م. ج. د ي خويه وتحقيق النصوص الجغرافية العربية

شارك:

جان جيست ويتكام

البرفسور يان جست ويتكام أستاذ علم المخطوطات والحفريات القديمة في العالم الإسلامي

أشكر الدكتور أرنود فرولجسك Amoud Vrolijk لمساعدته ودعمه أثناء المراحل الأخيرة في إعداد هذه الورقة

في يوم الأحد الخامس والعشرون من شهر آب (أغسطس) عام 1889م عندما قام اثنان من سُراة مصر هما عبد الله فكري باشا ومحمد أمين فكري بك،الأب والابن بزيارة لايدن في هولندا، كانا في طريقهما من مصر مروراً بإيطاليا وفرنسا وإنجلترا إلى استوكهولم وخريستيانيا (أوسلو) لحضور المؤتمر الدولي الثامن للمستشرقين، بوصفهما الوفد الرسمي المصري لذلك الحدث1. أما الباشا الكهل الذي سبق له أن شغل منصب  ناظر المعارف المصرية، فكان شاعراً مجيداً وأديباً بارزاً؛ وقد قدّم للمؤتمر نموذجًا من تعليقه وشرحه لإحدى قصائد حسان ابن ثابت2.

 وأما ابنه محمد أمين فكري، فقدم ورقة حول استعمال اللغة العربية العامية بدلاً من الفصحى3. كذالك قام بإتمام بحث عنّ رحلتيهما، لأن أباه الذي كان الكاتب الأصلي للبحث توفي بعد وقت قصير من عودتهما إلى مصر سالمين4.

وكانا قد حضرا إلى لايدن التي كانت منذ أمد طويل أحد مراكز الدراسات الشرقية لأسباب عدة، إذ ضمت مكتبتها وما زالت، مجموعة مهمّة ومطردة الازدياد من المخطوطات الإسلامية. وحوت هيئة الأساتذة فيها عبر الزمن العديد من الأسماء اللامعة في الدراسات الشرقية، وأخيراً وليس آخراً كانت لايدن موئل دار النشر الشهيرة أ. ج. بريل E. J.Brill التي نشرت الكثير من الكتب المحققة جليلة القدر، وما زال معتمداً ومستعملاً حتى الآن. وقد أهّلت هذه الحقائق لايدن، وما برحت تؤهلها. لتكون مكاناً مفضلاً للسياحة العلمية. وهذا هو على وجه التحديد ما قَدِمَ الأب والابن الحاملان لاسم فكري من أجله. لكن ما ان استقر بهما المقام في فندق الأسد الذهبي Lion d’or في شارع بريسترات Breestraat حتى داهمهما خبر مؤسف فقد قيل لهما أن ذلك اليم هو يوم الأحد، ولذلك فالمكتبة مقفلة وكذلك الكلية و(( دار بريل للنشر))، وعندما لاحظ مدير الفندق علائم خيبة الأمل على وجهيهما أخبرهما أنه سيحاول ايجاد حل للمعضلة، وبعث بأحد العاملين لديه في مهمة. وعاد الرسول بصحبة أستاذ اللغة العربية م. ج. دي خويه الذي أعلم المصريَّيْن-الذين تنفسا الصعداء-أنه سيقوم خلال ساعة بتنظيم زيارة إلى المكتبة وكذلك إلى دار بريل5. وبفضل جهود مدير فندقهما كانا قد التقيا بذات الرجل الذي جسّد مصادر الاهتمام الثلاثة التي اجتذبت الكثير من العلماء السائحين إلى لايدن.

 وكان مايكل جان دي خويه (1836-1909) يشتغل مقعد أستاذ اللغة العربية في لايدن منذ سنة 1869، والقيّم الفخري على المجموعات الشرقية في مكتبة الجامعة6، كما كان المؤلف المشاركَ في فهرس المخطوطات الشرقية والعربية في المجموعات الهولندية7. ونشرت غالبية تحقيقاته المتقنة دار السادة بريل، التي حظيت بازدهار غير معهود، كان من أهم أسبابه مشروعات دي خويه في مجال تحقيق الكتب والمخطوطات. وكان دي خويه الشارحَ النموذج للحقبة الفيلولوجية والتحقيقية في الدراسات الشرق أوسطية،عندما كُشِف النقابُ للجمهور عن مصادر شتى لمعرفتنا باللغة العربية والثقافة الإسلامية في المكتبات الأوروبية لأول مرة. وجاء هذا الكشف عن طريق فهارس مفصّلة، وأصبح معروفاً من خلال عدد وفير من تحقيقات النصوص التي استطاعت الصمود أمام النقد.

