا إلى التّزاور بين الأقارب، والاجتماع على موائد الطعام، ونهى عن قطيعة الرّحم.
أما آصرة الصّهر، فأقامها على التواصل، والتعاون، فحرّم من أجل ذلك أم الزوجة على زوج بنتها، وزوجة الأب على الإبن، وزوجة الإبن على الأب، والربيبة على زوج أمها المدخول بها، وليس الغرض من ذلك سوى حفظ أواصر المودّة الصّهرية.
أما آصرة الأخوة الدّينية، فإنّ القرآن أقام العلاقة بين المؤمنين به على آصرة الدّين69،واعتبر الأخوة الدّينية من أقدس الروابط، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران:١٠٣]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:١٠]، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:٧١]، وغيرها من النصوص التي جعلت الرابطة الإيمانية مقدّمة على كلّ الروابط. كما نهى عن التفرّق والتنازع، المؤذن بالهوان والزّوال، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣]، فالآية تأمر المؤمنين بالاجتماع؛ لما فيه صلاح الدين والدنيا، وتنهاهم عن التفرّق؛ لما فيه من الفساد، والضّعف والهوان»، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم وائتلاف قلوبهم، يصلح دينهم وتصلح دنياهم، وبالاجتماع يتمكّنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم، ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدّى إلى الضّرر العام70».
وتوعّد القرآن المختلفين والمتفرّقين بغير حقّ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:١٠٥]، وحذّر من التفرق في الدين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام:١٥٩]، وجعل التنازع سببا للفشل والهزيمة: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال:٤٦]، حيث أخبر أن «ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم، وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء، وأنت إذا استقرأت حال الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم»71. وأمر بردّ المتنازع فيه إلى القرآن والسنّة، واجتهاد العلماء: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء:٥٩]، وذلك لأن «فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه72». وبيّن أن فوارق اللون، والجنس، والعرق لا مزية لها، وأن التفاضل بين المؤمنين بالتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:١٣]، وأنّ الأموال، والأبناء ليست سببا للقرب من الله، بل الإيمان والعمل الصالح: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [سبأ:٣٧ ].
كما أمر بالإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات:٩]، وأمر بالتعاون على البرّ والتقوى، والوفاء بالعقود والعهود، والعدل في الكيل والميزان، وحرّم أكل مال الغير يغير حق، كالسرقة، والرّبا، والرّشوة، والغشّ في البيوع، ونهى عن كلّ ما يوهن العلاقة الأخوية، من غيبة، ونميمة، وسوء ظنّ، وتجسّس، والتنابز بالألقاب، والمساس بالأعراض، رجالا ونساء، من السبّ، والشتم، والقذف، والقيل والقال؛ لأن حفظ العرض من المقاصد الحاجية73، فإذا فات وقع المجتمع في الحرج والمشقة والعسر، بسبب الإيذاء الذي يلحقه في نسبه، أو في شرفه، أو في كرامته.
كلّ هذه الأحكام والقوانين الشرعية لحفظ الأمن المعنوي الاجتماعي، وتقوية أواصره على اختلاف درجاتها، من آصرة النّكاح، إلى آصرة القرابة، إلى آصرة الصّهر، إلى آصرة الأخوّة الدّينية.
الحفظ المادّي لأمْن المجتمع: والمراد به أمْن المعاش74، أي الأمْن على كفاية الإنسان في مأكله ومشربه ومسكنه، وغير ذلك من متطلبات الحياة الاجتماعية. والمعيشة: هي ما يعيش بها الإنسان من المطعم والمشرب، وما تكون به الحياة، وما يعاش به أو فيه، جمع معايش75. ويصطلح عليه بالأمن الغذائي، أو الأمن الاقتصادي، ويتحقّق ذلك بتوفير ضرورات العيش وحاجاته، من طعام، وشراب، وكساء، ومأوى، ودواء، وتعليم، وكذا توفير الوسائل الموصلة إليها، من غاز، وكهرباء، وماء، وموادّ البناء، ووسائل التعلّم والتعليم، وغيرهـا من الحرف، والمهن، والصّناعات الكافية للمجتمع. وكذا وسائل العمران، كالطرق، والجسور، ووسائل النّقل البرّي والجوّي والبحري، والمدارس والجامعات، والمراكز الصحّية، والأراضي الصالحة للزراعة، والأسواق التجارية، وغير ذلك مما يقتضيه العيش والعمران.
