أنظار في بعض مشكلات النص الجغرافي التراثي

شارك:

إبراهيم شبّوح

خارطة إبن حوقل

تمثّل نصوصُ الجغرافيا التراثية قاعدةً مهمّة للدراسات والبحوث التاريخية الحضارية والبشرية في ثقافتنا العربيّة الإسلامية، وكثيرًا ما تكون المنطلق الممكنَ لاستعادة تركيب صورة تلك المجمعات في ظل بيئتها وحيويتها وإمكاناتها وإنتاجها وتعاملها وعلاقاتها، ومراكز استقرارها ومسالك الاتصال الرابطة بين مدنها وقراها وما حولها.

أنّ المادة البِكْر التي توفّرها تلك النّصوص على إيجازها في الغالب، وإشارتها الغامضة أحياناً أخرى، لا تسمح بها مصادر التاريخ المباشِرة والعامة في أكثر ما وصلنا.

ومثلما صنعت هذه النّصوص الجغرافية في عصرها مادّة التعريف بصورة الأرض وما عليها، فإنّ البحوث المعاصرة تعتمدها بدرجات مختلفة ومتفاوتة حسبما اتفق لكاتبيها من الإفادة والشهادات الموثّقة.

وقد انقطع في البلاد العربيّة والإسلامية البحث الاستكشافي الجغرافي البحت، ولم تتح للمسلمين إضاف نصوص جديدة مهمّة طيلة القرون الأخيرة، ويمكن القول إن هذا العلم توقف منذ القرن 8هـ، ولم تتطور الجهود الرائدة بعد ذلك التاريخ، وقد تبنّى الاستعراب منذ القرن السادس عشر تلك المبادئ الجغرافية الراسخة يوم نشرت في روما سنة 1592م نسخة مختصرة من كتاب الإدريسيّ نزهة المشتاق، في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق، وطبعت في باريس سنة 1619م ترجمته إلى اللاتينية التي تولاها المارونيان جبرائيل صهيوني وحنا الحصروني1؛ ومنذئذ وهذا الفرع المهمّ من وثائق المعرفة الإنسانية يتقدّم بثبات إلى مجالات البحث والدرس والتحقيق الاستشراقي المستعرب، الذّي أولاه عناية قُصوى، فأخرج الأصول والترجمات والدراسات إخراجاً التزم فيه مناهج نشر النّصوص الكلاسيكية، مع ما تسرب إليه- رغم الدقة المتناهية- من أخطاء في القراءة والضبط، نتيجة ارتباك الأصول الخطية وقلّة عددها.

وشهد القرن التاسع الميلادي ظهور المجموعات الكبرى من هذا التراث الجغرافي، وربّما كان ذلك مقترنًا بحركة التمدّد الاستعماري والتعرّف على العالم العربي والإسلامي بصورة أعمق. ففي باريس ظهرت جغرافية أبي الفدا (( تقويم البلدان)).

بعناية م. رينو M. Renaud والبارون دورسلان Le Baron de slane (1840). وظهرت جهود المستعرب الفرنسي سلفستر دي ساسي Silvestre de sacy الذي أبرز وصف مصر لعبد اللطيف البغدادي .

ونشر فستنلفد Westeenfeld في لايبرزج 1866م أوسع المجموعات الجغرافية وأكثرها استيعابًا وتنظيمًا، كتاب معجم البلدان لياقوت الحمويّ، ثم كتاب معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري(غوتا 1876م).

وفي هولندا والت مكتبة أ.ج. بريل دعم جهد المستشرق الكبير مايكل جان دي خويه، فنشرت له سنة 1866م، وصف إفريقية والأندلس، مستخرجة من كتاب نزهة المشتاق للإدريسي، وقد تعاون في تحقيقها مع ر. دوزي R.Dozy، ثم استمرت في جهد موصول بإقامة مكتبة الجغرافيين العرب بفضل عناية دي خويه الذي كان في عمله نموذجًا للدقة والأمانة والالتزام بالمنهج في التنبيه على كل فروق النسخ وإن دقت، فأخرج مسالك الممالك للاصطخري(1870م) والمسالك والممالك لابن حوقل (1873م) وأحسن التقاسيم للمقدسي(1877م)  وكتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني(1885م) والمسال والممالك لابن خرداذبة، ومقتطفات من خراج قدامة بن جعفر(1889م)  والأعلاق النفسية لابن رسته وكتاب البلدان لليعقوبي (1892)، والتنبيه والإشراف للمسعودي(1894م) .

ولم تنقطع تقاليد هذه العناية في القرن العشرين، فقد أعاد المستشرقون تحقيق ونشر وتصوير ما ظهر في القرن الماضي، مثل المكتبة الجغرافية، وأحسن التقاسيم، للمقدسيّ البشاريّ (1906م) وجزء من كتاب الانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دُقْماق (القاهرة 1314هـ ق19م) وصورة الأرض، لابن حوقل (1939م). وتوّجت هذه الجهود بتحقيقٍ ونشر جماعي اشترك فيه بعض العرب للمرّة الأولى إلى جانب مختصين من مدارس الاستشراق، ورعاه المعهد الإيطالي للشرق الأدنى والأقصى في روما، حيث حُقق كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، للشريف الإدريسيّ(القرن6هـ)،فظهر في تسعة أقسام صغيرة بين سنتي 1970-1974. واكتملت حلقة نشر المصادر الجغرافية المهمّة، بنشر النصّ الأوفى لكتاب المسالك و الممالك، لأبي عُبيد عبد الله بن عبد العزيز البكريّ(-487هـ)، وكان قد طُبع منه قسم المغرب بتحقيق البارون دوسلان سنة 1857م، ثم أُعيد نشر هذا القسم مقابلاً على مخطوطات جديدة سنة 1911م. وهذه النشرة الوافية للكتاب تولاها أدريان فان ليوفن A .Van   Leewen وأندري فيري André Vyre وصدرت بجزأيها في تونس سنة 1992م.

وبالقدر الذي كانت هذه المصادر المعتمدة تدرس تُستَمدّ في البحوث والدراسات الاستشراقية في أوسع الحدود، وتكون رصيداً معرفيًا ضخمًا صدر مجمّعًا في السنوات الأخيرة، وظهر أثرها واضحًا في كتابات الموسوعة الإسلامية L’Encyclopédie de l’Islam في طبعتها الأولى في النصف الأول من القرن العشرين الدابر، فإنّ استعمالها لدى الباحثين العرب كان محدودًا، لنُدرة تلك الأصول وانقطاعها التام تقريبًا عن سوق الكتاب العربي.