وتزامن ذلك مع الوقت الذي شرعت فيه الطريقة اللاتشمانية تتخذ سبيلها رويداً رويداً في تحقيق النصوص. وفي دنيا الأكاديميين في النصف الأول من القرن التاسع، ظهرت حركة إحياء شاملة لأسلوب النقد النصيّ على أثر منهجيات جديدة تقترن أكثر ما تقترن في عمل العالم الألماني للدراسات الكلاسيكية والجرمانية القديمة، وفقيه اللغة، كارل لاتشمان karl Lachmann (1793-1851). فقد استنبط ما أصبح يعرف بعد بالأسلوب اللاتشماني في النقد النصيّ، ويمكن تعريف ذلك بإيجاز، بأنه محاولة التوصل إلى إعادة تركيب نص في صيغة هي أقرب ما تكون للنسخة الأصلية للمؤلف المفترض، وذلك بالتخلص من الأخطاء والتأويلات التي كانت قد أُلحِقَتْ بالنص خلال الفترات اللاحقة. وتتمثّل الأداة الرئيسية لهذا النهج في وضْع ما يسمى ((شجرة النَّسَب)) ((Stemma)) التي تعني سلسلة نسب أو سلالة من شهودِ مخطوطيةٍ على أحد النصوص؛ وبمساعدة شجرة النسب هذه يمكن تمييز المخطوطات التي لا قيمة لها في بناء النص عن المخطوطات القيّمة ومن ثم إسقاط الأولى. ومن ناحية مكانية فإن حصيلة تطبيق أسلوب شجرة النسب تتمثل في إمكانية إعادة اكتشاف النموذج الأصلي للصيغة التي وضَع بها المؤلف الكتابَ. ومن وسائل النقد النصيّ الأكثر شهرة التي أوصلها ' لاتشمان3 إلى مرتبة الكمال قاعدة تَغَلُّب القراءة الأصعب على القراءة البسيطة. وقد ساعد ذلك في إعادة تركيب قراءاتٍ أصليةٍ كانت قد حطّت من مكانتها أجيال من النُّسّاخ.

ولم يؤلف ' لاتشمان3 ~ قط كتابًا حول طريقته، لكنه طور هذه الطريقة ووضّحها في إنتاجه الرائع لطبعات تحقيقية نقدية ودراسات حول مظاهر النقد النصيّ وتعليقات على الطباعات. وقد كتب تعليقات وحقق أيضًا نصوصًا هامة ليس من الأدب اليوناني واللاتيني وحسب، بل كذلك من الأدبيين الألماني والإنجليزي القديمين، وكذلك من العهد الجديد من الكتاب المقدس. وأدى هذا الاختيار للنصوص ومجالات العلم والمعرفة إلى ذيوع تأثير ' لاتشمان' على نطاق واسع. وإلى يومنا هذا فإن دارسي النقد النصيّ عيال- بمعرفة منها أو على الأغلب دون أن يدروا – على ما توصل إليه من نتائج، كما أنهم منتفعون بأسلوبه.

هناك الآن مزيد من التفاصيل عن سيرة حياة م. ج. دي خويه. إذ كان أبوه قسيساً بروتستانتيًا لدرونرجبَ Dronrijp وهي قرية في فريزيا Frisia إحدى مقاطعات شمال هولندا، حيث ولد دي خويه يوم 13 آب عام 1836م، ومع أنه كان  طالبًا ذكيًا وطموحًا في المدرسة الابتدائية، إلا أن متابعة اختياره لمهنته أثبت أنها مهمة معقدة؛ إذ لو سار كل شيء حسب ما خطّط له، لربما كان صيدليًا في هولندا أو في جزر الهند الشرقية الهولندية @ أندونيسيا الحالية. غير أن هذه الخطة وأُخر مشابهات لها منيت بالفشل، وتقرر في نهاية الأمر أن يدرس اللاهوت في لايدن ليصبح على الأرجح قسيسًا كوالده.