وقد ورد في القرآن ما يدلّ على أن حفظ الأمن المعاشي مقصد قرآني، من ذلك أن الله تعالى خلق الإنسان واستعمره في الأرض؛ لأجل إصلاحها بالخير والمعاني والقيم، ويقيم عليها عمرانه، ولا يتم ذلك إلا إذا توفّرت للإنسان ضرورات العيش، وأمِن عليها؛ لذا هيّأ الله تعالى لعباده الأرض لتكون صالحة للقرار، والسّكن، والعيش، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأعراف:٢]، أي: «مسكن وقرار76»، وقال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ [الأعراف:١٠]، أي: «مما يخرج من الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصّنائع والتجارات، فإنه هو الذي هيّأها، وسخّر أسبابها77». وقال: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ [الحجر:١٩]، أي: «نافع متقوّم، يضطر إليه العباد والبلاد، ما بين نخيل وأعناب، وأصناف الأشجار وأنواع النبات، وجعلنا لكم فيها معايش من الحرث، ومن الماشية، ومن أنواع المكاسب والحرف78». وقال: ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن:١٠]: أي: «للخلق؛ لكي يستقروا عليها، وتكون لهم مهادا وفراشا يبنون بها، ويحرثون ويغرسون ويحفرون، ويسلكون سبلها فجاجا، وينتفعون بمعادنها وجميع ما فيها، مما تدعو إليه حاجتهم، بل ضرورتهم79».
وبالجملة، فإن كل ما سخّره الله للإنسان في هذا الكون، هو من أجل راحة الإنسان، واطمئنانه على حياته، وأمْنه المعيشي. وقد جعل الماوردي -فيما نقلنا عنه آنفا- الخصب من أسباب صلاح دنيا الناس، وهو المراد بالمعاش، بل إن فقدان المعاش سبب لفقدان الدين؛ لذا كان رسول الله ﷺ يتعوّذ دبر كل صلاة من الكفر والفقر معا، فيقول: «اللهم أني أعوذ بك من الكفر والفقر80»، قال المناوي: «وقرن الفقر بالكفر؛ لأنه قد يجرّ إليه81». وقال الماوردي: «فإذا عدم المادّة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة، ولم يستقم له دين82». وجعل الثروة والمال من أسباب قيام الملك، فقال: «فأما تأسيس الملك، فيكون في تثبيت أوائله ومبادئه، وإرساء قواعده ومبانيه، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: تأسيس دين، وتأسيس قوة، وتأسيس مال وثروة83». وأمْنُ المعاش لا يتحقّق إلا بتوفير أسبابه، وهي على قسمين: معنوية، ومادية.
الأسباب المعنوية المعينة على أمْن المعاش: وهي أسباب روحية، ضرورية لفتح باب المعاش، وبقائه. وهي المتعلقة بالإيمان بالله تعالى، وطاعته، وشكره، وعدم البطر، والاستغفار والتوبة، والاستقامة، وقد دل على كل واحد منها القرآن الكريم.
الأسباب المادّية المعينة على أمْن المعَاش:وهي الوسائل الموصلة إلى توفير المعاش، وقد أشار القرآن إلى بعضها.
الزراعة:وتقوم على حرث الأرض، وزراعتها بأنواع الزرع والثمر، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك:١٥].
نتاج الحيوان:وهو مورد اقتصادي عظيم النّفع، وقد أشار القرآن إلى هذا المورد، فقال: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٥-٨]، وقال: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل:٨٠ ].
الصّناعة:مثل الصناعة القائمة على الحديد، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد:٢٥]، أي: أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه... ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾، أي: قوة شديدة يعني: السلاح للحرب، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ مما ينتفعون به في مصالحهم، كالسّكين، والفأس، والإبرة ونحوها؛ إذ هو آلة لكل صنعة84».