وعندما تيسّرت تلك المصادر الناذرة في الستينيات من القرن العشرين بإعادة تصويرها وترويجها في أسواق المعرفة في البلاد العربية -بفضل مكتبة المثنى ببغداد- وأقبل عليها الناس، لوحظ تفاوت العلاقة العامة مع تلك النّصوص بحسب يُسر محتواها ومباشرتها الواضحة في الإفادة، فلا نكاد نجد فيما كُتب من الأبحاث العربيّة المعاصرة استعمالاً أساسيّاً للجغرافيا الرياضية المتصلة بالتراث اليوناني، أو بجداول الأزياج الفلكية، على أهميتها القُصوى؛ فلا يتردد في تلك الأبحاث اسم الخوارزميّ، واسم مُقتفي خطاه سهراب في الأقاليم السبعة  (ق9-10م) رغم ما اشتمل عليه كتابه من إضافات وافية، لا سيّما ما يتصل بقنوات بغداد ووصف أٍرض السواد،ودلتا النيل2، ولا نجد أثرًا لأعمال البتّانيّ وأضرابه، وربّما كان ذلك للصلة الوثيقة بين هذا الفرع من الجغرافيا الرياضية وبين الفلك، مع ما في هذا اللون المعرفيّ من براعات باهرة في الرصد والتحليل والاستخلاص والجهد المقدّر لعلماء المسلمين الذين كتبوا بلغة العلم العالمية في تلك العصور، لغة القرآن؛ ومن المتميزين منهم أبو الريحان البيرونيّ(362-440هـ/973-1048م) الذّي أُجْمِعَ على انّه أحد أكابر العلماء في التاريخ3،. بل إننا نجد الجغرافيا الرياضية قد توقفت قديمًا عند الجيل المتأخر من الجغرافيين، مثل ابن سعيد المغربيّ في بسط الأرض، وأبي الفدا الذّي التزم في تعريفاته ذكر أطوال البلدان وعرضها.

وإلى جانب احتجاب الجغرافيا الرياضية في أبحاث الدارسين، فإن جانب جغرافية المسالك على أهميتها في فهم الاتصال والترابط الإنساني والاقتصادي داخل الممالك وخارجها، وفهم أمن البلاد وطرقها، كانت مغيّبة أيضًا في الأبحاث الجديد، ربّما كان ذلك لغموض بعض الأسماء، واندراس مواقع بعضها الآخر، وتحولها المستمر بالأعراض الطارئة من رياح وسيول وحروب، وربّما لما تتطلبه من جهد كبير وإعنات في المطابقة على الخرائط الحديثة الصحيحة وغير المتيسّرة أحيانًا، فلم يجهد الباحثون في دراسة هذه المادة المتوفّرة لهم والمهمّة، باعتبارها تمثل الشرايين والعروق التي تحرّك الحياةَ وتتخلل جسم العالم الإسلامي الكبير وما يتصل به.

ولقد كانت المسالك أكثر أقسام الجغرافيا توثيقًا، وقد أقيم لها في العصر العباسي ديوان عرف (( بديوان البريد والسّكك والطرق إلى نواحي المشرق والمغرب))، وهو مَرْفَق ترعاه الدولة وتضمن تأميه4، وقد حددته بالأميال تطمينًا وإيناسًا لسالكيه، وكانت هذه الأميال كما يصفها ياقوت5:(( مبنيّة في ارتفاع عشرة أذرع أو قريبًا من ذلك، وغلظها مناسب لطولها))، وعُثر على أميال أموية قديمة، عليها نصّ كتب بالخط الكوفي، به اسم الخليفة عبد الملك بن مروان الذي أمر بعملها، وُجدت في الدَّرب الرابط بين دمشق ومكة6.

إنّ المدى الإيجابي الواسع الذّي يسمح به النصّ الجغرافي أمرٌ لا مِرْية فيه، سواء كان ذلك في النّصوص الجغرافية ذات الطابع الكوني الشامل لصورة الأرض، أو الخاص برقعة عالم الإسلام القديم، أو الجغرافية البلدانية؛ لأن هذه النّصوص تظل على وَفْرتها أحيانًا ذات إفادات محدود لا تجيب على كل تساؤلات البحث. ففي الجغرافية البلدانيّة نجد أن مقدمة الخطيب البغدادي عن مدينة بغداد، هي مرتكز معرفتنا بخارطة العاصمة العباسيّة وخططها، ولكن الخطيب كان أكثر انجذابًا للجانب الثقافي المعرفي الذّي خصّص له تسعة أعشار الكتاب، ليفسح فيه لترجمة من ترجم لهم من الذّوات العلميّة التي عرفَتْها في عصورها المزدهرة. وعلى نهجه سلك ابنُ عساكر الذّي كان أقلّ وكثر غموضًا وأسطوريّة، بحيث لم يُحصّل-لتأخّر عصره-على ما يصوّر مدينة دمشق في عصر بني أميّة ويصنع صورتها القديمة وتحوّلات عمرانها، ويصف مؤسساتها الدينيّة والعلميّة والاجتماعية كما صنع بعد ذلك موثّق عمران مصر الفّدا أحمد المقريزيّ في خططه (( المواعظ والإعتبار)).

إنّ هذه الفجوات الحادّة التي تشترك فيها أكثر النّصوص قدمًا ورواجاً ووثاقةً، أدركها القدماءُ أنفسهم، وأبرزوا خلل نتائجها بوضوح، فقد كتب ياقوت الحموي في مقدمة معجمه  الشامل المنَّظم للبلدان، بعد أن بسط عذرَهُ بأدب علماء المسلمين في التواضع وإنكار الذات، والاستعادة من مزالق الغرور، فذكر جهد من تقدّم من جغرافيي اليونان الذين كتبوا في جغرافية العمران، مثل فيثاغورس وبطلميوس، وأنّه وقف لهم منها على تصانيف عدّة،جُهِل أكثر الأماكن التي ذُكرت فيها وأَبْهَمَ أمرُها وعُدم، لتطاول الزمان، فأصبحت لا تعرف.

 وأن طبقة أخرى من العلماء المسلمين، سلكوا قريباً من طريقة أولائك من ذكر البلاد والممالك، وعينوا مسافة الطرق والمسالك، وعدّدهم واحدًا واحدًا ثم عقب فقال7: (( وأما هذه الطبقة فإنّها وإن وُجدت لها أصولٌ مضبوطة، وبخطوط العلماء منوطة ومربوطة، فإنّها غير مرتّبة، ولشفاء الغليل غير مسبّبة، لشدّة الاختصار، وعدم الانتشار، لأن قصدَهم منها تصحيحُ الألفاظ، لا الإبانةَ عمّا عدا ذلك من الأغراض، والبحثَ عمّا يعترضُ فيها من الأعراض)).