بدأ الدراسة عام 1854م، لكنه سرعان ما وقع في حبائل جاذبية اللغات السامية التي كانت معرفتها وقتذاك أحد متطلبات طلبة اللاهوت، وجزاءًا من مناهجهم الأكاديمي. وكان يفترض فيهم بطبيعة الحال القدرة على قراءة الكتب المقدسة بلغاتها الأصلية، التي هي العبرية والآرامية واليونانية.كما تلقى في لايدن أيضًا تدريبًا متينًا في فقه اللغة الكلاسيكي من معلميه ج. بيك (1787-1864م) وسي.ج.كوبث (1813-1889م).  من المحتمل أن معلميه عرفوه بالطريقة المنهجية النقدية إزاء النصوص، سالكاً بذلك سبل ' لاتشمان3 الذي كان هناك شعور متزايد بتأثيره في الأوساط العلمية الهولندية8. غير أن الأستاذ الذي اعتبره دي خويه أهم معلميه،كان المستعْرِب (بالغين المهملة والراء المكسورة) ب. أ. دوزي(1820-1883م). إذ توصل صاحبنا تحت تأثيره إلى أن العمل الوظيفي كرجل الدين لم يكن الغاية التي ابتغاها دي خويه من الحياة، ووقع خياره على دراسة اللغات السامية العبرية والسريانية والعربية. وما أسرع ما استحوذ عليه سحر لسان الضاد. وفي اتصالاته مع دوزي بلور مثلَهُ العلمي الأعلى، جاعلاً إياه جمع النصوص العربية التي كانت مصادر لتطور الحضارة الإنسانية، ثم التقييم   الناقد لهذه المصادر، وبعدئذ تأليف جمعية علمية أخّاذة منها، وكانت هذه المصادر في حقول الأدب والتاريخ والجغرافيا9.

وفي عام 1859م تولى مهمة الرعاية اليوميّة لمجموعة مخطوطات لايدن الشرقية10. وفي سنة 1860م ناقش أطروحته لنيل الدكتوراه التي كانت تحقيقًا جزئيًا لكتاب البلدان لليعقوبي.

وفي سنة 1866م حصل على رتبة أستاذ فوق العادة، ثم تحول هذا التعيين عام 1869م إلى أستاذية كاملة لكرسي اللغة العربية في لايدن. وتقاعد عام 1906م بعد أن حاز شهرة عالمية بأنه أحد أعظم فقهاء اللغة في عهده، وتفي يوم 17 أيار (مايو) عام 1909م.

وفي وقت مبكر من مسيرة حياته العلمية أدرك دي خويه أن الطبعات المحققة النقدية مثّلت الضرورة الأولى، وخلال مسيرة  حياته متعددة الجوانب ومن عام 1856-1909م كانت طباعة عدد كبير من النصوص هي الجزء الرئيس والمنتظم من عمله. وليس من الخطأ في شيء وصف مكتبه، بأنه مصنع تحقيق للنصوص، إذ لم يقتصر عمله على إنتاجه شخصيًا لعدد كبير من الطبعات المحققة، بل تعدى ذلك إلى حمله لطلابه على العمل في أجزاء من مشروعاته وتصحصح تجارب الطباعة والفهرسة وما إلى ذلك. وتشمل طبعات دي خويه المحققة العديد من المؤلفات التاريخية والجغرافية، بقلم اليعقوبي (1860م وقد أعيدت وزيد عليها عام 1892م مثل المجلد السابع من مكتبة الجغرافيين العرب)، والإدريسي(1866) بالاشتراك مع أستاذه دوزي، والبلاذري (1863-1866م)، ومجلدات عديدة من تاريخ الطبري(1879-1901م) وهو مشروع قام دي خويه ذاته بتنظيمه11. زد على ذلك نصوصًا أدبية عديدة، من أبرزها ديوان أبي الوليد مسلم ابن الوليد الأنصاري (1875)، وكتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة   (1904م). وظهر له أيضًا عديدٌ من المقالات حول شتّى المواضيع في الدراسات الشرقية، نشرت في المجالات العلمية العالمية وكثيرًا ما رافق ذلك من نتاجات جانبية في المجالات الهولندية، كُتب لجمهور من القراء أوسع. ولم يتكرر بعدها اطلاع عامة الجمهور الهولندي على مظاهر من ثقافة الشّرق الأوسط بأسلوب كهذا جمع بين غزارة المعرفة وإمتاع العرض.