التجارة:قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء:٢٩]، فالآية تحرّم أكل أموال الناس بالطرق المحرمة، كالسرقة، والغصب، وغيرها إلا ما كان عن تجارة قائمة على التراضي، فهي مباحة لما فيها من المنافع85. وقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٥]، فاقتصر على البيع؛ لأن أغلب المعاملات قائمة عليه.
الصّيد: قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل:١٤]، فالمراد من اللحم الطري: «السّمك والحوت الذي يصطادونه منه»86، وقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة:٤]، والمعنى: «أن الجارحة المعلّمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصّيد وقتلته كان حلالا87».
ولاية أمْن المعاش:إنّ توفير أمْن المعاش في الإسلام معلّق على عاتق الفرد، والعائلة، والجماعة، والدولة. أمّا الفرد، فإنه مطالب شرعا بالعمل من أجل كسب قوته؛ لإطعام نفسه وسدّ حاجاته، وألا ينتظر معونة الناس، قال ﷺ: «والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه]88، «ففيه الحضّ على التعفّف من المسألة والتنزّه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقّة في ذلك89»، كما حثّ الرسول ﷺ على العمل، فقال: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة»90، ففي الحديث الحثّ على الكسب؛ من أجل إعالة النفس والغير أيضا.
أمّا العائلة، فإنّ ربّ الأسرة هو المكلّف بتأمين أمْن المعاش لزوجته، ولأولاده الصغار، ولأبويه العاجزين عن الإنفاق، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة:٢٣٣]، فالآية تدل على وجوب النفقة والكسوة على الأب نحو زوجته، وأبنائه، وكذا نحو أقربائه.91 وقال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق:٧]، فالآية تحثّ على الإنفاق على من تجب له النفقة بحسب الوسع92.وقال ﷺ: «كفى بالمرء إثما أن يضيٍّع من يقوت]93، فالتقصير في العمل والبحث عن الرزق، من أجل كفاية أمْن العائلة يتحمّل إثمه من وجبت عليه نفقتهم.
أمّا الجماعة فإنها مطالبة بتأمين كفاية عيش السّائلين والمحرومين بسبب الفقر، أو العجز، من خلال دفع الزكاة، والصّدقات، قال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [الذاريات:١٩]، وقال تعالى في مصارف الزكاة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:٦٠]، فالآية وسّعت في دائرة المكفولين لتشمل حتىّ الغارمين العاجزين عن سداد الدّين، والغريب المنقطع عن بلده، والغازي في سبيل الله.
ويجب على الأغنياء تفقّد أحوال الفقراء والمحتاجين وسدّ حاجاتهم، وأن لا يدّخروا الأموال في الخزائن مع حاجات الناس إليها، بل يكتفوا بقوت سنة وصرف الباقي إلى ذوي الضرورات والحاجات، يقول الجويني: «إذا ظهر الضرّ، وتفاقم الأمر، وأنشبت المنية أظفارها، وأشقى المضرورون، واستشعر الموسرون أن يستظهر كل موسر بقوت سنة، ويصرف الباقي إلى ذوي الضّرورات، وأصحاب الخصاصات»94. وقد أوجب الله على المؤمنين التكافل والتآزر، والتعاون أيام الشدة، والفاقة، قال رسول الله ﷺ: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى95»، هكذا يصوِّر الحديث علاقة التراحم والتواصل في المجتمع الإيماني، الذي تذوب فيه فوارق الغنى، والمنصب، والجاه، وتحلّ محلها مشاعر الرحمة، والرفق، والإيثار، قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:٩].