وعلى هذا فقد كان من المآخذ عليهم، اختلالُ الترتيب، وشدّةُ الاختصار، وعدمُ الضبط للحقائق، والتقصير في التمدّد على مختلف الجوانب التي تتصل بالأرض وما عليها من حياة.  وهذه مآخذ مدركة لفهم  معنى الجغرافيا وما ينبغي أن تكتب عليه تصانيفُها، لذلك حدّد ياقوت منهج عمله بما يتصور فيه التماسك والترتيبَ والإفادة، وبحسب ما تتيحه له المصادر المتوفرة التي لا يتخطاها إلا بمشاهداته المتبصّرة المهمّة.

وعليّ قبل المضيّ فيما أنا بسبيل عرضه من أنظار،أن أنبّه على حقيقة،أن أكثر كتب التراث الجغرافي وصلتنا في نسخة واحدة أو نسخ قليلة، ولم تصلنا من المدونات الكبرى نسخة تامة مترابطة الأجزاء، مثل كتاب  معجم البلدان لياقوت، ونزهة المشتاق للإدريسيّ، وإنّما سَلِمت منها قطعٌ متفرقة، أزمنَةُ نَسْخها متباعدة، ووثاقتُها مُتفاوتَة، جُمع من بينها النصّ المنشور؛ وإذا كان الإدريسيّ محظوظاً بأن بقيَ نصُّه على عِِِلاته كاملاً، فإنّ مسالك البكريّ وصل مبتورة الرأس فنُشر بغير مقدّمة مؤلّفه. وهذا يعني أنّ العناية بهذا الفنّ الجليل توقّفت عند العرب من أزمنة بعيدة، فلم تُنْسخ هذه الكتب ولم تُتداول، وأوشكت على الانقراض، وذلك لانصراف الناس عنها، وفتور همّة العلم والبحث والمغامرة الواعية في الأمّة.

وأعود لأذكر على وجه الإيجار بعضَ الأنظار التي رأيت تسجيلها على النصّ الجغرافي التّراثي، وأستمدّ الشواهدَ من أقرب الموضوعات التي ألِفتُها واندمجتُ في تفاصيلها، وأعني بذلك ما يتصل منها بإفريقيا الإسلامية

وأُسمّي النظر الأول:

طبقات النصّ، ذلك أن في نصوص الجغرافيا التاريخية عامة وجغرافيا البلدان الوصفية بوجه أخصّ، كما في الحفريات الأثرية، أثرُ فعل الزمن وما يضيفه منم طبقات تتراكب فوق بعضها، ومن مخلفات تُحفَظ في رُكامها،وتدلُّ على عصرها المغاير لما تقدّمه. وهذا النمط من الجغرافية الوصفية البشرية في الأصل تقرير ضابط للمكان، يتجه للمدينة أو القرية أو المَعْلَم التاريخي، فيتحدث عن العُمران والناس، ويشير إلى الازدهار والرخاء والأسعار والمواد الذاتية والمتدفقة من الأطراف، وينتزع النماذج الحيّة التي شاهدها أو حُدِّث بها، ويذكر المسالك الرابطة بين المكان وما حولَه، ومن هذا التقديم الوصفي تتكوّن صورةُ الموقع الثابت وحياتُه متصلةً بالزمان الذي كُتب فيه النصّ. على أننا عند تدقيق التأمل في بعض النّصوص السائرة المألوفة في ضوء نقض داخلي صارم، نقف على الإضافات التي طرأت في عصور لاحقة، واندرجت في صلب النصّّ على أنّها منه. نَذْكر للتمثيل على هدا نَصّاً للرحالة الجغرافي أبي القاسم بن حَوْقل النّصيبيّ، الذّي أدرك فيما اطلع عليه من تراث من تقدمَه من الجغرافيين، (( تباينَهم في المذاهب والطرائق، وكميّة وقوع ذلك في الهمم والرسوم، والمعارف والعلوم، والخصوص والعموم))، ولم يجد فيما قرأ في السالك(( كتاباً مقنعاً، وما رأى فيها رسمًا متّبعًا))8.

وأوردُ هذا النصّ الممثّل للطبقات النصيّة، ما تضمنت(( صورة الأرض)) المنشورة من حديث عن مدينة المهدية الفاطمية، التي زارها ابن حوقل سنة 336هـ، يذكر9:

(أ)
(( أدركتُها سنة ستّ وثلاثون، وملوكُها كُماة، وجيوشها حُماة، وتجّروها طُراة ))
 (ب)
((وقد اختلّت أحوالُها، والتاثتْ أعمالُها، وانتقل عنها رجالُها بانتقال ملوكها عنها وبعدهم منها. وكان أولَ نحس أظلَّها أبو زيد مِخلد بن كَيداد وخروجُه بالمغرب على أهلها؛ وإن ثالث المناحس عليها إلى الآن، وقد بقي بها بعض رمق)).
(أ)
((وانتقل عنها رجالُها بانتقال المنصور عليه السلام عنها، وبُعْده عنها، وسكناه بالمنصورية من ظَهْر القيروان، وذلك لما دهمه من أبي يزيد مِخْلَد بن كَيداد وقصْده....))

أنّ هذه الفقرة الناشزة (( ب)) أُدرجت إضافة بين السطور النصّ الأصلي بعد القرن الخامس الهجري، أي بعد حوالي قرنين من كتابة نصّ ابن حوقل، كان أبي حوقل الفاطميّ الشيعي فيما يذكر، يتحدث بانبْهار عن خلفاء المهديّة وعن جيوشها وتجّارها عندما أدركها سنة 336هـ؛ ثم يتحول النصّ فجأة إلى اتجاه مغاير، ليذكر(( أن المناحس إن ثالث عليها إلى الآن  وقد بقي بها بعض رمق)) وهذه الصور البائسة للمدينة وُصفت بها فعلاً آخر أيام دولة صنهاجة في القرن السادس الهجري، عندما أصبحت مهدّدة بنُرْمان صيقليّة الذين حاصروها مَرات، أشهرُها وَقعة حصار الدّيماس التي استفادت في استراتيجيتها ممّا سجله الإدريسي10 لتحصينات وقصور المرابطة على سواحل المنطقة؛ ووصف المعركة الرحالة التِّجاني11 بدقّة مراحلها يومًا بيوم؛ وسجّلها الشاعر الصقليّ ابنُ حمديس في قصيدة رائعة فذّة.