وكان من أركان شهرة دي خويه الدائمة قيامه وحده بتحقيق ما أطلق عليه الجغرافيين العرب، وهي سلسة من ثمانية مجلدات تحتوي النصوص الجغرافية التي نشرت بين عامي 1870و1894م. وشملت النصوص في هذا المشروع الكبير كتاب مسالك الممالك للاصطخري (1870م)، وكتاب المسالك والممالك لابن حوقل (1873م)  وكتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي (1877وط. 2 1906) وكتاب البلدان لابن الفقيه الهمداني(1885م) وكتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة، ومقتطفات من كتاب الخراج لقدامة بن جعفر (1892م)، والجزء السابع من كتاب الأعلاق النفسية لابن رسته، وكتاب البلدان لليعقوبي (1892)،  وأخيرًا كتاب التنبيه والإشراف للمسعودي (1894م).

وكانت جميع هذه المنشورات تحقيقات نقدية تظهر لأول مرة للنصوص الجغرافية، وقد زُوّدت جميعها ببعض المعلومات عن المخطوطات المستخدمة12، وتناول نقدي للنص واسع النطاق يحتوي على القراءات المختلفة لأهم المخطوطات المعروفة13، وأخيراً فهارس ومسارد للمصطلحات الفنية والمفردات الخاصّة، التي لم يعثر عليها في القواميس العادية للعربية الفصحى؛ وفي حالة واحدة (المجلد الخامس) أضيفت ترجمةٌ فرنسية. بيد أن الترجمة الألمانية لجميع النّصوص، الأمر الذي كان د يخويه قد وضعه نصب عينيه منذ البداية، لم تُبْصر النورَ قطّ14.

هناك ملمح آخر في عمل دي خويه، لا مندوحة عن ذكره هنا، ألا وهو إحساسه بأهمية عمل الفريق أو العمل كمجموعة. ومما لاريب فيه أنّ اكبر مشروعين اشترك فيهما هما مكتبة الجغرافيين العرب، وتحقيق الطبري، ولكن بقدر مساوٍ بالنسبة لتحقيقات أخرى أنتجها. كان دي خويه مدركاً تمام الإدراك للحقيقة القائلة، إن العمل كفريق والتعاون الدولي بين العلماء هو من الأمور بالغة الأهمية لنجاح مشروعات ضخمة من هذا القبيل. إذ أن مجرد الحجم الكبير للمشروع جعل من تضافر الجهود ضرورة لا غنى عنها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العلاقات الجيدة قبل التصور الفوتوغرافي، كانت أمراً ضرورياً أيضًا في المجموعات الأوربية الأخرى من المخطوطات. وكثيراً ما رفض الزملاء والأصدقاء دي خويه بالملاحظات والمقتبسات من مصادر مخطوطة اضطروا إلى نسخها بأنفسهم. وفي نشر مكتبة الجغرافيين العرب تجلّى ذلك في إهداءات دي خويهٍ التي تصدرت كل مجلد منها. وتعني هذه الإهداءات كلاً من أصدقائه العلماء وزملائه الأكاديميين. وبالنسبة للعديد من الزملاء يتضح أن هذا الإهداء جاء في محله15.