هذا هو الوصف الصادق للمجتمع المتراحم، المتصف بالإيثار، الذي لا يشعر فيه الفقير بفقره، ولا المحتاج بحاجته. فالتكافل الاجتماعي لسدّ حاجات المحتاجين، واجب كفائي على القادرين؛ ذلك أن ما ينفقه المرء هو مما استخلفه الله فيه، وجعله بين يديه عارية يؤديها لأصحابها عند الحاجة: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد:٧]، ففيه إشعار للأغنياء أن للفقراء حقا فيما زاد عن كفايتهم: ﴿وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ﴾ [النور:٣٣]، فالمال مال الله وإن اكتسبه المرء بعرق جبينه، قال رسول الله ﷺ: «يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت96». فالتكافل الاجتماعي هو أكثر الأسباب ضمانا لأمن المعاش، «وهو الصورة الآمنة بهذا الميزان الإلهي في علاقة الإنسان بالثروات والأموال التي استخلفه الله فيها97».
أما الدّولة فإنها مكلّفة بأمْن المعاش بتوفير أسبابه، وتسهيل وسائله، والبحث عن موارده، واستثمار موادّه، وتوزيع ريعه بالعدل على العاملين. ومن واجباتها العناية بالفئات المحرومة، خاصّة في أيام الجدب والقحط، يقول الجويني: «فإن قدرت آفة وأزم وقحط وجدب... فحقّ على الإمام أن يجعل اعتناء بهم من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضرّ»98.
ويجب على الدولة توفير الأمْن للعاملين والكادحين في الطرقات، والأسفار من اللصوص وقطاع الطريق، لكي يصلوا إلى معاملهم ومصانعهم، ويتّجروا في جوّ آمن: «لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب الموادّ التي بها قوام أوَدَهم وانتظام جملتهم»99. ويقرِّر الجويني بأن الأمْن والعافية هما قاعدتا النّعم كلها، فيقول: «لا تصفو نعمة عن الأقذاء ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار، فإذا اضطربت الطرق وانقطعت الرفاق، وانحصر الناس في البلاد، وظهرت دواعي الفساد ترتب عليه غلاء الأسعار وخراب الديار، وهواجس الخطوب الكبار، فالأمن والعافية قاعدتا النّعم كلها، ولا يهنأ بشيء منها دونها، فلينهض الإمام بهذا المهم»100.
أضف إلى ذلك أن الدولة التي تلتزم بأحكام الشريعة في دستورها وقوانينها المالية، وتشريعاتها الاقتصادية، تجعل من أمْن المعاش أقرب إلى التحقيق منه إلى الافتراض والتصوّرات والخيال، ذلك أن التشريع المالي الإسلامي يمنع الكثير من دواعي اضطراب المعاش في المجتمع، كالمجاعات، والفتن الاقتصادية، التي تنشأ غالبا عن الاحتكار، والكنز بغير حقّ، والتبذير، والشحّ والتقتير، والغشّ في المعاملات، والربا101، والاحتكار، ومنْع المال من التداول والرّواج، والتهرّب من الواجبات المالية. كل ذلك يؤدّي إلى ظهور الأزمات الاقتصادية، ومظاهر البؤس والفقر في المجتمع.كما أن حرص الدولة على جمع الزكاة، والحثّ على الصدقات، وتنفيذ الوصايا والميراث، وتشجيع الأوقات والهبات102، وغيرها من آليات توزيع المال بين فئات المجتمع يكون عوْنا على أمْن المعاش. وبهذه الوسائل يستتبّ الأمن، ويهنأ المجتمع، ويقوم العمران.
المطلب الخامس: حفظ الأمْن الوطني والعالمي
وهو من أعظم أنواع الأمن، وأكثرها اهتماما في الشرع؛ لأنه بحفظ أمن الأوطان، يقوم العمران، ويعمّ الرخاء، ويقلّ الهرج. وبحفظ الأمن العالمي يسود السّلام، ويعمّ التعاون الإنساني في شتى المجالات العلمية، والاقتصادية، والثقافية، ويتحقّق التّعايش بين دول العالم.