إنّ هذا النّص المُقْحم هو- فيما أرى- تعليقٌ كتبه أحدهم ممّن عاصر ما صارت  إليه عاصمةُ الفواطم بعد عزّها ومنعتها، وقرأ ما كتبه ابن حوقل فسجّل تعليقه في الحاشية للاعتبار، ثم جاء من نَسَخ عن تلك النسخة، فظنّ فقرة التعليق مُخرجاً متّصلاً بالمَتْن فأدرجه فيه، ولم يلحظ أن النصّ يُنَوّه بالمدينة وكاتبَه معاصرٌ لازدهارها، وأن اسم أبي يزيد جاء تفصيل خبره فيما يلي من النصّ في سياق يشير إلى خطورة موقع المهديّة الذّي عزَل عاصمة الدولة أثناء الحصار، ففقدت المدَد، لولا نجدةٌ بحريّة أدركتها ؛ وكأنما كان الخليفة الفاطمي الثاني القائم بن المهدي ينظر إلى انقطاع العاصمة الجديدة في ظروف الحصار، فقاس مواضع كثيرة أراد البناء بها واتخاذها قصبة للدولة12. ولذلك بنى ابنه الخليفة المنصور صبرة المنصورية وانتقل إليها، ولكن المهدية بقيت في أيامهم مقرّ خزائن الدّولة التي يقوم عليها الأستاذ جوذر13، واستمرّ عمرانُها بعدهم إلى أن انتقل إليها من صَبْرة والقيروان أمراءُ صَنْهاجة، عندما هدّدت الزّحفة الهلاليّة استقرارَ إفريقيّة .

وقد وصف المهديّة بعدَ ابن حوقل بنحو قَرْن محمّد بن أحمد المَقْدسيّ البشاريّ14، وهي لا تزال على وَضْعها الذّي أسّست عليه، فذكر (( أنّها خزانة القَيْروان، ومطرح صقلّية ومصر، عامرة آهلة، ومن أحبّ أن ينظر إلى القسطنطينية فلْينظر إليها ولا يتغنّى إلى بلد الروم)).

ومن هذا النمط من التّدخل والتركيب، ما نجده في متن كتاب ابن حوقل نفسه، وتنبّه إليه النّاشر فعزله بحروف أَصغر، حديثه عن مدينة تفْليس التي أجاد وصفها على إيجاز نصّه، إذ يذكر إضافة مطولة تقول في سياق النصّ: (( والآن فهي بيد الكرج، أخذوها في العشرة الآخر من سنتيْ خمسمائة، وملك الكرج مع كُفره يراعي أهلها))،فهذه كتلك، وابن حوقل مات حوالي سنة 367هـ .

ومن النماذج أيضًا ما جاء في مَتْن نزهة الإدريسيّ15 يحدّد  (( من قرطاجنّة إلى مدينة مجاّنة مرحلتان حقيقيتان )) وإلى جانبها:  (( بل هي مرحلة كبيرة))، ولم ينشر محققو الكتاب إلى هذا التدخّل وانفصاله عن النصّ.

وإذا كان من بين هذه النّصوص المُقْحمة ما هو متضّح ومفتضِحٌ بفضل ذكر التواريخ، أو ما هو مقترح لتصحيح بفضل أدوات الاستدراك، فإنّ المندسّ والمعمّى منها يحتاج إلى قراءة  واعية متأنية وتمييز.

2- ونظرٌ آخرٌ عن أوهام قديمة حول الأماكنية الخاصة بأسماء المدن وأصولها، يحتاج دراسة النصّ الجغرافي إلى تفكيكه على صعوبة، هو أن هذه النّصوص شاع فيها قديماً أخطاء في التّسميات نتيجة التّصحيف في قراءة النّسخ المعتمدة ونتيجة فعل النسّاخ، فهرسة تلك الأسماء المصحّفة والمحرّقة، واعتمادها الناس ثقة بمصدرها الموثوق به في المعرفة البلدانية.

ومعيار نقد أسماء المواقع ومعرفة أصل التسميات السابقة عن الأسماء إن وُجدت. وقد غطّت دراساتها الحديثة مساحات شاسعة من ممالك العالم القديم، ونعرف أن المسلمين كانوا هل إنصاف في كتباتهم، فلم يدّعوا تأسيس موقع لم يؤسّسوه، وكثيرًا ما نجد في التعريفات البلدانية جملة (( أنّها مدينة للأوَل)) أو (( أنّها مدينة جاهلية)) أو (( قديمة أزليّة))16 .

ومن الأمثلة على التحريف القديم المعتمد والمنتشر والمتوافر في كتب الجغرافيا والتاريخ، أن مدينة تونس تسمّى (( ترشيش ))،  ثم أصبحت بعد عمرانها الإسلامي تُدعى (( تونس ))17 اشتقاقًا من الأنس .

ومثل هدا اللّون من التّصحيف والتّحريف، ما يذكر البكر عندما يعدّد أبواب مدينة تونس (( باب أرطه))18 ولا وجه  له، فالأبواب تسمّى بوجهتها من المدن العامرة غالبّا، وقد بقي هذا الاسم منقفلاً لا تُعرف دلالته .

والوجه عندي في هاتين التسميتين المهمّتين، أنّهما نتيجة خطأ قديم منذ بدايات التصنيف الجغرافي البلداني، فمدينة تونس كانت قرية عامرة تقوم في قعر البحيرة في الجنوب الشرقي من قرطاجنّة، وكان اسمها في العهد البيزنطي تونيس، ولا شك أنّ المصادر القديمة كتبتها كذلك مهملة بلا نقط، كما نلاحظ في مخطوط اصطخريّ المصوّر المطبوع، وعندما نقلها الناسخ اشتبهت عليه الواو بعد التاء بالراء، ثم قَسَّم أسنان الحروف التالية المهملة وعدّل فيها بالزيادة قصد الإصلاح والتقويم، وربّما كان هدا القارئ من نَصارى عرب المشرق، فقرأها من مخزونه (( ترشيش ))، وهو من الأسماء التوارثية المتردّدة في نصوص العهد القديم، فانتشر الاسم وتركز وأصبح كالحقيقة .

أمّا باب أرطة فأمره و(( ترشيش)) واحد، فهادا الاسم في الأصل بعد تعديله اسم لمدينة رومانية في الاتجاه الجنوبي الغربي نحو جبل زغوان، تعرف باسم (( أدنة)) فصحفت الذال إلى راء، وصحفت النون إلى تاء، ثم فخّمت إلى طاء لتصبح (( أرطة ))  بدل أذنة.  ومثله ممّا تقلب فيه الراء واوًا والعكس ذكْرُ البكري لمحرس بُطريّة حول صفاقس باسم محرس بطويّة .