وتُقدم العلاقة الداخلية المعقدة بين مختلف النصوص البلخية مثالاً يوضّح ما تمخضت عنه، فحتى إذا أخدنا في الحسبان النظرة العامة التي لدينا الآن حول هذه المخطوطات، نجد أن فَصْل هذه النصوص عن بعضها البعض أمرٌ في حكم المستحيل من ناحية علمية. وتضح ذلك بالفعل من الأسلوب الذي اضطر دي خويه إلى إتباعه في التعامل مع مخطوطاته. لقد كان منطلقه في تناول نصوصه كلاسيكيًا تقليديًا تغلب عليه السكونية. إذ نظر إلى النصوص على أنها أشياء ثابتة محددة المعالم،دوّنها المؤلف وأكملها ثم انتقلت في فترات لاحقة إلى أيدي النُسّاخ. وقد يكون هذا الأسلوب عمليًا ومجديًا في نصوص العصور الكلاسيكية القديمة16، أما بالنسبة لتقليدٍ نصيّ أحدث عهداً وأكثر استمرارية مثل الأدبيات المدونة العربية، فليس بالإمكان دائماً الإبقاء على نظرة سكونية كهذه للنصوص. وبالنسبة للنصوص الجغرافية المبكرة المنتمية إلى المدرسة البَلْخيّة فقد أثبت هذا المنحنى بساطته المفرطة. وحتى لو كان دي خويه قد أراد التميز بيت أعمال الاصطخري وابن حَوْقل فإنه لم يكن يسعه إلا استعمال ما توصّل إليه من نتائج في مخطوطات أحد النصوص كشاهد نصيّ على إقامة النصّ الآخر. لذا فإن تحقيقه لأقدم نصوص جغرافيي المدرسة البلخية ومكتبة الجغرافيين العرب/1 (الاصطخري) ومكتبة الجغرافيين العرب/2 (ابن حوقل) متشابكان إلى حدّ جعل كلاّ التحقيقين شاهداً نصياً على الآخر17.

ومن أجل تحقيق نصوص أدبية بحتة، يحتاج المحقق إلى قدر كافٍ من الأدلة النصّية. إلى جانب إلمام لا بأس به بالاستعمالات المتعارف عليها في لغة النص. وعبارة (( إلمام لا بأس به)) موضوع محوري متكرر في ما يدور من نقاش حول النقد النصّي.

ويصفه علماء الدراسات الشرق أوسطية أحيانًا بأنه الذوق السليم. ويعني ذلك صراحة أو ضمنًا أن المحقق الذّي يتمتع بهذا الذوق السّليم يعرف المستوى والسجل الصحيحين للّغة، وأنه لذلك لابد أن يستطيع تغيير النص نحو الأحسن، كما كان بإمكان المؤلف أن يفعل، بل وأنه في مكنته أن (( يبزّ)) المؤلف إذا ما وقع المحقق في فخ الإفطار في تماثله وتطابقه مع موضوع بحثه، أما مدى ممارسة هذا (( الذوق السليم))، فمحك للتمييز بين محقق قدير وآخر عاجز. واستخدم (( الذوق السليم)) وهو العنصر الشخصي في النقد النصيّ؛ بيد أن الحذر الشديد أمر ضروري عندما يشعر المحقق بوقوعه تحت إغراء استعمال (( ذوقه))، وذلك لأن معظم الأخطاء في تطبيق النقد النصيّ وتفتق الذهن عن ضروب الحدس والتخمين، أمور تتبع من الاستعانة المتهورة بهذا (( الذوق))؛ إلا أن تحقيق النصوص ليس بالعملية الآلية كما يظن بعض أتباع ‘‘ لاتشمان’’18.

وفي تحقيق النصوص العلمية، فان معرفة المحقق بميدان العلم الذي بندب نفسه إليه، تكتسب مزيدًا من الأهمية النسبية، إذ من الجليّ أن كل من يقوم بتحقيق نص قديم في نصّ رياضي، يجب أن لا يقتصر على معرفة علم التّصنيف والتنسيق ودراسة الكتابات القديمة، بل يقتضي أن يحيط بمراحل تاريخ الرياضيات ومخارجه، وعندئذ، لا بد من أن تستند عمليات التخمين من أجل تصحصح النصوص الخاطئة على الحاجّات، ليس في أمور تتعلق بفقه اللغة وحسب، بل يجب أن تعتمد بقدرٍ مساوٍ على الاعتبارات الرّياضية.  وينسحب الشيء ذاته على النصوص الفنية الأخرى.