حفظ الأمن الوطني: والمراد به الأمن الداخلي للأوطان الإسلامية، من الفتن الداخلية، أو من العدوان الخارجي. وهو من مهامّ الحاكم، فالأمن الداخلي من مقاصد الحكم وأغراضه، فإذا استتبّ في البلد، اطمأن الناس على دينهم ودنياهم، يقول الجويني: «لا تصفو نعمة عن الأقذاء، ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار، فإذا اضطربت الطرق، وانقطعت الرفاق، وانحصر الناس في البلاد، وظهرت دواعي الفساد، ترتّب عليه غلاء الأسعار، وخراب الديار، وهواجس الخطوب الكبار، فالأمن والعافية هما قاعدة النّعم كلها، ولا يهنأ منها دونها103»، فالأمن الداخلي هو الحافظ للدّين والدنيا جميعا، فهو الذي يوفّر الطمأنينة للنّاس، فتقلّ الجرائم والخطوب، ويهنأ الناس ويتلاقون ويتحرّكون في البلاد، ويسعون لقضاء حوائجهم، ويتبادلون المنافع والمصالح، فتحقّق بذلك راحتهم. فلا قيمة لأمن الدّين، وأمن النفس، وأمن الفكر، وأمن الأسرة، وأمن المجتمع، وأمن المعاش، من غير وطن آمن104. يقول الجويني: «إذا تمهّدت الممالك، وتوطّدت المسالك، انتشر الناس في حوائجهم، ودرجوا في مدارجهم... واتسق أمر الدين والدنيا، واطمأنّ إلى الأمَنَةِ الورى105».
والأمن الوطني يتحقّق بالقضاء على أسباب الخوف، وأهمها: الفقر، والظّلم الاجتماعي، والاستبداد السياسي. فالقضاء على الفقر يكون بتوفير العمل والوظائف، وإيجاد مناصب الشغل للعاملين القادرين، وكذا بتوفير الدّخل الكافي للمحرومين العاجزين، وهي من واجبات الحاكم، يقول الجويني: «وأما سدّ الحاجات والخصاصات، فمن أهم المهمات... فإن قدرت آفة وأزم وقحط وجذب... فحقّ على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضررّ فقير من فقراء المسلمين في ضرّ... وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات، فحفظ مهج الحياة وتدارك حساسة الفقراء أتم وأهم106». وإذا فرّط الإمام في الفقراء والمحرومين، فعلى أغنياء المسلمين سدّ حاجاتهم، يقول الجويني: «فإن لم يبلغهم نظر الإمام، وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى دفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين، حرجوا من عند آخرهم، وباؤوا بأعظم الآثار، وكان الله طليبهم وحسيبهم107». وبيّن الجويني مقدار ما يأخذه الغنيّ، ويعطي الباقي للفقراء، فقال: «إذا ظهر الضرّ وتفاقم الأمر، وأنشبت المنية أظفارها، وأشفى المضرورون، واستشعر الموسرون، أن يستظهر كل موسر بقوت سنة، ويصرف الباقي إلى ذوي الضرورات وأصحاب الخصاصات108».
وأما القضاء على الظلم الاجتماعي فبقطع دابره بالفصل في النزاعات، وردّ المظالم، وأداء الحقوق إلى أهلها، وكذا بتطبيق العقوبات على المجرمين، كتنفيذ أحكام القصاص، والحرابة، وقطع السّارق، وغيرها من الحدود والتعازير التي يتولاها الحاكم من أجل حفظ الأمن.كذلك على الدولة أن تقطع ذرائع الفساد، كالفنّ الماجن، والإعلام الهابط، والإرجاف بالباطل، بما يحفظ أمن المواطن من إشاعة الذّعر، والهلع، أو إثارة الفتنة والفساد. وعلى الدولة أيضا أن توفِّر وسائل حفظ الأمن؛ لدفع الخطر عن المواطن، كجهاز الشرطة، والدرك، والرقابة الجمركية، وغيرها. كذلك على الدولة أن تطبّق القانون بالعدل بين الناس، حتىّ لا يكون القانون مصدرا للخوف، بدلا من أن يكون أداة لحفظ الأمن109.