وعلى هدا السياق نفسه من التصحيف والتّحريف الشائعين قراءةُ M. J.De Goeje لنصّ ابن خُرْداذبة19 من أنّ (( القيروان مدينة المخالي)) (( وهي مدينة إفريقية)) هكذا قرأها بأمانة، ولو نظر في التصانيف المشابهة للجغرافيين الذين نشرت أعمالهم لوجد اليعقوبيّ يذكر (( أن شرب أهل القيروان من ماء المطر،فإذا كان الشتاء ووقعت الأمطار والسّيول دخلَ اء المطر في الأَوْدية إلى بِرَكٍ عظام يقال لها المواجل))20. وفَصّل البكريّ والإدريسيّ وصف الماجل الكبير وأن شرب أهلها منه21؛ فالتحريف إذن في نصّ ابن خُرداذبة إلى (( المخالي))، بدأ من جمع خاطئ لكلمة مالجِل إلى مجالي بدل مواجل، ثم صُحّفت إلى مخالي.

ومن التّصحيف والتّحريف المبعد عن القصد، ما ورد في نشرة(( نزهة المشتاق))22 معتمدا في المتن: ومن جلولة (( إلى أحرى مرحلة)).

وجاءت عند البكريّ23 صحيحه في كل نشراته (( ومن القيروان إلى جولة، ومنها إلى أَجَّر موضع وَعْر. مأسَدَة لا يكاد يخلو من أسد، دائم الريح العاصفة، ولذلك يقولون: إذا جئت أجَّر فعجّر، فإنّ فيه أسداً يَفْري، وحجراً يبري، وريحاً تذري)) واسمها اللاتيني Aggar.

ومن هذه التحريفات الأماكنية المُرْبكة أنّ موقع دار الأمارة بالقيروان اتُّخِذَ بعد رَدْمه رَحَبة لطَمْر الحبوب في مطامير كبيرة، وقد قمُت بالكَشْف عن أَكْثرها في حفريّة في الموقع (موقع دار الإمارة) سنة 1975م، وعُرف الموقع بعد ذلك برحبة الطّمر، مِنْ طمَر الشيءَ إذا دَفَنه أو خَبَّأه، وفي نصّ المؤرخ إبراهيم الرقيّق القيروانيّ24 صُحِّفَ المكان إلى رَحْبة التَّمْر، وفي النشرة الحديثة لجغرافية البكريّ25 سميّت برحبة الثمر.  والإفادة التاريخية المستمدّة من هذه المغايرة كما نرى تختلف من تسمية إلى أخرى. وقائمة هذا النّمط من المآخذ لا تنتهي.

3- ونَظرٌ آخر يستوقف الدارس ويعدّل من أحكامه فيُطلقها أو يقيّدهَا، عندما يُفَصّل بين أولئك الجغرافيين الذين غامروا وساروا في الأرض على بصيرة {يَتَفَكَّرونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [آل عمران،الآية 191].

وينظرون في جوامع ما فصّلته الآية، فيكتبون عن معاينة ومشاهدة وتمحيص، ويقدّمون تصوّرهم على الطريقة التي يذكرها ياقوت26 عند الرؤية المؤكدة، فيقول عن : ((رأيت أطرافها وعاينتُ جبالها، ولا بدَّ من احتمالك لفصل فيه تطويلٌ بالفائدة الباردة، فهذَا من عندنا ممّا استفدناه بالمشاهدة والمشافهة)) ويكون تأمل وتركيب لحصيلة المعلومات المتبصّرة، كما يذكر أبو الريحان البيرونيّ27 عندما يلاحظ (( أنّ البحر ينتقل إلى البرّ، والبرّ إلى البحر في أزمنة إن كانت قبل كون الناس في العالم فغير معلومة، وإن كانت بعده فغير محفوظة، لأنّ الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد، وخاصة في الأجزاء الكائنة جزءًا أبعد من جزء، وبحيث لا بفطن لها إلا الخواص. فهذه بادية العرب وقد كانت بحراً فاكبس حتّى إنّ آثار ذلك ظاهرةٌ عند حفر الآبار الحِياض بها، فإنها تبدي أطباقًا من تراب ورمال رَضْراضٍ، ثم يوجد فيها من الخزف والزجاج والعظام ما يمتنع أن يحمل على دفن قاصدٍ إياها هناك، بل يخرج منها أحجار إن كسرت كانت مُشتملة على أصداف وودع وما يسمّى آذان السمك، إمّا باقية فيها على حالها، وإمّا بالية قد تلاشت ويقي مكانها خلاءً متشكلاً بشكلها؛ كما  يوجد مثله بباب الأبواب على ساحل بحر الخزَر، ثم لا يُذكر لذلك وقت معلوم ولا تاريخ البتّة)). وهذا من أبي الريحان البيروني فكرٌ بصير متقدّم غير مستغرب عليه وعلى غيره من أصحاب الجغرافيا الرياضية والرصد الفلكي المتصل بها.

وبين تلك الطبقة الأخرى من منتحلي الجغرافيا الذين واتروا النقل عن بعضهم، ولم يبرحوا ديارَهم، فلم تسندهم مشاهدة وتصريفُ فكر ونَفْس، وإنّما كتبوا بالنقول عن بعضهم مع التغيير والزيادة والاختصار،فجاءت بياناتهم قاصرة لا تغني ولا تضيف للمعرفة جديداً؛ ففيما عدا قلّة من جغرافيي الجانب الغربي من الأندلس وصقلّية والقيروان، إضافة إلى اليعقوبيّ وابن حوقل والمقدسيّ، فإنّ جغرافية الغرب الإسلامي جاءت باهتة مرتكبة عند المشاقة في أعمالهم، فهذا ابن خُرْداذبة28 يقفز هذا القفز العجيب عندما يقول: (( وبين تونس وبين برّ الأندلس عرض البحر، وهو هناك ستّة فراسخ؛ ثم إلى قرطبة مدينة الأندلس مسيرة خمسة أيام)) ؛ وبعد مدّة قصيرة قد لا تزيد الثلاثين عاماً، نقل ابنُ الفقيه29 هذا النصّ نفسَه بتعديل بسيط، تجاوز فيه البحر كأن لم يكن، فقال: (( ومن مدينة تونس إلى الأندلس ستّة فراسخ، وإلى قرطبة مدينة الأندلس مسيرة خمسة أيام)). وإذا أخدنا بتعريف ياقوت للفرسخ بأنّه ثلاثة أميال، بمعنى أن عرض البحر المتوس 18 ميلا (6×3)، فأين تجدنا ؟!

والحقيقة أن مختصر كتاب البلدان لابن الفقيه، مثل سابقه، تنكمش فيه أصاف بلدان المغرب. وأكثر معلوماته مبتورة وضعيفة، بل ومظلّلة،وقد انتقده المقدسيّ30 (( بأنه أدخل في كتابه ما لا يليق به من العلوم )) واعتبره كتابَ أخبار وحكايات وليس منصنّفاً جغرافياً31، وأنّه مفتقر إلى خطة يسير عليها.