ويمكن للمرء إلى حدّ ما أن ينظر إلى النصوص الجغرافية على أنها نصوص أدبية، مثل كتب الرحلات، لأوصافٍ لبلدان نائية، ولأخلاق سكانها وعاداتهم. وغير أن الجغرافيا لا تقتصر على كونها مجرّد وصف لإقليم، فكثيرًا ما تحتوي على ثروة من المعلومات حول الأمور الاقتصادية أيضًا. ومن الأمثلة المناسبة على ذلك ابن حوقل، كما أن هناك قدرًا من الوجاهة والمعقولية في الفكرة القائلة أنه كان يمارس نشاطًا اقتصاديًا أثناء أسفاره. وأما القصة الأخرى التي يرجّح عمله كمبشر بالمذهب الفاطمي، فليس إلا برهانًا يؤكد ذلك، لأن العمل في سبيل قضية والانخراط في الفعاليات التجارية كانا يسيران جنبًا إلى جنب في تاريخ الإسلام.

وليست النصوص الجغرافية مقتصرة على كونها كتب رحلات مدونة بأسلوب أدبي رشيق، ولا هي مجموعة من المعلومات التجاريةفقط،ولا محض أوصاف لعادات((كثيرًا ماتكون شاذة غريبة)) لأقوام بعيدة، ولا هي بالتصورات الوهمية الخيالية للكون،بل إنها تحتوي على ملامح من جميع هذه المظاهر في الواقع. وتُرفق النصوص الجغرافية أحيانًا ببعد إضافي وهو الخرائط، الأمر الذي يضع عبئًا إضافيًا على كاهل المحقق. ومن النادر إلى أبعد الحدود أن أضيفت خرائط إلى متون الطبعات الأولى من النصوص الجغرافية؛ فمن ناحية كان الأمر يتعلق بالإمكانيات الفنية المحدودة لإعادة إنتاج الصور آنذاك.

ومن جانب آخر يمكننا أن نغزو ذلك إلى انشغال فقهاء اللغة في القرن التاسع عشرة بالنصوص، مستبعدين الرسوم والصور البيانية التوضيحية. ويخيّل إليّ أن دي خويه لم يقصر اهتمامه على هذا البعد التصويري الإضافي كوسيلة لتفسير النصوص الجغرافية التي كان يقوم بتحقيقها. ومن اللافت للنظر أنّ توجّه دي خويه نحو الموضوع توجّهٌ غلب عليه الطابع الأدبي19. وكنصّ فقد أراده أن يكون صحيحًا ما وسعه ذلك، بيد أنه كان أقل  اهتمامًا من ذلك بكثير من حيث اعتباره للنصّ بمثابة مجموعة من الخرائط المشفوعة بنصوص تفسيرية توضيحية.

ويعمل النقد النصيّ مفترضًا أن كل نسخة من المخطوط تحتوي على الأخطاء النسخية الموجودة في النموذج الأم، مضافًا إليها مجموعة من أخطاء جديدة. وبتحليل شجرة النسب الخاصة بالأخطاء، يمكن وضع شجرة نسب خاصة بالمخطوطات، لكن لا يمكن نقل قواعد النقد النصي ببساطة إلى التحليل النقدي لنظام هرمي في النهج التقليدي المتبع في الخرائط، وعلاقتها بعناوينها، أو بالأساطير، أو النصوص المصاحبة الموجودة في المخطوطات. وتعمل الخرائط على تعقيد الأمر تعقيدًا بالغًا، ذلك لأن تحليلها يقوم على أساس يتجاوز مجرد النص أو الأساطير؛ إذ تقدّم الاعتبارات التاريخية للفن، ولا سيما فيما يتعلق بطرائق التصوير وما تواضع عليه التصوير من أعراف، معلومات إضافية مُضْفية بذلك مزيدًا من التعقيد للأمور. وبالطبع هناك أيضًا الترابط الحاضر باستمرار مع الحقيقة الجغرافية، وبعبارة أخرى فإن مسألة مدى تمثيل الخارطة للحقيقة على الأرض مسألة لها قيمتها وصلتها المستمرة بالموضوع. وسأضرب مثالاً على ذلك، وهو يتعلق بمعضلة المحقق بالنسبة لخريطة بحر قزوين؛ ففي خرائط الاصطخري هناك جزيرتان مرسومتان، وإذا ما عمد المرء إلى مقارنة الخريطة في مخطوط لايدن بالخريطة المرسومة في الترجمة الفارسية والمحفوظة بأكسفورد20،فإن بمستطاعه أن يرى أن الأسماء أو المواقع النسبية للجزيرتين قد تبلورت، ولا يشكّل هذا مشكلة للنقد النصيّ وحسب، بل مشكلة لا تقل عنها تعقيدًا في دراسة التوضيح الخرائطي.