وأما الاستبداد السياسي، فهو ظلم السّلطة للنّخب الفكرية والعلمية، والشخصيات السياسية، وكل معارض نصوح يسعى للتغيير السلمي، فالاستبداد، واحتكار السلطة، ومنع التداول على اتخاذ القرار السياسي، يؤدّي إلى الخوف والذّعر، وانعدام الاستقرار الأمني؛ لذا على الدولة أن تفتح مجال الحريات الفكرية والسياسية، والتداول على السلطة، والشورى في المجالس النيابية والبرلمانية، وتمكين الشعب من حرية اختيار نوّابه وحكّامه، وبذلك يستقرّ الأمن الوطني، وتعمّ الحريات، وتعلو كلمة الحقّ، وتزول الفتن السياسية النّاجمة عن القهر وأحادية الرأي، وغلق المجال السياسي. فالدولة مسؤولة عن توفير أمن المواطنين من الترويع والتخويف في حرياتهم، أو في حقوقهم المادّية أو المعنوية، بما يضمن لهم العيش الكريم، وطمأنينة المقام في أوطانهم.
تأمين غير المسلمين: ومن حقّ غير المسلمين الأمن في المجتمعات الإسلامية، فلهم حقّ المقام في الأمصار الإسلامية، ويمكّنون من جميع المصالح والمنافع التي بها قوام حياتهم الدينية والدنيوية. فلهم حرِّية الاعتقاد والتعبّد، وحرّية إقامة شعائرهم في الكنائس والبيع، وغير ذلك من الشعائر مما لا يثير فتنة ولا عداوة بينهم وبين المسلمين. ولهم حرّية التجارة، والبيع والشراء، والإيجار، وغيرها من المعاملات المالية. وما يحرم على المسلمين من التعامل بالحرام لا يحرم على المواطنين والمقيمين غير المسلمين، كالتجارة بالخمر والخنزير، لكن عليهم ألا يجاهروا بالاتجار بها في أوساط المسلمين. ولا فرق بين المسلمين وغيرهم في تطبيق العقوبات، فيجري بيننا وبينهم القصاص في الراجح من الأقوال، وكذا الدّيات والضمان والتعازير. وفي الأحوال الشخصية يتحاكمون إلى شريعتهم ولو خالفت شريعة المسلمين، إلا في الميراث فإنه لا توارث بين أهل دينين شتّى. ونهى القرآن عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن، وأباح لنا أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم، وأمر بالبرّ بهم، والإقساط إليهم، ونصّ العلماء على أنه للمسلم أن يضيفهم، ويذهب إلى ضيافتهم، ويجوز تبادل التّهاني، والتّهادي، والتصافح110.
وكذلك يكون حفظ الوطن من أيّ عدوان خارجي، وهو من وظائف الحاكم وسلطاته، حيث يجب عليه حفظ البلد من اعتداء المعتدين، وذلك بتحصين الثغور، وتدريب الجند، وإعداد القوّة اللازمة، وتوفير المال الكافي. وقد شرع الله القتال لهذا الغرض، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج:٣٩]، فالقتال شرع لدفع ظلم المعتدين، واسترجاع حقّ الوطن المغصوب، وقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال:٦٠]، يقول الجويني عن واجبات الإمام في حال الحرب: «أن يحصِّن أساس الحصون والقلاع، ويستذخر بها بذخائر الأطعمة، ومستنقعات المياه، واحتفار الخنادق، وضروب الوثائق، وإعداد الأسلحة والعتاد، وآلات الصّدّ والدفع، ويرتب في كل ثغر من الرجال ما يليق به111». وقد جعل الماوردي حفظ الأمن الداخلي من مهام رئيس الدولة، فقال في واجباته: «تتفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخطام بين المتنازعين حتى تعمّ النصفة، فلا يعتدي ظالم، ولا يضعف مظلوم. وحماية البيضة والذبّ عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال. وإقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. وتحصين الثغور بالعدّة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة، ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما112». ومن مقاصد الإسلام أن تكون الأمّة قويّة، محترمة في أعين الغير، مرهوبة الجانب113، وذلك لا يتأتى إلا بتوفير الأمن الداخلي.