4- ونظر آخر يحتاج إلى وقفة مع أكثر الجغرافيين، فقد اعتمدوا حساب المسافات (( بالمرحلة))، والرحَةُ مسيرةُ يوم إلى وقت الظهيرة، حيث ينبغي الحطّ عن الراحلة. وقد جاءت في أكثر التصانيف معمّاةً غير واضحة، فابنُ خُرْداذبة32 يذكر أن (( بين تونس وإفريقية مرحلتين على البغال))؛ وينقلها عنه ابن الفقيه33؛ ويذكر الإدريسيّ34 المراحل الخفيفة والمراحل الكبيرة، وتصور كتب الرّحلة المرتحلَ  بأكْثر وضوح مقرونة بذكر ما يُسْلك، ممّا يحدّد الإحداثيات إن عُرفت، كما فعل التجانيّ35. وقد قام أحد زملائنا الأثريّين36 بدراسة معنى المرحلة على ضوء حساب المسافات من خلال النّصوص، فاتضح له المرحلةَ ليست مسافةً ثابتة، وإنّما هي إمكانٌ واستطاعة بحسب طبيعة الموقع والوسيلة إليه، فقد تَعْني العشرين ميلاً، وقد تعني الميل الواحد من الصّعاب والشعاب والشّعراء.

ويشير قدامة بن جعفر37 إلى الطريق العادل والعادلة؛ فهل هي على معنى: عدّل الطريق إلى مكان كذا إذا مال، فإن أرادوا الاعوجاج، قالوا: انعدلَ في مكان كذا38. وكلّها مصطلحات لم تؤخذ بعد في الاعتبار فيما أعلم.

 5- ونظرٌ آخر نتبيّنه كلّنا نَزّلنا الثوابت التاريخية الباقية على النصّ الجغرافي للمقارنة؛ فعندما يصف النصّ الجغرافي- وهو يتحدث عن التجمعات البشريّة في مدنها وقراها- معلمًا تاريخيًا ثابتًا باقيًا إلى اليوم، ونتابع معه تطابق البيانات مع الموصوف بعد استبعاد الطوارئ التي حدثت فيه وأضيفت إليه خلال التّاريخ الفاصل بيننا وبين عصر النصّ، نتأكّد في الغالب من:

قصورُ البيان الفنيّ الوصفي في أكثر النّصوص، ووقوفها عند التعميمات المنبهرة التي لا تَصنع تصورًا دقيقًا للموصوف، يمكّن من استعادة صورته من خلال ذلك النصّ، مع اقتضاب الكلام وخلوّه من التفاصيل المهمّة.

ونتأكد أيضاً من ارتباك النصّ الوصفي في المطابقة، إمّا لاختلال ذاكرة السّامع وهو يتلقّى الوصف من غيره، فتتداخل عنده الحقائق وتشتبه، ويسجّلها كما استقرت في ذهنه، أو جاء ذلك لإسقاط الناسخ فقرة أو جملة تفوته، ثم يستدركها في غير موضعها في الحاشية. من أمثلة ذلك ما يذكره الإدريسي39- رغم دِقّتِهِ ووضوح بيانه- من أنّ (( شرب أَهْل القيروان من الماجل الكبير الذي بها. وهذا الماجل من عجيب البناء مبني على تربيع، وفي وسطه بناء قائم كالصومعة، ذرع كلّ وجه منه مائتا ذراع)). والمطابقة مع الأصل واضحة في أن الماجل مبني على تدوير وليس على تربيع، وأن مقاسات الصومعة ووصفها غير صحيح، فقد يكون سجّل هذا الوصفَ مشابهة من أحدهم ممن لم يُعر التفاصيل الوصفية اهتمامًا مناسبًا؛ ولولا بقاء هذا المعلم التاريخي الفريد (( الماجل الكبير)) إلى اليوم، لأصبح النصّ الإدريسي هو الوثيقة الباقية!

وأهم من هذا ما جاء في نَشْرة مسالك البكريّ40 من أنّ مدينة سوسة(( قد أحاط بها البحر من ثلاث نواحٍ، الشمالِ والجنوبِ والشرقِ))..(( وسورها صخر منيع .. يضرب فيه البحر)). ونقل الوطواط41 عنه هذا التعريف. وصوابه: أنّ سوسة قائمة في خليج يطلّ على البحر من الجانب الشرقي فحسب، وأنّ الوصف الذّي ذكره هو وصف المهديّة القريبة منها في الجنوب، والمنفتحة على البحر من جهاتها الثلاث، ويتصل سورها بالماء.42 وقد يكون ممّا يُفترض لنشأة هذا الخبر، أنّ الوصف المنطبق على المهديّة قَدْ سَهَا عنه النسخ ثم أُقْحِمَ في الحاشية،وعندما انتُسخت نسخة جديدة أخطأ الناسخ في ربط الفقرة بمدينة سوسة فالتصقت بها.

وفي وصف محمد بن أبي بكر الزّهريّ43 لجامع الزيتونة بتونس، يذكر أن (( فيه صحن عظيم أبيض، من شرقية صحن آخر فيه ثلاث جِباب من الرّخام المجزع برسم ماء المطر، وفي شرقيّ الجامع الصحن المفروش بالرّخام الأبيض)).

وهذا الوصف على صورته هذه مُغايرٌ لواقع الحال،  ويستقيم بغير إضافة،  ولكن بإعادة ترتيب كلماته، ليصبح: (( وفيه صحن عظيم أبيض [ من الرّخام المجزّع] فيه ثلاث جباب [ برسم ماء المطر] وفي شرقي الجمع الصحن المفروش بالرّخام الأبيض)). وربما انْجرَّ هذا من ذهول الناسخ أثناء الكتابة وشرود ذهنه، فتنتقّل بصره في السطور، والتقط كلمات بدون وعي ولم يقابل ولم يتنبّه.