ولم يدون د يخويه قط خلاصة عامة شاملة لأساليبه في التحقيق، كما أن ‘‘ لاتشمان’’ لم يفعل ذلك أبدًا هو الآخر بهذه المناسبة، إذ تتوفر أساليبهما في فقه اللغة ضمنًا من تحقيقاتهما للكتب ومن أعمال أخرى. أما المصدر الجليّ للأسلوب المستخدم فهو الجهاز النقدي. ولدى إمعان النظر في عُدّة دي خويه في النقد نرى أنه يستخدم  الخرائط فعلاً في بعض الأحيان، لكن كدليل إضافي ليس إلا، وذلك حينما يخذله النص أو أينما توجد فجوة. علاوة على ما ذكرنا فان دي خويه لم يفرق بين جهاز نقدي يقوم بتوضيح لاختيار قراءات في النص من ناحية، والتعليق الذي احتاجه لفهم معنى النصّ من ناحية أخرى. وحينما يتعلق الأمر بتحقيق النصوص الجغرافية، فإن هذا ليس بالعملي دائمًا. وإذ كثيرا ما تتعلق الصعوبات النصّية بتهجئة الأسماء، وليس بالمستطاع دائمًا إعادة بناء التهجئة الصحيحة باللجوء إلى النقد النصيّ، إذن لا مثابة لمحقق النص ألا أن يلجأ إلى مؤلفات أخرى وأسهل وأفضل قراءة، حتى وإن كانت غير ذات علاقة بالنص الأول الذي يعتمد المحقق إلى تثبيته.

وتمثل الإحالات المتعددة في عُدّة دي خويه شهودًا عدولًا على هذه الطريقة. حيث تبرهن على وجود وضع في تحقيق النصوص غير الأسطورية، واستحالة تلبية متطلبات النظرية التحقيقية في جميع الظروف والأحوال.

ولذلك عندما جلس الأب عبد الله فكري وابنه محمد أمين عصر يوم الأحد الهادئ في شهر آب (أغسطس) من عام 1889م جلسة بعيدة عن التكلف مع دي خويه في بيته يدخنون ويتجاذبون أطراف الحديث، لم يكن مستغربًا أن يطرحا على مضيفهما سؤالاً ينطوي على مضامين جغرافية. فقد توجّها إلى العالم الجهبذ الذي حقق هذا العدد الكبير من النصوص الجغرافية بسؤال، هو: أين تقع جزيرة واق الواق الأسطورية؟ ولم يخيب دي خويه الأمل، بل رد بالجواب الصحيح يقول: واق الواق هي اليابان. وزوّد زائريه بمعلومات مكتملة عن المصادر العديدةّ حول بلاد واق الواق، وتعليل لأصل الاسم، ثم طرح  حججًا قاطعة مؤيدة لما ذهب إليه21.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 161-202.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

العلوم الرياضية المتعلّقة بكوكب الأرض

رشدي راشد ليس من النّادر أن يرتّب مؤلفو فهارس المخطوطـات العربية تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق يستوحونه من النظام التعليم التقليدي المتأخر،أي أنّهم بعبارة أوضح يرتبون تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق مدرسي مقرر. فبعد علوم القرآن يأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