حق الأمان للحربيين:كما أعطى الإسلام لغير المسلمين من الحربيين حقّ الأمان المؤقّت، بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة:٦]، أي: «استجارك لمصلحة، للسفارة عن قومه، أو لمعرفة شرائع الإسلام114». والغاية من الأمان تمكين المستأمنين من دخول ديار المسلمين للتعرّف على حقائق الإسلام، وهو أهم مقصد من مقاصد القرآن في نشر السّلم والأمان، وكذا السّماح لهم بقضاء حاجاتهم ومصالحهم. وخلال مدّة الأمان، للمستأمنين حق الإقامة المؤقّتة مع ذويهم وأقربائهم، ولا يجوز إخراجهم إلا إذا انتهت مدّة الأمان. ولهم حقّ العصمة على النفس والمال، والعرض، وتعاطي أنواع المعاملات المالية في حدود قوانين الدولة الإسلامية. وعليهم أن يلتزموا بأحكام وقوانين الإسلام فيما يتعلق بحفظ الدماء، والأنفس، والأعراض، والأموال. فإن ارتكبوا أو خالفوا ما يوجب حدّا أو تعزيرا عوقبوا عليه115.
حفظ الأمن العالمي:وهو من واجبات الدولة أيضا، ويتمّ بالتعاون بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول حيث تؤسّس العلاقات بينها على أساس من السّلم والأمْن، وحسن الجوار، واحترام سيادة كل دولة، ومنع الاعتداء عليها، واحترام حدودها، وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، والأمن على رعاياها، والسّماح بتنقّل المواطنين بين الدّول بكل حرّية وأمان، وبالتّجارة العالمية. ومع الخلاف في أصل العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول، هل هو السّلم أو الحرب؟ فإنّ الرّاجح هو السّلم؛ للأدلة الآتية116:
- إن القتال شرع في الإسلام من أجل دفع الظلم، أو قطع دابر الفتنة، أو حماية الدعوة، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة:١٩٠]
وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ [النساء:٧٥]، وقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:١٩٣]، وقال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير﴾ [الحج:٣٩]، وقال: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال:٦١]، فهذه النصوص تبين أن الغاية من القتال صدّ العدوان، ودفع الظلم، وحماية الدين والدّعوة.
- اتفاق الجمهور على أنه لا يحلّ قتال من لا يقاتل كالصبيان، والنساء، والشيوخ، والزمنى، ونحوهم، فهذا الاستثناء دليل على أن القتل شرع لمن يقاتل دفعا لعدوانه.
- إن الدعوة إلى الإسلام لا تقوم على القهر، والإكراه، والإيمان لا يقوم على القوة والترهيب، بل على الحجة والإقناع، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة:٢٥٦]، وقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:٩٩].
- أمر القرآن بالإحسان والقسط إلى المخالفين في الدِّين ما لم يعتدوا على المسلمين، فقال: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة:٨-٩]، فهذه الأدلة من القرآن تدل دلالة واضحة على أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم السّلم والأمان.
أهداف الأمن العالمي: يرمي الإسلام من إقامة الأمن العالمي،إلى تحقيق جملة من المقاصد والأهداف117:
- نشر الدعوة الإسلامية، والتعريف بالدين، لإقامة الحجة على الناس، ولتتحقّق شهادة المسلمين على غيرهم من الأمم يوم القيامة.
- حماية الأمن الداخلي والإقليمي: تسعى الدول الإسلامية من خلال علاقاتها السلمية مع غيرها إلى بناء جسور الثقة والتعاون، حتى لا يكون اعتداء دولة على أخرى.
- تبادل المصالح مع الدول الأخرى، فالدولة الإسلامية تحتاج لا محالة إلى اقتصاد غيرها، كما أن غيرها في حاجة إلى اقتصادها، مما يحتّم على الدول مدّ جسور التعاون العلمي، والثقافي، والتجاري، والاقتصادي.
- تحقيق الأمن المشترك، بالقضاء على الجريمة العابرة للدول، وكذا إقامة الأمن الدفاعي المشترك في حالة قيام حروب ونزاعات عالمية، وبناء جسور التعاون في تحقيق الأمن البيئي، والغذائي، والصحّي.
- الحرص على الوفاء بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي لا تتعارض مع قوانين الشريعة الإسلامية، أما المعاهدات الدولية التي تتعارض مع الأحكام الإسلامية فلا يجوز للدولة الإسلامية إبرامها أصلا.