6- ومن الأنظار أن نشير إلى أن البيانات الجغرافية من تراثنا ليست وحدها المادة التي نستعيد من خلالها صور العمران والمدن والمسالك وحياة الناس، فالجغرافيا الطبيعية والبشرية والبلْدانية ممتدّة خاصة في كتب الرحلة المغاربيّة والأندلسيّة أيّ امتداد. لقد اهتمت هذه المصادر بالجانب الثّقافي فترجمت للعلماء وما أُخذ عنهم من المعرفة، وصورّتهم تصويرًا حيّاً في حدود الثقافة التي اصطبغوا بها؛ ولكن ما عنيَ منها بالمسالك والمراحل ووصف المدن وربطها بحياة الناس جاء بإفادات ثمينة ومفيدة لدراسة الحياة الإنسانية وعلاقتها بالمحيط. وقد قدّمت كتب الرحلة ودعّمت جغرافيةَ المشاهدة والتوثيق المباشر للمسالك والمراحل، والزمنَ الحقيقيّ لقطعها حطًا وإقلاعًا، وصفَة الأرض ومياهها وعلاقتها  بالعمران، على قاعدة البيرونيّ44 الذي يذكر (( أن العمارة متنقّلة بسبب انتقال الماء لأنها تابعة له)). وصوّر هؤلاء الرحالة المدنَ خير تصوير بحياة ناسها ومواردهم  وصفة بُنيانهم، مثل ابن جُبير وابن بَطّوطة والعَبْدريّ. وقد بعضُها ما كشف الغوامضَ التي طرحتها كتب الجغرافيا، أو وضّح ما أجملتْه، واستكمل ما أهملته؛ نشير خاصة إلى رحلة التّجيبيّ45، التي يصفُ فيها بتفصيلٍ دقيق مُدُناً وقرىً مصريّة زارها في الصعيد الأعْلى، مثل منية ابن خصيب، وأَسْيوط، وإخْميم، وقوص، وفي هذه الرّحلة نجد أدقّ وصفٍ في التراث الجغرافي عن الطّريق الوعرة الرابطة بن قوص وعَيْذاب- وهذا أحد دَرْبَي الحجّ المغربي-ويذكر ما فيها من مراحل بأسماء مواقعها، وما يوجد فيها من مرافق. ومن بين ما يُفيدنا به التجيبيّ حلّا للّغز الذي كثُر فيه الجدل حول ما عُرِف في التّاريخ بتجارة الكارِم، التي تردد ذكرُها ف المصادر اليمنيّة كتاريخ زبيد وكتاب المستبصر لابن المجاور الذي اهتم بالحديث عن الخفارة البحرية التي تحمي سفن هذه التجارة المقلعة من ميناء عَدن إلى عَيْذاب، وجاءت أخبارهم في وثائق الجّنيزة التي تحدّثت عن اتجارِهم ببضائع الهند والشرق الأقصى، وقد سمّاهم التّجيبي الأكارم جمع كَريم، صفة تمجيديّة لطبقة من أهل اليمن والهند المشتغلين بالتجارة البعيدة، نشأت في العصر الفاطمي واستمرت، ولا زال اليمنيون يُطلقون إلى اليوم اسم المكارمة على إسماعيلية حَراز.

وقد ذكر التّجيبيّ46 عن مدينة عَيْذاب على البحر الأحمر (( أنّ بها دوراً مخصّصة ابتناها التّجار المدعوون بالأكارم، لينزلوا إذا وصلوا من عدن إليها أو من قوص أو من غيرها من البلاد)) وعندما وصل التجيبيّ47 إلى قوص، ذكر أن نزول الرّكب (( كان بالخان الكبير المعروف بالفندق المكرّم، وبه ينزل التّجار المدعوون بالأكارم... وما رأينا قطّ خانً أكبر منه، وهو نوع حصن، وكل نوع من مساكنه مُستقلّ بنفسه غير محتاج إلى غيره)).

❖       ❖       ❖

هذه أنظار متفرقة أو ملاحظات، أردت بعرضها أن أشير أولاً إلى أن الاستشراق الأوربي قدّّر منذ البداية مَيْزات الأدب الجغرافي العربيّ الإسلاميّ، وأقبل عليه محققًا ودارسًا، فنشر مجتهدًا نصوصَه بحسب ما أسعفت به المخطوطات النّاذرة المحدودة العدد، ودرسها بجهد كبير موصول أثمر مكتبةً كبيرة من النّصوص والأبحاث. وقد جمَع هذه المادّة من نصوص ودراسات صدرت بلغات مختلفة معهدُ تاريخ العلوم العربية الإسلامية في فرانكفورت، بعناية العلاّمة المجدّ د. فؤاد سزكين، وطبعها في مئات الأجزاء التي تأكّد عناية الاستشراق البالغة ومَدى اهتمامه بهذا المجال المعرفيّ، الذي أصبح موفّرًا للباحثين بكلّ نوادره.

ولكن النّصوص المحقّقة المنشورة على أهميتها الجغرافية والأثنوغرافية والأماكنيّة والأدبيّة، أشاعت أخطاء التّحريف الكامنة في نسخها، وكرّرت نَفْسها إلا عند المرتادين كما أشرت، وأصبحتْ بعد تطاول العهد على نَشرها المبكّر بحاجة إلى إعادة نظر في ضوء أدوات البحث الحديث وما كُشف عنه من مخطوطات جديدة، وما نشر من خرائط دقيقة منفصلة تساعد على حلّ المشكلات.

ولنا أن نتساءل: هل توجد في البلاد العربية جهودٌ بحثيّة لتحرير المواقع والأسماء التاريخية الواردة في مصادرنا الجغرافية وتحديدها، والإفادة من كل ما كُتب عنها بالقدر الذي يسمح بوضع أطلس تاريخي شامل دقيق لمحصّلة هذه الجغرافيا وما تكشف عنه من مواردها النّسيان، مع تمييز النّصوص الأصلية من تلك المعاد بالنّقل الأصمّ، وذلك ممّا يسمح أيضاً بتقديم نَشرات جديدة تخطو متقدمةً بالنّص، موضّحةً إبهامه الذي توقّف عليه.

إنّ هذا الاتجاه في مَجال البحث الجغرافي لم يتقدم كثيرًا ومتوازيًا إلاّ في مناطق محدودة وغير متوازية في البلاد العربية،لعل من أبرزاها جهد الأمير الرّحالة يوسف كمال في نُصوص جغرافية مصر التي جمعها بدءاً من أقدم العهود إلى أَحْدثها، ورتّبها على المُدن، وأبرز الأسماء باللون الأحمر، وهو عمل كبير فخم أنيق بَقي معزولاً لطبقيّة نوعه النّادر بين الكتب المشورة، فلم يؤثّر الأثر المطلوب في الدراسات اللاّحقة رغم خطّته المتميزة، وذلك لنُدرة نُسخه المتداولة. ثم ننوّهُ بما حظيت به جزيرة العرب بفَضْل جهد صديقي وأستاذي العلاّمة حمَد الجاسر في كتبه ومجلّته العرب، التي أسّس بها مدرسةً لجغرافية الجزيرة وأَنْسابها وتاريخها، وفيما نشره من النّصوص المتميزة الأصلية، وما صنعه من معاجم جغرافية قامت على الجمع والتمييز والمشاهدة وتدقيق النّصوص الصعبة من شعر ونثر، وتحويلها إلى إفادات مضبوطة، وهو عمل لا يتاح إلى لغيره بيسْر.

وأشير إلى ما بذله أخي الدارس العالم الأستاذ الدكتور عبد الله الغنيم، الذي ركّز في جامعة الكويت ومجلة كلية آدابها نواةَ حيةً وقاعدة صلبة للجغرافيا التاريخية.

ثم ما أسهم به اليمن من نشر نصوص جغرافية إقليمية مهمّة ظهرت محققة بعناية المرحوم محمد علي الأكوع، وأخرى بعناية أخيه العالم الفاضل صديقي القاضي إسماعيل بن علي الأكوع. ثم صدور بعض النّصوص البلدانيّة من كتاب مسالك الأبصار، وإخراج كتاب المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار للمقريزي، المشور نشرًا محققًا جيّداً بعناية الدكتور أيمن فؤاد سيّد الذي أبدى فيه معرفة واسعة بمدينة القاهرة وخططها، مكنته من عرض هذا النصّ المهم على خير وجه. ثم صدور معجم الروض المعطار الذي نشره أستاذنا الدكتور إحسان عبّاس، وهو مفيد رغم ما أبداه من ملاحظات عليه.

وهذه البدايات الفرديّة الموفّقة تدل على إمكان العمل في حقل الجغرافيا التاريخية والتخطيط لها ضمن فرق عمل متعاونة من عرب ومستعربين في اختصاصات متكاملة، تضبط مناهج عملها، وتهيّء المواد والوثائق، وتستخلص النتائج، مستعينةً بكل تقنيات البحث، من خرائط قديمة حافظت على الأسماء، ومستعينة بالأماكنية Toponymie القديمة التي حددتها الكتابات الأثرية السابقة عن الإسلام، بالصورة الجوّية كما نقلتها أقدم بعثات التّصوير، حيث لم يطمس العمرانُ الحديث خطوطَ الأرض وأثر الإنسان عليها.

إن قيام تعاون بينَ فريق جادّ إلى مؤسستَيْ بحثٍ أو أكثر، كفيلٌ بأن يدفع النموذج، ويصحّح مسار العلم نحو المناهج الناجعة، ويستمرّ في خطة عمله مدعوماً بالإمكانات التي تستطيع المؤسسات العلمية والهيئات الدّولية أن توفّرها له.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 75-106.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

العلوم الرياضية المتعلّقة بكوكب الأرض

رشدي راشد ليس من النّادر أن يرتّب مؤلفو فهارس المخطوطـات العربية تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق يستوحونه من النظام التعليم التقليدي المتأخر،أي أنّهم بعبارة أوضح يرتبون تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق مدرسي مقرر. فبعد علوم القرآن يأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

نظرات في تحقيق النصوص الجغرافية العربية

عبد الله يوسف الغنيم محتويات المقال:أولا- تحقيق التراث الجغرافي الذي تم إصداره في القرن التاسع عشر ونشرهثانيًا- إعادة النظر في الكتب التي تم تحقيقها خلال العقدين الأخيرينثالثًا- مشاركة الجغرافي المختص في تحقيق النصوص الج...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تاريخ الأدبيات الجغرافية في العهد العثماني

أكمل الدين إحسان أوغلي محتويات المقال:التراث الهليني الإسلاميعجائب المخلوقاتبواكير الأدبيات الحديثةالأدبيات الحديثةتقارير السفراء وكتب الرحلات يمكن اعتبار هذا البحث خلاصة لدراسة استطلاعية قام بها الكاتب في كتاب أ. إحسان ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

النصوص الجغرافية غير المنشورة: حَصْر وتقييم

أيمن فؤاد سيِّد محتويات المقال:كتب الجغرافيا الرياضيةالمعاجم الجغرافيةكتب الجغرافيا في المغرب والأندلسكتب الخطط (الطوبوغرافيا المحلية)كتب الزياراتكتب الموسوعاتكتب الجغرافيا الإداريةكتب العجائب والغرائبأدب المرشدات البحري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تجربة صغيرة في نص جغرافي

إحسان عباس لم أكن أعرف كتاب (( الروض المعطار)) في صورته الكاملة، ولكني كنت قد عرفت أنه قاموس جغرافي مما استخرجه من المستشرق الفرنسي لافي بروفنصال Levi Provençal من أسماء الأماكن الأندلسية، حين قام بحقيقه وترجمته إلى الفر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مخطوطات الخيمياء: نموذج المدونة الجابرية

سيد نعمان الحق يعرف المؤرخون مجموعة كبيرة من الأعمال العربية التي ترجع إلى العصور الوسطى، وتنسب إلى شخصية طالما لفها الغموض، هو جابر ابن حيان. وهذه الأعمال المثيرة متناثرة في مخطوطات عديدة حول العالم، والموقف الأكاديمي ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

جواهر نامه نظامي

إيراج أفشار محتويات المقال:عنوان المؤلَّفالمؤلّفتاريخ المؤلفالشخصية المُهدَى إليه الكتابترتيب المخطوطات حسب اهميتهاالمحتوياتالجديد في كتاب (( جواهر نامه نظامي))أسماء الجواهر المنْحولالمراجع حسب ثبت المصادر المرفقة، ثَمَّ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقالة ابن رشد حول الطعوم، أهي جزء من كتابه المفقود (( كتاب النبات))؟

ماورو زونتا لم تكن دراسة النبات كعلم قائم بذاته فرعًا من المعرفة واسع الانتشار بين مسلمي العصور الوسطى. فقد كانت غالبية الأبحاث أو الرسائل التي أُلّفت باللغة العربية خلال تلك الحقبة أقرب ما تكون إلى قوائم باسماء النباتات...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

قراءة المصطلح النباتي العربي وتحقيقه

إبراهيم بن مراد محتويات المقال:1ـ تمهيد2ـ في قراءة المصطلح النباتي3-في تحقيق المصطلح النباتي3-1 في تحقيق المصطلح النباتي المخطوط 3-2 في التحقيق الماهَويخاتمة  1ـ تمهيد: لقد مرّ علم النبات حتى أصْبَح في التراث العلمي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة والإعلان العالمي لحماية البيئة

محمّد قاسم المنسي: أستاذ الفقه - كلية دار العلوم- جامعة القاهرة محتويات المقال:الفصل الأول: مدخل تمهيديالفصل الثاني: مقاصد الشريعة وصلتها بحماية البيئةالفصل الثالث: عناية الفقه الإسلامي بالبيئةالفصل الرابع: وسائل حماية ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top