نظرات في تحقيق النصوص الجغرافية العربية

عبد الله يوسف الغنيم محتويات المقال:أولا- تحقيق التراث الجغرافي الذي تم إصداره في القرن التاسع عشر ونشرهثانيًا- إعادة النظر في الكتب التي تم تحقيقها خلال العقدين الأخيرينثالثًا- مشاركة الجغرافي المختص في تحقيق النصوص الج...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

أنظار في بعض مشكلات النص الجغرافي التراثي

إبراهيم شبّوح تمثّل نصوصُ الجغرافيا التراثية قاعدةً مهمّة للدراسات والبحوث التاريخية الحضارية والبشرية في ثقافتنا العربيّة الإسلامية، وكثيرًا ما تكون المنطلق الممكنَ لاستعادة تركيب صورة تلك المجمعات في ظل بيئتها وحيويتها...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تاريخ الأدبيات الجغرافية في العهد العثماني

أكمل الدين إحسان أوغلي محتويات المقال:التراث الهليني الإسلاميعجائب المخلوقاتبواكير الأدبيات الحديثةالأدبيات الحديثةتقارير السفراء وكتب الرحلات يمكن اعتبار هذا البحث خلاصة لدراسة استطلاعية قام بها الكاتب في كتاب أ. إحسان ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

النصوص الجغرافية غير المنشورة: حَصْر وتقييم

أيمن فؤاد سيِّد محتويات المقال:كتب الجغرافيا الرياضيةالمعاجم الجغرافيةكتب الجغرافيا في المغرب والأندلسكتب الخطط (الطوبوغرافيا المحلية)كتب الزياراتكتب الموسوعاتكتب الجغرافيا الإداريةكتب العجائب والغرائبأدب المرشدات البحري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تجربة صغيرة في نص جغرافي

إحسان عباس لم أكن أعرف كتاب (( الروض المعطار)) في صورته الكاملة، ولكني كنت قد عرفت أنه قاموس جغرافي مما استخرجه من المستشرق الفرنسي لافي بروفنصال Levi Provençal من أسماء الأماكن الأندلسية، حين قام بحقيقه وترجمته إلى الفر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مخطوطات الخيمياء: نموذج المدونة الجابرية

سيد نعمان الحق يعرف المؤرخون مجموعة كبيرة من الأعمال العربية التي ترجع إلى العصور الوسطى، وتنسب إلى شخصية طالما لفها الغموض، هو جابر ابن حيان. وهذه الأعمال المثيرة متناثرة في مخطوطات عديدة حول العالم، والموقف الأكاديمي ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

جواهر نامه نظامي

إيراج أفشار محتويات المقال:عنوان المؤلَّفالمؤلّفتاريخ المؤلفالشخصية المُهدَى إليه الكتابترتيب المخطوطات حسب اهميتهاالمحتوياتالجديد في كتاب (( جواهر نامه نظامي))أسماء الجواهر المنْحولالمراجع حسب ثبت المصادر المرفقة، ثَمَّ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقالة ابن رشد حول الطعوم، أهي جزء من كتابه المفقود (( كتاب النبات))؟

ماورو زونتا لم تكن دراسة النبات كعلم قائم بذاته فرعًا من المعرفة واسع الانتشار بين مسلمي العصور الوسطى. فقد كانت غالبية الأبحاث أو الرسائل التي أُلّفت باللغة العربية خلال تلك الحقبة أقرب ما تكون إلى قوائم باسماء النباتات...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

قراءة المصطلح النباتي العربي وتحقيقه

إبراهيم بن مراد محتويات المقال:1ـ تمهيد2ـ في قراءة المصطلح النباتي3-في تحقيق المصطلح النباتي3-1 في تحقيق المصطلح النباتي المخطوط 3-2 في التحقيق الماهَويخاتمة  1ـ تمهيد: لقد مرّ علم النبات حتى أصْبَح في التراث العلمي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة والإعلان العالمي لحماية البيئة

محمّد قاسم المنسي: أستاذ الفقه - كلية دار العلوم- جامعة القاهرة محتويات المقال:الفصل الأول: مدخل تمهيديالفصل الثاني: مقاصد الشريعة وصلتها بحماية البيئةالفصل الثالث: عناية الفقه الإسلامي بالبيئةالفصل الرابع: وسائل حماية ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top