هذه نهاية البحث، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قائمة المصادر والمراجع
ـ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي: فتح الباري شرح صحيح البخاري، الناشر: دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط: 1379ھ.
ـ أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي: المجتبى من السنن، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، سوريا، ط2: ه1406ھ/1986م.
ـ أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني: مسند الإمام أحمد بن حنبل، الناشر: مؤسسة قرطبة، القاهرة، مصر د.ت.
ـ إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، السعودية، ط1: 1417ھ/1997م.
ـ أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفومي: كتاب الكليات، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، دار النشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1419ھ/ 1998م.
ـ أحمد بن محمد بن علي الفيومي: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر، 1424ھ/2002م.
ـ أحمد صبحي أحمد مصطفى العيادي: الأمن الغذائي في الإسلام، دار النفائس، عمان، الأردن، ط1: 1419ھ/1999م.
ـ أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، دار النشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط: 1412ھ/1992م.
ـ جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1: 1422ھ/2001م.
ـ أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري: الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، الناشر: دار الجيل بيروت دار الأفاق الجديدة، بيروت، لبنان، د.ت.
ـ أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي: أدب الدنيا والدين، شرح وتعليق محمد كريم راجح، دار اقرأ، بيروت، لبنان، ط5، د.ت.
ـ حسن الترابي: في الفقه السياسي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1: 1431ھ/2010م.
ـ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني: سنن أبي داود، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، د.ت.
ـ شهاب الدين محمود ابن عبد الله الحسيني الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تحقيق: علي عبد الباري عطية، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط: 1415ھ/1995م.
ـ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1: 1420ھ/2000م.
ـ عبد المجيد النجار: مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1: 2006م.
ـ علي بن محمد بن علي الجرجاني: التعريفات، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط1: 1405ھ.
ـ عبد الرؤوف بن علي المناوي: فيض القدير شرح الجامع الصغير، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1: 1415ھ/1994م.
ـ عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1: 2001م.
ـ عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط6: 1418ھ/1997م.
ـ عبد الكريم حامدي: مقاصد القرآن من تشريع الأحكام، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1: 1429ھ/2008م.
ـ عبد المجيد محمد السوسوه: العلاقات الدولية في الإسلام، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1: 1426ھ/2005م.
ـ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله: الجامع الصحيح، الناشر: دار الشعب، القاهرة، مصر، ط1: 1407ھ/1987م.
ـ محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي: سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، د.ت.
ـ محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2: 1414ھ/1993م.
ـ محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري: لسان العرب، الناشر: دار صادر، بيروت، لبنان، ط3: 1414ھ/1994م.
ـ محمد عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: د. محمد رضوان الداية، الناشر: دار الفكر، بيروت، دمشق، ط1: 1410ھ/1990م.
ـ محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، الناشر: مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، ط: 1415ھ/1995م.
ـ محمد رشيد بن علي رضا: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، سنة النشر: 1410ھ/1990م.
ـ أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي: تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملِك وسياسة الملْك، تحقيق: محمد هلال السرحان، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط1: 1401ھ/1981م.
ـ محمد بن عمر المعروف بفخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، دار النشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، د.ت.
ـ محمد بن علي الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علمي التفسير، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2: 1383ھ/1963م.
ـ أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي: معالم التنزيل، المحقق: حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر، وعثمان جمعة ضميرية، وسليمان مسلم الحرش، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، السعودية، ط4: 1417ھ/1997م.
ـ محمد أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، د.ت.
ـ محمد عمارة: الإسلام والأمن الاجتماعي، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط1: 1418ھ/ 1998م.
ـ محمد الطاهر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام، القاهرة، مصر، ط1: 1426ھ/2005م.
ـ محمد الطاهر ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي، الدار العربية للكتاب، تونس، ط:1979م.ـ وهبة الزحيلي: العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط4: 1417ھ/1997م.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد القرآن الكريم (2): مجموعة بحوث، 2016، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن،ص 121-176. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |